معاوية بن أبي سفيان في الميزان
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس –جامعة الموصل
من أروع الكتب التي قرأتها عن مؤسس الدولة
الاموية معاوية بن ابي سفيان كتاب الكاتب المصري العربي الكبير الاستاذ عباس محمود
العقاد والموسوم :" معاوية بن أبي سفيان في الميزان " والذي صدر ضمن
سلسلة (كتاب الهلال ) بمصر يناير –كانون الثاني 1956 .
وقبل أيام أعدت قراءته ، فوجدت في شيئا جديدا
لم اجده عند قراءتي الاولى للكتاب قبل ( 50
) عاما ؛ فالكتاب يتحدث بصراحة ، وشجاعة ،
وموضوعية عن معاوية بين ابي سفيان والذي ارتبط اسمه وعهده بأدق مراحل التاريخ
الاسلامي وأخطرها .
والكتاب ليس توثيقا لحياة وسيرة وفترة حكم
معاوية بن ابي سفيان ، بقدر ما هو محاكمة تاريخية لهذه الفترة المهمة في التاريخ
الاسلامي ، ومحاولة لتقييم حياة وشخصية معاوية ووضعها في ميزان التاريخ واجابة عن
تساؤلات تتعلق بكيفية تأسيس دولته ، وانحرافه عن المعايير التي سار عليها الاسلام
في عهد الراشدين وخاصة في مسألة تداول السلطة والانتقال بها من الحكم الراشدي العادل الى الحكم القائم على
الملكية المطلقة(الملك العضوض ) ولقد اقر معاوية نفسه هذا التحول عندما خاطبه
احدهم بالملك العظيم فما استغرب وقال :"أجل أنا أول الملوك في الاسلام "
.
كان معاوية في ميزان العقاد رجلا نابها
مقتدرا داهية صبورا حليما لكنه لم يكن عظيما ولو اراد ان يكون عظيما لسار على
النهج الصديقي او الفاروقي وان يبلغ بذلك المدى في النزاهة والاصلاح لا ان يسير
بالدولة وفق النهج الهرقلي والكسروي .
إجتمعت في يديه كل مقومات الملك من جند ومال
وسلطان الولاية ما لم يكن في يدي احد من نظرائه ومنازعيه ولولا ذكه من يعده عشيرته
من بني سفيان .
عرف الناس في زمان معاوية الفرق الشاسع بين
ولي الامر الذي يتخذ الحكم خدمة للرعية وامانة للخلق والخالق وشريعة لمرضاة الناس
بالحق والانصاف وبين الحكم الذي يحاط بالابهة ويجري على سنة المساومة ويملي لصاحبه
في البذخ والمتعة ويجعله قدوة لمن يقتدون به في الاسراف والمغالاة بصغائر الحياة .
ويبدو ان معاوية أدرك –ولكن بعد فوات الاوان –
انه خلق بسياساته اعداءه فأوصى ولده يزيد ولي عهده انه اشد ما يتخوف منه ان ينازعه الحكم اربعة من
قريش هم : الحسين بن علي بن ابي طالب وعبد الله بن عمر بن ابي الخطاب وعبد الله بن الزبير بن العوام وعبد
الرحمن بن ابي بكر الصديق ووقف عند الحسين وخمن بأن اهل العراق سيخرجوه على الحكم
الاموي وقال له :" فإن خرج عليك فظفرت به ، فإصفح عنه فإن له رحما ماسة وحقا
عظيما " .
وطلب من يزيد وهو يوصيه ان ينتبه الى اهل
العراق وان لايتوانى في عزل وال لهم كل يوم ان ارادوا ذلك ويعلق الاستاذ العقاد
على ذلك فيقول ان معاوية أوصى ولده يزيد بذلك ولكن لم يقل له ان يسأل نفسه لماذا
يثور العراقيون ولم يوصه بالنظر فيما وراء سخطهم على الحاكم وعجز الحاكم عن
ارضاءهم !.
لم يكن معاوية شجاعا ، لكنه كان صبورا ، حليما
، نهازا للفرص، يعرف قدر الرجال . وكان
معروفا بسياسته القائمة على الدهاء ، وعدم
قطع الجسور وانما الابقاء على شعرة في التعامل سميت ب(شعرة معاوية ) ان ارخاها
الناس شدها وان شدوها ارخاها .كان معروفا ب" طول الاناة ، وبطء الغضب " ،و"علو
الهمة ، والطموح ، والدهاء " .
كان يقول لابنه ان القتل للمعارضين ليس هو
السبيل الاسلم وحذره مرة قائلا :" ليس يجب القتل في هذا - ويقصد شاعر تعرض
لبني سفيان – ولكننا نكفه بالصلة " . اي بإغداق المال له وإسكاته .
اصبحت الصراع على السلطة والحكم والكرسي طابع
العصر حتى ان عمرو بن العاص قال لمعاوية :" أترى أننا خالفنا عليا لفضل منا عليه ؟ ... لا والله .إن هي
الا الدنيا نتكالب عليها ، وايم الله لتقطعن لي قطعة من دنياك والا نابذتك " .
واخيرا فإن معاوية ، ولما استقر الملك له على
قلق دخيل ، ادركته الوفاة سنة ستين للهجرة 680 للميلاد ، وبطل نصفه قبل وفاته كأنه ضرب من
الشلل ، واصابته لوقة وسقطت اسنانه جميعا كأنها من ادواء التخمة التي تعجل الى
الكبد والاسنان ويبدو اثرها في مرض الجلد واللثة وكان يخلط في وفاته احيانا ولكنه
كان يصحو ساعة بعد ساعة حاضر الذهن صحيح اللسان فدعا بصاحب شرطته الضحاك بن قيس
الفهري ومسلم بن عقبة وقال لهما :"بلغا يزيد وصيتي : انظر اهل الحجاز فإنهم
اهلك فأكرم من قدم عليك منهم وتعاهد من غاب عنك وانظر اهل العراق فإن سألوك ان
تعزل عنهم كل يوم عاملا فإفعل فإن عزل عامل احب الي من ان يشهر عليك مائة الف سيف
وانظر اهل الشام فليكونوا لسانك وعيبتك فإن نابك شيء من عدوك فإنتصر بهم " .
وما كان من قبيل المصادفات ، وانما من حقائق
التاريخ واحكامه وقوانينه ان الدولة الاموية قامت في دمشق وانها كانت عربية صرف ، وان الدولة التي قوضتها
–وهي دولة بني العباس – قامت في بغداد بعد اتساعها للعرب والفرس والترك والكرد
والديلم وموالي الامم من كل قبيل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق