داؤد باشا والي بغداد في العهد العثماني 1817-1831
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس - جامعة الموصل
وقر في ذهن الكثير من العراقيين، ان مدحت باشا، الوالي العثماني المتنور في بغداد (1869-1872)، هو الذي وضع العراق على عتبة العصر الحديث، وذلك من خلال انشاء المدرسة الحديثة، والمستشفى الحديث، وادخال المطابع، واصدار الصحف، وتوزيع الاراضي على الفلاحين، والسعي لتوطين العشائر. لكن الحقيقة الغائبة هي ان داؤد باشا والي بغداد للمدة من 1817 وحتى 1831، قد سبق مدحت باشا في البدء بحركة تحديث البنى السياسية والادارية، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية للعراق.. ولا ابالغ اذا قلت ان الاستاذ الدكتور عبد العزيز سليمان نوار، هو أول من تنبه ونبه الى هذه الحقيقة.. وذلك في رسالته للماجستير التي قدمها الى جامعة عين شمس بمصر سنة 1958، وظهرت مطبوعة من قبل دار الكاتب العربي للطباعة والنشر في القاهرة سنة 1968. والدكتور نوار، رحمه الله، استاذ مصري، انتدب للتدريس في كلية التربية بجامعة بغداد أوائل الستينات من القرن الماضي، وكنت انا واحدا من الطلبة الذين تتلمذوا على يديه، اذ درسنا موادا تاريخية مهمة في قسم التاريخ بالكلية المذكورة، ومنها (تاريخ الشرق الادنى الحديث).
يقول الاستاذ الدكتور احمد عزت عبد الكريم، رحمه الله ((ان الدكتور نوار اتجه منذ بدأ دراسته العليا في التاريخ الى العناية بتاريخ العراق الحديث، ولم املك الا ان اشجعه على هذا الاتجاه، وعلى المضي فيه، فاقبل على بحوثه جادا مخلصا في عمله)). وللدكتور نوار كتب كثيرة منها كتابه (داؤد باشا والي بغداد)،و(تاريخ العراق الحديث منذ نهاية حكم داؤد باشا حتى نهاية حكم مدحت باشا)، و(المصالح البريطانية في انهار العراق)،و(مصر والعراق : دراسة في تاريخ العلاقات بينهما حتى نشوب الحرب العالمية الاولى)، هذا فضلا عن عشرات البحوث والدراسات حول تاريخ العراق الحديث منشورة في مجلات مصرية وعربية واجنبية.
الذي يهمنا هنا في هذا الحيز، ان الدكتور نوار، عد فترة حكم داؤد باشا للعراق، بانها اهم فترة من تاريخ العراق الحديث، وان داؤد باشا وال متنور، ومصلح، وقد عمل من اجل توحيد العراق، وسعى لمقاومة التدخل الاجنبي، وله فضل كبير على النهضة الاقتصادية والثقافية التي شهدها العراق.. ويعده البعض من المؤرخين رائدا من رواد الحركة الفكرية .. ((وواضعا اللبنة الاولى في صرح النهضة الادبية العظيمة التي شهدها العراق منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر)).. وتتضح قيمة داؤد باشا في كره الانكليز له بعد ان قاوم نفوذهم فهم يرونه ((حاكما شرقيا، مستبدا، قاسيا)).. لذلك شوه المؤرخون الانكليز سمعة داؤد باشا.. لكن الدكتور نوار اكد في كتابه ان الاتجاه المعادي لداؤد في كتابات المؤرخين الانكليز يرجع الى موقفه الشديد من نفوذهم ومقاومته له. ويضيف ان داؤد باشا، في تفكيره وفي اهدافه السياسية كان يرمي الى توحيد العراق وتخليصه من النفوذ الاجنبي بالاعتماد على شعبه وعلى قواه وعلى امكانياته بعيدا عن تدخل السلطان العثماني ومطالبه وهي اهداف سياسية كان العراق في أمس الحاجة الى تحقيقها انذاك، لذلك التقت مصالح العثمانيين والايرانيين والانكليز في العمل لاسقاط داؤد باشا سنة 1831 وانهاء تجربته في حكم العراق..
في كتابه (داؤد باشا) تحدث الدكتور نوار عن سياسة داؤد باشا ازاء العشائر، وازاء الكيانات المحلية في الشمال والوسط والجنوب، وعن مقاومته للتدخل الايراني، والنفوذ الانكليزي وعن سياسته تجاه الخليج العربي، واخيرا عن اصلاحاته وصراعه مع السلطان العثماني محمود الثاني(1808-1839 ) .
لقد نهض داؤد باشا بالاقتصاد العراقي، وحقق الاستقرار السياسي، واهتم بمشاريع الري، وانشأ مصانع المنسوجات، ونشط التجارة، ونظم الضرائب، وخفض مقاديرها، واصدر اول جريدة في تاريخ العراق هي (جورنال العراق) وللاسف لم نعثر على اي عدد منها، واهتم بالمدارس وعمل من اجل تطوير مناهجها وعادت بغداد، في عهده، لتكون بحق عاصمة العراق الفعلية. وفي عهده ارتفع شأن العلماء، واشترك بعضهم في ادارة امور البلاد، وقد ادرك داؤد قيمة التعليم في تكوين طبقة مثقفة واعية.. تستطيع النهوض بالبلاد، لذلك شجع التعليم ورعاه، وتفقد شؤون المدارس والمكتبات، وكانت صلاته بادباء عصره قوية جدا، فهو نفسه كان اديبا وعالما.. اما حركة كتابة التاريخ فكانت نشطة وقد سارت جنبا الى جنب مع ارتقاء الادب وفروعه، وتزعم هذه الحركة (الشيخ عثمان بن سند) و(الاديب رسول حاوي الكركوكي).. واية نظرة الى سجل اسماء الشعراء، والادباء والمؤرخين، والعلماء، والفقهاء الذين ظهروا في عهد داؤد باشا تكشف عظم هذا الوالي، ودوره الفاعل في سير حركة التاريخ، وفي ادخال فكرة التقدم والتحديث الى اصوله وركائزه العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقمين بكل من يدرس تاريخ العراق ان يقف عند عصر داؤد باشا، ويتلمس قيمة اعماله واصلاحاته بعقل واع، وعين ثاقبة.
_________________________________
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس - جامعة الموصل
وقر في ذهن الكثير من العراقيين، ان مدحت باشا، الوالي العثماني المتنور في بغداد (1869-1872)، هو الذي وضع العراق على عتبة العصر الحديث، وذلك من خلال انشاء المدرسة الحديثة، والمستشفى الحديث، وادخال المطابع، واصدار الصحف، وتوزيع الاراضي على الفلاحين، والسعي لتوطين العشائر. لكن الحقيقة الغائبة هي ان داؤد باشا والي بغداد للمدة من 1817 وحتى 1831، قد سبق مدحت باشا في البدء بحركة تحديث البنى السياسية والادارية، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية للعراق.. ولا ابالغ اذا قلت ان الاستاذ الدكتور عبد العزيز سليمان نوار، هو أول من تنبه ونبه الى هذه الحقيقة.. وذلك في رسالته للماجستير التي قدمها الى جامعة عين شمس بمصر سنة 1958، وظهرت مطبوعة من قبل دار الكاتب العربي للطباعة والنشر في القاهرة سنة 1968. والدكتور نوار، رحمه الله، استاذ مصري، انتدب للتدريس في كلية التربية بجامعة بغداد أوائل الستينات من القرن الماضي، وكنت انا واحدا من الطلبة الذين تتلمذوا على يديه، اذ درسنا موادا تاريخية مهمة في قسم التاريخ بالكلية المذكورة، ومنها (تاريخ الشرق الادنى الحديث).
يقول الاستاذ الدكتور احمد عزت عبد الكريم، رحمه الله ((ان الدكتور نوار اتجه منذ بدأ دراسته العليا في التاريخ الى العناية بتاريخ العراق الحديث، ولم املك الا ان اشجعه على هذا الاتجاه، وعلى المضي فيه، فاقبل على بحوثه جادا مخلصا في عمله)). وللدكتور نوار كتب كثيرة منها كتابه (داؤد باشا والي بغداد)،و(تاريخ العراق الحديث منذ نهاية حكم داؤد باشا حتى نهاية حكم مدحت باشا)، و(المصالح البريطانية في انهار العراق)،و(مصر والعراق : دراسة في تاريخ العلاقات بينهما حتى نشوب الحرب العالمية الاولى)، هذا فضلا عن عشرات البحوث والدراسات حول تاريخ العراق الحديث منشورة في مجلات مصرية وعربية واجنبية.
الذي يهمنا هنا في هذا الحيز، ان الدكتور نوار، عد فترة حكم داؤد باشا للعراق، بانها اهم فترة من تاريخ العراق الحديث، وان داؤد باشا وال متنور، ومصلح، وقد عمل من اجل توحيد العراق، وسعى لمقاومة التدخل الاجنبي، وله فضل كبير على النهضة الاقتصادية والثقافية التي شهدها العراق.. ويعده البعض من المؤرخين رائدا من رواد الحركة الفكرية .. ((وواضعا اللبنة الاولى في صرح النهضة الادبية العظيمة التي شهدها العراق منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر)).. وتتضح قيمة داؤد باشا في كره الانكليز له بعد ان قاوم نفوذهم فهم يرونه ((حاكما شرقيا، مستبدا، قاسيا)).. لذلك شوه المؤرخون الانكليز سمعة داؤد باشا.. لكن الدكتور نوار اكد في كتابه ان الاتجاه المعادي لداؤد في كتابات المؤرخين الانكليز يرجع الى موقفه الشديد من نفوذهم ومقاومته له. ويضيف ان داؤد باشا، في تفكيره وفي اهدافه السياسية كان يرمي الى توحيد العراق وتخليصه من النفوذ الاجنبي بالاعتماد على شعبه وعلى قواه وعلى امكانياته بعيدا عن تدخل السلطان العثماني ومطالبه وهي اهداف سياسية كان العراق في أمس الحاجة الى تحقيقها انذاك، لذلك التقت مصالح العثمانيين والايرانيين والانكليز في العمل لاسقاط داؤد باشا سنة 1831 وانهاء تجربته في حكم العراق..
في كتابه (داؤد باشا) تحدث الدكتور نوار عن سياسة داؤد باشا ازاء العشائر، وازاء الكيانات المحلية في الشمال والوسط والجنوب، وعن مقاومته للتدخل الايراني، والنفوذ الانكليزي وعن سياسته تجاه الخليج العربي، واخيرا عن اصلاحاته وصراعه مع السلطان العثماني محمود الثاني(1808-1839 ) .
لقد نهض داؤد باشا بالاقتصاد العراقي، وحقق الاستقرار السياسي، واهتم بمشاريع الري، وانشأ مصانع المنسوجات، ونشط التجارة، ونظم الضرائب، وخفض مقاديرها، واصدر اول جريدة في تاريخ العراق هي (جورنال العراق) وللاسف لم نعثر على اي عدد منها، واهتم بالمدارس وعمل من اجل تطوير مناهجها وعادت بغداد، في عهده، لتكون بحق عاصمة العراق الفعلية. وفي عهده ارتفع شأن العلماء، واشترك بعضهم في ادارة امور البلاد، وقد ادرك داؤد قيمة التعليم في تكوين طبقة مثقفة واعية.. تستطيع النهوض بالبلاد، لذلك شجع التعليم ورعاه، وتفقد شؤون المدارس والمكتبات، وكانت صلاته بادباء عصره قوية جدا، فهو نفسه كان اديبا وعالما.. اما حركة كتابة التاريخ فكانت نشطة وقد سارت جنبا الى جنب مع ارتقاء الادب وفروعه، وتزعم هذه الحركة (الشيخ عثمان بن سند) و(الاديب رسول حاوي الكركوكي).. واية نظرة الى سجل اسماء الشعراء، والادباء والمؤرخين، والعلماء، والفقهاء الذين ظهروا في عهد داؤد باشا تكشف عظم هذا الوالي، ودوره الفاعل في سير حركة التاريخ، وفي ادخال فكرة التقدم والتحديث الى اصوله وركائزه العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقمين بكل من يدرس تاريخ العراق ان يقف عند عصر داؤد باشا، ويتلمس قيمة اعماله واصلاحاته بعقل واع، وعين ثاقبة.
_________________________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق