الأحد، 27 يوليو 2014

حوار مع الشاعر والروائي والناقد العراقي الدكتور فاضل العزاوي أجراه من برلين : الاستاذ اسكندر الديك

حوار مع الشاعر والروائي والناقد العراقي الدكتور فاضل العزاوي
أجراه من برلين : الاستاذ اسكندر الديك
حين قررت إجراء مقابلة مع الشاعر والروائي والناقد العراقي فاضل العزاوي الذي يعيش في برلين حول آخر أعماله الأدبية والشعرية، ومنها ما سيُنشر له قريباً عن فترة سجنه القاسية في بغداد لثلاث سنوات، وعن علاقته كمثقف بما يجري في بلده وفي العالم العربي الذي شهد «ثورات ربيعية» عدة، فاجأته التطورات الأخيرة التي حصلت في بلده وشملت مسقط رأسه كركوك أيضاً، الأمر الذي جعله يستعيد ذكرياته القديمة وهو يتابع الأخبار والتطورات لحظة بلحظة، ما أعطى الحوار معه نكهة وحداثة متجددتين.
صدر لفاضل العزاوي، الذي يعد واحداً من الشعراء والكتاب العرب المجدّدين والمبدعين، نحو ثلاثين كتاباً في الشعر والرواية والقصة القصيرة والنقد والسيرة الذاتية، إضافة الى نقله أعمالاً أدبية من الانكليزية والألمانية الى اللغة العربية وبالعكس. وعمل لسنوات عديدة في الصحافة الثقافية العربية والأجنبية، وأصدر مجلة «الشعر 69» في العراق، ناشراً أعماله الأدبية والثقافية باللغتين الالمانية والإنكليزية في الصحف والمجلات والأنطولوجيات الأوروبية أيضاً، إلى جانب عضويته في هيئة تحرير مجلة «بانيبال» الصادرة في لندن باللغة الانكليزية. وتُرجمت أعماله الشعرية والروائية الى العديد من اللغات الأخرى، وصدرت له ستة كتب باللغة الانكليزية وثلاثة كتب باللغة الألمانية. وكان درس الأدب الانكليزي في جامعة بغداد، واللغة الألمانية في لايبزغ التي وصلها عام 1977 وحصل من جامعتها على درجة دكتوراه عن أطروحته «حول نظرية الثقافة».
> تصدر لك خلال أيام في زوريخ وبرلين عن دار نشر «دورليمان» ترجمة روايتك «آخر الملائكة» الى الألمانية، وهي كانت صدرت بالانكليزية في أميركا وبريطانيا وأثارت انتباه واهتمام نقاد بارزين مثل كولن ولسن. والروائي الألماني المعروف توماس لير هو الذي سيتولى تقديمها للجمهور الألماني عند صدورها. هل تتوقع أن تحظى الرواية باهتمام القارئ الألماني أيضاً في وقت تتجه كل الأنظار الآن نحو ما يجري في العراق؟
- ما من كاتب يمكن أن يتنبأ مقدماً بما سيكون عليه مصير كتابه حين يكون بين يدي القارئ، فللكتب مصائرها مثل البشر تماماً، وثمة دائماً عوامل كثيرة قد تؤدي الى رواج كتاب ما او عدم رواجه، وهي عوامل قد لا تكون مرتبطة بالضرورة بمستوى العمل ذاته. فلكي ندرك القيمة الحقيقية لكتاب ما علينا أن ننتظر طويلاً حتى نتأكد من أنه قادر على إثارة اهتمامنا حتى بعد غياب مؤلفه. رواية «آخر الملائكة» نُشرت قبل 22 سنة، ومع ذلك لم تفقد أسئلتها أهميتها وراهنيتها، وثمة نقاد رأوا أنها تنبأت بالمصير الذي آل اليه العراق. منذ الفصول الأولى في الرواية يلتقي بطل الرواية الشاب ثلاثة من الملائكة الذين يحملون الربيع في أكياس من القنب على ظهورهم، قاصدين مدينة كركوك البعيدة في رحلة تستمر عقوداً من الزمن. وفي النهاية يصل الملائكة وينثرون الربيع في كل مكان، لكننا سرعان ما نكتشف أنه كان ربيعاً كاذباً، مثلما يكتشف بطل الرواية أنه قد أفنى حياته كلها وهو يتبع ملائكة لم تكن في حقيقة الأمر سوى شياطين مقنعة.
> في الفصل الأخير من الرواية يعود بطل الرواية برهان عبدالله من منفاه الذي استمر ستة وأربعين عاماً الى مدينته بعد تحررها من الدكتاتوريات وانتهاء الحروب. هل كنت تتحدث عن نفسك وأنت تتطلع الى الربيع المقبل الذي قلت أنه سينتهي الى ما يشبه يوم القيامة؟
- كتبت الرواية قبل ربع قرن من الزمان، حينما كانت الديكتاتوريات العسكرية العربية طاغية وفي أوج قوتها، ومع ذلك كنت واثقاً من نهايتها مهما طال بها الزمن. في الفصل الأخير من الرواية يختلط الواقع بالحلم، حيث يبدو أن الجنة تحل على الأرض أخيراً وينتهي تاريخ الموت نفسه، لكننا نكتشف أنها جنة قائمة في الوهم، تقودنا الى الجحيم والربيع ينتهي بالصقيع. ولسوء حظنا يبدو أن ما استشرفته الرواية قبل عقدين من الزمن لم يكن أسوأ كثيراً من الواقع المرير الذي نعيشه الآن.

المثقف و«الربيع العربي»
> هذا يقودنا الى الحديث عما يسمّى بـ «الربيع العربي»، بخاصة أنك من الذين ناضلوا طوال عقود من أجل أهداف تتعلق بالحرية والديمقراطية، فهل ترى أن التفاعل أدبياً مع هذه الحركة مخاض سيأخذ وقتاً أطول، أم أن المهمة ستتعلق بالجيل اللاحق من الشعراء والأدباء الذين شارك قسم منهم فيها؟
- ما كان يمكن للربيع العربي الذي بدا في أول الأمر ربيعاً حقيقياً او ما يشبه الربيع أن يصل أخيراً الى العالم العربي من دون عمل العشرات من الكتاب العرب المبدعين الذين قاوموا الديكتاتوريات في بلدانهم وايديولوجياتها القائمة على الأوهام والأكاذيب، وأوحوا في كتاباتهم بعالم عربي أكثر حرية وديمقراطية وإنسانية وحداثة وارتباطاً بالروح الإبداعية في عصرنا. وبهذا المعنى أفهم أن كل عمل مبدع، أكان في الماضي ام في الحاضر، هو إسهام في عملية التغيير التاريخية. ليس مهماً في نظري أن تكتب قصيدة او قصة عن حدث ما، وانما أن تكون مبدعاً وخلاقاً ومكتشفاً في رؤياك حين تتعامل مع أي قضية في الحياة. لا يتعلق الأمر في نظري بالتفاعل او عدم التفاعل مع ما يسمى «الربيع العربي» وانما بأن تعرف كيف تنتمي الى روح زمنك.
> ما تقوله يشير الى أن الربيع العربي قد اُجهض او أنه مهدد بالإجهاض على الأقل، ولكن لماذا حدث ذلك بعد أن كان زلزالاً وجدانياً كبيراً شمل دولاً محورية في العالم العربي؟
- لا أعتقد أن الربيع العربي قد أجهض، وانما حلّ في أرض لم تجهز أساساً لاستقباله. كانت الديكتاتوريات العربية خلال حكمها الطويل قضت على كل حركة ديمقراطية منظمة، مثلما مهدت الطريق أمام صعود حركات راحت تتاجر بكل ما تعجز السلطة عن التصدي له او تتخذه هي نفسها قناعاً لها. فالربيع العربي لا يعني فقط التصدي للديكتاتوريات وإسقاطها وانما إقامة أنظمة حديثة قائمة على الحرية والعدالة والديمقراطية. لقد تعفنت الديكتاتوريات العربية الى الحد الذي دفع الملايين من الناس في النهاية الى القتال ضدها، ولكنها حين سقطت وجد الناس أنفسهم أمام سؤال المستقبل الكبير: والآن الى أين؟ وهو سؤال حاول كل من مسه الضرر في الماضي أن يجيب عنه وفق هواه. لم تكن هناك رؤية واضحة لمنظر الربيع العربي وانما أكداس من الأوهام. فاذا ما قارنا الربيع العربي بالربيع الذي مر على أوروبا الشرقية وجرف أمامه شتاء الاشتراكية الستالينية القارس فسنرى بوضوح أن الناس هناك قد كانوا عرفوا ما يريدونه منذ البداية: الديمقراطية كبديل للديكتاتورية. أما في العالم العربي فامتلك الناس شجاعة رفض الدكتاتورية، ولكنهم عجزوا عن الاتفاق على النظام الذي يؤسسونه. ولذلك أسبابه بالطبع: فقد انحسر دور الحركات الماركسية التي كانت تملأ الساحة ذات يوم، بعد موت الاتحاد السوفياتي بالسكتة القلبية، الى الحد الذي لم يعد فيه الحزب الشيوعي العراقي مثلاً قادراً حتى على ايصال نائب واحد الى البرلمان، مثلما تبخرت الحركات القومية التي هيمنت طوال عقود من الزمن على السلطة والشارع معاً في العديد من البلدان العربية وقادت بلدانها من هزيمة الى أخرى. كما يصعب الحديث أساساً عن وجود حركات ديمقراطية مؤثرة وفاعلة، فقد ارتبطت الديمقراطية لسوء الحظ في أذهان الجماهير الشعبية بالسياسات الغربية الداعمة للديكتاتوريات العربية طوال عقود الحرب الباردة ولإسرائيل دائماً، وأخيراً بالاحتلال الأميركي الذي جاء يبشر العرب بديمقراطية طائفية جعلتهم يعودون 14 قرناً الى الوراء. في ظل هذا الواقع المأسوي الذي انتهت فيه المواطنة لمصلحة الطائفة والقبيلة لم يعد أمام الناس الغرقى ما يتشبثون به سوى قشة صائدي الأرواح الذين هبطوا بالمقدس من عليائه وحولوه من سفر للمحبة الى ايديولوجيا قائمة على القمع والإرهاب والموت. صحيح أن الانتفاضات العربية أثارت إعجاب العالم كله، ولكنها بدل أن تقدم ما يقنع الناس بدعواها قادتنا الى المزيد من الفوضى التي أطلقت كل وحوش تاريخنا من كهوفها. المشكلة ثقافية قبل كل شيء: علينا أن نختار بين أن نكون مبدعين ضمن شروط عصرنا او أن نموت مغلولين في سجن ماضينا.
> تنشر لك مجلة «كيكا» في عددها المقبل جزءاً كبيراً من كتاب جديد تعده للنشر بعنوان «الشاعر في السجن» عن تجربة السجن التي عشتها في العراق لمدة ثلاثة أعوام، وهو الجزء الذي ستُنشر ترجمته الى الانكليزية أيضاً في عدد مجلة «بانيبال» المقبل. هل يمكنك أن تحدثنا عن مشاريعك الجديدة؟
- أنجزت في الأعوام الأخيرة العديد من الكتب التي لم أنشر سوى بعض نصوصها. هناك ديوان جديد تنقصه قصائد قليلة ليكتمل ورواية منتهية منذ بضعة أعوام بعنوان «في الطريق الى الجنة»، وديوان شعر كبير باللغة الانكليزية يفترض أن يصدر خلال العام المقبل في أميركا بعنوان «قوافل كثيرة مرت من هنا»، وكتاب تأملات وأسفار نُشرت أجزاء وافرة منه في العديد من المجلات والمواقع الالكترونية بعنوان «الرائي في العتمة». أما كتاب السجن الذي سينشر هذا العام فهو مشروع قديم كنت قد بدأت بكتابته في الحقيقة حين كنت في السجن، لكنني تركته عند بعض زملائي عند إطلاق سراحي، خشية أن تعثر عليه الشرطة إذا ما جرى تفتيشي وتصادره. ثم حين عدت لأستعيده لم أعثر له على أثر.

> لست أنت المثقف الوحيد الذي اضطر إلى ترك بلده في هذا العالم. ترى ما الذي اكتسبته من إقامتك الطويلة في ألمانيا بشقيها الاشتراكي والرأسمالي؟ وبصورة أدق: ما الذي تقدِّره فعلاً في الفضاء الأوروبي ولا تجده لا في العراق او في أي بلد عربي آخر؟
- شكراً لله انني لست المثقف العربي الوحيد هنا، فأنا أحتاج أحياناً الى أن أجلس في مقهى مع صديق عربي وأتذكر بلاداً تحولت الى حلم مستحيل. إنني مدين بالكثير لألمانيا التي منحتني الأمان وحررتني من الخوف في أن أعتقل بسبب نشر قصيدة او حتى أن أقتل لرأي أكون قد أبديته عن طيش او بحسن نية. لقد اعتقلت ذات مرة في بغداد، وكنت طالباً في الجامعة، بتهمة التشرد. ومؤخراً كشفت نائبة في البرلمان العراقي أنهم اعتقلوا شخصاً في الخامسة والسبعين من عمره ومكث أعواماً في السجن من دون محاكمة بدعوى انه قناص. في أوروبا التي أعيش فيها منذ حوالى 37 عاماً أدركت الطاقة الحقيقية للحرية التي لا تتحقق بترداد الأناشيد الحماسية، كما هي العادة عندنا، وانما باحترام حق الإنسان في أن يقرر مصيره بنفسه.
> إلى أي حدّ تأثرت كتاباتك شكلاً ومحتوى بعالمك الألماني والأوروبي الذي تعيش فيه منذ زمن طويل، وكيف؟
- أتاح لي العيش في المانيا، والإقامات الطويلة في العديد من البلدان الأوروبية، وأسفاري الأدبية الى أميركا وبلدان كثيرة أخرى في العالم أن أكون على تماس وثيق ليس فقط مع العديد من الثقافات الكبرى في عصرنا، وانما أن ألتقي أيضاً وأعقد صداقات وصلات وثيقة مع العديد من الكتّاب البارزين، وهي علاقات تركت تأثيراتها بالتأكيد على كتاباتي. وإذا كان ثمة ما تعلمته من هذه العلاقات فهو إدراك أن العمل الأدبي يتطلب جهداً شاقاً لا ينبغي للكاتب أن يقصِّر في بذله. وهنا أيضاً أدركت أن اتقان المرء للغات الأخرى يجعل لغته الأم التي يكتب بها أكثر دقة ورهافة، وربما ساعده ذلك أيضاً في امتلاك لغة منقاة من الحشو والفضفضة البلاغية. إنني أعي تماماً تأثيرات اللغتين، الانكليزية والألمانية، على لغتي العربية، وهي تأثيرات يهمني أن أقول عنها إنها تأثيرات متبادلة، إذ إنني أكتب وأنشر نصوصي باللغتين الانكليزية والألمانية أيضاً. وفي رأيي أن لغتي العربية استفادت كثيراً من معرفتي بهاتين اللغتين، سواء من الناحية الأسلوبية او طريقة بناء الجملة او دقة التعبير.
* المصدر : http://alhayat.com/Articles/3292992/
صورة: ‏حوار  مع الشاعر والروائي والناقد العراقي الدكتور  فاضل العزاوي
أجراه من برلين : الاستاذ  اسكندر الديك 
حين قررت إجراء مقابلة مع الشاعر والروائي والناقد العراقي فاضل العزاوي الذي يعيش في برلين حول آخر أعماله الأدبية والشعرية، ومنها ما سيُنشر له قريباً عن فترة سجنه القاسية في بغداد لثلاث سنوات، وعن علاقته كمثقف بما يجري في بلده وفي العالم العربي الذي شهد «ثورات ربيعية» عدة، فاجأته التطورات الأخيرة التي حصلت في بلده وشملت مسقط رأسه كركوك أيضاً، الأمر الذي جعله يستعيد ذكرياته القديمة وهو يتابع الأخبار والتطورات لحظة بلحظة، ما أعطى الحوار معه نكهة وحداثة متجددتين.
صدر لفاضل العزاوي، الذي يعد واحداً من الشعراء والكتاب العرب المجدّدين والمبدعين، نحو ثلاثين كتاباً في الشعر والرواية والقصة القصيرة والنقد والسيرة الذاتية، إضافة الى نقله أعمالاً أدبية من الانكليزية والألمانية الى اللغة العربية وبالعكس. وعمل لسنوات عديدة في الصحافة الثقافية العربية والأجنبية، وأصدر مجلة «الشعر 69» في العراق، ناشراً أعماله الأدبية والثقافية باللغتين الالمانية والإنكليزية في الصحف والمجلات والأنطولوجيات الأوروبية أيضاً، إلى جانب عضويته في هيئة تحرير مجلة «بانيبال» الصادرة في لندن باللغة الانكليزية. وتُرجمت أعماله الشعرية والروائية الى العديد من اللغات الأخرى، وصدرت له ستة كتب باللغة الانكليزية وثلاثة كتب باللغة الألمانية. وكان درس الأدب الانكليزي في جامعة بغداد، واللغة الألمانية في لايبزغ التي وصلها عام 1977 وحصل من جامعتها على درجة دكتوراه عن أطروحته «حول نظرية الثقافة».
> تصدر لك خلال أيام في زوريخ وبرلين عن دار نشر «دورليمان» ترجمة روايتك «آخر الملائكة» الى الألمانية، وهي كانت صدرت بالانكليزية في أميركا وبريطانيا وأثارت انتباه واهتمام نقاد بارزين مثل كولن ولسن. والروائي الألماني المعروف توماس لير هو الذي سيتولى تقديمها للجمهور الألماني عند صدورها. هل تتوقع أن تحظى الرواية باهتمام القارئ الألماني أيضاً في وقت تتجه كل الأنظار الآن نحو ما يجري في العراق؟
- ما من كاتب يمكن أن يتنبأ مقدماً بما سيكون عليه مصير كتابه حين يكون بين يدي القارئ، فللكتب مصائرها مثل البشر تماماً، وثمة دائماً عوامل كثيرة قد تؤدي الى رواج كتاب ما او عدم رواجه، وهي عوامل قد لا تكون مرتبطة بالضرورة بمستوى العمل ذاته. فلكي ندرك القيمة الحقيقية لكتاب ما علينا أن ننتظر طويلاً حتى نتأكد من أنه قادر على إثارة اهتمامنا حتى بعد غياب مؤلفه. رواية «آخر الملائكة» نُشرت قبل 22 سنة، ومع ذلك لم تفقد أسئلتها أهميتها وراهنيتها، وثمة نقاد رأوا أنها تنبأت بالمصير الذي آل اليه العراق. منذ الفصول الأولى في الرواية يلتقي بطل الرواية الشاب ثلاثة من الملائكة الذين يحملون الربيع في أكياس من القنب على ظهورهم، قاصدين مدينة كركوك البعيدة في رحلة تستمر عقوداً من الزمن. وفي النهاية يصل الملائكة وينثرون الربيع في كل مكان، لكننا سرعان ما نكتشف أنه كان ربيعاً كاذباً، مثلما يكتشف بطل الرواية أنه قد أفنى حياته كلها وهو يتبع ملائكة لم تكن في حقيقة الأمر سوى شياطين مقنعة.
> في الفصل الأخير من الرواية يعود بطل الرواية برهان عبدالله من منفاه الذي استمر ستة وأربعين عاماً الى مدينته بعد تحررها من الدكتاتوريات وانتهاء الحروب. هل كنت تتحدث عن نفسك وأنت تتطلع الى الربيع المقبل الذي قلت أنه سينتهي الى ما يشبه يوم القيامة؟
- كتبت الرواية قبل ربع قرن من الزمان، حينما كانت الديكتاتوريات العسكرية العربية طاغية وفي أوج قوتها، ومع ذلك كنت واثقاً من نهايتها مهما طال بها الزمن. في الفصل الأخير من الرواية يختلط الواقع بالحلم، حيث يبدو أن الجنة تحل على الأرض أخيراً وينتهي تاريخ الموت نفسه، لكننا نكتشف أنها جنة قائمة في الوهم، تقودنا الى الجحيم والربيع ينتهي بالصقيع. ولسوء حظنا يبدو أن ما استشرفته الرواية قبل عقدين من الزمن لم يكن أسوأ كثيراً من الواقع المرير الذي نعيشه الآن.
 
المثقف و«الربيع العربي»
> هذا يقودنا الى الحديث عما يسمّى بـ «الربيع العربي»، بخاصة أنك من الذين ناضلوا طوال عقود من أجل أهداف تتعلق بالحرية والديمقراطية، فهل ترى أن التفاعل أدبياً مع هذه الحركة مخاض سيأخذ وقتاً أطول، أم أن المهمة ستتعلق بالجيل اللاحق من الشعراء والأدباء الذين شارك قسم منهم فيها؟
- ما كان يمكن للربيع العربي الذي بدا في أول الأمر ربيعاً حقيقياً او ما يشبه الربيع أن يصل أخيراً الى العالم العربي من دون عمل العشرات من الكتاب العرب المبدعين الذين قاوموا الديكتاتوريات في بلدانهم وايديولوجياتها القائمة على الأوهام والأكاذيب، وأوحوا في كتاباتهم بعالم عربي أكثر حرية وديمقراطية وإنسانية وحداثة وارتباطاً بالروح الإبداعية في عصرنا. وبهذا المعنى أفهم أن كل عمل مبدع، أكان في الماضي ام في الحاضر، هو إسهام في عملية التغيير التاريخية. ليس مهماً في نظري أن تكتب قصيدة او قصة عن حدث ما، وانما أن تكون مبدعاً وخلاقاً ومكتشفاً في رؤياك حين تتعامل مع أي قضية في الحياة. لا يتعلق الأمر في نظري بالتفاعل او عدم التفاعل مع ما يسمى «الربيع العربي» وانما بأن تعرف كيف تنتمي الى روح زمنك.
> ما تقوله يشير الى أن الربيع العربي قد اُجهض او أنه مهدد بالإجهاض على الأقل، ولكن لماذا حدث ذلك بعد أن كان زلزالاً وجدانياً كبيراً شمل دولاً محورية في العالم العربي؟
- لا أعتقد أن الربيع العربي قد أجهض، وانما حلّ في أرض لم تجهز أساساً لاستقباله. كانت الديكتاتوريات العربية خلال حكمها الطويل قضت على كل حركة ديمقراطية منظمة، مثلما مهدت الطريق أمام صعود حركات راحت تتاجر بكل ما تعجز السلطة عن التصدي له او تتخذه هي نفسها قناعاً لها. فالربيع العربي لا يعني فقط التصدي للديكتاتوريات وإسقاطها وانما إقامة أنظمة حديثة قائمة على الحرية والعدالة والديمقراطية. لقد تعفنت الديكتاتوريات العربية الى الحد الذي دفع الملايين من الناس في النهاية الى القتال ضدها، ولكنها حين سقطت وجد الناس أنفسهم أمام سؤال المستقبل الكبير: والآن الى أين؟ وهو سؤال حاول كل من مسه الضرر في الماضي أن يجيب عنه وفق هواه. لم تكن هناك رؤية واضحة لمنظر الربيع العربي وانما أكداس من الأوهام. فاذا ما قارنا الربيع العربي بالربيع الذي مر على أوروبا الشرقية وجرف أمامه شتاء الاشتراكية الستالينية القارس فسنرى بوضوح أن الناس هناك قد كانوا عرفوا ما يريدونه منذ البداية: الديمقراطية كبديل للديكتاتورية. أما في العالم العربي فامتلك الناس شجاعة رفض الدكتاتورية، ولكنهم عجزوا عن الاتفاق على النظام الذي يؤسسونه. ولذلك أسبابه بالطبع: فقد انحسر دور الحركات الماركسية التي كانت تملأ الساحة ذات يوم، بعد موت الاتحاد السوفياتي بالسكتة القلبية، الى الحد الذي لم يعد فيه الحزب الشيوعي العراقي مثلاً قادراً حتى على ايصال نائب واحد الى البرلمان، مثلما تبخرت الحركات القومية التي هيمنت طوال عقود من الزمن على السلطة والشارع معاً في العديد من البلدان العربية وقادت بلدانها من هزيمة الى أخرى. كما يصعب الحديث أساساً عن وجود حركات ديمقراطية مؤثرة وفاعلة، فقد ارتبطت الديمقراطية لسوء الحظ في أذهان الجماهير الشعبية بالسياسات الغربية الداعمة للديكتاتوريات العربية طوال عقود الحرب الباردة ولإسرائيل دائماً، وأخيراً بالاحتلال الأميركي الذي جاء يبشر العرب بديمقراطية طائفية جعلتهم يعودون 14 قرناً الى الوراء. في ظل هذا الواقع المأسوي الذي انتهت فيه المواطنة لمصلحة الطائفة والقبيلة لم يعد أمام الناس الغرقى ما يتشبثون به سوى قشة صائدي الأرواح الذين هبطوا بالمقدس من عليائه وحولوه من سفر للمحبة الى ايديولوجيا قائمة على القمع والإرهاب والموت. صحيح أن الانتفاضات العربية أثارت إعجاب العالم كله، ولكنها بدل أن تقدم ما يقنع الناس بدعواها قادتنا الى المزيد من الفوضى التي أطلقت كل وحوش تاريخنا من كهوفها. المشكلة ثقافية قبل كل شيء: علينا أن نختار بين أن نكون مبدعين ضمن شروط عصرنا او أن نموت مغلولين في سجن ماضينا.
> تنشر لك مجلة «كيكا» في عددها المقبل جزءاً كبيراً من كتاب جديد تعده للنشر بعنوان «الشاعر في السجن» عن تجربة السجن التي عشتها في العراق لمدة ثلاثة أعوام، وهو الجزء الذي ستُنشر ترجمته الى الانكليزية أيضاً في عدد مجلة «بانيبال» المقبل. هل يمكنك أن تحدثنا عن مشاريعك الجديدة؟
- أنجزت في الأعوام الأخيرة العديد من الكتب التي لم أنشر سوى بعض نصوصها. هناك ديوان جديد تنقصه قصائد قليلة ليكتمل ورواية منتهية منذ بضعة أعوام بعنوان «في الطريق الى الجنة»، وديوان شعر كبير باللغة الانكليزية يفترض أن يصدر خلال العام المقبل في أميركا بعنوان «قوافل كثيرة مرت من هنا»، وكتاب تأملات وأسفار نُشرت أجزاء وافرة منه في العديد من المجلات والمواقع الالكترونية بعنوان «الرائي في العتمة». أما كتاب السجن الذي سينشر هذا العام فهو مشروع قديم كنت قد بدأت بكتابته في الحقيقة حين كنت في السجن، لكنني تركته عند بعض زملائي عند إطلاق سراحي، خشية أن تعثر عليه الشرطة إذا ما جرى تفتيشي وتصادره. ثم حين عدت لأستعيده لم أعثر له على أثر.

> لست أنت المثقف الوحيد الذي اضطر إلى ترك بلده في هذا العالم. ترى ما الذي اكتسبته من إقامتك الطويلة في ألمانيا بشقيها الاشتراكي والرأسمالي؟ وبصورة أدق: ما الذي تقدِّره فعلاً في الفضاء الأوروبي ولا تجده لا في العراق او في أي بلد عربي آخر؟
- شكراً لله انني لست المثقف العربي الوحيد هنا، فأنا أحتاج أحياناً الى أن أجلس في مقهى مع صديق عربي وأتذكر بلاداً تحولت الى حلم مستحيل. إنني مدين بالكثير لألمانيا التي منحتني الأمان وحررتني من الخوف في أن أعتقل بسبب نشر قصيدة او حتى أن أقتل لرأي أكون قد أبديته عن طيش او بحسن نية. لقد اعتقلت ذات مرة في بغداد، وكنت طالباً في الجامعة، بتهمة التشرد. ومؤخراً كشفت نائبة في البرلمان العراقي أنهم اعتقلوا شخصاً في الخامسة والسبعين من عمره ومكث أعواماً في السجن من دون محاكمة بدعوى انه قناص. في أوروبا التي أعيش فيها منذ حوالى 37 عاماً أدركت الطاقة الحقيقية للحرية التي لا تتحقق بترداد الأناشيد الحماسية، كما هي العادة عندنا، وانما باحترام حق الإنسان في أن يقرر مصيره بنفسه.
> إلى أي حدّ تأثرت كتاباتك شكلاً ومحتوى بعالمك الألماني والأوروبي الذي تعيش فيه منذ زمن طويل، وكيف؟
- أتاح لي العيش في المانيا، والإقامات الطويلة في العديد من البلدان الأوروبية، وأسفاري الأدبية الى أميركا وبلدان كثيرة أخرى في العالم أن أكون على تماس وثيق ليس فقط مع العديد من الثقافات الكبرى في عصرنا، وانما أن ألتقي أيضاً وأعقد صداقات وصلات وثيقة مع العديد من الكتّاب البارزين، وهي علاقات تركت تأثيراتها بالتأكيد على كتاباتي. وإذا كان ثمة ما تعلمته من هذه العلاقات فهو إدراك أن العمل الأدبي يتطلب جهداً شاقاً لا ينبغي للكاتب أن يقصِّر في بذله. وهنا أيضاً أدركت أن اتقان المرء للغات الأخرى يجعل لغته الأم التي يكتب بها أكثر دقة ورهافة، وربما ساعده ذلك أيضاً في امتلاك لغة منقاة من الحشو والفضفضة البلاغية. إنني أعي تماماً تأثيرات اللغتين، الانكليزية والألمانية، على لغتي العربية، وهي تأثيرات يهمني أن أقول عنها إنها تأثيرات متبادلة، إذ إنني أكتب وأنشر نصوصي باللغتين الانكليزية والألمانية أيضاً. وفي رأيي أن لغتي العربية استفادت كثيراً من معرفتي بهاتين اللغتين، سواء من الناحية الأسلوبية او طريقة بناء الجملة او دقة التعبير.
* المصدر : http://alhayat.com/Articles/3292992/‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 ...............أ.د إبراهيم خليل العلاف

                                                            الاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 أ....