الخميس، 26 أبريل 2012

داؤد الملاح آل زيادة ودوره في إثارة الوعي القومي العربي في الموصل*


داؤد الملاح  آل زيادة ودوره في إثارة الوعي القومي العربي في الموصل*

  أ.د. إبراهيم خليل العلاف     
أستاذ التاريخ الحديث –جامعة الموصل  
                                                       
     كان لإعلان الدستور العثماني في 23 تموز 1908، أثر كبير في إيقاظ المتنورين من الموصليين .فقد تركت شعارات الاتحاديين الثلاث: الحرية والإخاء  والمساواة       أثرها على السكان المواصلة ، خاصة وإنهم كانوا يعانون من الظلم والاستبداد والفساد الإداري . وكان من نتائج إعلان الدستور قيام نهضة صحفية عملت على زيادة المثقفين في المدينة، فساعد ذلك على تنامي الوعي القومي بدرجة كبيرة  . ومن هؤلاء المثقفين داؤد الملاح آل زيادة الموصلي.   
    ولد داؤد الملاح سنة 1863 في مدينة الموصل . وتثقف ثقافة دينية على أيدي عدد من العلماء المشهورين أمثال الشيخ يوسف الرمضاني، والشيخ محمد الصوفي والشيخ محمد الرضواني. ولقد اتجه منذ بداية نشأته نحو الأدب. ومال إلى السياسة بعد ذلك ، فلم يكن كغيره من الأدباء منطوياً على نفسه، بل خاض غمار السياسة . وأصبح خطيباً مصقعاً. ولعل خطابه المشهور في الاحتفال الذي أقيم في الموصل لمناسبة ضياع جزيرة كريت العثمانية سنة 1909 والذي هاجم فيه السياسة الاستعمارية للغرب إزاء الدولة العثمانية خير دليل على مانقول. كان خبر الاعتداء على السيادة العثمانية في جزيرة كريت قد احدث صدى واسعاً في الموصل.مما قاله داؤد الملاح في خطابه:  " أيها الإخوان: أن الدولة قبل انشقاق فجر الدستور على ما فيها من القصور واختلال الأمور ، طالما نشبت بها الأظفار وعبثت بعقولها الاغبار فعراها ماعراها من النقص بعد الكمال ، ودهاها مادهاها في ممالكها من الانضمام والاستقلال . وعندنا اليوم ذلك المنكوس والدور المنحوس ... معضلة طال داؤها ... وماذاك الا من عدم الإنصاف وسوء الاعتساف ألا وهي (كريت) . إن كريت مزروعة بأرواح العثمانيين ومسقية بدماء الموحدين، ان كريتاً هي العاصمة لجزئرنا ، بل هي القائد لها ، فإذا ولت ولوا وإذا ثبتت ثبتوا عندها بل هي واسطة عقدها فإذا انفصم سلكها انفرطت الجزر لفقدها "
    انضم داؤد الملاح آل زيادة الى جمعية الاتحاد والترقي في بدء تأسيس فرع لها في الموصل ، وكان له نشاط كبير في الدعوة لمبادئها في الحرية والمساواة والإخاء بين العناصر العثمانية دون استثناء. فلقد رحب، شأنه شأن عدد من مثقفي الموصل بجريدة "نينوى" لسان حال جمعية الاتحاد والترقي في الموصل والتي صدر عددها الأول في 15 تموز سنة 1909. ومما قاله الملاح في هذا الصدد :
  المجد من قدم حوته نينوى   ***           فغدا يمس سماكها هام السما
  ولدت لها بنتاً دعتها باسمها  ***           قد ارضعتها بالفضائل والحجى
لابدع ان هي قومت حدبائنا  ***          فالبنت مثل الام قد فخرا سوا
 خذها إليك جريدة ما مثلها   ***         صدقت بما نشرت لما فيها انطوى
 علمية  أدبية سل ماخفى   ***              منها فكل الصيد في جوف الفرا
عذراء قد جليت إلى قرائها    ***          تبغى لها مهراً وذاك هو الرضى
علقت بها الاطباع  اذ قد أرخوا  ***        بالطبع قد لطفت وزانت نينوى

وبالرغم من سيطرة الاتحاديين على جريدة نينوى  وتوجيهها لخدمة جمعية الاتحاد والترقي فقد اتخذ منها بعض المثقفين الموصليين ومنهم داؤد الملاح وسيلة لنشر بعض طموحاتهم وآمالهم القومية .إذ أسهمت " نينوى" مثلاً في معالجة نقطة حيوية شغلت أذهان الناس في تلك الفترة ألا وهي جعل اللغة العربية لغة التدريس في المدارس.
   كما أثار داؤد الملاح آل زيادة على صفحات جريدة نينوى كثيراً من القضايا السياسية والاجتماعية بين فيها للرأى العام الموصلي مواضع النقص وأرشده الى طريق الإصلاح .ومن ذلك قوله في مقال تحت عنوان : " فتور الهمة من الحكومة والأمة ". جاء فيه:  " ... إذا سلمنا بتراخي الحكومة... فأي مآثر أبديتم انتم لوطنكم حتى نلسع الحكومة بأسهم الملام ونحمدكم بالسنة الشكر والاحترام . يكفي هذا الخمول ... لقد اودى بكم الخمول والتواني الى ان انتخبتم لكم نواباً قلدتمونهم حقوقكم الموجبة لكم على حكومتكم ... واعترضتم عنهم صفحاً غير مهتمين بما يسعون من الإصلاح لكم و مايقترحون به الترقي لأوطانكم فهلا كان من الواجب عليكم ... ان تكاتبونهم بما فيه صلاحكم وصلاح اوطانكم ... فاذا كان قصارى آمالنا في زمن المشروطية هذا الحال ... وأقصى رجائنا من دور الدستور على هذا المنوال وحكومتنا في غفلة وامتنا في غفوة فعلى الإصلاح منا السلام "
ثم التفت الكاتب بعد ذلك ليخاطب الحكومة بقوله:  " أيها الحكومة الدستورية. قد كان صامتين في دور الاستبداد ... أما اليوم فالأمة حرة لا تغض جفنها على الضيم ولأترض لنفسها الإهمال عن حقوقها ...ويراع قلمها يرشح مداداً فاغراً فاه نذيراً لمن لم يراع جانب الأمة لينفث سم مداده... فإذا كان الحال على مانراه والأمة تتأفف من هذا الدور وتخشى عقباه فأي دور ننتظر، وبأي حكومة ننتصر وعلى من نعتمد وممن نستمد .أجل لا يقال أن ...بواعث الترقي وما يلزم بعمران الممالك هو منوط بالحكومة فقط بل باشتراك الأمة معها..." .

هذا وقد نشر داؤد الملاح مقالاً في جريدة نينوى بعنوان: " فتراخى الأمر حتى أصبحت هملاً " انتقد فيه الحكومة الاتحادية في موقفها من إهمال الأمن وسيادة الفوضى ، وعاب عليها تراخيها في هذا المجال وأعرب عن تشاؤمه من تلك الأوضاع التي لم تكن حسب رأيه تختلف شيئاً عما كان يجري قبل الانقلاب الدستوري سنة 1908 ومما قاله: 
   " قد كنا نتأفف من تلك الأمور قبل استنارة بدر الدستور، فلما انشق فجر هو طلع بدره وهبت نسماته ، قلنا قد انقشعت عنا غياهب الظلم ،وانجلت غمائم الظلم ، وأحس الظالم محصوراً والمظلوم منصوراً، فإذا الأمور تدور على محورها القديم ، والأمة تقاس العذاب الأليم والاستبداد على ازدياد..."
  لقد كانت هذه المقالة نقطة تحول في تاريخ داؤد الملاح ومواقفه السياسية، إذ أدرك بأن الاتحاديين يسلكون سياسة قومية مركزية متطرفة ، أثارت حفيظة القوميات الأخرى في إرجاء الدولة العثمانية . فعلى الرغم من الجهود التي بذلها الزعماء العرب المعروفون آنذاك لكي يظهروا إخلاصهم وتعاونهم مع الاتحاديين، إلا أن بوادر الخلاف سرعان مابدأت تلوح في الأفق ، خاصة بعد أن ظهرت بعض المقالات في الصحف الموالية للاتحاديين تهاجم العرب وتتحامل ضدهم . لقد كان لتلك الاتجاهات الجديدة إنعكاساتها في مدينة الموصل مما أخذت تدريجياً تتزعزع الثقة بين أنصار العهد الدستوري الجديد.  ومن هؤلاء داؤد الملاح الذي تنصل من الاتحاديين ومن أعمالهم وترك جمعية الاتحاد والترقي ، وانضم إلى الشباب العربي المناضل في سبيل حرية الأمة العربية .فأخذ ينشر الفكرة القومية بين الشباب ، وبين من يجد فيه الاستعداد لتقبل ذلك . ومن الأساليب الجديدة التي لجأ إليها الملاح في هذا المضمار نظم الأناشيد التي اتسمت بالحماس والدعوة إلى استعادة المجد العربي ، والحرية مما قاله هذا النشيد:   

أليس نحن الالى كنا دعاة الضيف
                    لنا ملوك الورى دانت بحد السيف
فكيف نغضى على الردى والحيف
                    ابت بذا امة جلت معاليها
هبوا بنى وطني واستلفتوا الأنظار
                    واحيوا لما خلفوا أجدادنا الأخيار
واسترجعوا ما مضى واستطلبوا للثار
                 فتلك أمصارنا  حمل العدو فيها
وله نشيد آخر جاء فيه :
يا اباه الضيم ماهذا  التراض والسكون
                       او ماكان لكم في سالف الدهر شؤون
أرضاء بعد ذاك العز في ذا الانتحار
                       حيث فاض الجهل فينا وانمحى ذاك الفخار
فبثوا مما عراكم واخلعوا ثوب الخمول
                         فلكم قد شهد العالم في كبد العقول
واذكروا أسلافكم إذ دوخوا تلك البلاد
                         وأناروا بشموس العلم أفكار العباد
أخذ الغرب عليهم واقتضى تلك العلوم
                       وغدا الشرق لسوء الحظ في الجهل يعوم

ولاريب في ان يسمى داؤد الملاح بـ " بلبل الحدباء" خاصة وان أناشيده وقصائده كانت تصدح صباح مساء مذكرة الموصليين العرب بمجدهم ومحفزة إياهم إلى استعادة ذلك المجد، واداء تلك الرسالة.
  كان داؤد الملاح من اولئك العاملين في الحركة القومية العربية في الموصل. فقد لجأ وغيره إلى المؤسسات ألطباعية والصحفية والتعليمية لنشر الفكرة القومية بين الناس . ومن تلك النشاطات التي أسهم فيها الملاح حضوره الندوات الثقافية التي يعقدها سرا الشباب القوميون قبل نشوب الحرب العالمية الأولى وخلالها ومنها الندوة الغلامية التي كان يعقدها محمد رؤوف الغلامي في مدرسة محمود بك آل محضر باشي العلمية والواقعة في محلة نبي الله جرجيس في الموصل. وكان من الذين يحضرون تلك الندوات مولود مخلص وعلي جودت الايوبي وحمدي جلميران وفاضل الصيدلي وأمثالهم من حملة الفكرة القومية . كانوا يتبادلون فيما بينهم الحديث عن القضية القومية ، ويقرأون القصائد الشعرية التي تنشرها الصحف السورية والمصرية التي تقع في أيديهم .كما تعودوا على قراءة بعض الكتب التاريخية والسياسية ، فيتلوا احدهم بعض صفحاتها جهاراً، ويستمع الآخرون.ومن تلك الكتب ، على سبيل المثال ، كتابي : (أم القرى) و(طبائع الاستبداد) لعبد الرحمن الكواكبي .
 هذا وقد شارك الملاح إخوانه القوميين كذلك في وضع كراس بعنوان " الأناشيد الموصلية للمدارس العربية " نشره محمد سعيد الجليلي باسمه سنة 1914. وقد ضم الكراس مجموعة من الأناشيد التي تساعد على إذكاء الحماسة في أفئدة النش العربي وكان الجليلي يعمل معلماً في المدرسة دار العرفان الرسمية التي اتخذها القوميون  مركزاً للنشاط السري . وكان كتاب الأناشيد من أكثر الكتب انتشاراً بين الشباب العربي في الموصل. ان تلك الأناشيد كان لها اثر كبير في تحفيز الشباب الموصلي للتخلص من الحكم العثماني، والدعوة إلى مقاومته بالقوة  للحصول على الحقوق العربية في الحرية والوحدة والاستقلال.
 وبعدما أسس  في الموصل فرع  لحزب اللامركزية الإدارية العثمانية كان نشاطه سرياً . وذلك لان سطوة الاتحاديين كانت في الموصل يومذاك (1913) أقوى مما كانت علية في غيرها من المدن العراقية. خاصة وان خالد بك مدير شرطة كان اتحادياً متطرفاً. وبعد أن عثرت السلطات الاتحادية على الرسائل التي كان يبعث بها حقى العظم سكرتير حزب اللامركزية من القاهرة إلى محمود المحمصاني في دمشق ، وجد فيها مايشير الى وجود فرع للحزب في الموصل .وعلى اثر قيام جمال باشا (السفاح) حملته ضد المنتمين إلى الجمعيات العربية وحزب اللامركزية الإدارية العثماني بصوره خاصة، كتب الى والي الموصل وكان يومذاك سليمان نظيف (1913-1915) أن ينزل العقاب في الحزب المذكور . فأجرى الوالي التحقيقات في هذا الموضوع فلم يهتد إلى أحد منهم ، ولكن بعض الوشاة تبرعوا بتقديم أسماء ثلاثة أشخاص من العاملين في الحركة العربية ، كان من بينهم داؤد الملاح آل زيادة . وكاد الثلاثة يذهبون إلى حبل المنشنقة لولا توسط محمد باشا الصابونجي أحد وجهاء الموصل  لدى الوالي ونفيه أن يكون للثلاثة أي نشاط سياسي ضد السلطة . ولما لم تكن هناك ادلة مادية ضدهم وافق على إطلاق سراحهم .
وعندما جاء سليمان فيض الى الموصل في آب 1931مندوباً عن السيد طالب النقيب في محاولة لفتح فرع لجمعية البصرة الإصلاحية في الموصل، ولتوحيد الكفاح القومي في العراق ، كان داؤد الملاح أحد المتعاونين معه ، وعندما استقر الرأي لتأسيس نادي أدبي في الموصل يتخد واجهة لنشر الفكر القومي نظم داؤد الملاح قصيدة كان ختامها هذا البيت الذي يؤرخ للحركة. بحساب الحروف 1331هجرية (1913):
شموس علم طغت      بأفق ناد ادب
وبعد فشل مهمة سليمان فيضى نتيجة لاكتشاف السلطات الاتحادية الغرض الحقيقي الكامن وراء هذه الحركة ، وعودة فيضى إلى البصرة في 29ايلول  ، 1931اصبح داؤد الملاح من أبرز القوميين الذين قاموا بدور فاعل  في الحياة السياسية في الموصل خلال الحرب العالمية الأولى.
وأخيرا ، وفي سنة 1916انطفأت روح داؤد الملاح ،وهو لما يتجاوز الخمسين من العمر إلا قليلاً .
*المقال منشور في مجلة بين النهرين –بغداد -العددان 18-19 -1977 الصفحات 277-284  والهوامش والتعليقات مثبتة فيه . ومن اهم المصادر المعتمدة رسالتي للماجستير غير المنشورة والموسومة : " ولاية الموصل :دراسة في تطوراتها السياسية 1908-1922 وقدمت إلى مجلس كلية الآداب –جامعة الموصل 1975 وكتاب محمد سعيد الجليلي (محرر ) الموسوم : "الأناشيد الموصلية للمدارس العربية " ، ط2 ، الموصل ،1953 وأعداد من جريدة نينوى (الموصلية ) التي اطلعت عليها في دار الأستاذ متي سرسم ببغداد في السبعينات من القرن الماضي ومقال محمد عزة دروزة " الحركة العربية والجمعيات العربية في الأستانة " المنشور في مجلة العرب (المقدسية ) العدد 3 ، 10 ايلول 1932 وكتاب فهمي المدرس ،مقالات ، جزء 1 ، بغداد 1931 وكتاب عبد المنعم ألغلامي ،أسرار الكفاح الوطني في الموصل 1908-1925 ، جزء 1 ، بغداد ، 1958 وكتابه الآخر " السوانح ، الموصل ، 1932 وكتاب احمد محمد المختار ، تاريخ علماء الموصل ، جزء 2 ، الموصل ، 1961 .ومما اعتمدنا عليه  كذلك مقالي الموسوم : " أثر الصحافة في تنامي الوعي القومي العربي " المنشور في مجلة بين النهرين ، العدد 12 ،السنة 1975 .

                 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بديع الزمان الهمذاني ومقاماته - ابراهيم العلاف

  بديع الزمان الهمذاني ومقاماته - ابراهيم العلاف وكما وعدتكم في ان اتحدث لكم في كل يوم عن شاعر ، واقول انني اعود الى كتب تاريخ الادب العربي ...