مذكرة الملك فيصل الاول عن العراق والعراقيين
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس -جامعة الموصل
كان كل طموح الملك فيصل الاول ملك العراق الاسبق 1921-1933 ان يبني الدولة العراقية وكل ما كان يطمح اليه ان يرى الشعب العراقي موحدا وظل هذا الامل يراوده حتى انه قبل وفاته كتب في آذار سنة 1933 مذكرة مطولة خطيرة تتضمن آراءه وأفكاره عن أحوال العراق ومستقبله وزعها على عدد من السياسيين وأراد أن يبدوا رأيهم فيها بصراحة تامة بمناسبة عقد المعاهدة العراقية –البريطانية لسنة 1930 ، وقرب انتهاء الانتداب وانضمام العراق الى عصبة الامم سنة 1932 ، ولاهمية ما ورد في هذه المذكرة سوف نقف عند ابرز مضامينها .
قال الملك فيصل في مذكرته :" كنتُ منذ زمن طويل ، أحسُ بوجود افكار وآراء حول كيفية إدارة شؤون الدولة عند بعض وزرائي ، ورجال ثقتي غير افكاري وآرائي . وكثيرا ما فكرتٌ في الاسباب الباعثة لذلك ، وفي الاخير ظهر لي بأن ذلك كان ولم يزل ناشئا من عدم وقوفهم تماما على افكاري ، وتصوراتي ، ونظري في شؤون البلاد ، وفي كيفية تشكيلها وتكوينها والسير بها ،نظرا الى ما أراه من العوامل والمؤثرات المحيطة بها ،والمواد الانشائية المتيسرة ، وعوامل التخريب والهدم التي فيها ،كالجهل وإختلاف العناصر والاديان والمذاهب والميول والبئات .لذلك رأيت ُمن الضروري أن أفضي بأفكاري، وأشرح خطتي في مكافحة تلك الامراض وتكوين المملكة على اساس ثابت ، وأُطلع عليها أخصائي ممن إشتركوا وأياي في العمل .وإني ألخص خطتي مٌختصرا بجملته تحت هذا وبعد ذلك اتقدم الى تفصيل نظرياتي ومشاهداتي " .
حدد الملك فيصل في مذكرته ما كانت تعانيه البلاد من نواقص ، وفي مقدمتها قوله :" إن البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية ، ذلك هو الوحدة الفكرية والملية (الوطنية ) والدينية .فهي والحالة هذه مبعثرة القوى ،مُنقسمة على بعضها ، يحتاج ساستها الى ان يكونوا حُكماء مدبرين .وفي عين الوقت أقوياء مادة ومعنى غير مجلوبين لحسابات أو اغراض شخصية أو طائفية متطرفة ،يداومون على سياسة العدل والموازنة والقوة معا ،وعلى جانب كبير من الاحترام لتقاليد الاهالي ،لاينقادون الى تأثيرات رجعية أو الى أفكار متطرفة تستوجب رد الفعل " .ومعنى هذا ان الملك فيصل كان يشعر بأن العراق يفتقر الى ما يوحده بسبب الانقسامات العرقية والدينية والمذهبية لذلك فأن على من يحكمه ان يتسلح بالحكمة والحزم والعدل واحترام التقاليد والعادات المتأصلة وعدم الاستهانة بها او تجاهلها .
يعود الملك فيصل الاول في مذكرته ليشرح فكرته ، فيقول ان في العراق افكارا ومنازع متباينة . ففضلا عن السنة والشيعة والاكراد والاقليات غير المسلمة هناك الشباب والعشائر والشيوخ .أما السواد الاعظم من المجتمع العراقي فهم الذين يخيم عليهم الجهل والاستعداد لقبول كل فكرة صالحة او سيئة بدون مناقشة .
وفيما يتعلق بالشباب ومنهم موظفو الحكومة وعلى رأسهم المسؤولين يقولون بوجوب إهمال اراء وافكار المتعصبين والرجعيين والسير بالبلاد قدما الى الامام والوصول بها الى ما تستحقه من مكانة ودون الوقوف عند القيل والقال طالما القانون والنظام والقوة بيد الحكومة التي ترغم الجميع على اتباع ماتمليه عليهم .ويرفض الملك فيصل هذا الرأي ويقول إن عدم المبالاة بالرأي العام بتاتا - مهما كان حقيرا - خطيئة لاتغتفر .ولو أن بيد الحكومة القوة الظاهرة التي تمكنها من تسيير الشعب رغم إرادته لكانت وإياهم .وعليه فإننا الى حين ما نحصل على هذه القوة أن نسير بطريقة تجعل الامة مرتاحة نوعا ما من خلال عدم مخالفة تقاليدهم كي يكونوا مع حكومتهم في النوائب .
ويضرب الملك فيصل الاول على ذلك مثلا ماحدث في العراق ابان ماسمي ب"الاضراب العام " سنة 1930 ويقول ان ماحدث ينبغي ان يجعلنا نغير حساباتنا ونضع بالاعتبار كيفية اخماد مثل هذا الاضراب وكذلك لابد من أخذ العبرة من احداث "ثورة الشيخ محمود البرزنجي " ومعرفة قدراتنا في مواجهتها وما عانته الدولة وكل ذلك –يقول الملك فيصل –يجعلنا نعتقد ان الحكومة أضعف من الشعب بكثير ولو كانت البلاد خالية من السلاح لكان الامر هينا ولكن يوجد في البلاد سلاح كثير فلدى الشعب 100 الف بندقية بينما لاتملك الحكومة سوى 15 الف بندقية ولايوجد في بلد من بلاد الله حالة حكومة وشعب كهذه .
يقول الملك فيصل الاول ان ذلك كله :" يجعلني أتبصر، وأدقق ، وأدعو انظار رجال الدولة ومدبري دفة البلاد للتعقل وعدم المغامرة .
عرض الملك فيصل آرائه وافكاره ووقف عند حالة الشعب ووضع الحكومة وإنطلق بعد هذا التشخيص للامراض التي يعاني منها العراق الى وضع الحلول وما يراه ضروريا لمعالجة تلك الحالة فيقول في مذكرته : " ان العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني .وهذه الحكومة تحكم قسما كرديا أكثريته جاهلة، بينه اشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتخلص منها بدعوى انها ليست من عنصرهم ، وهناك أكثرية شيعية جاهلة منتسبة عنصريا الى نفس الحكومة ،أي عربية إلا أن الاضطهادات التي كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم وعدم التمرن عليه ، والذي فتح خندقا عميقا بين الشعب العربي المنقسم الى هذين المذهبين ..كل ذلك جعل –مع الاسف – هذه الاكثرية أو الاشخاص الذين لهم مطامع ، الدينيون منهم وطلاب الوظائف بدون استحقاق ، والذين لم يستفيدوا ماديا من الحكم الجديد ، يظهرون بأنهم لم يزالوا مضطهدين لكونهم شيعة ،ويشوقون (أي يشجعون ) هذه الاكثرية للتخلص من الحكم الذي يقولون بأنه سيئ جدا .. ولاننكر ما لهؤلاء الدساسين من التأثير على الرأي البسيط الجاهل " .
ومما يجدر ذكره ، أن الملك فيصل في مذكرته ، أشر حقيقة مهمة من الحقائق التي لايزال العراق يعانيها ، بالرغم من مرور كل هذه المدة الطويلة ، وهي ان الغرب والسياسة الدولية لم تزل تشجع المسيحيين للمطالبة بحقوق غير هذه وتلك من التي يطالب بها مثلا الشيعة .كما ان هناك كتلا من العشائر كردية او عربية سنية كانت ام شيعية تريد ان تتخلص من كل شكل حكومي بالنظر لمنافعهم ، ومطامع شيوخهم التي تتدافع بوجود الحكومة تجاه هذه الكتل البشرية المختلفة المطامع والمشارب والمملوء بالدسائس ،حكومة مشكلة من شبان مندفعين اكثرعم متهمون بأنهم سنيون او غير متدينين (علمانيين ) أو أنهم عرب فهم مع ذلك يرغبون في التقدم ولايريدون أن يعترفوا بما يتهمون به ولا بوجود نلك الفوارق ، وتلك المطامع بين الكتل التي يقودونها ..يقودونها، يقودونها بأنهم أقوى من هذا المجموع والدسائس التي تحرك المجموع ، غير مبالين ايضا بنظرات السخرية التي يلقيها عليهم جيرانهم الذين على علم بمبلغ قواهم " .
من الحقائق التي وقف عندها الملك فيصل الاول طبيعة الاقاويل التي كانت تتردد وهي ان المناصب للسنة ، والضرائب على الشيعة .كما ان هناك دائما من يُعًظم هذه الامور الى درجة اثارة الحساسيات بين اطراف الطوائف الاسلامية .وثمة دسائس آثورية ، وكلدانية ويزيدية . زد على ذلك الدعايات الشخصية والحزبية والاجنبية التي توقد نار الحقد والتعصب للتفرقة واضعاف قوى الحكومة .كما ان العقول البدوية والنفوذ العشائري الذي للشيوخ وخوفهم من زواله ، بالنسبة لتوسيع نفوذ الحكومة ،كل هذه اختلافات ومثل هذه المطامع والاختراصات تشتبك في هذا الصعيد وتصطدم ،وتعكر صفو البلاد وسكونها ، فإذا لم تعالج هذه العوامل بأجمعها وذلك بقوة مادية وحكيمة معا ردحا من الزمن حتى تستقر البلاد ، وتزول الفوارق ، وتتكون الوحدة الوطنية الصادقة ، وتحل محل التعصب المذهبي والديني هذه الوطنية التي سوف لاتكون الا بجهود متميزة .
أشر الملك فيصل نقطة خطيرة في المجتمع العراقي عرفها وخبرها من خلال عمله في العراق الذي زادت مدته على السنوات العشر وهي أن الموقف في العراق خطير وقال بالنص :" وفي هذا الصدد وبإلاختصار أقول ،وقلبي ملآن أسى ،أنه في إعتقادي ، لايوجد في العراق شعب عراقي بعد ، بل توجد كتلات بشرية خالية من أي فكرة وطنية مشبعة بتقاليد وأباطيل دينية لاتجمع بينهم جامعة ، سماعون للسوء ،ميالون للفوضى ، مستعدون دائما للانقضاض على أي حكومة كانت " . لكنه استدرك قائلا :" فنحن نريد والحالة هذه ، أن نُشكل من هذه الكتل شعبا نُهذبه ونُدربه ، ونُعلمه ، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف يجب أن يعلم ايضا عظم الجهود التي يجب صرفها لاتمام هذا التكوين وهذا التشكيل " .
يدافع الملك فيصل عن جهده ، منذ ان تولى عرش العراق ، قائلا : بأنه بذل جهودا حثيثة من اجل تشكيل وتكوين الشعب ، وان مهمته كانت شاقة ومتعبة ولم ييأس ولم يشعر بالاحباط والخوف ، بل ثابر بأخلاص وسداد رأي وحكمة وبخطط علمية دقيقة ومنهج متكامل لزيادة قوة الجيش عددا وعدة والدرجة التي أهلته لان يكون قادرا على إخماد أي قيام مسلح ينشب في آن واحد على الاقل في منطقتين مختلفتين .وعقب إتمام تشكيل الجيش على هذه الصورة تقرر إعلان قانون الخدمة الوطنية .كا تم وضع التقاليد والشعائر الدينية بين طوائف المسلمين بميزان واحد - مهما أمكن - واحترام الطوائف الاخرى .وقد تحققت بعض الاجراءات منها الاسراع في تسوية مشكلة الاراضي ، وتوسيع الماذونية (الصلاحيات ) لمجالس الالوية والبلديات بقدر الامكان على نموذج القانون العثماني ، والاسراع في تشكيل مدرسة الموظفين والاعمال النافعة وحماية المنتوجات ، والمعارف، وتفريق السلطة التشريعية والسلطة الاجرائية (التنفيذية ) وتثبيت ملاك الدولة ووضع حد للانتقادات غير المعقولة ضد إجراءات الحكومة في الصف والاحزاب والعدل والنظام والاطاعة في الموظفين والعدل عند قيامهم بوظائفهم .
وقال الملك فيصل انه بدأ بالجيش لانه العمود الفقري لتكوين الامة ، ولانه يراه أضعف بكثير بالنسبة لعدده وعدته من ان يقوم بالمهمة الملقاة على عاتقه ، وهي حفظ الامن والاطمئنان الى إمكانية كفاءته نظرا الى ما تتطلبه المملكة ونظرا الى العوامل المختلفة الموجودة والتي يجب ان تجعلنا دائما متيقظين بوقوع حوادث وعصيان مسلح في كل وقت .
لقد بذل الملك فيصل - كما جاء في مذكرته - جهودا مضنية من أجل طمأنة الشيعة عبر سلسلة من الاجراءات ، منها السعي لتوحيد ايام الصيام والافطار ، وتعمير العتبات المقدسة ، واحترام الشعائر الدينية ، والاسراع بحل مشاكل التنازع على الاراضي ، ووضع قوانين عادلة للضرائب ، والاهتمام بالتعليم ، واعطاء صلاحيات للالوية ، وتشجيع الناس على الاشتراك في الحكم ، وإعطاء الصحف مجالا للنقد النزيه المعقول وضمن الادب ، ومنع الموظفين من ممارسة العمل السياسي وإشعارهم ان الموظف خادم لاي حكومة . والاهم من ذلك كله الشروع بالبناء ، والتعمير، والتنمية . وقد استخدم الملك فيصل في مذكرته مصطلح "النافعة " وقال انه (أشمل ) للاعمال المختلفة في مرافق الدولة ومؤسساتها .
وأكد الملك فيصل بأن من أول الاعمال التي ينبغي الاهتمام بها هي الزراعة " فالزراعة في بلادنا أفلست " .وقال :" لقد وضعنا الملايين لانشاءات الري ، ولكن ماذا نريد ان نعمل بالمحاصيل ؟ ..إننا في الوقت الحاضر عاجزين عن تصريف ما بأيدينا من منتوجات اراضينا ..." .
وختم مذكرته بالقول :" اعتقد انه من الضروري إعادة النظر من جديد في موقفنا الاقتصادي " واستشهد بما أنجزه الاتراك والايرانيين في مجال الاقتصاد وكيف انهم لايبالون بصرف الاموال الطائلة لانشاء المعامل لسد حاجاتهم ، وقال لابد من تشجيع القطاع الخاص لاستثمار امواله في الزراعة والصناعة ، وخلق روح التشبث الشخصي ، واذا لم يتقدم أحد من المستثمرين لانشاء مشروع صناعي ، فعلى الحكومة ان تقوم بالعمل بنفسها أو أن تقوم بمشاركة القطاع الخاص او الاستعانة برؤوس الاموال الاجنبية وعلى الحكومة ان تقيم دائرة لدراسة المشاريع الصناعية ، ووضع الخطط اللازمة لذلك، وان تشجع المواطنين على القيام بالمشاريع الصناعية الصغيرة ، وان تنصرف الدولة للقيام بالمشاريع الكبرى . وهنا لابد من معالجة مشاكل الفساد وما اسماه الملك فيصل الاول ب" الاختلاسات " و"صرف أموال هذه الامة المسكينة التي لم تشاهد معملا يصنع لها شيئا من حاجاتها " ومما كان يقوله الملك فيصل : " إني احب ان أرى معملا لنسيج القطن بدلا من دار حكومة ، وأريد ان ارى معملا للزجاج بدلا من قصر ملكي " .
قام الملك فيصل الاول بتوزيع مذكرته على عدد من السياسيين وطلب رأيهم تحريريا ، ومن هولاء جعفر العسكري وياسين الهاشمي ونوري السعيد وناجي شوكت وجعفر ابو التمن وناجي السويدي وعلي جودت الايوبي وأعطى نسخة منها الى أخيه الملك علي .وقد كتب بعضهم –ومنهم جعفر العسكري وناجي شوكت وناجي السويدي – آراءهم بخصوص هذه المذكرة مما لايتسع المجال هنا لذكر تفاصيلها ويمكن العودة اليها في المصادر المتداولة .
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس -جامعة الموصل
كان كل طموح الملك فيصل الاول ملك العراق الاسبق 1921-1933 ان يبني الدولة العراقية وكل ما كان يطمح اليه ان يرى الشعب العراقي موحدا وظل هذا الامل يراوده حتى انه قبل وفاته كتب في آذار سنة 1933 مذكرة مطولة خطيرة تتضمن آراءه وأفكاره عن أحوال العراق ومستقبله وزعها على عدد من السياسيين وأراد أن يبدوا رأيهم فيها بصراحة تامة بمناسبة عقد المعاهدة العراقية –البريطانية لسنة 1930 ، وقرب انتهاء الانتداب وانضمام العراق الى عصبة الامم سنة 1932 ، ولاهمية ما ورد في هذه المذكرة سوف نقف عند ابرز مضامينها .
قال الملك فيصل في مذكرته :" كنتُ منذ زمن طويل ، أحسُ بوجود افكار وآراء حول كيفية إدارة شؤون الدولة عند بعض وزرائي ، ورجال ثقتي غير افكاري وآرائي . وكثيرا ما فكرتٌ في الاسباب الباعثة لذلك ، وفي الاخير ظهر لي بأن ذلك كان ولم يزل ناشئا من عدم وقوفهم تماما على افكاري ، وتصوراتي ، ونظري في شؤون البلاد ، وفي كيفية تشكيلها وتكوينها والسير بها ،نظرا الى ما أراه من العوامل والمؤثرات المحيطة بها ،والمواد الانشائية المتيسرة ، وعوامل التخريب والهدم التي فيها ،كالجهل وإختلاف العناصر والاديان والمذاهب والميول والبئات .لذلك رأيت ُمن الضروري أن أفضي بأفكاري، وأشرح خطتي في مكافحة تلك الامراض وتكوين المملكة على اساس ثابت ، وأُطلع عليها أخصائي ممن إشتركوا وأياي في العمل .وإني ألخص خطتي مٌختصرا بجملته تحت هذا وبعد ذلك اتقدم الى تفصيل نظرياتي ومشاهداتي " .
حدد الملك فيصل في مذكرته ما كانت تعانيه البلاد من نواقص ، وفي مقدمتها قوله :" إن البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية ، ذلك هو الوحدة الفكرية والملية (الوطنية ) والدينية .فهي والحالة هذه مبعثرة القوى ،مُنقسمة على بعضها ، يحتاج ساستها الى ان يكونوا حُكماء مدبرين .وفي عين الوقت أقوياء مادة ومعنى غير مجلوبين لحسابات أو اغراض شخصية أو طائفية متطرفة ،يداومون على سياسة العدل والموازنة والقوة معا ،وعلى جانب كبير من الاحترام لتقاليد الاهالي ،لاينقادون الى تأثيرات رجعية أو الى أفكار متطرفة تستوجب رد الفعل " .ومعنى هذا ان الملك فيصل كان يشعر بأن العراق يفتقر الى ما يوحده بسبب الانقسامات العرقية والدينية والمذهبية لذلك فأن على من يحكمه ان يتسلح بالحكمة والحزم والعدل واحترام التقاليد والعادات المتأصلة وعدم الاستهانة بها او تجاهلها .
يعود الملك فيصل الاول في مذكرته ليشرح فكرته ، فيقول ان في العراق افكارا ومنازع متباينة . ففضلا عن السنة والشيعة والاكراد والاقليات غير المسلمة هناك الشباب والعشائر والشيوخ .أما السواد الاعظم من المجتمع العراقي فهم الذين يخيم عليهم الجهل والاستعداد لقبول كل فكرة صالحة او سيئة بدون مناقشة .
وفيما يتعلق بالشباب ومنهم موظفو الحكومة وعلى رأسهم المسؤولين يقولون بوجوب إهمال اراء وافكار المتعصبين والرجعيين والسير بالبلاد قدما الى الامام والوصول بها الى ما تستحقه من مكانة ودون الوقوف عند القيل والقال طالما القانون والنظام والقوة بيد الحكومة التي ترغم الجميع على اتباع ماتمليه عليهم .ويرفض الملك فيصل هذا الرأي ويقول إن عدم المبالاة بالرأي العام بتاتا - مهما كان حقيرا - خطيئة لاتغتفر .ولو أن بيد الحكومة القوة الظاهرة التي تمكنها من تسيير الشعب رغم إرادته لكانت وإياهم .وعليه فإننا الى حين ما نحصل على هذه القوة أن نسير بطريقة تجعل الامة مرتاحة نوعا ما من خلال عدم مخالفة تقاليدهم كي يكونوا مع حكومتهم في النوائب .
ويضرب الملك فيصل الاول على ذلك مثلا ماحدث في العراق ابان ماسمي ب"الاضراب العام " سنة 1930 ويقول ان ماحدث ينبغي ان يجعلنا نغير حساباتنا ونضع بالاعتبار كيفية اخماد مثل هذا الاضراب وكذلك لابد من أخذ العبرة من احداث "ثورة الشيخ محمود البرزنجي " ومعرفة قدراتنا في مواجهتها وما عانته الدولة وكل ذلك –يقول الملك فيصل –يجعلنا نعتقد ان الحكومة أضعف من الشعب بكثير ولو كانت البلاد خالية من السلاح لكان الامر هينا ولكن يوجد في البلاد سلاح كثير فلدى الشعب 100 الف بندقية بينما لاتملك الحكومة سوى 15 الف بندقية ولايوجد في بلد من بلاد الله حالة حكومة وشعب كهذه .
يقول الملك فيصل الاول ان ذلك كله :" يجعلني أتبصر، وأدقق ، وأدعو انظار رجال الدولة ومدبري دفة البلاد للتعقل وعدم المغامرة .
عرض الملك فيصل آرائه وافكاره ووقف عند حالة الشعب ووضع الحكومة وإنطلق بعد هذا التشخيص للامراض التي يعاني منها العراق الى وضع الحلول وما يراه ضروريا لمعالجة تلك الحالة فيقول في مذكرته : " ان العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني .وهذه الحكومة تحكم قسما كرديا أكثريته جاهلة، بينه اشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتخلص منها بدعوى انها ليست من عنصرهم ، وهناك أكثرية شيعية جاهلة منتسبة عنصريا الى نفس الحكومة ،أي عربية إلا أن الاضطهادات التي كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم وعدم التمرن عليه ، والذي فتح خندقا عميقا بين الشعب العربي المنقسم الى هذين المذهبين ..كل ذلك جعل –مع الاسف – هذه الاكثرية أو الاشخاص الذين لهم مطامع ، الدينيون منهم وطلاب الوظائف بدون استحقاق ، والذين لم يستفيدوا ماديا من الحكم الجديد ، يظهرون بأنهم لم يزالوا مضطهدين لكونهم شيعة ،ويشوقون (أي يشجعون ) هذه الاكثرية للتخلص من الحكم الذي يقولون بأنه سيئ جدا .. ولاننكر ما لهؤلاء الدساسين من التأثير على الرأي البسيط الجاهل " .
ومما يجدر ذكره ، أن الملك فيصل في مذكرته ، أشر حقيقة مهمة من الحقائق التي لايزال العراق يعانيها ، بالرغم من مرور كل هذه المدة الطويلة ، وهي ان الغرب والسياسة الدولية لم تزل تشجع المسيحيين للمطالبة بحقوق غير هذه وتلك من التي يطالب بها مثلا الشيعة .كما ان هناك كتلا من العشائر كردية او عربية سنية كانت ام شيعية تريد ان تتخلص من كل شكل حكومي بالنظر لمنافعهم ، ومطامع شيوخهم التي تتدافع بوجود الحكومة تجاه هذه الكتل البشرية المختلفة المطامع والمشارب والمملوء بالدسائس ،حكومة مشكلة من شبان مندفعين اكثرعم متهمون بأنهم سنيون او غير متدينين (علمانيين ) أو أنهم عرب فهم مع ذلك يرغبون في التقدم ولايريدون أن يعترفوا بما يتهمون به ولا بوجود نلك الفوارق ، وتلك المطامع بين الكتل التي يقودونها ..يقودونها، يقودونها بأنهم أقوى من هذا المجموع والدسائس التي تحرك المجموع ، غير مبالين ايضا بنظرات السخرية التي يلقيها عليهم جيرانهم الذين على علم بمبلغ قواهم " .
من الحقائق التي وقف عندها الملك فيصل الاول طبيعة الاقاويل التي كانت تتردد وهي ان المناصب للسنة ، والضرائب على الشيعة .كما ان هناك دائما من يُعًظم هذه الامور الى درجة اثارة الحساسيات بين اطراف الطوائف الاسلامية .وثمة دسائس آثورية ، وكلدانية ويزيدية . زد على ذلك الدعايات الشخصية والحزبية والاجنبية التي توقد نار الحقد والتعصب للتفرقة واضعاف قوى الحكومة .كما ان العقول البدوية والنفوذ العشائري الذي للشيوخ وخوفهم من زواله ، بالنسبة لتوسيع نفوذ الحكومة ،كل هذه اختلافات ومثل هذه المطامع والاختراصات تشتبك في هذا الصعيد وتصطدم ،وتعكر صفو البلاد وسكونها ، فإذا لم تعالج هذه العوامل بأجمعها وذلك بقوة مادية وحكيمة معا ردحا من الزمن حتى تستقر البلاد ، وتزول الفوارق ، وتتكون الوحدة الوطنية الصادقة ، وتحل محل التعصب المذهبي والديني هذه الوطنية التي سوف لاتكون الا بجهود متميزة .
أشر الملك فيصل نقطة خطيرة في المجتمع العراقي عرفها وخبرها من خلال عمله في العراق الذي زادت مدته على السنوات العشر وهي أن الموقف في العراق خطير وقال بالنص :" وفي هذا الصدد وبإلاختصار أقول ،وقلبي ملآن أسى ،أنه في إعتقادي ، لايوجد في العراق شعب عراقي بعد ، بل توجد كتلات بشرية خالية من أي فكرة وطنية مشبعة بتقاليد وأباطيل دينية لاتجمع بينهم جامعة ، سماعون للسوء ،ميالون للفوضى ، مستعدون دائما للانقضاض على أي حكومة كانت " . لكنه استدرك قائلا :" فنحن نريد والحالة هذه ، أن نُشكل من هذه الكتل شعبا نُهذبه ونُدربه ، ونُعلمه ، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف يجب أن يعلم ايضا عظم الجهود التي يجب صرفها لاتمام هذا التكوين وهذا التشكيل " .
يدافع الملك فيصل عن جهده ، منذ ان تولى عرش العراق ، قائلا : بأنه بذل جهودا حثيثة من اجل تشكيل وتكوين الشعب ، وان مهمته كانت شاقة ومتعبة ولم ييأس ولم يشعر بالاحباط والخوف ، بل ثابر بأخلاص وسداد رأي وحكمة وبخطط علمية دقيقة ومنهج متكامل لزيادة قوة الجيش عددا وعدة والدرجة التي أهلته لان يكون قادرا على إخماد أي قيام مسلح ينشب في آن واحد على الاقل في منطقتين مختلفتين .وعقب إتمام تشكيل الجيش على هذه الصورة تقرر إعلان قانون الخدمة الوطنية .كا تم وضع التقاليد والشعائر الدينية بين طوائف المسلمين بميزان واحد - مهما أمكن - واحترام الطوائف الاخرى .وقد تحققت بعض الاجراءات منها الاسراع في تسوية مشكلة الاراضي ، وتوسيع الماذونية (الصلاحيات ) لمجالس الالوية والبلديات بقدر الامكان على نموذج القانون العثماني ، والاسراع في تشكيل مدرسة الموظفين والاعمال النافعة وحماية المنتوجات ، والمعارف، وتفريق السلطة التشريعية والسلطة الاجرائية (التنفيذية ) وتثبيت ملاك الدولة ووضع حد للانتقادات غير المعقولة ضد إجراءات الحكومة في الصف والاحزاب والعدل والنظام والاطاعة في الموظفين والعدل عند قيامهم بوظائفهم .
وقال الملك فيصل انه بدأ بالجيش لانه العمود الفقري لتكوين الامة ، ولانه يراه أضعف بكثير بالنسبة لعدده وعدته من ان يقوم بالمهمة الملقاة على عاتقه ، وهي حفظ الامن والاطمئنان الى إمكانية كفاءته نظرا الى ما تتطلبه المملكة ونظرا الى العوامل المختلفة الموجودة والتي يجب ان تجعلنا دائما متيقظين بوقوع حوادث وعصيان مسلح في كل وقت .
لقد بذل الملك فيصل - كما جاء في مذكرته - جهودا مضنية من أجل طمأنة الشيعة عبر سلسلة من الاجراءات ، منها السعي لتوحيد ايام الصيام والافطار ، وتعمير العتبات المقدسة ، واحترام الشعائر الدينية ، والاسراع بحل مشاكل التنازع على الاراضي ، ووضع قوانين عادلة للضرائب ، والاهتمام بالتعليم ، واعطاء صلاحيات للالوية ، وتشجيع الناس على الاشتراك في الحكم ، وإعطاء الصحف مجالا للنقد النزيه المعقول وضمن الادب ، ومنع الموظفين من ممارسة العمل السياسي وإشعارهم ان الموظف خادم لاي حكومة . والاهم من ذلك كله الشروع بالبناء ، والتعمير، والتنمية . وقد استخدم الملك فيصل في مذكرته مصطلح "النافعة " وقال انه (أشمل ) للاعمال المختلفة في مرافق الدولة ومؤسساتها .
وأكد الملك فيصل بأن من أول الاعمال التي ينبغي الاهتمام بها هي الزراعة " فالزراعة في بلادنا أفلست " .وقال :" لقد وضعنا الملايين لانشاءات الري ، ولكن ماذا نريد ان نعمل بالمحاصيل ؟ ..إننا في الوقت الحاضر عاجزين عن تصريف ما بأيدينا من منتوجات اراضينا ..." .
وختم مذكرته بالقول :" اعتقد انه من الضروري إعادة النظر من جديد في موقفنا الاقتصادي " واستشهد بما أنجزه الاتراك والايرانيين في مجال الاقتصاد وكيف انهم لايبالون بصرف الاموال الطائلة لانشاء المعامل لسد حاجاتهم ، وقال لابد من تشجيع القطاع الخاص لاستثمار امواله في الزراعة والصناعة ، وخلق روح التشبث الشخصي ، واذا لم يتقدم أحد من المستثمرين لانشاء مشروع صناعي ، فعلى الحكومة ان تقوم بالعمل بنفسها أو أن تقوم بمشاركة القطاع الخاص او الاستعانة برؤوس الاموال الاجنبية وعلى الحكومة ان تقيم دائرة لدراسة المشاريع الصناعية ، ووضع الخطط اللازمة لذلك، وان تشجع المواطنين على القيام بالمشاريع الصناعية الصغيرة ، وان تنصرف الدولة للقيام بالمشاريع الكبرى . وهنا لابد من معالجة مشاكل الفساد وما اسماه الملك فيصل الاول ب" الاختلاسات " و"صرف أموال هذه الامة المسكينة التي لم تشاهد معملا يصنع لها شيئا من حاجاتها " ومما كان يقوله الملك فيصل : " إني احب ان أرى معملا لنسيج القطن بدلا من دار حكومة ، وأريد ان ارى معملا للزجاج بدلا من قصر ملكي " .
قام الملك فيصل الاول بتوزيع مذكرته على عدد من السياسيين وطلب رأيهم تحريريا ، ومن هولاء جعفر العسكري وياسين الهاشمي ونوري السعيد وناجي شوكت وجعفر ابو التمن وناجي السويدي وعلي جودت الايوبي وأعطى نسخة منها الى أخيه الملك علي .وقد كتب بعضهم –ومنهم جعفر العسكري وناجي شوكت وناجي السويدي – آراءهم بخصوص هذه المذكرة مما لايتسع المجال هنا لذكر تفاصيلها ويمكن العودة اليها في المصادر المتداولة .
احسنتم النشر ان هذة المذكرات تتحدث عن العراق في اول حكومه تشكلت واليوم التاريخ يعود نفسه
ردحذفاحسنتم النشر ان هذة المذكرات تتحدث عن العراق في اول حكومه تشكلت واليوم التاريخ يعود نفسه
ردحذف