توفيق يوسف عوّاد شاعرا *
بقلم :ا.د. سعيد عدنان
قلّما يلتقي القصّ والشعر على قلم أديب منشئ؛ ذلك أنّ لكلّ منهما منحى وطريقاً يختلف عمّا للآخر؛ غير أنّهما التقيا عند توفيق يوسف عوّاد، وقد أخذ كلٌّ منهما مداه. كان عوّاد قد كتب القصّة القصيرة منذ الثلاثينيّات بنهج واقعي يستمدّ مادته بيئته اللبنانيّة، وما يصطرع فيها من مشكلات، متّجهاً نحو أفق إنساني؛ يحبّ الخير، ويسعى إليه، ويروم تحقيقه، ويكره الشرّ وما يؤدي إليه، فأصدر (الصبيّ الأعرج)، و(قميص الصوف) وكلتاهما على نمط من الرصانة، وبلاغة القصّ، وإجادة الفن بما أحلّه مكانة مرموقة في الأدب القصصي، في بلده، والبلدان العربيّة الأخرى. ثمّ مال نحو الرواية فكتب (الرغيف)، وهو على النهج نفسه من توخّي الواقعيّة، وتتطلّب الأفق الإنسانيّ. وقد لقيت قصصه، وروايته، يوم صدرت، قبولاً حسناً، وعرف فيه القرّاء أديباً كاتباً من الطبقة الأولى، صادق الرؤية والبيان. ولعلّ ممّا دانى بينه وبين قارئه، في لبنان وفي غيره، وجعل أدبه ذا سيرورة حسنة؛ عناصر من الأمانة، والإخلاص، ومحبّة الإنسان لا يخطئها أحد في آثاره، ونزوع نحو الأناة، والإجادة، والصبر على الأثر الأدبيّ حتّى ينضج، ولغة فصيحة متينة البناء، بليغة الأداء. وكان إذا بطُؤ عليه القصّ لا يتعجّله؛ فقد تراخى ما بينه وبين الرواية مدّة شغلته فيها الصحافة، وشغله فيها العمل في السلك الدبلوماسي؛ قنصلاً ثمّ سفيراً؛ بيد أنّ عرق الأدب لا يفتأ ينبض فيه، ويهيئ له مسالك نحو الرواية، ونحو نمط من الشعر، قديم لديه، يقوم على التأمّل والتفكّر. وقد تهيّأ له من الأحداث، والمواقف، والصور، والفكر، ما يدعوه أن يكتب رواية أخرى جديدة ترصد الوقائع، في الريف والمدينة، وتستشرف ما تنبئ عنه، وتنبّه على خطر داهم فكتب (طواحين بيروت)، ونشرها في مطلع السبعينيّات، قبل أن تنشب حرب لبنان بسنتين، فلقيت شيئاً كثيراً من الإقبال والاستحسان، وقد قرأ فيها بعض النقّاد ما سوف يلمّ ببيروت، ويوقد نار حربها. وكان، مع الرواية والقصّة، يكتب المقالة التي لا يُخليها من أناقة الكلمة ورهافتها، ثمّ كتب سيرته على نحو من التقصّي الذي تزينه المخيّلة. ولم يكن في ذلك كلّه بعيداً عن الشعر في وروحه وأجوائه فلقد كان ممّا يظلّل نثره، ويشيع فيه الحياة . لكنّه ، مع ذلك ، كان يرغب في مزاولة الموزون المقفّى، والإلمام به بين حين وآخر، وإيداعه من الخطرات ما لم يستنفده النثر. على أنّه في جانب الموزون المقفّى أدنى منه في جانب القصص، ولعلّ الذين عرفوه شاعراً ينظم القول أقلّ من الذين عرفوه كاتباً بارعاً يجيد القصّ؛ لكنّ شعره الذي نظمه موسوم بميسمه تتلألأ فيه أضواء فكره وروحه بما ينأى به عن مشابهة الآخرين. كان يلمّ بالموزون المقفّى، بين حين وآخر، يودعه خطرة ممّا يعنّ له وهو يصغي لوقع الحياة، ويتأمّل في مجراها، وما يبدو له من خيرها، ومن شرّها، وممّا هو مزيجهما. وكان يصبّ الخطرة الواردة في قالب محكم، وثيق الصنع؛ هو أن تأتي القصيدة، من هذه الخطرات، في بيتين لا مزيد عليهما! ومهما تكن سعة الخطرة، ومهما يكن عمق التأمّل فليس لهما إلّا بيتان! وكلّ قصائده إنّما هي على بيتين بيتين. وهذا ضرب من النظم قليل الشيوع، له شبه بنحو ما بالرباعيّات، وليس له ذيوعها، وهو أضيق منها مدى. ولا يخفى ما في طريقته من العسر وصعوبة المزاولة إلا على ضليع بصير بدروب الفن وصناعته كمثل توفيق يوسف عوّاد الذي باعد بينه وبين طريق السهولة في الأدب. زاول النظم على ريث، كلّما سنحت له سانحة، ونشر بعضه في الصحف التي عمل بها ؛ حتّى إذا اكتملت التجربة واجتمعت لديه القصائد أصدرها كاملة في ديوان وسمه ب (قوافل الزمان)، ولم يُغفل طريقة النظم فأعاد العنوان على الصفحة الداخليّة، وأضاف إليه : (أو قصائد البيتين) حتّى كأنّ للديوان عنوانين؛ وكأنّ الأول يُلمح إلى ما دارت عليه القصائد من معان نفذ إليها عنصر الزمان بنحو ما، أو إنّ الزمان ملتبس بها، وبصوغها، وكأنّ الثاني يريد النظر إلى القالب الذي جعلت فيه تلك المعاني. ولقد جاءت القصائد في الديوان على نظام من الترتيب والإحكام منبثق من مداراتها، ومعانيها حتّى يهبها، وهي على هذا النحو ، معنى مضافاً. فقد جعلها في خمسة عنوانات انتظمتها : أزاهير بريّة، ومع الشعر، ورحلة العمر، ومع الشعراء، والشجرة الوحيدة. وتحت كلّ عنوان جملة قصائد، عدا الأول والأخير؛ تحت كلٍّ منهما قصيدة واحدة؛ ولكلّ قصيدة عنوان مستقى منها يجمع تجربتها، ويدلّ عليها. ويبدو أنّ القضيّة التي عُني بها الديوان في جُلّ قصائده، وتداولتها السوانح؛ هي الشعر من حيث هو روح يشبّ إوارها، ومن حيث هو لغة ونسيج من كلمات. يبتدئ الديوان ب (أزاهير بريّة) منشداً: في ساحِ روحي أزاهير منوِّرةٌ ... بريّةُ الفوح كفُّ الريح تُذريها من لي بقارورة في الأرض مُسعفةٍ ... أضمُّ فيها على ختمٍ معانيها؟ وكأنّ ما يقول في مفتتح ديوانه بيان يُعرب فيه عن نفسه، وعن شعره، ويريد من القارئ أن يبدأ به؛ إذ إنّه تساوره خشية أن تُذري كفّ الريح أزاهير روحه، وإنّه يرجو أن تتهيّأ له قارورة يخْبؤ بها معانيها! ولعلّه يريد بكفّ الريح : الزمن الذي لا يكفّ عن الهدم، والتبديد، ولعلّه يريد بالقارورة قصائده هذه التي يضمّ فيها على ختم أزاهير روحه، حتّى يحميها من كفّ الريح أن تذهب بها؛ فكلّما سعى الزمن سعيه، وامتدت يده تمحو، قام الشعر فأمسك بالأشياء أن تزول! فلا غرو أن تجيء هذه القصيدة، وحدها، في مطلع الديوان كأنّها عنوانه الآخر، وأن تجيء قصيدة أخرى من السنخ نفسه وحدها أيضاً في اختتام الديوان؛ هي (الشجرة الوحيدة) يكتب تحتها : (هل القصيدة إلّا تلك الشجرة الوحيدة ومن حولها الفراغ بلا حدود.) ثمّ يقول: يتيمةُ قفرٍ أيُّ رحم رمت بها... سفاحاً على الرمضاء من قاحل القفرِ تردّت قميص الليل حتّى إذا نضت ... ترامت تلاقي ظلها، واحد العمر فيكتمل له انسجام بدء الديوان وختامه على نحو من التفكّر في جوهر الشعر، ومنزلته؛ فكأنّ القصيدتين؛ الأولى التي افتتح بها، والأخيرة التي اختتم بها عضادتان تمسكان الديوان من طرفيه ، وتوجهان منحى دلالته. فإذا تمّ له حسن المدخل؛ شرع ينظر في عناصر الشعر، ويتفكّر فيها في جملة قصائد جاءت تحت عنوان : مع الشعر. والشعر إنّما يبدأ بالكلمة الحيّة الموحية النضرة. يقول في قصيدة عنوانها : (الكلمة) وذات سحر على سرّ أعاشرها... جنيّة من بنات الليل رقطاء بغى بها القوم تأتيهم على كَرَهٍ... حتّى أتتني ولانت فهي عذراء فإذا كان من لا يعرف قدر الكلمة فيبتذلها؛ فإنّ الشاعر ممّن يعرف قدرها، وينزلها ما يليق بها من المنازل، وإنّها تعرف قدره فتلين له وتطمئنّ بين يديه. ومن أهان الكلمة فقد أهان اللغة كلّها ؛ يقول وقد رأى من آذى اللغة، وشوّه أديمها: (والغتاه!) مرّغوا في الهوان حسنك لمّا... صدّهم منك في الهوى عِصيانُ جرّحوا،شوّهوا، استباحوا وراحوا... وكذا فعلُ عجزها الخصيان فليس جديراً بها من لم يحفظ عليها بهاءها وألقها. ويرى، وهو في تأمّل استعادة اللغة جدّتها، أنّ الطفولة قادرة أن تبعث اللغة إذا نفخت فيها من روحها فيقول: يارُبّ أطفالٍ لنا قد تأتأوا... ما قيل شيء في الكلام وقالوا ردّوا إليها الرّوح من أنفاسكم... ماتت لغات الأرض يا أطفالُ ومن التأمّل في الشعر واللغة يمضي به القول نحو التأمّل في رحلة عمره، وما كتب في لوح حياته فيقول: غنّيتُ أيّامي بما فيها... أفراحها تحدو مآسيها يا رحلة ليس لها مقصد... أطيبُ ما فيها أغانيها لكنّ سليل الطين ملتقى أضداد، يكاد لا يسلم منها! فيقول: وفي النفس أضداد: عفيفٌ وفاجرٌ... ضعيف وجبّار بريء ومجرم أنا الطين والخزّاف، أقرع بعضها... ببعضٍ، أباريقاً أسوّي وأحطم وتأخذه السوانح بعيداً، يتأمّل في الذي كان، والذي ما كان ينبغي أن يكون؛ ممّا عاناه الإنسان منذ بدأ يعي وجوده الملتبس على الأرض. وإذا كانت سوانح كتلك قد عالجتها أقلام من قبل فإنّ في براعة مدخله، وحسن تأتيه، ومهارة الاختتام ما يجعل ميسمه فيها واضحاً بيّناً. ويرجع من رحلة عمره، وتطوافه إلى الشعراء يلوذ بحيواتهم، ويستلّ منها ما يعبّر به عنهم، وعن نفسه حتّى كأن ما يبدو له منهم بعض المرايا تريه ما تكنّه أعماقه. يقول: وأسرابِ طيرٍ أهتدي بضلالها... وما دربها دربي ولا دارها داري سوى أنّها حامت على الأفق حومةً... فراحت بأسراري وعادت بأخباري ويبدأ من الشعراء بامرئ القيس، ملكهم الضلّيل! يقول: حنانيك هلّا يا امرأ القيسِ رجعةٌ... إلى الطلل المَبْكيّ فالقلبُ راجعُ إلى قبس من جمره لاح، قل لها... خذي عنه ! إن رقّت لقلب أصابعُ ويُطيف بأبي العلاء المعرّي مناجياً: أقبّل في ليلي يديك عليهما... تلبّدَ من ليليك قفّازُك الدجنُ وأُخرسُ في قلبي (أبي) لا أقولها... مخافةَ رعدٍ منك: من أين لي ابن؟ وكلّ وقفاته عند الشعراء جدير بالقراءة المتأمّلة، بل كلّ هذه القصائد ذات البيتين، المتينة اللغة الناصعة البيان، ممّا ضمّه هذا الديوان مبعث متعة أدبيّة راقية يلذّها العقل والوجدان!
* المصدر : http://www.alaalem.com/
بقلم :ا.د. سعيد عدنان
قلّما يلتقي القصّ والشعر على قلم أديب منشئ؛ ذلك أنّ لكلّ منهما منحى وطريقاً يختلف عمّا للآخر؛ غير أنّهما التقيا عند توفيق يوسف عوّاد، وقد أخذ كلٌّ منهما مداه. كان عوّاد قد كتب القصّة القصيرة منذ الثلاثينيّات بنهج واقعي يستمدّ مادته بيئته اللبنانيّة، وما يصطرع فيها من مشكلات، متّجهاً نحو أفق إنساني؛ يحبّ الخير، ويسعى إليه، ويروم تحقيقه، ويكره الشرّ وما يؤدي إليه، فأصدر (الصبيّ الأعرج)، و(قميص الصوف) وكلتاهما على نمط من الرصانة، وبلاغة القصّ، وإجادة الفن بما أحلّه مكانة مرموقة في الأدب القصصي، في بلده، والبلدان العربيّة الأخرى. ثمّ مال نحو الرواية فكتب (الرغيف)، وهو على النهج نفسه من توخّي الواقعيّة، وتتطلّب الأفق الإنسانيّ. وقد لقيت قصصه، وروايته، يوم صدرت، قبولاً حسناً، وعرف فيه القرّاء أديباً كاتباً من الطبقة الأولى، صادق الرؤية والبيان. ولعلّ ممّا دانى بينه وبين قارئه، في لبنان وفي غيره، وجعل أدبه ذا سيرورة حسنة؛ عناصر من الأمانة، والإخلاص، ومحبّة الإنسان لا يخطئها أحد في آثاره، ونزوع نحو الأناة، والإجادة، والصبر على الأثر الأدبيّ حتّى ينضج، ولغة فصيحة متينة البناء، بليغة الأداء. وكان إذا بطُؤ عليه القصّ لا يتعجّله؛ فقد تراخى ما بينه وبين الرواية مدّة شغلته فيها الصحافة، وشغله فيها العمل في السلك الدبلوماسي؛ قنصلاً ثمّ سفيراً؛ بيد أنّ عرق الأدب لا يفتأ ينبض فيه، ويهيئ له مسالك نحو الرواية، ونحو نمط من الشعر، قديم لديه، يقوم على التأمّل والتفكّر. وقد تهيّأ له من الأحداث، والمواقف، والصور، والفكر، ما يدعوه أن يكتب رواية أخرى جديدة ترصد الوقائع، في الريف والمدينة، وتستشرف ما تنبئ عنه، وتنبّه على خطر داهم فكتب (طواحين بيروت)، ونشرها في مطلع السبعينيّات، قبل أن تنشب حرب لبنان بسنتين، فلقيت شيئاً كثيراً من الإقبال والاستحسان، وقد قرأ فيها بعض النقّاد ما سوف يلمّ ببيروت، ويوقد نار حربها. وكان، مع الرواية والقصّة، يكتب المقالة التي لا يُخليها من أناقة الكلمة ورهافتها، ثمّ كتب سيرته على نحو من التقصّي الذي تزينه المخيّلة. ولم يكن في ذلك كلّه بعيداً عن الشعر في وروحه وأجوائه فلقد كان ممّا يظلّل نثره، ويشيع فيه الحياة . لكنّه ، مع ذلك ، كان يرغب في مزاولة الموزون المقفّى، والإلمام به بين حين وآخر، وإيداعه من الخطرات ما لم يستنفده النثر. على أنّه في جانب الموزون المقفّى أدنى منه في جانب القصص، ولعلّ الذين عرفوه شاعراً ينظم القول أقلّ من الذين عرفوه كاتباً بارعاً يجيد القصّ؛ لكنّ شعره الذي نظمه موسوم بميسمه تتلألأ فيه أضواء فكره وروحه بما ينأى به عن مشابهة الآخرين. كان يلمّ بالموزون المقفّى، بين حين وآخر، يودعه خطرة ممّا يعنّ له وهو يصغي لوقع الحياة، ويتأمّل في مجراها، وما يبدو له من خيرها، ومن شرّها، وممّا هو مزيجهما. وكان يصبّ الخطرة الواردة في قالب محكم، وثيق الصنع؛ هو أن تأتي القصيدة، من هذه الخطرات، في بيتين لا مزيد عليهما! ومهما تكن سعة الخطرة، ومهما يكن عمق التأمّل فليس لهما إلّا بيتان! وكلّ قصائده إنّما هي على بيتين بيتين. وهذا ضرب من النظم قليل الشيوع، له شبه بنحو ما بالرباعيّات، وليس له ذيوعها، وهو أضيق منها مدى. ولا يخفى ما في طريقته من العسر وصعوبة المزاولة إلا على ضليع بصير بدروب الفن وصناعته كمثل توفيق يوسف عوّاد الذي باعد بينه وبين طريق السهولة في الأدب. زاول النظم على ريث، كلّما سنحت له سانحة، ونشر بعضه في الصحف التي عمل بها ؛ حتّى إذا اكتملت التجربة واجتمعت لديه القصائد أصدرها كاملة في ديوان وسمه ب (قوافل الزمان)، ولم يُغفل طريقة النظم فأعاد العنوان على الصفحة الداخليّة، وأضاف إليه : (أو قصائد البيتين) حتّى كأنّ للديوان عنوانين؛ وكأنّ الأول يُلمح إلى ما دارت عليه القصائد من معان نفذ إليها عنصر الزمان بنحو ما، أو إنّ الزمان ملتبس بها، وبصوغها، وكأنّ الثاني يريد النظر إلى القالب الذي جعلت فيه تلك المعاني. ولقد جاءت القصائد في الديوان على نظام من الترتيب والإحكام منبثق من مداراتها، ومعانيها حتّى يهبها، وهي على هذا النحو ، معنى مضافاً. فقد جعلها في خمسة عنوانات انتظمتها : أزاهير بريّة، ومع الشعر، ورحلة العمر، ومع الشعراء، والشجرة الوحيدة. وتحت كلّ عنوان جملة قصائد، عدا الأول والأخير؛ تحت كلٍّ منهما قصيدة واحدة؛ ولكلّ قصيدة عنوان مستقى منها يجمع تجربتها، ويدلّ عليها. ويبدو أنّ القضيّة التي عُني بها الديوان في جُلّ قصائده، وتداولتها السوانح؛ هي الشعر من حيث هو روح يشبّ إوارها، ومن حيث هو لغة ونسيج من كلمات. يبتدئ الديوان ب (أزاهير بريّة) منشداً: في ساحِ روحي أزاهير منوِّرةٌ ... بريّةُ الفوح كفُّ الريح تُذريها من لي بقارورة في الأرض مُسعفةٍ ... أضمُّ فيها على ختمٍ معانيها؟ وكأنّ ما يقول في مفتتح ديوانه بيان يُعرب فيه عن نفسه، وعن شعره، ويريد من القارئ أن يبدأ به؛ إذ إنّه تساوره خشية أن تُذري كفّ الريح أزاهير روحه، وإنّه يرجو أن تتهيّأ له قارورة يخْبؤ بها معانيها! ولعلّه يريد بكفّ الريح : الزمن الذي لا يكفّ عن الهدم، والتبديد، ولعلّه يريد بالقارورة قصائده هذه التي يضمّ فيها على ختم أزاهير روحه، حتّى يحميها من كفّ الريح أن تذهب بها؛ فكلّما سعى الزمن سعيه، وامتدت يده تمحو، قام الشعر فأمسك بالأشياء أن تزول! فلا غرو أن تجيء هذه القصيدة، وحدها، في مطلع الديوان كأنّها عنوانه الآخر، وأن تجيء قصيدة أخرى من السنخ نفسه وحدها أيضاً في اختتام الديوان؛ هي (الشجرة الوحيدة) يكتب تحتها : (هل القصيدة إلّا تلك الشجرة الوحيدة ومن حولها الفراغ بلا حدود.) ثمّ يقول: يتيمةُ قفرٍ أيُّ رحم رمت بها... سفاحاً على الرمضاء من قاحل القفرِ تردّت قميص الليل حتّى إذا نضت ... ترامت تلاقي ظلها، واحد العمر فيكتمل له انسجام بدء الديوان وختامه على نحو من التفكّر في جوهر الشعر، ومنزلته؛ فكأنّ القصيدتين؛ الأولى التي افتتح بها، والأخيرة التي اختتم بها عضادتان تمسكان الديوان من طرفيه ، وتوجهان منحى دلالته. فإذا تمّ له حسن المدخل؛ شرع ينظر في عناصر الشعر، ويتفكّر فيها في جملة قصائد جاءت تحت عنوان : مع الشعر. والشعر إنّما يبدأ بالكلمة الحيّة الموحية النضرة. يقول في قصيدة عنوانها : (الكلمة) وذات سحر على سرّ أعاشرها... جنيّة من بنات الليل رقطاء بغى بها القوم تأتيهم على كَرَهٍ... حتّى أتتني ولانت فهي عذراء فإذا كان من لا يعرف قدر الكلمة فيبتذلها؛ فإنّ الشاعر ممّن يعرف قدرها، وينزلها ما يليق بها من المنازل، وإنّها تعرف قدره فتلين له وتطمئنّ بين يديه. ومن أهان الكلمة فقد أهان اللغة كلّها ؛ يقول وقد رأى من آذى اللغة، وشوّه أديمها: (والغتاه!) مرّغوا في الهوان حسنك لمّا... صدّهم منك في الهوى عِصيانُ جرّحوا،شوّهوا، استباحوا وراحوا... وكذا فعلُ عجزها الخصيان فليس جديراً بها من لم يحفظ عليها بهاءها وألقها. ويرى، وهو في تأمّل استعادة اللغة جدّتها، أنّ الطفولة قادرة أن تبعث اللغة إذا نفخت فيها من روحها فيقول: يارُبّ أطفالٍ لنا قد تأتأوا... ما قيل شيء في الكلام وقالوا ردّوا إليها الرّوح من أنفاسكم... ماتت لغات الأرض يا أطفالُ ومن التأمّل في الشعر واللغة يمضي به القول نحو التأمّل في رحلة عمره، وما كتب في لوح حياته فيقول: غنّيتُ أيّامي بما فيها... أفراحها تحدو مآسيها يا رحلة ليس لها مقصد... أطيبُ ما فيها أغانيها لكنّ سليل الطين ملتقى أضداد، يكاد لا يسلم منها! فيقول: وفي النفس أضداد: عفيفٌ وفاجرٌ... ضعيف وجبّار بريء ومجرم أنا الطين والخزّاف، أقرع بعضها... ببعضٍ، أباريقاً أسوّي وأحطم وتأخذه السوانح بعيداً، يتأمّل في الذي كان، والذي ما كان ينبغي أن يكون؛ ممّا عاناه الإنسان منذ بدأ يعي وجوده الملتبس على الأرض. وإذا كانت سوانح كتلك قد عالجتها أقلام من قبل فإنّ في براعة مدخله، وحسن تأتيه، ومهارة الاختتام ما يجعل ميسمه فيها واضحاً بيّناً. ويرجع من رحلة عمره، وتطوافه إلى الشعراء يلوذ بحيواتهم، ويستلّ منها ما يعبّر به عنهم، وعن نفسه حتّى كأن ما يبدو له منهم بعض المرايا تريه ما تكنّه أعماقه. يقول: وأسرابِ طيرٍ أهتدي بضلالها... وما دربها دربي ولا دارها داري سوى أنّها حامت على الأفق حومةً... فراحت بأسراري وعادت بأخباري ويبدأ من الشعراء بامرئ القيس، ملكهم الضلّيل! يقول: حنانيك هلّا يا امرأ القيسِ رجعةٌ... إلى الطلل المَبْكيّ فالقلبُ راجعُ إلى قبس من جمره لاح، قل لها... خذي عنه ! إن رقّت لقلب أصابعُ ويُطيف بأبي العلاء المعرّي مناجياً: أقبّل في ليلي يديك عليهما... تلبّدَ من ليليك قفّازُك الدجنُ وأُخرسُ في قلبي (أبي) لا أقولها... مخافةَ رعدٍ منك: من أين لي ابن؟ وكلّ وقفاته عند الشعراء جدير بالقراءة المتأمّلة، بل كلّ هذه القصائد ذات البيتين، المتينة اللغة الناصعة البيان، ممّا ضمّه هذا الديوان مبعث متعة أدبيّة راقية يلذّها العقل والوجدان!
* المصدر : http://www.alaalem.com/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق