المدرسة التاريخية العراقية واجيالها وخصائصها
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس -جامعة الموصل
أحاول في هذا المقال ان اتناول موضوعا جديدا لم
يتطرق اليه الكثيرون لابل ان هناك اختلافات بشأنه مع انه مهم وضروري ولابد من
معرفته وخاصة لمن يحب التاريخ ويعشقه ، وهذا الموضوع هو عبارة عن اجابة عن تساؤل
يقول هل لدينا في العراق مدرسة تاريخية اي هل لدينا وجهة نظر او فلسفة للتاريخ
ننظر من خلالها الى تاريخنا وما هي خصائص هذه المدرسة ان وجدت ومن هم ممثليها .اتساءل
اولا :
هل ثمة مدرسة تاريخية عراقية ؟ وابتداء أقول نعم .. هناك مدرسة تاريخية عراقية تمثلت
بنخبة طيبة من المؤرخين الذين ينتمون إلى أجيال ثلاث .كما أن هذه المدرسة تمتد
بجذرها الفكرية إلى العصور الإسلامية الأولى عندما كان العراق موطنا لمدرسة الرأي
المعتمدة على العقل .
وللمدرسة التاريخية العراقية خصائص أبرزها الجدية ، وصدق الاستنتاج، ودقة الملاحظة
،وسعة الاطلاع، والصراحة ،وعشق الحرية الفكرية، والإيمان بفكرتي العدالة والتقدم .
وليس هذا بغريب عن العراق بلد كلكامش الذي رأى كل شيئ .. البلد الذي امتلك إرثا حضاريا
عريقا امتد لآلاف من السنين، وظهر بشكل حضارات متعاقبة متعددة قدمت للبشرية
الزراعة، والعجلة ، والعلوم ومنها الرياضيات والفلك ، واستمر هذا حتى في العصور
اللاحقة لعصر كلكامش فأن العراق كان حلقة اتصال بالثقافات اليونانية والفارسية .
وكان العراق القديم مهتما بالتدوين فعلى أيدي العراقيين ظهرت (العصور التاريخية) تمييزا لها عن عصور ماقبل التاريخ .. حيث اخذ الإنسان في العصور التاريخية يدون ويوثق.. وعن هذا الطريق كان التواصل الحضاري الإنساني .وفي العصور الإسلامية امتلك العراقيون ناصية التاريخ والتدوين التاريخي وعرفوا التفسير الديني ،والتفسير الأخلاقي ، والتفسير الحضاري ،والتفسير الجغرافي، والتفسير المعتمد على نظرية البطل والنخبة .وقد تخصص في كل هذه التفسيرات مؤرخون عراقيون متميزون ليس هنا مجال التفصيل عنهم واعتقد أن أية مراجعة لما كتبه الدوري في كتاب تفسير التاريخ الذي ألفه مع نخبة من المؤرخين تثبت كلامنا هذا .
وفي العصور الحديثة ومنذ أن فرض العثمانيون سيطرتهم على العراق في النصف الأول من القرن السادس عشر نجد أن العراق شهد مئات من المؤرخين الذي كان لهم دورهم الفاعل في تنشيط حركة الدراسات التاريخية، ويمكن الرجوع إلى ماكتبه سليمان فائق من تواريخ للعراق ولبغداد ولحروب العراق شاهد حي على ذلك .
التاريخ موضوع حي لذلك لابد أن تختلف الآراء حول مفهومه، وأسلوب كتابته، وتفسيره وليس من شك في أن التاريخ كأزمنة وكأمكنة متفاعلة مع الإنسان يتصل بشكل أو بآخر بأمرين اثنين أولهما التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية .وثانيهما الاتجاهات الفكرية السائدة .
في التاريخ المعاصر اقصد في الحقبة المعاصرة والممتدة من الحرب العالمية الأولى وثورة 1920 في العراق ، رأينا أن التأريخ في العراق كتب بثلاث مستويات : المستوى الاستعماري، والمستوى الوطني، والمستوى الأكاديمي .كتب ارنولد ولسن "العراق بين ولاءين" وكتب هالدين "عصيان 1920 "وكتبت المس بل "عرض للإدارة المدنية في بلاد مابين النهرين" وكتب هاي وكتب سون وكل كتابات هؤلاء انطلقت من وجهة نظر استمارية متعالية مفادها أن العراقيين غير مؤهلين لتكوين دولتهم وليس ثمة شعب عراقي بل كتل وجماعات متنافرة .
عندئذ تصدى لهم الوطنيون وسرعان ماوجدوا أنفسهم داخل إطار الكتابة للتاريخ وظهر من أسميهم أنا" المؤرخون الهواة " ومنهم السيد عبد الرزاق الحسني والعمري والغلامي والصوفي والبازركان وغيرهم .واستمر هذا حتى بدأ المبعوثون من الشباب العراقيين المتخصصين بالتاريخ يعودون إلى وطنهم وتوزعوا على الكليات والمعاهد العالية ..كانت هناك سنة 1923 دار المعلمين العالية وفيها قسم للعلوم الاجتماعية وتأسست كلية الآداب والعلوم 1949 وظهرت جامعة بغداد وصدر قانونها سنة 1958 وبرز مؤرخون تحملوا عبْ كتابة تاريخهم وفق المنهج التاريخي المتداول وكان من ابرز هؤلاء الدكتور زكي صالح والدكتور عبد العزيز الدوري والدكتور صالح احمد العلي والدكتور جواد علي والدكتور ناجي معروف.
وجاءت ثورة 14 تموز 1958 وتصور الناس أن ما كتبه الحسني يكفي ولم يكن الحسني مثل الرافعي في مصر الذي أنكر على الثوار أن يعيدوا كتابة تاريخ مصر قائلا لهم : "إنني كتبته " ، لكن الحسني قال انه ولج درب التاريخ عندما لم يكن ثمة احد يكتبه وردد المثل الشعبي وسطره في كتابه تاريخ الوزارات العراقية "من قلة الخيل شدوا على الكلاب سروج " ووقف الحسني مشدوها أمام رسالة الماجستير التي أعدها الدكتور مظفر الادهمي سنة 1973 وأرسلت اليه كخبير ،وقال انه لم يكن يعرف أن هناك في بغداد مركز وطني للوثائق وبدأ منذ ذلك الوقت يرتاد المركز ويذهب إلى لندن للعمل في دائرة السجلات العامة public record office
وعندما كنت ادرس في قسم التاريخ بكلية الآداب –جامعة بغداد أوائل السبعينات من القرن الماضي وجدت أساتذة التاريخ مختلفون فهناك من يؤمن بالتفسير الديني (عبد الرحمن الحجي ) وهناك من يؤمن بالتفسير القومي (فاروق عمر فوزي ) وهناك من يؤمن بالتفسير الماركسي (حسين قاسم العزيز ) وهناك من يؤمن بالتفسير الليبرالي (فاضل حسين ) .ورأيت الشيء نفسه عندما عينت مدرسا مساعدا في قسم التاريخ بكلية الآداب –جامعة الموصل منتصف السبعينات من القرن الماضي .
واستطيع أن أقول أنني من الجيل الثاني في المدرسة التاريخية العراقية أنا ومجايليي الذين ولدوا بعد الحرب العالمية الثانية وتخصصوا بالتاريخ وبدأوا يؤتون الثمار في السبعينات .فالجيل الأول جيل زكي صالح وفاضل حسين وصدقي حمدي والعلي والدوري وجواد علي من مواليد مابعد الحرب العالمية الأولى .أما الجيل الثالث فهو جيل تلامذتنا من مواليد الثمانينات أو قل أواخر السبعينات ونحن نأمل في أن يتواصلوا مع المدرسة التاريخية العراقية الحديثة ويسهموا في تطويرها وتأصيلها .
أعود لأقول أن المدرسة التاريخية العراقية لم تقتصر على توثيق البعد السياسي من العملية التاريخية وإنما تعدت ذلك للاهتمام بالجوانب الاقتصادية وظهر لدينا مؤرخون أبدعوا في هذا الميدان ولعل في مقدمتهم الدوري والعلي وعندما سؤل احد النقاد عن ما قدمه العرب في القرن العشرين للبشرية أجاب بلا تردد كتابات الدوري والعلي في الجوانب الاقتصادية والتي أخذت مسارا عالميا إنسانيا .
وكان العراق القديم مهتما بالتدوين فعلى أيدي العراقيين ظهرت (العصور التاريخية) تمييزا لها عن عصور ماقبل التاريخ .. حيث اخذ الإنسان في العصور التاريخية يدون ويوثق.. وعن هذا الطريق كان التواصل الحضاري الإنساني .وفي العصور الإسلامية امتلك العراقيون ناصية التاريخ والتدوين التاريخي وعرفوا التفسير الديني ،والتفسير الأخلاقي ، والتفسير الحضاري ،والتفسير الجغرافي، والتفسير المعتمد على نظرية البطل والنخبة .وقد تخصص في كل هذه التفسيرات مؤرخون عراقيون متميزون ليس هنا مجال التفصيل عنهم واعتقد أن أية مراجعة لما كتبه الدوري في كتاب تفسير التاريخ الذي ألفه مع نخبة من المؤرخين تثبت كلامنا هذا .
وفي العصور الحديثة ومنذ أن فرض العثمانيون سيطرتهم على العراق في النصف الأول من القرن السادس عشر نجد أن العراق شهد مئات من المؤرخين الذي كان لهم دورهم الفاعل في تنشيط حركة الدراسات التاريخية، ويمكن الرجوع إلى ماكتبه سليمان فائق من تواريخ للعراق ولبغداد ولحروب العراق شاهد حي على ذلك .
التاريخ موضوع حي لذلك لابد أن تختلف الآراء حول مفهومه، وأسلوب كتابته، وتفسيره وليس من شك في أن التاريخ كأزمنة وكأمكنة متفاعلة مع الإنسان يتصل بشكل أو بآخر بأمرين اثنين أولهما التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية .وثانيهما الاتجاهات الفكرية السائدة .
في التاريخ المعاصر اقصد في الحقبة المعاصرة والممتدة من الحرب العالمية الأولى وثورة 1920 في العراق ، رأينا أن التأريخ في العراق كتب بثلاث مستويات : المستوى الاستعماري، والمستوى الوطني، والمستوى الأكاديمي .كتب ارنولد ولسن "العراق بين ولاءين" وكتب هالدين "عصيان 1920 "وكتبت المس بل "عرض للإدارة المدنية في بلاد مابين النهرين" وكتب هاي وكتب سون وكل كتابات هؤلاء انطلقت من وجهة نظر استمارية متعالية مفادها أن العراقيين غير مؤهلين لتكوين دولتهم وليس ثمة شعب عراقي بل كتل وجماعات متنافرة .
عندئذ تصدى لهم الوطنيون وسرعان ماوجدوا أنفسهم داخل إطار الكتابة للتاريخ وظهر من أسميهم أنا" المؤرخون الهواة " ومنهم السيد عبد الرزاق الحسني والعمري والغلامي والصوفي والبازركان وغيرهم .واستمر هذا حتى بدأ المبعوثون من الشباب العراقيين المتخصصين بالتاريخ يعودون إلى وطنهم وتوزعوا على الكليات والمعاهد العالية ..كانت هناك سنة 1923 دار المعلمين العالية وفيها قسم للعلوم الاجتماعية وتأسست كلية الآداب والعلوم 1949 وظهرت جامعة بغداد وصدر قانونها سنة 1958 وبرز مؤرخون تحملوا عبْ كتابة تاريخهم وفق المنهج التاريخي المتداول وكان من ابرز هؤلاء الدكتور زكي صالح والدكتور عبد العزيز الدوري والدكتور صالح احمد العلي والدكتور جواد علي والدكتور ناجي معروف.
وجاءت ثورة 14 تموز 1958 وتصور الناس أن ما كتبه الحسني يكفي ولم يكن الحسني مثل الرافعي في مصر الذي أنكر على الثوار أن يعيدوا كتابة تاريخ مصر قائلا لهم : "إنني كتبته " ، لكن الحسني قال انه ولج درب التاريخ عندما لم يكن ثمة احد يكتبه وردد المثل الشعبي وسطره في كتابه تاريخ الوزارات العراقية "من قلة الخيل شدوا على الكلاب سروج " ووقف الحسني مشدوها أمام رسالة الماجستير التي أعدها الدكتور مظفر الادهمي سنة 1973 وأرسلت اليه كخبير ،وقال انه لم يكن يعرف أن هناك في بغداد مركز وطني للوثائق وبدأ منذ ذلك الوقت يرتاد المركز ويذهب إلى لندن للعمل في دائرة السجلات العامة public record office
وعندما كنت ادرس في قسم التاريخ بكلية الآداب –جامعة بغداد أوائل السبعينات من القرن الماضي وجدت أساتذة التاريخ مختلفون فهناك من يؤمن بالتفسير الديني (عبد الرحمن الحجي ) وهناك من يؤمن بالتفسير القومي (فاروق عمر فوزي ) وهناك من يؤمن بالتفسير الماركسي (حسين قاسم العزيز ) وهناك من يؤمن بالتفسير الليبرالي (فاضل حسين ) .ورأيت الشيء نفسه عندما عينت مدرسا مساعدا في قسم التاريخ بكلية الآداب –جامعة الموصل منتصف السبعينات من القرن الماضي .
واستطيع أن أقول أنني من الجيل الثاني في المدرسة التاريخية العراقية أنا ومجايليي الذين ولدوا بعد الحرب العالمية الثانية وتخصصوا بالتاريخ وبدأوا يؤتون الثمار في السبعينات .فالجيل الأول جيل زكي صالح وفاضل حسين وصدقي حمدي والعلي والدوري وجواد علي من مواليد مابعد الحرب العالمية الأولى .أما الجيل الثالث فهو جيل تلامذتنا من مواليد الثمانينات أو قل أواخر السبعينات ونحن نأمل في أن يتواصلوا مع المدرسة التاريخية العراقية الحديثة ويسهموا في تطويرها وتأصيلها .
أعود لأقول أن المدرسة التاريخية العراقية لم تقتصر على توثيق البعد السياسي من العملية التاريخية وإنما تعدت ذلك للاهتمام بالجوانب الاقتصادية وظهر لدينا مؤرخون أبدعوا في هذا الميدان ولعل في مقدمتهم الدوري والعلي وعندما سؤل احد النقاد عن ما قدمه العرب في القرن العشرين للبشرية أجاب بلا تردد كتابات الدوري والعلي في الجوانب الاقتصادية والتي أخذت مسارا عالميا إنسانيا .
لنقف
قليلا عند التاريخ الاقتصادي وأهميته فنقول :
يخطئ من يظن ان التاريخ هو
العلم الذي يهتم بالتحولات السياسية وسير الحكام والسلاطين والملوك .ان هذه النظرة
الى التاريخ قد انتهت مع الحركة الانسانية التي شهدتها اوربا في اعقاب انتهاء
العصور الوسطى وبدأ الاهتمام بالانسان بأعتباره محور الحركة التاريخية .وحركة
الانسان في الزمان والمكان لاتقف عند حدود اقامته لانظمة الحكم وتشريعه القوانين التي تنظم الحياة فحسب وانما
تتسع لتشمل سعيه وراء معاشه وبناء المدن وتنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية
والثقافية وعلى هذا الاساس تطورت الدراسات التاريخية لتأخذ فضلا عن الابعاد
السياسية البعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .وهكذا بدأ المؤرخون يهتمون
بالتاريخ الاقتصادي والتاريخ الاجتماعي والتاريخ الثقافي .وبقدر تعلق الامر
بالتاريخ الاقتصادي فأن البعض يربطون بين الاهتمام بالتاريخ الاقتصادي والنظرية
المادية التاريخية التي جاءت بها الماركسية وهذا ليس صحيحا فالمؤرخون في الغرب
يهتمون بالتاريخ الاقتصادي ويضعون بعد انجاز دراساتهم في هذا الميدان القواعد
والقوانين التي تفسر التطورات التاريخية
وهنا يختلفون مع الذين يذهبون مذهب الماركسية فالماركسيون يفسرون التاريخ وفق
نظرية مسبقة prejudgment
ويقولون بأن البشرية مرت بخمسة
مراحل هي المشاعية البدائية والرق والعبودية والاقطاع والرأسمالية ولابد وان يأتي
اليوم الذي يقيم فيه الانسان مجتمعه الشيوعي . وبذلك فهم يضعون النظرية ويغوصون في
اعماق التاريخ ليأتوا بالاحداث التي تدعم نظريتهم .في حين ان المؤرخين الموضوعيين
الذين يهتمون بالتاريخ الاقتصادي يبدأون بدراسة الاحداث التاريخية من دون ان تكون
لهم نظرية معينة او تفسير محدد والدراسة العلمية المنهجية المعتمدة على جمع المادة وتحليلها وتفكيكها ومن
ثم اعادة تشكيلها من جديد هي التي تهديهم الى ما يساعدهم على تفسير الاحداث تفسيرا
علميا يأخذ بتعددية العوامل ويرفض اي تفسير احادي الجانب .
من حسن الحظ فأن رائدي التاريخ
الاقتصادي العربي هم من المؤرخين العراقيين واقصد الاستاذ الدكتور صالح احمد العلي
والاستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري فكليهما اهتم بالتاريخ الاقتصادي والاجتماعي
حتى ان احد النقاد اجاب على سؤال يتعلق بأهم ما انجزه العرب على صعيد التريخ
الانساني في القرن العشرين فقال ان ما قدمه المؤرخان العراقيان العلي والدوري هو
من اهم ما قدم للبشرية من منجز علمي .
ان دراسات الاستاذين الدكتورين
الدوري والعلي في مجال التاريخ الاقتصادي والاجتماعي تعد في طليعة الدراسات
الاقتصادية لجديتها وتفردها بمعلومات ونتائج قيمة اذ تعد تلك الدراسات رائدة –بحق-
فبدايات الاستاذ الدكتور العلي كانت في اواخر الاربعينات من القرن الماضي مع دراسة
"التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة في القرن الاول الهجري .. في حين كانت بدايات الاستاذ الدكتور الدوري
مع" تاريخ العراق العراق الاقتصادي
في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي " .ومن الطبيعي ان تنمو الدراسات
الاقتصادية في الوطن العربي بعد منجزي العلي والدوري وتتسع وتتزايد فلدينا اليوم
كم هائل من الدراسات الاقتصادية العربية التي وجدت في دراستي الدوري والعلي حافزا
للعناية بدراسة التاريخ الاقتصادي للمجتمعات العربية سواء على صعيد التاريخ
الاسلامي او التريخ الحديث .
ان مما تهتم به الدراسات
التاريخية الاقتصادية الاسلامية والحديثة تقديم اطار عام يشتمل على حقول الاقتصاد
والمفردات الاقتصادية من عوامل انتاج وتضخم وانكماش ونقود وضرائب وتنظيمات مالية ومؤسسات اقتصادية
ومصرفية واحكام اراض وزراعة واصلاح زراعي وصناعة وتجارة وصناعة واصناف وتنظيمات
حرفية فضلا عن دراسة ظروف الازدهار الاقتصادي او التدهور الاقتصادي والازمات المالية
والنشاط الاقتصادي الخاص ووضع القوى الاقتصادية
من طبقات وسطى ومن عمال او فلاحين او كسبة او رأسماليين وطنيين اسميهم انا
بالاقتصاديين الوطنيين الذي ناضاوا الاستعمار ليس بالادوات السياسية بل بالفعاليات
والمشروعات الاقتصادية امثال طلعت حرب في مصر وعبد الحميد شومان في فلسطين والاردن
ونوري فتاح ومصطفى الصابونجي وعبد
الهادي الجلبي وال الخضيري في العراق
واميل البستاني في لبنان وغيرهم .
ان الانسان عندما وجد على ظهر
الارض وانشأ الحضارات القديمة ومنها حضارة وادي الرافدين وحضارة اليمن القديمة
وحضارة وادي النيل فأنما عرف بذلك الزراعة والصناعة والتجارة وتنظيم المجتمع
والدولة وعرف العلوم ودون اعماله على الطين والحجر والاجر فمن هو الباحث الجدير
بمتابعة كل تلك الانجازات سواء التي قام بها اجدادنا او التي نقوم نحن بها اليوم
أليس هو المؤرخ ؟ ومن يمتلك ادوات البحث ومناهجه للولوج في هكذا ميدان غير المؤرخ
.وما هي غاية التاريخ ؟ اليست غايته الكشف عن ما فعله ويفعله الانسان وما الذي
يفعله الانسان ؟ اليست النشاطات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ..لماذا نهتم
بالنشاطات السياسية ولانهتم بالنشاطات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ؟ .
لقد مضى الزمن الذي نقف فيه عند
نشاطات الحكام والخلفاء والسلاطين فالتاريخ هو تاريخ الانسان تاريخ العامل والتاجر
والحرفي والصانع والفلاح والمثقف ..نعم انه تاريخ الانسان وتاريخ مؤسساته ونظمه
الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية .
واذا كان كارل ماركس قد عد
القوة المنتجة اساسا للمجتمع وقاعدة سفلى له وما اقامه الانسان من نظم وابدع فيه
من افكار قاعدة عليا فان التاريخ الاقتصادي يرى بأن الانسان هو المحور ..هو الاساس
وللانسان حاجات نفسية وبيولوجية وهو بقدر ما يحتاج الى الطعام واللباس والمسكن
والنظام الاجتماعي فأنه بحاجة الى الافكار والرؤى والفن ويقينا ان قوة الدولة
الاقتصادية من قوة الافراد الاقتصادية والطرفين يستندان الى ما هو متوفر من موارد
طبيعية وموارد بشرية للقيام بالاعمال التي تغير من واقع المجتمع .نعم التريخ
لايمكن ان يكون وراءه عامل واحد بل عوامل متعددة لسبب بسيط هو ان الحياة معقدة
ومتفاعلة والعامل الاقتصادي هو احد القوى المحركة للتاريخ ويظهر اثره في وقائع
اكثر مما يظهر اثره في وقائع اخرى وكما هو معروف فأننا اذا اردنا ان ندرس على سبيل
المثال الثورة الصناعية فأننا سوف نهتم
\بالانتاج والاسواق والسلع والبضائع والدخل والضرائب والاستهلاك ورؤوس الاموال وانتقالها واستثمارها والبنوك
..التفسير الاقتصادي للتاريخ ودراسات التاريخ الاقتصادي تؤكد على المؤسسات المهنية
والحرفية والمالية والمصرفية والتجارية والصناعية والتجارية وهو في كل الاحوال جزءا
لايتجزأ من التاريخ العام .
وكما هو معروف فأن المؤرخ
الاقتصادي ينبغي ان يتسلح بأسلحة خاصة في مقدمتها تأتي المعرفة بعلمي الاقتصاد
والاحصاء ولااقول المعرفة الدقيقة وانما لابد ان يكون المؤرخ على معرفة ولو يسيرة
بمكنونات هذين العلمين المهمين وهذا طبيعي في الدراسات التاريخية فالقاصي والداني يعرف ان المؤرخ لابد وان
يستعين في دراساته وبحوثه في ما يسمى "العلوم المساعدة " أو
"العلوم الموصلة " ومنها " الجغرافية "و " الاقتصاد
" و"علم النفس " و" الاحصاء " و" الادب "
و"اللغة " وغيرها وحسب نوع وصنف الدراسة التاريخية التي يقوم بها .
يظل التاريخ علما حيا له ثلاثة
ابعاد فهو في طبيعته علم وادب وفلسفة غهو
علم لانه ينتهج المنهج العلمي وادب لانه يعرض منتجه بأسلوب بليغ وواضح وفلسفة لانه
يهتم بالتحليل والتفسير وايجاد النظريات والقوانين .
اضرب من نفسي مثلا فلقد تلقيت
دراساتي التاريخية على اساتذة افذاذ شكلوا
النواة الاولى للمدرسة التاريخية العراقية المعاصرة منهم الاستاذ الدكتور جواد علي
والاستاذ الدكتور زكي صالح والاستاذ الدكتور فيصل السامر والاستاذ الدكتور فاضل
حسين والاستاذ الدكتور عبد القادر احمد اليوسف والاستاذ الدكتور محمد الهاشمي
والاستاذ الدكتور عبد الله الفياض والاستاذ الدكتور عبد العزيز سليمان نوار ولم ار
ايا منهم ينكر اهمية التاريخ الاقتصادي ولقد كان من الاساتذة الذين رأيتهم في قسم
التاريخ بكلية الاداب جامعة بغداد في الستينات والسبعينات من يفسر التاريخ تفسيرا
ماركسيا منهم الاستاذ الدكتور حسين قاسم العزيز كما تعرفت على الاستاذ الدكتور
محمد انيس وهو استاذ مصري عمل في كلية الاداب –جامعة بغداد يذهب مذهب اولئك
المهتمين بالتاريخ الاقتصادي والاجتماعي لذلك ايقنت يقينا جازما بأهمية التاريخ
الاقتصادي ويشرفني بأنني اشرفت على رسائل واطروحات في التاريخ الاقتصادي منها
رسائل واطروحات عن " الاصناف والتنظيمات المهنية " وغرفة تجارة بغداد
" و"غرفة تجارة الموصل " و"تاريخ الصناعة الوطنية في العراق
" .
بقي ان اقول واذكر الاخرين من
زملائنا المسؤولين في الدراسات التاريخية وخاصة العليان ان من مقتضيات العمل ان
لانترك تاريخنا يدرس من قبل الاخرين من باحثين غربيين او شرقيين او مستشرقين دراسة
خارجية وهو ان يهتموا بتاريخنا الاقتصادي ويفسرونه حسب اهوائهم ومصالحهم فنحن اولى
منهم لاننا نفهم روحية تاريخنا وعوامله وظروفه المعقدة واقول هنا اليس من العيب ان
يأتي مستشرق ليدرس الفتوحات العربية الاسلامية ويفسرها على انها سعي للحصول على
الغنائم ؟ ونقف نحن عاجزين بدعوى ان
التاريخ الاقتصادي او الدراسات الاقتصادية ليست من مهامنا !!! .اننا لانريد ان
نخضع تاريخنا لنظريات بعيدة عن واقعنا وفي الوقت نفسه لابد ان ندرس تاريخنا بروح النقد والتفحص ونؤكد بأن تاريخنا حي وان
حاضرنا متصل بماضينا وان الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية
متداخلة ولايمكن اغفال جانب منها او تغليب جانب على اخر واخيرا فأن تاريخنا بقدر
ما فيه من جوانب مشرقة مضيئة فأن فيه جوانب مظلمة وهذا ليس عيبا ففي تاريخ كل
الامم انتصارات وانكسارات ولابد ان يدرس المجتمع كوحدة لاتتجزأ تتداخل فيه العوامل
وتتشابك وتتبادل التأثير .
إهتم ممثلو المدرسة التاريخية
العراقية بالتاريخ الاجتماعي ولدينا أمثلة على ذلك ،ولنذكر الدكتورة مليحة رحمة
الله وبدري محمد فهد في دراساته وتوثيقه لدور العامة . ولعل مما يفرح أن التاريخ
اقصد ميدان التاريخ في العراق ، اجتذب علماء اجتماع بارزون استفادوا من التاريخ في
تفسير شخصية الفرد والمجتمع العراقيين ويقف الدكتور علي الوردي في مقدمة من نقصد .
ويجري الاهتمام اليوم بالتاريخ الثقافي واضرب من نفسي مثلا فقد بدأت الاهتمام
بالتاريخ الثقافي العراقي المعاصر وأصدرت كتابا في هذا الاتجاه كما سبق لي أن وجهت
عددا من طلابي للاهتمام بتاريخ الصحافة العراقية .
واستطيع أن أقول أن الجيل الثاني من المدرسة التاريخية العراقية المعاصرة اهتم بقضايا لم يكن الجيل الأول يهتم بها ومثال ذلك أن جيلنا اهتم بالنفط وبالتعليم وبالبريد وبالصحة وبسكك الحديد وبالأراضي. وقد استغرب الجيل الأول من توجهنا وقال لنا عدد منهم وما علاقة التاريخ بالتعليم ؟ وقد كتبت أنا عن السياسة التعليمية في العراق خلال فترة الاحتلال والانتداب البريطانيين وكتب الدكتور عماد الجواهري عن الاراضي وكتب الدكتور نوري العاني عن النفط .وتمكنا بعد جهد ووقت ومعاناة من إقناعهم بقبول تسجيل رسائلنا .
لقد أسس المؤرخون العراقيون المعاصرون لروحية جديدة في التاريخ ، ولمنهجية تتميز بالجدية والحسم في التعاطي الأكاديمي وقدموا لنمط من الكتابة فيه الكثير من القواعد الأكاديمية المأخوذة من المدرسة الانكليزية وخاصة مدرستي كمبردج وأكسفورد وكان لهم إسهامهم الفاعل في تحري الحقيقة ولاشيئ غير الحقيقة . ويقوم هذا الأسلوب المنهجي على الاهتمام بالتنصيص أي البحث عن النصوص وتحليلها ، وتثبيت المصادر الأصيلة وتقييمها وكتابة الحدث كتابة ليست سردية وإنما تحليلية .
وقد سمعت من أستاذي الدكتور زكي صالح عندما درسني في قسم الشرف قبل قرابة نصف قرن أن للتاريخ طبيعة ثلاثية فهو علم وأدب وفلسفة والمؤرخ لايدعي انه فيلسوف وقد رفض توينبي ان يسمى فيلسوفا لكنه أي المؤرخ يستفيد من الفلسفة ليحلل ويفسر ويعلل ويحتاج المؤرخ إلى الأدب لكي يقدم ما يكتبه بليغا واضحا مفهوما للناس والمؤرخ أولا وأخرا لابد أن ينتهج المنهج العلمي أي لابد أن يخطو خطوات البحث التاريخي ويصل إلى الحقيقة ابتداء من التفكير بالموضوع ،وتسجيله ،وجمع المصادر ،وتفكيك النصوص وانتهاء بالتركيب وإعادة تشكيل الحدث كما وقع بالضبط على حد تعبير المؤرخ الألماني رانكة .ولقد سعت المدرسة التاريخية العراقية المعاصرة لان تبحث عن أسس ومفاهيم ومصطلحات تتواءم ليس مع أصول البحث العلمي الغربي والذي له جذوره في قواعد مصطلح الحديث العربية ، وإنما مع أصول التاريخ العربي والإسلامي وحيثياته إلى درجة أن بعضا من رواد هذه المدرسة دعا إلى الالتزام بتحقيب التاريخ العربي والإسلامي كما فعلنا في موسوعة الموصل الحضارية حين قسمنا عصور التاريخ إلى مرحلة ماقبل الإسلام، ومرحلة ظهور الإسلام، ومرحلة الركود والانكسار، وأخيرا مرحلة النهضة الحديثة . ولحسن الحظ فأن من رواد المدرسة التاريخية العراقية واخص بالذكر الدكتور جعفر خصباك والدكتور عبد المنعم رشاد والدكتور محمد صالح القزاز قد اهتم بالفترة المظلمة أو الفترة المظلومة وهي الفترة المحصورة بين سقوط بغداد على يد المغول سنة 1256 ميلادية والسيطرة العثمانية في النصف الاول من القرن السادس عشر .وقد سعوا من اجل تشجيعنا على ولوج هذا اللون من الدراسات التاريخية . كما أن بعض رموز هذه المدرسة رفض منذ أواسط السبعينات الفكرة التي لاتسمح بتناول الحدث إلا بعد مرور 25 -30 سنة على وقوعه وأصبحوا يدرسون التاريخ المعاصر إيمانا منهم بمقولة المؤرخ البريطاني سيلي : "التاريخ سياسة ماضية والسياسة تاريخ حاضر " وكذلك بفكرة المؤرخ ادوار كار التاريخ كله تاريخ معاصر، وان التاريخ ليس إلا حوار متصل بين المؤرخ ووقائعه .
والمدرسة التاريخية العراقية - كما علمنا أساتذتنا من الجيل الأول تنظر إلى الوطن العربي نظرة شمولية أفقية فأهتمامها بالمشرق العربي كأهتمامها بالمغرب العربي وقد اختطت لنفسها خطا جديدا يتمثل في توجيه الدارسين في العراق نحو المغرب العربي والأندلس . ولدينا اليوم كتابات متميزة لمؤرخين عراقيين اهتموا بتاريخ المغرب والأندلس من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية ..لنتذكر عبد الرحمن الحجي وخليل السامرائي وعبد الواحد ذنون وناطق مطلوب ومزاحم علاوي وفي التاريخ الحديث محمد علي داهش وخيرية عبد الصاحب وادي .
ومع أن المدرسة التاريخية العراقية اهتمت بالتاريخ العربي ، وبحركات التحرر، والعالم الثالث، وبالقضية الفلسطينية إلا أنها لم تهمل التاريخ الأوربي الوسيط والحديث والمعاصر فضلا عن التاريخ الأميركي، وتاريخ الهند والصين وأفريقيا وجنوب شرقي آسيا .وللتذكير فقد كان التاريخ الأوربي في زماننا أي عندما كنا نخطو خطواتنا الأولى في التخصص بالتاريخ 0يحتل نسبة كبيرة من المنهج ..تصوروا عندما كنا في الكلية كنا ندرس تاريخ الدولة العثمانية ضمن مادة تسمى الشرق الأدنى الحديث ،وعندما أصبحنا أساتذة صرفنا همنا لدراسة " تاريخ الوطن العربي في العهد العثماني ".
والمدرسة التاريخية العراقية هي من أولى المدارس العربية التاريخية التي اهتمت بالخليج العربي الحديث والمعاصر . ولعل أول من وجه الطلبة لدراسة تاريخ الخليج العربي هو الدكتور زكي صالح عندما دفع الدكتور محمود علي الداؤود والدكتور عبد الأمير محمد أمين لاختيار "الخليج العربي" موضوعا لأطروحاتهم في خارج العراق .
كما أفسح ممثلو المدرسة التاريخية العراقية المعاصرة ،جانبا من اهتماماتهم للدولتين المجاورتين للعراق إقليميا واقصد بهما إيران وتركيا . ويمكن في هذا الصدد الإشارة الى كتابات الأستاذ الدكتور كمال مظهر احمد عن إيران ، وتوجيهه لطلبته بوجوب الولوج في هذا الميدان . وكتابات الأستاذ الدكتور هاشم صالح التكريتي والأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف والأستاذ الدكتور خليل علي مراد وقيادتهم من خلالهم مباشرة آو من خلال مركز الدراسات التركية (الإقليمية حاليا ) بجامعة الموصل ، حملة انجاز دراسات وبحوث وأطروحات ورسائل جامعية عن تركيا المعاصرة .وقد ظهرت جراء ذلك حركة واسعة للاهتمام بتاريخي إيران وتركيا في العراق، وساعدت ظروف الحرب العراقية -الإيرانية 1980-1988 وبروز الحاجة لفهمها ومعرفة أسبابها ونتائجها على صدور العديد من الكتب والبحوث والدراسات التي أغنت الموضوع وبشكل غير مسبوق .
والمؤرخ العراقي المعاصر - مع انه ملتزم بالمنهج التاريخي ومصر على تطبيقه بحذافيره - فأنه وطني، وقومي يحب محلته وبلده وأمته ويحب الإنسانية انه غير شوفيني يؤمن بأن البشر إخوة وان عليه أن يسجل الأحداث من غير أن تكون لديه أفكار مسبقة أو مايسمى prejudgment .وهو في هذا يغوص في الأحداث ليستخرج القاعدة أو النظرية أو الرأي لا أن يضع القاعدة ثم يأتي بالأحداث لدعمها .
اعتقد في ختام هذه الملاحظات أن الضرورة تقتضي ،تقصي منجزات المؤرخين العراقيين المعاصرين والسعي باتجاه التعريف بسيرهم وتوجهاتهم . واسمحوا لي أن أزف إليكم خبر صدور الجزء الأول من موسوعتي التي بدأتها الكترونيا من خلال مجلة "علوم إنسانية "التي تصدر في هولندا ،وانتهيت بها ورقيا واقصد "موسوعة المؤرخين العراقيين المعاصرين" وقد طبعت في دار ابن الاثير للطباعة في الموصل ، وهي متاحة على شبكة المعلومات (الانترنت ) ،وادعوا كل من يريد أن تسجل نشاطاته ضمن هذه الموسوعة في أجزاءها الأخرى أن يستجيب للطلب فيقدم الينا سيرته الذاتية والعلمية ورؤيته للتاريخ وأعماله ليتسنى إعدادها وضمها إلى الأجزاء التالية من الموسوعة .
واستطيع أن أقول أن الجيل الثاني من المدرسة التاريخية العراقية المعاصرة اهتم بقضايا لم يكن الجيل الأول يهتم بها ومثال ذلك أن جيلنا اهتم بالنفط وبالتعليم وبالبريد وبالصحة وبسكك الحديد وبالأراضي. وقد استغرب الجيل الأول من توجهنا وقال لنا عدد منهم وما علاقة التاريخ بالتعليم ؟ وقد كتبت أنا عن السياسة التعليمية في العراق خلال فترة الاحتلال والانتداب البريطانيين وكتب الدكتور عماد الجواهري عن الاراضي وكتب الدكتور نوري العاني عن النفط .وتمكنا بعد جهد ووقت ومعاناة من إقناعهم بقبول تسجيل رسائلنا .
لقد أسس المؤرخون العراقيون المعاصرون لروحية جديدة في التاريخ ، ولمنهجية تتميز بالجدية والحسم في التعاطي الأكاديمي وقدموا لنمط من الكتابة فيه الكثير من القواعد الأكاديمية المأخوذة من المدرسة الانكليزية وخاصة مدرستي كمبردج وأكسفورد وكان لهم إسهامهم الفاعل في تحري الحقيقة ولاشيئ غير الحقيقة . ويقوم هذا الأسلوب المنهجي على الاهتمام بالتنصيص أي البحث عن النصوص وتحليلها ، وتثبيت المصادر الأصيلة وتقييمها وكتابة الحدث كتابة ليست سردية وإنما تحليلية .
وقد سمعت من أستاذي الدكتور زكي صالح عندما درسني في قسم الشرف قبل قرابة نصف قرن أن للتاريخ طبيعة ثلاثية فهو علم وأدب وفلسفة والمؤرخ لايدعي انه فيلسوف وقد رفض توينبي ان يسمى فيلسوفا لكنه أي المؤرخ يستفيد من الفلسفة ليحلل ويفسر ويعلل ويحتاج المؤرخ إلى الأدب لكي يقدم ما يكتبه بليغا واضحا مفهوما للناس والمؤرخ أولا وأخرا لابد أن ينتهج المنهج العلمي أي لابد أن يخطو خطوات البحث التاريخي ويصل إلى الحقيقة ابتداء من التفكير بالموضوع ،وتسجيله ،وجمع المصادر ،وتفكيك النصوص وانتهاء بالتركيب وإعادة تشكيل الحدث كما وقع بالضبط على حد تعبير المؤرخ الألماني رانكة .ولقد سعت المدرسة التاريخية العراقية المعاصرة لان تبحث عن أسس ومفاهيم ومصطلحات تتواءم ليس مع أصول البحث العلمي الغربي والذي له جذوره في قواعد مصطلح الحديث العربية ، وإنما مع أصول التاريخ العربي والإسلامي وحيثياته إلى درجة أن بعضا من رواد هذه المدرسة دعا إلى الالتزام بتحقيب التاريخ العربي والإسلامي كما فعلنا في موسوعة الموصل الحضارية حين قسمنا عصور التاريخ إلى مرحلة ماقبل الإسلام، ومرحلة ظهور الإسلام، ومرحلة الركود والانكسار، وأخيرا مرحلة النهضة الحديثة . ولحسن الحظ فأن من رواد المدرسة التاريخية العراقية واخص بالذكر الدكتور جعفر خصباك والدكتور عبد المنعم رشاد والدكتور محمد صالح القزاز قد اهتم بالفترة المظلمة أو الفترة المظلومة وهي الفترة المحصورة بين سقوط بغداد على يد المغول سنة 1256 ميلادية والسيطرة العثمانية في النصف الاول من القرن السادس عشر .وقد سعوا من اجل تشجيعنا على ولوج هذا اللون من الدراسات التاريخية . كما أن بعض رموز هذه المدرسة رفض منذ أواسط السبعينات الفكرة التي لاتسمح بتناول الحدث إلا بعد مرور 25 -30 سنة على وقوعه وأصبحوا يدرسون التاريخ المعاصر إيمانا منهم بمقولة المؤرخ البريطاني سيلي : "التاريخ سياسة ماضية والسياسة تاريخ حاضر " وكذلك بفكرة المؤرخ ادوار كار التاريخ كله تاريخ معاصر، وان التاريخ ليس إلا حوار متصل بين المؤرخ ووقائعه .
والمدرسة التاريخية العراقية - كما علمنا أساتذتنا من الجيل الأول تنظر إلى الوطن العربي نظرة شمولية أفقية فأهتمامها بالمشرق العربي كأهتمامها بالمغرب العربي وقد اختطت لنفسها خطا جديدا يتمثل في توجيه الدارسين في العراق نحو المغرب العربي والأندلس . ولدينا اليوم كتابات متميزة لمؤرخين عراقيين اهتموا بتاريخ المغرب والأندلس من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية ..لنتذكر عبد الرحمن الحجي وخليل السامرائي وعبد الواحد ذنون وناطق مطلوب ومزاحم علاوي وفي التاريخ الحديث محمد علي داهش وخيرية عبد الصاحب وادي .
ومع أن المدرسة التاريخية العراقية اهتمت بالتاريخ العربي ، وبحركات التحرر، والعالم الثالث، وبالقضية الفلسطينية إلا أنها لم تهمل التاريخ الأوربي الوسيط والحديث والمعاصر فضلا عن التاريخ الأميركي، وتاريخ الهند والصين وأفريقيا وجنوب شرقي آسيا .وللتذكير فقد كان التاريخ الأوربي في زماننا أي عندما كنا نخطو خطواتنا الأولى في التخصص بالتاريخ 0يحتل نسبة كبيرة من المنهج ..تصوروا عندما كنا في الكلية كنا ندرس تاريخ الدولة العثمانية ضمن مادة تسمى الشرق الأدنى الحديث ،وعندما أصبحنا أساتذة صرفنا همنا لدراسة " تاريخ الوطن العربي في العهد العثماني ".
والمدرسة التاريخية العراقية هي من أولى المدارس العربية التاريخية التي اهتمت بالخليج العربي الحديث والمعاصر . ولعل أول من وجه الطلبة لدراسة تاريخ الخليج العربي هو الدكتور زكي صالح عندما دفع الدكتور محمود علي الداؤود والدكتور عبد الأمير محمد أمين لاختيار "الخليج العربي" موضوعا لأطروحاتهم في خارج العراق .
كما أفسح ممثلو المدرسة التاريخية العراقية المعاصرة ،جانبا من اهتماماتهم للدولتين المجاورتين للعراق إقليميا واقصد بهما إيران وتركيا . ويمكن في هذا الصدد الإشارة الى كتابات الأستاذ الدكتور كمال مظهر احمد عن إيران ، وتوجيهه لطلبته بوجوب الولوج في هذا الميدان . وكتابات الأستاذ الدكتور هاشم صالح التكريتي والأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف والأستاذ الدكتور خليل علي مراد وقيادتهم من خلالهم مباشرة آو من خلال مركز الدراسات التركية (الإقليمية حاليا ) بجامعة الموصل ، حملة انجاز دراسات وبحوث وأطروحات ورسائل جامعية عن تركيا المعاصرة .وقد ظهرت جراء ذلك حركة واسعة للاهتمام بتاريخي إيران وتركيا في العراق، وساعدت ظروف الحرب العراقية -الإيرانية 1980-1988 وبروز الحاجة لفهمها ومعرفة أسبابها ونتائجها على صدور العديد من الكتب والبحوث والدراسات التي أغنت الموضوع وبشكل غير مسبوق .
والمؤرخ العراقي المعاصر - مع انه ملتزم بالمنهج التاريخي ومصر على تطبيقه بحذافيره - فأنه وطني، وقومي يحب محلته وبلده وأمته ويحب الإنسانية انه غير شوفيني يؤمن بأن البشر إخوة وان عليه أن يسجل الأحداث من غير أن تكون لديه أفكار مسبقة أو مايسمى prejudgment .وهو في هذا يغوص في الأحداث ليستخرج القاعدة أو النظرية أو الرأي لا أن يضع القاعدة ثم يأتي بالأحداث لدعمها .
اعتقد في ختام هذه الملاحظات أن الضرورة تقتضي ،تقصي منجزات المؤرخين العراقيين المعاصرين والسعي باتجاه التعريف بسيرهم وتوجهاتهم . واسمحوا لي أن أزف إليكم خبر صدور الجزء الأول من موسوعتي التي بدأتها الكترونيا من خلال مجلة "علوم إنسانية "التي تصدر في هولندا ،وانتهيت بها ورقيا واقصد "موسوعة المؤرخين العراقيين المعاصرين" وقد طبعت في دار ابن الاثير للطباعة في الموصل ، وهي متاحة على شبكة المعلومات (الانترنت ) ،وادعوا كل من يريد أن تسجل نشاطاته ضمن هذه الموسوعة في أجزاءها الأخرى أن يستجيب للطلب فيقدم الينا سيرته الذاتية والعلمية ورؤيته للتاريخ وأعماله ليتسنى إعدادها وضمها إلى الأجزاء التالية من الموسوعة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق