أعدت هذه المحاضرة وألقيت في تجمع للمثقفين العراقيين في عمان سنة 2015 ونشرت في الكتاب السنوي للتجمع تحت عنوان(الأصول التاريخية للتأييد الأنكلوساكسوني للصهيونية). منذ ذلك التاريخ وبمناسبة مرور مائة عام على إصدار وعد بلفور ضجت الصحف ووسائل الاتصال الالكتروني العربية بالتوقعات حول قيام بريطانيا حكومة أو شعبا بإصدار اعتذار للشعب العربي عامة وللفلسطينيين خاصة عن الظلم الذي نزل بهم بسبب ذلك الوعد. أنا شخصيا لم أتوقع ذلك واعتقد أن ما سيجده القارئ في نص هذه المحاضرة في أدناه والتي غيرتُ عنوانها كما مدون في صدر المقال كفيل يإقناعه بوجهة نظري.
من الحقائق القائمة في عالم اليوم ذلك التأييد القويّ والمتأصّل الذي تبديه القوى الأنكلوساكسونية للحركة الصهيونية وهي ظاهرة جديرة بأن يوليها العرب دراسة عميقة لاكتشاف اسبابها. هل هي وليدة اليوم أو العصر أو القرن العشرين مثلاً؟ وهل هي كما يتصور البعض حصيلة مصالح مشتركة بين الإستعمار الأنكلوساكسوني والحركة الصهيونية وحسب؟ أم إنها ذات أصول وجذور أعمق من ذلك؟ لا يخفى على أحد وجود مصالح مشتركة بين الاستعمار الأنكلوساكسوني والصهيونية، لكن هذه المصالح وحدها ليست كافية لتبرير هذا التأييد المتواصل الذي بدأ في أواخر القرن التاسع عشر في بريطانيا واستمر طوال النصف الأول من القرن العشرين إلى أن سلمت بريطانيا الراية إلى الولايات المتحدة وسلّمت معها دعم الحركة الصهيونية إلى الأخيرة.
هل أن الأقلية اليهودية القوية في أمريكا وتنفذها في الأوساط المالية والاعلامية هو السبب في هذا التأييد؟
كل هذه وتلك أسباب مساعدة، ذلك أمر لا شك فيه. إلا أن المصالح والأسباب المادية كلها تأتي في الدرجة الثانية، وهي عرضة للتغير مع تغير الواقع السياسي والاقتصادي. فالدول كما قال (كلادستون) رئيس وزراء بريطانيا في القرن التاسع عشر لها مصالح دائمة وليس لديها أصدقاء دائمين. والمصالح البريطانية والأميركية في الدول العربية ليست بالقليلة أو الهينة. لكننا رغم ذلك لم نرَ يوماً أثراً لهذه المصالح يرقى إلى درجة التأثير على القرار البريطاني والأميركي في غير صالح الصهيونية. فما هو السبب؟ كل هذا يجعلنا نفكر بأن هذا التأييد ليس حصيلة مصلحة، بل إنه قضية (معتقدية) ذات أصول أعمق جداً من المصالح الآنية والمتغيرة.
سأحاول هنا طرح بعض الحقائق عن التاريخ والنفسية الأنكلوساكسونية التي ربما غابت عن القارىء العربي وإذا ما كانت قد عولجت من قبل بعض الباحثين العرب فربما كان ذلك بصورة عرضية أو في بحث تاريخي متخصص لم تتح الفرصة لجمهور عريض من القراء للإطلاع عليه أو الاستفادة منه. وعليّ أن أعترف بأني لست ملماً بكل ما كتب أو نُشِرَ في صحفنا أو مجلاتنا أو بكل بحث ألقي في ندوات أو مؤتمرات علمية. وإن كان غيري قد سبقني وعالج الموضوع فلا ضَيْر في أن نعيد طرحه ولا شك أن هناك شيئاً أو آخر قد يكون جديداً فيه.
خلاصة ما سأفصله في هذه العجالة هو أن السبب الأساسي لهذا التأييد معتقدات رسخت في النفسية الأنكلوساكسونية باسم المذهب الديني عبر بضعة قرون من الزمن، وكانت تغذى فكرياً إلى الطفل واليافع في داره ومدرسته وكنيسته بحيث أصبحت جزءاً أساسياً من فكره ومعتقده بصورة يصعب معها اجتثاثها من وجدانه. شخصت الحركة الصهيونية منذ بدايتها قبل أكثر من قرن قد هذه النزعة في الفكر الأنكلوساكسوني واستغلتها إلى أقصى الحدود وسعت إلى بناء مصالحها الدنيوية بما يتماشى مع مصالح الدول الأنكلوساكسونية أيضاً, فحصل تكامل بين التفكير الوجداني المبني على المعتقدات المذهبية وبين المصالح الإقتصادية والسياسية للجهتين، وذلك ما جعل هذا الترابط بهذه الدرجة من القوة والاستمرارية.
ومما يستوجب إيضاحه أيضاً هو أن رأي البعض ممن يتلمسون الأعذار للقوى الأمريكية والبريطانية والقائل بهيمنة الصهيونية على الاقتصاد والمال والاعلام في أمريكا وابتزازها لها بهذه الطريقة هو السبب الأساس في هذا التأييد ليس كافياً لتبرير هذا الدعم اللامحدود الذي تقدمه أمريكا للصهيونية، وإن هذه الهيمنة ليست من القوة بحيث تستطيع السيطرة على أمة كبرى مثل الأمة الأميركية أو ابتزازها ما لم يكن الفكر الأميركي ذاته مهيئاً لذلك، ومشبعاً بالفكر الصهيوني حتى قبل أن تولد الحركة الصهيونية.
هناك عدد من الحقائق علينا أن نلاحظها قبل أن ندخل في صلب الموضوع، أولها: أن هذا التأييد للصهيونية موجود في الفكر الأوروبي عامة أكان على مستوى الدول أم على مستوى الشعوب لكن درجة التأييد متفاوتة. يقابل ذلك تيار كاره ومتحيز ضد اليهود بصورة عامة وهو تيار موجود كذلك في كافة الدول الأوروبية يبرز إلى السطح أحياناً ويختفي أحايين أخرى لكنه لم يتلاشَ. إذا نستطيع القول إن الشعور الأوروبي نحو اليهود عامة هو شعور (حب كراهية) وهذه حالة نفسية موجودة لدى البشر تجاه أشياء معينة أكان ذلك على المستوى الفردي أم على مستوى الشعوب. والمحصلة لهذين التيارين في الأقطار الأنكلوساكسونية كانت ولا تزال منذ بضعة قرون في مصلحة اليهود والحركة الصهيونية بصورة لا تقبل الجدل. الحقيقية الثانية هي أن القوى الأنكلوساكسونية كانت منذ أواسط القرن الثامن عشر وحتى اليوم هي القوة الغالبة في العالم. لم نقل (المتحكمة) بل قلنا (الغالبه). وقد تعرضت هذه الغلبة منذ بروزها إلى عدد من التحديات الخطيرة متمثلة في فرنسا النابوليونية وألمانيا القيصرية ثم النازية وكان آخرها التحدي الروسي باسم الشيوعية. إلا أن القوى الأنكلوساكسونية خرجت مرة بعد أخرى سالمة ولم يتغير الموقف.
الحقيقة الثالثة والمهمة هي تواجد هذا التأييد العارم للصهيونية في نفسية القوة الغالبة في العالم وهي حقيقة مؤلمة يدفع العرب والمسلمون ثمنها المر. فلو كان التأييد الأساسي للصهيونية موجوداً على سبيل المثال في الفكر الألماني أو في الفكر الروسي دون الفكر الأنكلوساكسوني، لكان للعرب مجال أوسع بكثير للمناورة السياسية مما هو عليه الآن.
لكي نعود إلى صلب الموضوع علينا أن نعود بضعة قرون إلى الماضي. بدأت أول المجموعات اليهودية تصل انكلترا بعد سنة 1066 إي بعد غزو وليام الفاتح لها واستيلاءه على عرشها. سيطر اليهود خلال أكثر من 200 سنة على الكثير من الفعاليات التجارية في البلد كما جمعوا ثروة كبيرة من التمويل بفوائد فاحشة. كان ذلك سببا في استثارة الإنكليز مما دفع ملكهم ادوارد الأول إلى طرد اليهود من انكلترا سنة 1290. تجب الإشارة إلى أن انكلترا كانت في ذلك العهد على المذهب الكاثوليكي.
في بداية العقد الرابع من القرن السادس عشر أعلن هنري الثامن ملك إنكلترا وبموافقة البرلمان انفصال الكنسية الإنكليزية عن السلطة البابوية. لكنه لم يغير الكثير من الأسس والطقوس الكنسية وبقيت كنيسته كاثوليكية تقريبا وذات هيكلية هرمية لكنها غير خاضعة للبابا. لكن ذلك كان البداية فقط. فقد بدأت الكنيسة الإنكليزية خلال بقية حكم هنري وحتى عام 1547 وخلال حكم ابنه العليل إدوارد السادس (1547 1553) تتذبذب بين الكثلكة والإصلاح الديني الفعلي ثم تلى ذلك حكم ماري ابنة هنري (1553 1558) الكاثوليكية المعتقد وما صاحبه من تنكيل بدعاة الإصلاح. لكن ذلك لم يطل فمع بداية حكم أختها إليزابيث الأولى المديد في سنة 1558 بدأ الإصلاح الديني الفعلي يأخذ مجراه وتحولت الكنيسة الإنكليزية (أو الأنكليكانية) إلى البروتستانتية.
لكن البروتستانتية الأنكليكانية بقيت مقيدة وهرمية وأعطت رئيس الأساقفة سلطة تامة على التشيكلات الكنسية والقساوسة، مما أثار حفيظة دعاة الإصلاح الكنسي الفعلي الذين دعوا إلى كنيسة ديمقراطية غير مقيدة بسلطة عليا. وبدأ التذمر من عهد إليزابيث ودعي التيار المعارض للكنسية السلطوية بالبيورتيان (Puritans) أو المطهرين.
تميزت الكنيسة الأنكليكانية عن الكاثوليكية باعتمادها الكبير على الكتاب المقدس الذي يضم بين دفتيه التوراة التي دونها أحبار اليهود والأناجيل الأربعة وأعمال الرسل الذين بشروا بالمسيحية في أرجاء الدولة الرومانية واستعاضت الكنيسة برجوعها إلى الكتاب المقدس عن التعليمات البابوية العديدة. أما المطهرين أو البيوريتان فكانوا أكثر اعتماداً وأشد صرامة في تطبيق كل ما جاء به الكتاب المقدس. والذي يؤسف له أنهم أخذوا ما جاء في أسفار التوراة اليهودية بنفس الروحية التي اعتمدوا فيها تعاليم السيد المسيح، لا بل كان أثرها في نفسيتهم أعمق من التعليمات المسيحية. وسنرى كيف أن كتّاباً أعلاماً من الإنكليز أنفسهم يقرّون بذلك. لكن البيوريتان كانوا موضع إضطهاد الكنسية والحكومة الإنكليزية وحرم أي قسيس يجهر بآرائه البيوريتانية ووصل الأمر إلى إعدام بعضهم.
وفي عهد جيمس الأول (1603 1625) الذي خلف إليزابيث وابنه شارل الأول (1625 1649) اضطر الكثيرون من البيوريتان بسبب الاضطهاد الذي طالهم إلى الهجرة إلى أميركا. لذا حملوا مذهبهم المتشدد معهم ليأسسوا مستعمرة (ماساشوسيتس) وغيرها من المستعمرات الإنكليزية في المنطقة التي عرفت بعد ذلك باسم (نيو إنكلند) والتي صارت فيما بعد جزءاً رئيسياً من الولايات المتحدة الأميركية وكان سكنة هذه المنطقة من أكثر سكان الولايات المتحدة أثراً في تشكيل الدولة الاتحادية وفي تكوين الفكر والتقاليد الأمريكية مستقبلاً، وما زال أثرهم وما زالت الأسر المنحدرة من تلك المنطقة تشكل عماد الطبقة المتنفّذة في الولايات المتحدة حتى يومنا هذا.
نعود إلى أسفار العهد القديم (أي التوراة) لكي نرى الأثر الرهيب الذي تركته في تشكيل الفكر الإنكليزي فنستشهد برأي المؤرخ الإنكليزي فيشر (H. A. L. Fisher) الذي خدم كوزير للتجارة في حكومة لويد جورج إبان الحرب العالمية الأولى ثم مثّل بريطانيا في عصبة الأمم قبل أن يتولى عمادة إحدى كليات جامعة أوكسفورد إذ يقول في كتابه (تاريخ أوربا):
[أمدّت كتب اليهود المقدسة الطبقة الفقيرة والمتوسطة من الشعب الإنكليزي بغذائه الفكري والروحي الأساسي لمدة قرنين ونصف قبل حلول عصر الجرائد والقصص الرخيصة] ويضيف قائلاً [إن أثر وسلطة هذه الكتب المتصفة بالتزمت والمدونة بلغة شجية ورخيمة كان فريداً وشاملاً. فقد كان الكتاب المقدس موجوداً في كل الكنائس ومتيسراً ليقرأه الجميع مجاناً. كان يمثل (جامعة الشعب). وفي أعماق هذا المزيج الواسع حيث يختلط كل ما هو مقدس ورفيع من الشرق البعيد من المدونات عن همجية العصور القديمة تجوّل الشعب الإنكليزي وحسب مشيئته من غير عائق ولكن من دون إرشاد حيث كان يكتسب باستمرار دروساً حول كيف يعيش حياته وكانت بعض هذه الدروس غاية في البهاء وعمق المعنى بينما كانت بقية الدروس قاتمة وكئيبة ومملوءة بالغرور وبازدراء واحتقار الآخرين].
إذن ففي تلك الفترة الحرجة من تاريخ تشكيل الفكر الإنكليزي الحديث وهي الفترة من بدايات القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر تقريباً وهي فترة يمكن مقارنتها على المستوى الفردي بفترة (مراهقة وشباب) فكر الأمة، يخبرنا هذا المؤرخ ورجل الدولة الإنكليزي بأن كتب اليهود المقدسة بأساطيرها (المملوءة بالغرور وبازدراء واحتقار الآخرين) كانت المرجع الأول والأهم في تشكيل فكر الجموع الإنكليزية. كم كان تأثير تلك الأساطير في النفسية الإنكليزية؟ إنه تأثير رهيب وعميق ومتأصل يصعب تقييمه بكامل مداه. لكن أمثلة منه استعرضها كافية لتقدير ذلك المدى.
إذا كانت أسفار اليهود المقدسة قد توفرت لعامة الإنكليزية في كنائسهم وكانت أول وأهم مرجع لجموعهم، فإنها سافرت مع المستوطنين الإنكليز وبخاصة البيوريتان آنفي الذكر إلى أمريكا وأصبحت المرجع الوحيد لدى العائلة المستوطنة وبخاصة في المزارع النائية والمستوطنات البعيدة، وكانت مصدر كل ما تعلموه ولقنوه لأولادهم وذريتهم. بل إن هؤلاء المستوطنين وهو الأمر الأخطر, قرنوا أنفسهم بالإسرائيليين القدامى ووجدوا في قصص العهد القديم تبريراً لقيامهم باستئصال سكان أمريكا الأصليين من قبائل الهنود الحمر واعتقدوا أن الله وعدهم تلك الأرض الطيبة كما ادعى الإسرائيليون قبلهم بثلاثة آلاف عام أن (يهوه) وعدهم أرض فلسطين وأحل لهم قتل سكانها الأصليين. كل ذلك زاد من تعلق المستوطنين البيض في أمريكا بكل ما جاءت به أساطير اليهود ورسخ اعتقادهم بها.
يقول ألبرت شفايتزر الفيلسوف الإنساني الألزاسي المولد الذي كرس حياته لخدمة الأفارقة في كتابه (فلسفة الحضارة) ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي عن الآثار التي تركتها كتب اليهود في النفسية الأوروبية عامة وفي نفسية المتكلمين بالإنكليزية التي تميز سلوكيتهم: [أننا ندمى حتى الموت بسبب مشاكل لم يكن لها أن تقوم بالنسبة إلينا. فكم نتألم من هذه الواقعة وهي أن أفكارنا عن الدين اليوم ولعدة قرون قادمة، تخضع لسيطرة أجنبية هي سيطرة النزعة المتعالية اليهودية..... وبدلاً من أن يكون في وسعها التعبير عن نفسها بطريقة طبيعية فإنها تعاني تعذيباً وتشويشاً متصلاً].
أما أرنولد توينبي المؤرخ الإنكليزي المشهور وهو من أكثر من كتب التاريخ إنصافاً وأوسعهم اطلاعاً فيقول بالحرف الواحد في كتابه الموسوعي (دراسة للتاريخ A study of History) التالي: [إني أتتبع عنجهية الغرب وأنسبها إلى العقيدة اليهودية القائلة بأنهم شعب الله المختار]. وليست (النزعة المتعالية) أو (العنجهية) في الفكر الأوروبي إلا واحدة من الآثار التي تركتها أفكار العهد القديم لتختمر في النفسية الأوروبية وتبرز بصورة جلية عندما اقترنت بالسيادة السياسية للدول الأوروبية على أصقاع عديدة من العالم. لكن الأهم والأعمق أثراً من ذلك هو النظرة التي ارتسمت في الفكر الإنكليزي ومن بعد الفكر الأميركي عن (شعب الله المختار) أي الإسرائيليين اليهود ورسوخ تلك النظرة لديهم جملة وتفصيلاً بحيث أصبحت جزءاً أساسياً في الفكر والوجدان الإنكليزي والأميركي.
هل هناك برهان على هذا أكثر من سؤال الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر لبابا الأقباط حين التقاه في زيارة لمصر فقال (ألست من المؤمنين بأن الإسرائيليين هم شعب الله المختار؟) فأجابه بابا الأقباط بقوله (إذا كانوا كذلك فمن نكون نحن المسيحيون؟). إنه حوار يكشف بجلاء عما أريد أن أقوله وهو الإعتقاد الراسخ لدى الأميركيين بحرفية التوراة التي سطرها أحبار اليهود في النفي البابلي حسبما تجمع عليه تقريباً آراء الباحثين في تاريخ التوراة.
ومنذ بدأ الكتاب المقدس يأخذ هذا الموقع في الكنائس الأنكليكانية والبيوريتانية في أوائل القرن السابع عشر ووجد طريقه إلى النفسية الإنكليزية بدأت ظواهر هذا الإيمان الأعمى بأساطير اليهود تتجلى في السياسة الإنكليزية. كانت إنكلترا كما أسلفنا أول دولة أوروبية تطرد اليهود من أراضيها وسبقت بذلك إسبانيا ببضعة قرون. لكن أوليفر كرومويل الذي حكم إنكلترا من سنة 1649 حين قُتل ملكها شارل الأول وحتى سنة 1661 سمح لليهود بالعودة إلى إنكلترا. كان كرومويل يمثل انتصار التيار المنشق للبيوريتان ضد الملك والكنيسة الأنكليكانية وأصبحت إنكلترا ملاذاً لليهود فتوالت الهجرات إليها من أراضي الراين الألمانية ثم من أوروبا الشرقية ومن روسيا خلال القرنين التاليين حتى وجد اليهود منذ أواسط القرن التاسع عشر ملاذاً أكثر ترحيباً بهم وبلاداً أغنى هي الولايات المتحدة.
لم يكن السماح لليهود بالعودة إلى إنكلترا إلا الطرف المستدق للإسفين الذي غُرس في النفسية الإنكليزية فكان التوافق الإنكليزي مع اليهود ثم التعاطف والتأييد الذي أبدوه نحوهم حتى تطور الأمر إلى ما هو أشد وأنكى وسنأتي على ذلك بعد قليل.
لكي نرى المكانة التي تبوأتها أسفار العهد القديم في النفسية الإنكليزية مع مرور السنين نرجع إلى ما يرويه لنا برتراند رسل الفيلسوف الإنكليزي الغني عن التعريف إذ يقول:
(يتمثّل الجزء الأعظم من (عصر التنوير ) في نقد لأسفار العهد القديم من ناحية أخلاقية. فالقليل من الناس في يومنا هذا سيعتبرون مذابح الرجال والنساء والأطفال المدونة في أسفار العهد القديم الخمسة الأول وفي سفر يشوع مثالاً لأفعال مبررة أخلاقية. أما في عصر توماس باين فكان انتقاد الإسرائيليين أمراً منافياً للورع الديني وسبب ذلك أن العهد القديم كان يؤيد تلك المذابح. وكتب عدد من رجال الدين الأتقياء إجابات إلى باين وكان أكثرهم ليبرالية أسقف (لانداف) الذي ذهب في رسالته إلى حد الإعتراف بأن قسماً من الأسفار الخمسة الأول قد لا تكون من أقوال موسى كما إن بعض المزامير قد لا تكون من تأليف داود. وبسبب هذه التنازلات جلب أسقف لانداف على نفسه غضب الملك جورج الثالث وفقد أي أمل في الإنتقال إلى أبرشية غنية).
إذن فالمنزلة التي اعتلاها العهد القديم والأساطير والخرافات التي حشرها أحبار اليهود فيه كانت مع نهايات القرن الثامن عشر قد رسخت في الضمير الإنكليزي وأصبحت أمراً لا يمكن لأي فرد حتى لو كان من أركان الكنيسة الإنكليزية أن يطاله بانتقاد، وإلا فإن ذلك سيعتبر تجديفاً أو كفراً يستحق العقاب من قبل الملك وهو رئيس الكنيسة الأنكليكانية الأعلى.
لكن ذلك لم يكن نهاية المطاف. فمع انتصاف القرن التاسع عشر ورغم الانفتاح العلمي والعقلي اللذين صاحباه نرى التمسك بأساطير وخرافات اليهود يزداد أثراً في الضمير الإنكليزية ويبرز إلى السطح تيار غريب يقرن الإنكليز ذاتهم كشعب بالإسرائلييين.
كانت أول معرفتي بهذه المقولات أو الإدعاءات تنويهات قرأتها في كتابات المؤرخ الإنكليزي أرنولد توينبي. لكنه لم يعطِ أي مراجع دقيقة عنها. ربما كان ذلك لأن توينبي بمقامه العلمي استهجنها أو اعتبرها من التفاهة من الناحية التاريخية بحيث لا تستحق إعطاء أهمية لها. لكن الحقيقة الكاملة لهذه الإدعاءات برزت لي بوضوح بعد قراءتي كتاب (التراث المسيحي The Messianic Legacy)لمؤلفيه (م. بيجنت M. Baigent) وزملائه ففي مجال كلامهم عن الأصولية والأصوليين في أمريكا وإنكلترا في أيامنا هذه يقول المؤلفون:
[إن مصدر الأصولية المعاصرة في أمريكا هو في الأصل (البيوريتانية) التي سادت في القرن السابع عشر بمعتقدها القائل بوجود نخبة تتمتع بميثاق أو عهد خاص مع الرب. وهذه النخبة تشمل بالطبع أولئك الرجال الذين يدعون اليوم (الآباء المؤسسين) للولايات التحدة لكن الجذور المباشرة للأصولية الحديثة تكمن في التاريخ المفتت والخالي من الترابط الذي نادى به بعض اللاهوتيين في القرن التاسع عشر. ففي عام 1840 على سبيل المثال قام أحد المدعين بعلم (فراسة الدماغ) في لندن والمدعو (جون ويلسون) بنشر كتاب سماه (أصلنا الإسرائيلي Our Israelitish Origin) وحسب قول ويلسون فإن الرب قد حقق وعده بأمانة ليحفظ ذرية إبراهيم. فالإسرائيليون الذين سيقوا إلى النفي من قبل الآشوريين كما يقول ويلسون أصبحوا السكيثيين الذين كانوا بدورهم أسلاف الساكسون. وخلص ويلسون من خلال هذا المنطق الأهوج إلى القول بأن الإنكليز ليسوا في الحقيقة سوى المنحدرين من صلب سبط أفرايم الإسرائيلي. ومن أهم الشواهد في إنجاز ويلسون الفذ في مجال التتبع التاريخي هو اشتقاق كلمة (الساكسون). المعتمد حسبما يظهر على كلمة(Isaac's Sons) على افتراض أن العبرانييين القدماء والسكيثيين كانوا يتكلمون الإنكليزية ومعنى الكلمة أبناء إسحاق (وهي تلفظ بالإنكليزية أيزاكس سونز). وهذا كله ضرب من السخف أو الهبل يمكن التندر به اليوم لولا كونه لا يزال معتمداً وينشر في كتب الأصوليين المرجعية حتى يومنا هذا].
ويستطرد مؤلفو الكتاب المذكور آنفاً حديثهم عن هذا التيار في الفكر الإنكليزي فيقولون:
[وتبع ويلسون كتّاب آخرون من نفس الأرومة، ففي عام 1861 سعى أحد القساوسة المدعو كلوفر (Glover)، إلى إيجاد صلة بين الأسد في شعار بريطانيا وأسد سبط يهوذا. واستمر كلوفر في تحليلاته بهدوء غير آبه بالتناقضات التي صنعها بنفسه لترديد مقولة ويلسون، أي أنه قَرَن إنكلترا بسبط أفرايم، لكنه زاد على ذلك بأن قرن شعبي ويلز واسكتلندا بسبط منسِّي. وفي سنة 1870 نشر المدعو إدوارد هاين (Edward Hine) كتابه المدعو (تحديد هوية الأمة الإنكليزية بأسباط إسرائيل المفقودة من خلال سبعة وعشرين دليلا). وبعد أربع سنوات نشر هاين طبعة جديدة لكتابه أضاف فيها عشرين دليلاً آخر ليجعلها سبعة وأربعين دليلاً. وتبعاً لهاين فإن بريطانيا لم تعد مرتبطة بواحد أو اثنين من الأسباط الإسرائيليين العشرة المفقودين بل بجميعها].
وفي مجال بحثهم عن خصائص الأصولية الأمريكية يقول مؤلفو الكتاب [تستند الأصولية الأمريكية المعاصرة إلى فذلكات مدهشة في معظم الأحيان لكونها مفارقات لا يتقبلها العقل. وأول هذه أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة (بريطانيا) اليوم يجب أن تشخصا بصورة رمزية أحياناً لكن على الأغلب بصورة فعلية مع بقايا الإسرائيليين القدماء المبعثرين. فاليهودية المعاصرة حسب معتقدهم هي سليلة سبط يهوذا التوراتي. أما المنحدرون من بقية الأسباط فيعتقد أنهم الأنكلوساكسون البروتستانت بيض البشرة من مواطني الولايات المتحدة وبريطانيا وأقاربهم في دول أخرى مثل أفريقيا الجنوبية. وهؤلاء هم (النخبة) الجديدة و(شعب الله المختار) الجديد]. ويستطرد الكتاب فيقول: [من السهل بالطبع على المرء أن يستهزىء بمثل هذه المعتقدات التي تبدو بعض معتقدات المجتمعات المدعوة بالبدائية متطورة ورفيعة المستوى مقارنة بها. لكن رغم ذلك هناك عدد غير طبيعي من الناس وهو في ازدياد في أمريكا اليوم ممن يأخذون بها على محمل الجد... ومن بين هذا العدد حسبما يقال رئيس الولايات المتحدة (كان وقت كتابة هذا المؤلَف رونالد ريغان)!] ويسرد مؤلفو الكتاب أسماء ساسة أمريكيين آخرين ممن أفصحوا في مناسبة أو أخرى عن إيمانهم بمثل هذه الترهات وسواها من معتقدات الأصولية الأمريكية التي يتكلمون عنها.
ومما ذكره المؤلفون أن كتاب هاين في طبعته الثانية حيث عدل عنوانه بعد اكتشاف عشرين دليلاً جديداً إلى عصر (تحديد هوية الأمة الإنكليزية بأسباط إسرائيل المفقودة من خلال سبعة وأربعين دليلاً) وصل عدد النسخ المباعة منه لغاية عام 1910 إلى 405000 نسخة. ولا شك أنه في طبعته الأولى وكذلك الكتابين اللذين سبقاه من تأليف ويلسون وكلوفر قد بيع منها عشرات إن لم يكن مئات الآلاف من النسخ أيضاً. ويذكر مؤلفو (التراث المسيحي) أن من بين الذين خلفوا ويلسون وكلوفر وهاين إضافة إلى الكنائس الأصولية المنشقة (الاتحاد العالمي البريطاني الإسرائيلي British Israel World Federation) ومركزه في لندن ولديه فروع في كندا وأستراليا ونيوزلندا وكان هذا الاتحاد يفخر بعضويته الواسعة ذات المنزلة الاجتماعية المتميزة لكنه أصبح في العقود الأخيرة مؤسسة صغيرة على هامش المؤسسات الدينية الأصولية والحركات السياسية اليمينية.
دعونا نعود إلى هذه الكتاب الأصولية لنتساءَل كم عدد الذين قرأوها. أذكر أن أحد المسوحات وفي إنكلترا بالذات كشف أن معدل من يقرأ النسخة الواحدة من الكتاب المباع يبلغ 3.7 شخص. وإذا ما أضيف إلى هؤلاء عدد الذين قرأوا نسخ هذه الكتاب المودعة في مكتبات الاستعارة العامة وعدد هذه المكتبات في قطر مثل إنكلترا يرقى إلى عشرات الآلاف فهي منتشرة في كل شارع وكل قرية وعدد من يقرأ الكتاب المودع فيها قد يربو على المئات لأدركنا أن هذه الكتب قرئت من قبل بضعة ملايين شخص في دولة كان عدد سكانها شيباً وشباباً وأطفالاً آنذاك بحدود 35 مليوناً. ولا خلاف أن نسبة جيدة ممن قرأوا هذه الكتاب اعتبروها كتباً سخيفة لا يتقبلها العقل لكن ذلك يترك نسبة كبيرة أيضا من المهووسين أو من البسطاء ممن آمن بها وبمقولاتها.
هذا وحده يعطينا فكرة عن مدى تقبل الناس لهذه الكتب ومدى التأثير الذي تركته وربما كان هناك عشرات غير التي ذكرناها من الكتيبات والنشرات والمقالات الصحفية التي دبجتها أقلام مهووسين إنكليز آخرين من نفس أرومة هاين وكلوفر وويلسون.
من يقرأ هذه النبذ التي ترجمت حرفياً مما كتبه مؤلفون (إنكلوساكون) متفتحو الذهنية يدرك المدى الذي وصل إليه الهوس الأنكلوساكسوني ببني إسرائيل مما جعلهم يضربون بالحقائق التاريخية وحقائق علم الأجناس البشرية عرض الحائط ويدعون الإنتساب إليهم كأن في ذلك فخر لهم. وإذا ما افترضنا جدلاً أن مؤلفي تلك الكتب لم يكونوا إلا (مهووسين) فرادى يقولون ما يقولون لكن المصيبة هي في هذا الحشد الهائل الذي اشترى وقرأ كتبهم. فما لم يكن هناك تيار واسع في المجتمع الإنكليزي وعلى وجه التخصيص ضمن فئة المثقفين فيه ممن كانوا مغرمين بالإسرائييليين وكل ما هو إسرائيلي لما راجت تلك الكتب بذلك القدر.
لقد جرى ذلك في زمن لم تكن فيه محطات تلفزيون يديرها الصهاينة ولم يكن اليهود إبان ذلك العهد قد سيطروا على الصحافة والإعلام لا بل أن الجامعات الإنكليزية لم تفتح أبوابها لهم حتى عام 1871. أبعد كل هذا نتهم (اللوبي) الصهيوني بأنه المسؤول عن انحياز الأمريكيين ومن قبلهم الإنكليز إلى جانب إسرائيل؟ آن للعرب أن يتغلغلوا في العقل الأنكلوساكسوني ويدركوا النفسية الأنكلوساكسونية ويعرفوا تأثير مثل هذه المعتقدات في عامة الشعب هناك وفي العديد من الساسة وصانعي القرار في تلك البلاد.
لا يجب أن نجد غرابة إذا ما رأينا كامبل بانرمان رئيس وزراء بريطانيا من حزب الأحرار يجمع في سنة 1905 رؤساء الوزارات في الدول الأوروبية آنذاك ليعرض عليهم فكرة إقامة وطن قومي لليهود الأوروبيين في فلسطين، وذلك قبل أن يفاتح الصهانية أنفسهم الحكومة البريطانية حول هذا الموضوع. وما كان وعد بلفور أحد أعوان بانرمان المذكور إلا تحقيقاً لاقتراح سبقه فيه سلفه باثنتي عشرة سنة. ومما يجب التنويه به أن المنشقين عن الكنيسة الإنكليكانية ممن أسسوا حركة البيوريتان وممن ثاروا على الملك في القرن السابع عشر صاروا يعرفون بأسم (Non-conformists) وأصبحوا فيما بعد نواة الحزب المدعو (الويكز Whigs) والذي تطور ليصبح حزب الأحرار وقد كانوا إبان الحقبة التي نتكلم عنها الأكثر ميلاً في المحيط السياسي البريطاني نحو الصهيونية.
يحضرني أحد الأمثلة التي يبدو فيها الشغف البريطاني باليهود واضحاً أرويه عن (هاري ساندرسن) الطبيب الإسكتلندي الذي كان له الفضل في تأسيس الكلية الطبية العراقية، والحق يقال إنه أقامها على أسس راسخة. يقول ساندرسن في مذكراته عن أول دفعة من الطلبة قُبلوا فيها (تم إنتخاب اثني عشر مرشحاً للقبول في الكلية الطبية خلال السنة الأولى. كان ثمانية منهم من العرب وثلاثة من اليهود ومسيحي واحد. ولقد كان الطلاب اليهود أذكياء بصفة خاصة.... وكان من نتائج قبول هؤلاء الطلاب اليهود أن راحت الصحف المحلية تتهمني بأنني صهيوني). ربما كان ساندرسن صادقاً في إدعائه بأنه ليس صهيونياً بالمعنى السياسي للصهيونية. إنما يبدو واضحاً أنه كان مقتنعاً لاشعورياً بأن أبناء (شعب الله المختار) أذكى من المسلمين أو المسيحيين.
ألم نرَ في السنين القليلة الماضية أن إسنادهم (شعب الله المختار) يفوق أضعاف أضعاف إسنادهم لبني جلدتهم. لقد نفض الإنكليز والأمريكان يدهم عن بني جنسهم الأنكلوساكسون في أفريقيا الجنوبية في حين لم يتزعزع تأييدهم للصهيونية في فلسطين.
ومن أحدث ما نشر عن هذا التفكير الأهوج لدى الأميركيين ما جاء في الكتاب الذي نشره الصحفي الفرنسي جان- كلود موريس بعنوان(لو كررت ذلك على مسامعي فلن أصدقهSi vous le repetez, je dementrai…), إذ يقول في مستهل كتابه عن أسرار الغزو الأميركي للعراق: إن الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن كان مهووساً منذ نعومة أظفاره بالتنجيم والغيبيات ......وقراءة الكتب اللاهوتية القديمة وفي مقدمتها (التوراة) .......ويدعي أنه يتلقى يومياً رسائل من الرب. ويضيف المؤلف أن الرئيس الفرنسي السابق أخبره في حديث مسجل( تلقيت من الرئيس الأميركي مكالمة هاتفية في مطلع سنة 2003 .....طالباً مني الإشتراك معه في حملته الحربية التي وصفها بالإيمانية المباركة ومؤازرته في تنفيذ الواجب الإلهي المقدس الذي أكدت عليه نبوءات التوراة.....) ويضيف شيراك قائلا إن هذه ليست بمزحة وأنه صُعق من هذه الخرافات السخيفة من رئيس أكبر دولة في العالم. ولم يصدق شيراك أن أميركا وحلفائها سيشنون حرباً عارمة مدفوعة بتفكير سحري ينبع من مزابل الخرافات المتطرفة, وينبعث من كهوف بعض الكنائس التي ما زالت تقول(كانت الصهيونية أنشودة مسيحية قبل أن تصبح حركة سياسية). ويضيف شيراك قائلا أنه لم يكن يتصور أبداً, أن تطرف بوش وميوله الدينية نحو تحقيق نبوءات التوراة على أرض الواقع يقودانه إلى ارتكاب مثل هذه الحماقات التاريخية الكارثية.
ما هو الحل؟ أو بالأحرى هل هناك حل؟ أعني بذلك كيف يتمكن العرب والمسلمون من اختراق هذه الرابطة الروحية التي تربط الأقطار الأنكلوساكسونية بالصهيونية. وهي ليست بالرابطة العضوية ولم تكن موجودة أصلاً إنما خلقوها بأنفسهم.
أول ذي بدء يجب أن يقتنع الإنكليز والأمريكان بأن التوراة الحالية ليست مقدسة أو منزّلة وأنها لا تتعدى كونها أساطير دوّنها أحبار اليهود أو أنها على أحسن تقدير تحريف مغرض ومريع لما قاله الرسل وأنهم حمّلوها بكل مركبات النقص التي سيطرت على تفكيرهم أكان ذلك أثناء تهجيرهم إلى بابل أو ما كتب وجمع منها قبل ذلك بحيث أصبحت كما يقول المؤرخ فيشر (قاتمة وكئيبة ومملوءة بالغرور وبازدراء واحتقار الآخرين) وهو أمر حاشا أن يحمله الرسل في كلامهم.
وهذه الحقائق عن كتب اليهود المقدسة أثبتتها الدراسات الأكاديمية المتخصصة التي أجراها علماء بارزون في المانيا وفي إنكلترا نفسها وبرهنوا على ذلك بأدلة وشواهد تاريخية وعلمية رصينة لكن معظم هذه الدراسات لم تتعدَ مع الأسف الدوائر الأكاديمية والدوريات التاريخية ولم يسمح لها باختراق الإعلام الجماهيري الذي تسيطر عليه في أيامنا هذه الصهيونية والفئات المؤيدة لها.
ومن ضمن هذا المنطلق يجب شرح الأخطاء والأكاذيب والتهويلات الواردة في أسفار التوراة. هل يعلم عامة الناس في الغرب مثلاً أن كافة التنقيبات والتحريات الآثارية في أرض فلسطين منذ القرن التاسع عشر انتهاء بتكثيف هذه التنقيبات إثر قيام الكيان الصهيوني لم تتمكن من اكتشاف حجر واحد أو كسرة فخار تعود إلى ما يدعوه اليهود بعصر الهيكل الأول والذي يدعون أن دولتهم بلغت فيه أوج قوتها وذلك في حدود سنة ألف قبل الميلاد؟*
ماذا يبرهن هذا؟ إما أن ذلك الكيان كان من الصغر والتفاهة والفقر الحضاري بحيث لم يترك أثراً يذكر أو أنه كان في أرض غير أرض فلسطين وهي نظرية طرقها كثيرون من الأوروبيين وبعض العرب في مؤلفات كثيرة أو أنه كذبة مختلقة وربما يكون ذلك هو الأرجح.
لقد أمضى العديد من المنقبين الآثاريين الغربيين سنين طويلة في فلسطين وبلاد الشام والعراق محاولين برهنة صحة المعلومات الواردة في كتب اليهود ورغم فشلهم فإنهم يعودون وينشرونا بحوثهم بعناوين مضللة للقارئ. كيف نفسر قيام (ليونارد وولي) المنقب البريطاني المشهور الذي كشف آثار مدينة أور عاصمة السومريين في جنوب العراق بنشر كتابه عن تلك التنقيبات بعنوان (Ur of Chaldees) أي (أور الكلدانيين) رغم أنه هو بذاته الشخص الذي برهن للعالم أنها عاصمة إمبراطورية السومريين التي اندثرت قبل بروز الكلدانيين على سهل الرافدين ببضعة عشر قرناً. لماذا أعطى إذن هذا الاسم لكتابه؟ السبب ببساطة أن هذه المدينة سميت في التوراة (أور الكلدانيين). وأن من سطر ذلك من أحبار اليهود لم يكن قد عرف أو سمع بالسومريين، إنما عرف جنوب العراق حين كان الكلدانيون أسياد تلك الأرض. ورغم العلمانية التي تسود الغرب في هذا العصر إلا أن تأثير أسفار اليهود لا يزال حاضراً ولا يزال مؤثراً في عامة الناس. أما أولئك الذين يدعوهم مؤلفو كتاب (التراث المسيحي) بالأصوليين وهم يمثلون اليوم من ندعوهم بالمسيحيين المتصهينين من أمثال بوش فرغم أنهم لا يمثلون الغالبية إلا أنهم يشكلون تياراً خطراً جداً وذا تأثير ملحوظ في تشكيل السياسة الأمريكية على وجه الخصوص وربما يكون تأثيره في الوسط البريطاني أقل من ذلك.
لندع هذا التيار ونهدف إلى إيصال الحقائق إلى عامة الناس وهو أمر ليس بالسهل ولكنه أيضاً ليس بالمستحيل. ولا شك أن خطة مدروسة بعيدة المدى يضعها ويشرف على تنفيذها مختصون بأمور الإعلام قادرة إن توفرت الجهود وتوفر الدعم المالي على أن تحقق نجاحاً في هذا المضمار.
وما أحرى باستثمارات العرب الكبيرة في أمريكا بالذات, وفي غيرها من الدول الغربية أن توجه في هذا المجال ويتم شراء ملكية عدد من الصحف وشركات الأعلام والإنتاج السينمائي لتقوم بترويج وجهة النظر العربية. لقد قام اليابانيون فعلاً بشراء عدد من شركات الإنتاج السينمائي في العقود الأخيرة ووجهوها لمحو الصورة المشوهة عن اليابانيين والتي كانت سائدة في الإعلام الغربي ونجحوا في ذلك إلى حد بعيد.
المحور الثاني الذي يجب على العرب والمسلمين سلوكه والذي يجب أن يتزامن مع سعيهم لفك الارتباط الوجداني لدى الأنكلوساكسون مع الصهيونية هو السعي لإفهام ساسة هذه الدول وجماهيرها بأهمية المصالح الاقتصادية التي يمكن للعالم العربي والإسلامي توفيرها وتذكيرهم بمقولتهم (أن الدول لها مصالح دائمة وليس لها أصدقاء دائميون). بالطبع يجب أن تبني إستراتيجية عربية بعيدة المدى لإحلال هذه المصالح تدريجياً مع الشعور بإنحلال الرابطة الوجدانية بين الأنكلوساكسون والصهيونية. إن إعلان المقاطعة الإقتصادية أو اعتماد النفط كسلاح في المعركة قد يكونان وسيلتين ذوات مردودات عكسية يمكن أن تستغل من قبل الصهيونية ومؤيديها لجلب النقمة على العرب بدل أن تكسب لهم التأييد. لذا فقد تكون سياسة (العصا والجزرة) إن استخدمت بطريقة حكيمة وتدريجية قد تمتد عبر عقود, هي الحل الأمثل لإقناع القوى الأنكلوساكسونية بأهمية مصالحها الاقتصادية في العالمين العربي والإسلامي.
إن هذين المسعيين بالذات هما جزآن أصيلان من (الجهاد) المفروض شرعاً على العرب والمسلمين لتحرير أرضهم. فالجهاد بالمال – لامتلاك وسائل الإعلام مثلاً – والجهاد بالكلمة مقدسان, قدر الجهاد بالسلاح ويسبقانه أو يكملانه حسبما تكون الحالة.
وما لم ننجح في جهادنا ومساعينا من أجله، فإن الكيان الصهيوني سيبقى مزروعا في قلب العالم العربي مدعوماً بقوة (القوى الغالبة) في عالم اليوم حتى يأتي الوقت الذي تبدأ فيه قوة هذه الدول بالتآكل بحيث تصبح في موقف لا يتيح لها دعمه. وهذا ما قد يستغرق أجيالاً وهي ليست في الحقيقة إلا (برهة) في حياة الأمم. لكن هذا – أي تآكل قوة أمريكا على وجه التخصيص – قد يتحقق بوتيرة أسرع مما نعتقد. فآثار التفكك وبخاصة في الكيان الأمريكي أوضح من أن تغيب عن الملاحظ المتفحص فانكفاء النظام التدريسي وتفشي الجريمة وغياب الأخلاقية في عالم السياسة وإدمان المخدرات والدين القومي الهائل والعيش خارج إمكانيات البلاد الاقتصادية وتدهور نوعية المنتوج الصناعي الأمريكي كلها عوامل تنخر في الجسد الهائل للولايات المتحدة وربما ستهوي شجرة السيكويا العملاقة بأسرع مما نعتقد فالأرضة تنخر بداخلها وإن كان ظاهرها يبدو سليماً.
وإذا ما هوت شجرة السيكويا* فإن الكيان الصهيوني الذي لا يمثل إلا نوعاً من الأدغال يعيش تحت ظلالها سيذوي تحت سطوع شمس الحق وإن غداً لناظره قريب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق