الثلاثاء، 16 مايو 2017

واقعية النظام الأخلاقي في العراق القديم* د. باسم محمد حبيب



واقعية النظام الأخلاقي في العراق القديم*
د. باسم محمد حبيب
منشور في الحوار المتمدن
 ما يميز النظام الأخلاقي في العراق القديم إنه مستقى بشكل مباشر من التجربة الحياتية للإنسان ، لذا نجد أن الحكماء لم يروا أي ضرورة لربطه بأسانيد و مفاهيم دينية ، ذلك أن العراقي القديم لم يعزل الدين عن الحياة كما فعلت الكثير من الأديان الأخرى ، بل جعله رديفا وداعما لها ، أي أن الأولوية فيه لحاجات الإنسان وشؤونه ، وهذا ما جعل كثير من الباحثين يصفون النظام الأخلاقي العراقي القديم بالواقعية ، ومن هؤلاء ( صوموئيل كريمر ) الذي قال عن السومريين ( وهم أقدم الأقوام العراقية القديمة ) ، أنهم يمتازون بروعة أفكارهم ومثلهم وقيمهم ، مبينا أيضا أنهم " كانوا واضحي النظر متزني العقل وكانوا ينظرون إلى الحياة نظرة واقعية " [1] وهذا ما يصح على الأقوام الأخرى التي شاركتهم السكن في هذه البلاد ، فهذه الأقوام لم تختلف نظرتها - على الأرجح - عن نظرة السومريين ، وذلك لسبب بسيط وهي أنها عاشت في البيئة نفسها التي عاش فيها السومريين ، وتبنت المفاهيم والقيم الحضارية ذاتها ، ما جعل نظمها وقيمها وأفكارها إمتداد لما كان لدى السومريين من نظم وقيم وأفكار ، أما سبب هذه النظرة الأخلاقية فربطها (الدكتور حسن فاضل جواد ) مع " واقع الإنسان العراقي القديم المحسوس والمنظور واتصاله بتجربة الإنسان اليومية المنقولة عبر مآثر الحكمة الأخلاقية إلى الأجيال القادمة المتعاقبة " [2] ، أما أثر الدين في تكريس القيم الأخلاقية ، فيمكن أن يكون أثرا داعما أو غير مباشر ، لإن العراقي القديم لا يعد الآلهة مصدرا للقيم النبيلة وحسب بل ومصدرا للخطايا والشرور أيضا ، فهي مصدرا " للخير والشر والفضيلة والرذيلة والعفة والفجور والعدالة والجور والصدق والكذب والحق والباطل والإخلاص والخيانة وعموما فهي مصدر المتناقضات الأخلاقية كلها " [3] ، ومن ثم لا يمكن أن تكون الأخلاق في نظر العراقي القديم من نتاج الآلهة بل من صنع الإنسان ، لأنه لم يتخذ الآلهة مثالا له في صناعة نظامه الأخلاقي ، بل أعتمد على تجربته الحسية في تعامله مع الأشياء أو مع نظرائه من البشر ، فأدرك بنفسه ما يضره وما ينفعه ، وما يصلح أن يكون قيما أخلاقية يلتزم بها الجميع لكي يحيوا حياة صالحة خالية من المشاكل ، أما ما نستدل به على ذلك فيمكن أن نستقيه من بعض الأساطير التي عرضت أهمية الأخلاق في الواقع الحياتي ، ليس بوصفها أوامر مباشرة من الآلهة بل بوصفها حاجة حياتية لا غنى للإنسان عنها ، ولو تمعنا في أسطورة النسر والأفعى لأدركنا الطريقة التي أمن بها الإنسان بقيمه الأخلاقية وضرورتها لواقعه الحياتي ، فتعاون النسر والأفعى – بحسب ما عرضت الأسطورة – لم يكن مبعثه الفطرة السليمة بقدر الفائدة المتحققة من هذا التعاون ، إذ أنه يضمن السلامة لأبنائهما بعكس ما إذا كانا عدوين ، لذا ما أن أنتفت الفائدة من تعاونهما حتى تحولا إلى خصمين لدودين ، إذ وجد النسر بعد أن كسى الريش أجسام أفراخه أنه غدى قادرا على أكل صغار الأفعى من دون أن يكون بمقدور الأفعى أكل أولاده كونهم أصبحوا قادرين على الطيران [4] ، وهذا ما أبرزته ملحمة جلجامش التي عرضت أن لكل مجتمع بواعث أخلاقية خاصة به وإن تفضيل أخلاقيات مجتمع ما على آخر لا تتم إلا بتقدير مقدار الفائدة التي يجنيها الإنسان منهما ، فـ (انكيدو ) الذي كان سعيدا بعيشته مع الحيوانات أدرك بعد إتصاله بالبشر أن حياته تلك لم تكن ملبية لرغباته أو أنها متناسبة مع ما يمتلكه من مؤهلات ، لذا انقلب على قيمه الحيوانية بعد أن أدرك أن حياته في مجتمع الإنسان تجلب له فوائد أكبر وتعرض له فرص أكثر للحصول على المكانة والمنزلة ، ما جعله راغبا عن القيم التي كان يتبناها في عيشته البرية لصالح القيم التي وجدها في المدنية التي قطنها بعد ذلك وهي مدينة أوروك ( الوركاء ) [5]، وهذا ما نلمسه أيضا من الحكم والوصايا التي زخر بها أدب بلاد الرافدين ، فقد كانت أبعد ما تكون عن المثالية التي نجدها في حكم ووصايا أنتجتها حضارات أخرى ، فالحكمة التي تقول : " لا تفعل الشر وعندئذ لا تقاسي ألما دائما " [6] ، تعني أن الشر يولد الشر ، لذا لا يمكن تلافي الشر الذي تواجهه إلا بالتوقف عن اقترافه ضد الآخرين لكي لا يضمروا لك الشر ، وهذا ما يتضح أيضا من قول الحكيم : " الجائع يقتحم البناية ( حتى لو كانت مبنية ) من الطابوق المفخور " [7] ، فهو هنا يحذر من إهمال رعاية الفقراء وإطعام الجوعى لأن ذلك مدعاة لإنتشار الجريمة بشتى أشكالها وصورها ، كما تتضح الواقعية في ما قدمه الحكيم من نصيحة لمن يرغب بالزواج وإنجاب الأولاد ، عندما قال : " تزوج إمرأة طبقا لرغبتك وأنجب ولدا بحسب مشتهى قلبك " [8] ، أما الوصية التي تقول : " أعبد إلهك كل يوم ، عليك بالقربان والتبريكات وحرق البخور " ، فلم يكن لدافع ديني محض بل لأجل ان تحظى بمقابل مادي مباشر كما تشير خاتمة الوصية لإن " التبجيل يولد الحسنات والقربان يطيل العمر " [9] ، وهذا ما يتضح أيضا من إحدى الوصايا التي توصي بالنهي عن الزواج من المومس ، فقد ارتبطت بمبررات واقعية وهي : " أن أزواجها كثيرون ، أنها ستمزق البيت الذي تدخله ، وشريكها لا يستطيع الحفاظ على نفسه " [10] ، وكذلك عندما أوصى أحد الآباء أبنه ، " أياك والتردد على دار القضاء ، وأياك أن تتباطئ في مكان يجري فيه نزاع " فذلك لكي لا يوجه مواقف هو في غنى عنها " ، لأنهم سيجعلونك طرفا في نزاع ويأتوا بك شاهدا " [11] ،وهذا ما نجده كذلك في وصية أب لأبنه الذي عين موظفا في القصر ، إذ نجد أن الأب يحذر أبنه من إقتراف أي جريمة أو إختلاس لا لشيء إلا لأن عواقبها وخيمة ، وذلك بقوله : " لا ترفع نظرك إلى أي شيء (من كنوز قصر الملك ) ، ويجب أن لا تشوقك الرغبة في إرتكاب إختلاس ، لإنه فيما بعد يمكن للأمر أن يتم تفحصه ، ويكتشف الإختلاس الذي إرتكبت " [12] .

ولأن الأسرة هي عماد المجتمع فقد ركز النظام الأخلاقي العراقي القديم على الروابط الأسرية وضرورة تمتينها وتقويتها " أسمع كلام أمك كما تسمع كلام إلهك ، أحترم أخاك الأكبر ، أسمع كلمة أخيك الأكبر ، كما تسمع كلمة أبيك ، لا تغضب أختك الكبرى "[13] ، كما دعا إلى عدم الإساءة إلى الجار ونقل المشاكلات إليه ، كما تعرض ذلك إحدى الحكم الجميلة : " السرطان أمتلأ بيته بالماء فأنتقل إلى بيت جاره " [14]، ولإن أخلاق المرء هي إنعكاس لتربيه فقد كان الآباء يحرصون على محض أولادهم النصح وإرشادهم إلى الطريق الصحيح كجزء من واجب الآباء تجاه الأبناء حتى لا يقعوا في المشكلات جراء أفعالهم الخاطئة وهذا ما يتضح من إحدى الوصايا التي ورد فيها : " تحكم بفمك وأحترس من كلامك ، فهنا تكمن ثروة الرجل ، تذكر إن شفتيك ثمينتان ، أطع كلام أمك كأنه أمر إلهي ، لا تجعل الغضب يظهر على وجهك أثناء الخصام " [15]، وهناك حكمة ثمينة وردت على لسان الحكيم العراقي القديم مضمونها : " إذا كنت قد فعلت شرا بصديقك فما عساك تفعل بعدوك " [16]وهي تذكرنا بوصية السيد المسيح " أحبو أعداؤكم فإن أحببتم محبيكم فأي فضل لكم " .
ومن ثم يتضح لنا صلة المبدأ الأخلاقي في العراق القديم بالجوانب الحياتية والعملية ، فالأخلاق عند العراقيين القدماء ليست نابعة من إرادة فوقية تفرض أوامرها بالترهيب الديني بل من حاجة عملية وضرورة حياتية ، ما يجعل الإلتزام بها من الأمور الأساسية التي لا غنى للإنسان عنها ليعيش آمنا وسعيدا .
[1] . صوموئيل كريمر ، السومريون : أحوالهم – عاداتهم – تقاليدهم ، ترجمة : فيصل الوائلي ، ( الكويت ، 1973 ) ، ص 4 .
[2] . حسين فاضل جواد ، الأخلاق في الفكر العراقي القديم ، ( بغداد ، 1999 ) ، ص 130 .
[3] . المصدر نفسه ، ص 137 .
[4] . سهيل قاشا ، الحكمة في وادي الرافدين ، ( بيروت ، 2006 ) ، ص 31 – 33 .
[5] . طه باقر ، ملحمة جلجامش ، ( بغداد ، 1986 ) ، ص 79 – 85 .
[6] . سهيل قاشا ، المصدر السابق ، ص 68 .
[7] . المصدر نفسه ، ص 76.
[8] . المصدر نفسه ، ص 72 .
[9] . صلاح سلمان رميض الجبوري ، أدب الحكمة في وادي الرافدين ، ( بغداد ، 2000 ) ، ص 114 – 115 .
[10] . المصدر نفسه ، ص 115 .
[11] . المصدر نفسه ، 113 .
[12] . قاسم الشواف ، ديوان الأساطير ، الكتاب الثاني ، ( بيروت ، 1997 ) ، ص 359 .
[13] . صلاح سلمان رميض الجبوري ، المصدر السابق ، ص 172 .
[14] . سهيل قاشا ، المصدر السابق ، ص 72 .
[15] . صلاح سلمان رميض الجبوري ، المصدر السابق ، ص 73 .
[16] . سهيل قاشا ، المصدر السابق ، ص 76 .
*

هناك تعليقان (2):

  1. ممنون منك أستاذنا الفاضل الدكتور إبراهيم العلاف شاكرا تفضلكم بمشاركة المنشور ونشره في مدونتكم مع تقديري العالي لشخصكم

    ردحذف
  2. تحية وتقدير لكما اساتذتي الكرام:
    اني ارى لتعزيز هذا المقال كان لابد من المرور على كتاب الآثاري الموصلي حكمت بشير الاسود والذي بعنوان (آداب السلوك الإنساني ومفاهيم الاخلاق في حضارة وادي الرافدين)...راجيا من الدكتور العلاف ان ينيرنا بما تيسر له عن سيرة حياة هذا الآثاري ...مع جل امتناني واحترامي...متابعكم: الباحث والحقوقي وليد الصكر

    ردحذف

الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 ...............أ.د إبراهيم خليل العلاف

                                                            الاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 أ....