إبراهيم خليل العلاف وكتابه: " نحن وتركيا "
بقلم: عبد الوهاب ألنعيمي*
لقد لعبت تركيا منذ أزمنة بعيدة ،وتلعب اليوم، دوراً مهما في الواقع الإقليمي والدولي معا نتيجة لسياستها المعتدلة والهادئة التي تتسم بها الزعامة التركية ولرغبتها الحيادية في تبني علاقات قوية ومنهجية ورصينة مع الدول الجارة، ولاسيماً مع العراق على وجه الخصوص والدول العربية على وجه عام، وان أي تدعيم للعلاقات المشتركة بين البلدان لابد إن يصب لفائدة وصوالح المنطقة العربية والإقليمية، مما يسمح بإقامة شراكة إقليمية مستقبلاً بين العراق وتركيا.
نحن وتركيا
ولتأكيد هذه الحقائق ،وتدعيمها وثائقياً وتاريخياً فقد عمد المؤرخ الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف، إلى جمع عدد من دراساته وبحوثه التي كتبها خلال أكثر من ربع قرن حول محور العلاقات العراقية التركية بما تضمنته من سياسة خارجية، وأوضاع اقتصادية واجتماعية، وبما يؤوب إلى التوجهات الفكرية في تركيا من خلال مواقفها تجاه القضايا العراقية، والإحداث التي شهدها بلدنا العزيز خلال السنوات المنصرمة.
وقد أراد المؤرخ الباحث العلاف من خلال هذه الدراسات والبحوث التي جمعتها بكتابه الموسوم " نحن وتركيا" الذي صدرا مؤخرا بطباعة أنيقة وحجم كبير عن سلسلة شؤون إقليمية في مركز الدراسات الإقليمية بجامعة الموصل بـ (576) صفحة حملت بين طياتها 21 فصلاً، هي في حقيقة الأمر إحدى وعشرين دراسة وبحثا قام بجمعها المؤرخ العلاف بين دفتي هذا الكتاب الذي أثرى بصدوره المكتبة العراقية وأضاف للباحثين والمؤرخين أفكارا جديدة نحن بأمس الحاجة إليها في المرحلة الراهنة.
تنفتح فصول الكتاب على مواضيع متنوعة تحدد الأدوار السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية والمائية، بدءاً من الفصل الأول الذي يحدد موقف تركيا من الحرب العراقية الإيرانية، خلال الأعوام 1980_1988 حيث تكتسب معرفة موقف تركيا من الحرب العراقية الإيرانية، كما يشير الباحث العلاف، أهمية كبيرة لسببين أولهما: يكمن في الروابط التاريخية والجغرافية والدينية والاقتصادية التي تربط العراق بتركيا، وثانيهما، ماتحتله تركيا من مكانه متميزة في المنطقة كان يمكن أن تؤهلها لان تقوم بدور ايجابي في إنهاء النزاع العراقي-الإيراني.
إما الفصل الثاني من الكتاب، فقد ركز من خلاله الباحث العلاف، على موقف تركيا وحرب الخليج الثانية من خلال الطموحات التركية المتعلقة بالقيام بدور اكبر في المنطقة ومن خلال الضغط الأمريكي على الحكومة التركية للانضمام إلى تحالف سريع التشكيل ضد العراق في إعقاب إحداث الثاني من آب 1990، وكذلك من خلال ضغط المعارضة التركية وخاصة المتمثلة بالجيش والأحزاب السياسية الرئيسة والداعية إلى منع أي تورط تركي في الحرب، إلا إن سرعان ما أعلنت الحكومة التركية عن استعدادها لإرسال قوات تركية إلى منطقة الخليج العربي بحجة الإسهام في تطبيق قرار الحصار الاقتصادي على العراق الصادر من مجلس الأمن،وسمحت للطائرات الأمريكية باستخدام قاعدتي (انجر ليك وباطمان) في العمليات العسكرية ضد العراق.
إما الفصل الثالث فقد تناول الباحث العلاف السلوك السياسي الخارجي التركي تجاه العراق بعد حرب الخليج الثانية حيث اتضح هذا السلوك في موقف اتسم القليل منها بالايجابية وتركز في تأكيد الأتراك على إن تركيا تخسر كثيرا بسبب الحصار المفروض على العراق منذ نهاية سنة 1990 إلا إن الكثير من تصرفات تركيا كما أشار الباحث كشفت عن سلوكيات وتصرفات لاتخدم بأي حال من الأحوال مستقبل العلاقات العراقية التركية، وقد حاول الدكتور العلاف في هذا الفصل، تحسس ما في السلوك السياسي الخارجي التركي في مكامن وبؤر التقاطع والتضاد تجاه العراق ومنها مواقف تركيا تجاه منطقتي الموصل وكركوك، وادعاء تركيا لحماية تركمان العراق، والأنشطة التركية في كردستان العراق، ومن ثم الاجتياح المستمر للأراضي العراقية في شمال العراق ، واستخدام مسألة المياه للضغط على العراق وسوريا معا .ويجد المؤلف إن المستقبل قد يحمل قدراً من التنسيق بين العرب لمواجهة المخاطر والتحالفات ، وعندئذ تتحمل تركيا المسؤولية الكاملة عن الإعمال بغض النظر عن الذرائع التي تدعيها. ويبقى منطق الحوار والتصالح واحترام حقوق الجيرة الحسنة والتنسيق مع دول الجوار بما يحقق الأمن الحدودي والتفاهم والرؤية المتوازنة والموضوعية لمشاكل المنطقة وكيفية معالجتها هو الأسلوب الأمثل الذي يصب في مصلحة الطرفين.
ويتناول الباحث العلاف في الفصل الرابع من كتابه (نحن وتركيا) الموقف التركي من مشروع العقوبات الأمريكية البريطانية على العراق عام 2001، حيث اتفق المراقبون على إن خيبة الأمل الكبيرة التي صادفها وزير الدفاع الأمريكي من تركيا هي التي تعلقت بالملف العراقي عندما سمع رئيس الوزراء التركي أجاويد ما أصابه بالصدمة إذ قال له :" إن نظام العقوبات لم يجد فتيلاً على مدى السنوات العشر الماضية، وانه أحرى بكم إن تدخلوا في حوار مع بغداد، وان تطرحوا أفكارا جديدة، فيما نقلت أجهزة الإعلام عن إسماعيل جم وزير الخارجية التركي آنذاك:"إن تركيا تأخذ بعين الاعتبار السياسات الأمريكية المتعلقة بالعراق، لكنها ستتحرك وفقاً لمصالحها، وان تركيا ستفتح معبراً حدوديا ثانياً مع العراق، وان هذا موشرا على تحسن العلاقات بين تركيا و العراق، حيث إن الأمر كما أشار جم يصب مباشرة في مصلحة البلداني ، وقد علق احد المراقبين على قول جم :" إن الولايات المتحدة الأمريكية حليفة تركيا في حلف شمال الأطلسي تنظر إلى الخطوات التركية بتحسن العلاقات مع العراق بقدر كبير من القلق.
أما في الفصل الخامس من الكتاب، فقد تناول فكرة المنطقة الأمنية العازلة على الحدود العراقية التركية ومخاطرها على الأمن الوطني العراقي ،ففي الثاني من أيلول عام 1996 دعت تانسو جيللر نائبة رئيس الوزراء ووزيرة الخارجية التركي آنذاك العراق إلى سحب قواته من شمالي العراق فوراً، حفاظا على السلام في المنطقة، وختمت تصريحها للصحفيين بالقول:" إن تركيا تسعى للحفاظ على ما أسمته سلامة (شعوب) العراق من كرد وترك وعرب، ولكن هذا لايعني أن تركيا تسمح بإقامة كيان كردي مستقل في شمالي العراق، ونوهت الوزيرة حسب ما جاء في الفصل بان الصراع بين الحزبين الكرديين سيكون في صالح عناصر حزب العمال الكردستاني الذي سوف يشدد هجماته على المصالح التركية انطلاقاً من قواعده التي أنشأها في شمالي العراق.
وفي الرابع من أيلول من العام نفسه أي بعد يومين من تصريح جيللر نقلت هيئة الإذاعة البريطانية باللغة العربية أخبارا عن مسؤولين أتراك يدعون إلى إنشاء منطقة عازلة في شمالي العراق، ويقول انه إجراء امني وليس ضرباً من ضروب الاحتلال، وأكدت الإذاعة أن جيللر قالت:" أن تركيا تستعد لدخول العراق لمنع الانفصاليين من عناصر حزب العمال الكردستاني في شن هجمات على المصالح والمؤسسات والأراضي التركية، وقد أطلقت تركيا فكرة جديدة تقوم على أساس إنشاء نظام متطور للمراقبة الالكترونية على حدودها مع العراق، وقالت جيللر : إن حدونا مع العراق تمر في منطقة جبلية يمكن عبورها بسهولة وقد رفض العراق الإجراءات العسكرية التركية على الحدود العراقية لأنها بنظرة، تعد تصرفا غير مبرر كلياً إلى جانب كونه انتهاكا لسيادة العراق ووحدة أراضيه ، وقال متحدث باسم وزارة الثقافة والإعلام العراقية بان تركمان العراق يحظون بالرعاية الكاملة ويتمتعون بحقوقهم. وأكد سفير العراق في أنقرة رفض العراق قاطعا لما تحدثت عنه تركيا بإقامة مايسمى بالمنطقة الأمنية العازلة،موضحا إن عودة سيادة العراق على شماله ستنهي المشاكل الأمنية في المنطقة، وأكد على ضرورة إجراء مباحثات سياسية وحوار عميق على مستوى رفيع بين البلدين لتطوير العلاقات وحل المشاكل.
فيما أشار الباحث العلاف في الفصل السادس من الكتاب إلى السلوك السياسي الخارجي التركي تجاه العراق بعد 9 نيسان عام 2003، حيث رفضت الحكومة التركية أي مشاركة عسكرية لها في الحرب على العراق، كما رفض البرلمان التركي الذي كان يسيطر عليه نواب حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب اردوغان أن تنطلق القوات الأمريكية الجوية من الأراضي التركية، وقيل ان تركيا قاومت الضغوط الأمريكية حيث عرضت عليها مليارات الدولارات إن هي أسهمت في الحرب، حيث أعلن اردوغان عشيه الحرب:" لقد أغلقنا ملف التعاون مع الولايات المتحدة في الحرب ضد العراق. وقد جاء الرفض التركي على خلفية أمرين مهمين كما يشير الدكتور العلاف اولهما: سعي حكومة حزب العدالة والتنمية لتشكيل موقف عربي وإقليمي يمنع خيار الحرب، وثانيهما تصاعد المعارضة الشعبية التركية ضد خيار الحرب.
وفي المجال المائي فقد افرد الباحث العلاف الفصل السابع عشر من كتابة (نحن وتركيا) للحديث عن سد ايليسو التركي وتأثيره على البيئة والمحيط والإنسان في كل من العراق وتركيا، حيث أن هذا السد يقع على نهر دجلة وهو احد المشاريع الثلاثة عشر التي تولد الكهرباء بالقوة المائية التي تعتزم الحكومة التركية أقامتها على نهري دجلة والفرات، وسد ايليسو هو احد مشروع جنوب شرقي الأناضول المعروف (مشروع الغاب) ويقع قرب الحدود السورية العراقية وقد تعرض مشروع السد إلى انتقادات لاذعة من لدن أنصار البيئة الذين أكدوا بأنه سيؤثر على معيشة أكثر من ستين ألف شخص يعيشون على ضفاف نهر دجلة في كردستان تركيا، كما عبرت الكثير من المخاوف من أن بناء هذا السد سيؤدي إلى انخفاض كبير في منسوب المياه في نهري دجلة وقد أكدت الحكومة التركية أن تطوير المزارع وتوسيع الأراضي المروية ضمن مشروع الغاب سيؤدي إلى إنقاص كمية المياه في دجلة إضافة إلى ما ستترتب على ذلك من حدوث تلوثات خطيرة ونقص في قدرة توليد الطاقة، مما سيؤثر سلباً في اقتصاد العراق.
كما أشار المؤلف العلاف في الفصل التاسع عشر إلى تنامي القدرات العسكرية وتأثيرها على الأمن الوطني العراقي حيث تنامت قوة الجيش التركي وازداد حجمه خلال السنوات العشر التي أعقبت مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وأقامت تركيا برنامجا واسعا للصناعات العسكرية بما ينسجم مع التوجهات السياسية لتركيا حيث إن القوات المسلحة التركية الكبيرة اليوم تعد الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وكرست التفاعلات العسكرية بين العراق وتركيا حالة الخلل القائم لصالح تركيا في موازين القوة العسكرية من جهة أخرى، وقد ظهر ذلك واضحا في سلسلة الاختراقات والضغوط التركية على العراق، وما رافق ذلك من دعوات لتعديل رسم الحدود مع العراق والمطالبة بمنطقة الموصل_كركوك وذلك من جراء الخلل الحاصل في الميزان الإستراتيجي في المنطقة الذي أدى إلى ترك فراغ امني واتاح فرصة واسعة لتركيا في التحرك وممارسة نفوذها.
وفي الفصل (العشرون) أوضح المؤلف المؤشرات العامة عن الاقتصاد التركي في ظل الحصار على العراق حيث أن هذا الحصار قد أسهم بشل الحركة الاقتصادية في جنوب شرق تركيا، وخلق، برأي السلطات التركية، تربة خصبة لانتشار أعمال العنف وانتهاك القانون لكونه قد أدى إلى انتشار البطالة، مما جعل تركيا تتحمل من جراء الحصار أعباء اقتصادية أثرت على معدلات النمو فيها وزادت من أعداد البطالة وارتفعت معدلات التضخم فيها من جراء فقدان فرص كانت ستحقق لتركيا في ظل غياب الحصار الذي هو حصار على تركيا والشعب التركي إلى جانب كونه حصاراً على العراق والشعب العراقي.
لقد افرد المؤلف تسعة فصول من أصل واحد وعشرين فصلاً ضمنها الكتاب الحديث عن الرؤية التركية العراقية،وماعدا ذلك فان الفصول المتبقية وعددها اثني عشر فصلاً فتناولت المؤشرات العامة عن الاتفاق العسكري التركي _الإسرائيلي ومدى مخاطره على الأمن القومي العربي من خلال نصف قرن من تاريخ العلاقات التركية الإسرائيلية، كما تناولت القومية كبديل للخلافة من خلال تغيير مفهوم الأمة في تركيا، ودور الماسونية في الحياة الاجتماعية والسياسية التركية المعاصرة وكذلك الحركة النورسية في تركيا المعاصرة وخارطة الحركات الإسلامية في تركيا ومستقبلها وموقف تركيا من الحرب الأمريكية على أفغانستان، ومشروع مياه السلام التركي من خلال أهدافه المعلنة وأثاره على مستقبل المصادر المائية في الوطن العربي، واختتم المؤلف كتابه بالفصل الحادي والعشرين الذي حمل عنواناً واسعاً (تركيا والأمن الإقليمي) أشار فيه إلى أن على تركيا لكي تقوم بما ينبغي عليها أن تقوم به من مهام تساعد في تحقيق الأمن الإقليمي،فان ذلك لايكون بإظهار السلوك السلبي، وليس بالاندفاع لتوثيق علاقاتها مع إسرائيل وإصرارها على إيذاء العراق ورفضها الجلوس مع العراقيين والسوريين لحل مشكلة اقتسام المياه، بل لابد تركيا السعي باتجاه عدم نسيان التاريخ والجغرافية ، ورفض انسلاخها من موقعها، وهذا لايتحقق إلا عندما تنأئ تركيا بنفسها عن السياسة الأمريكية لكي تتمكن من الإسهام الفاعل في حماية الأمن والاستقرار في المنطقة وان تواجه التهديدات الأمريكية للعراق وغيره من الدول بموقف حكيم ومتوازن.
كما أسلفنا، فأن الكتاب سد فراغاً كبيراً في المكتبة الوثائقية والتاريخية والسياسية لما احتواه من معلومات عالية الدقة يحتاجها الباحثون والكتاب والدارسون الأكاديميون لتغذية مشاريعهم الكتابية واطروحاتهم ورسائلهم الجامعية، كما يحتاجها المثقف العراقي بشكل خاص وعموم المثقفين العرب، بالقدر الذي يحتاجها المثقف التركي فيما لو تم ترجمتها إلى اللغة التركية أو إلى كل اللغات السائدة في دول آسيا الوسطى والبلقان.
***********************************************
*المقال الأخير للكاتب والأديب والصحفي المبدع الأستاذ عبد الوهاب ألنعيمي وقد كتبه قبل يوم من وفاته يوم 11 حزيران 2009 ولم يتسن له نشره وقد زودني به ولده (عدي ) رحم الله ألنعيمي .
بقلم: عبد الوهاب ألنعيمي*
لقد لعبت تركيا منذ أزمنة بعيدة ،وتلعب اليوم، دوراً مهما في الواقع الإقليمي والدولي معا نتيجة لسياستها المعتدلة والهادئة التي تتسم بها الزعامة التركية ولرغبتها الحيادية في تبني علاقات قوية ومنهجية ورصينة مع الدول الجارة، ولاسيماً مع العراق على وجه الخصوص والدول العربية على وجه عام، وان أي تدعيم للعلاقات المشتركة بين البلدان لابد إن يصب لفائدة وصوالح المنطقة العربية والإقليمية، مما يسمح بإقامة شراكة إقليمية مستقبلاً بين العراق وتركيا.
نحن وتركيا
ولتأكيد هذه الحقائق ،وتدعيمها وثائقياً وتاريخياً فقد عمد المؤرخ الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف، إلى جمع عدد من دراساته وبحوثه التي كتبها خلال أكثر من ربع قرن حول محور العلاقات العراقية التركية بما تضمنته من سياسة خارجية، وأوضاع اقتصادية واجتماعية، وبما يؤوب إلى التوجهات الفكرية في تركيا من خلال مواقفها تجاه القضايا العراقية، والإحداث التي شهدها بلدنا العزيز خلال السنوات المنصرمة.
وقد أراد المؤرخ الباحث العلاف من خلال هذه الدراسات والبحوث التي جمعتها بكتابه الموسوم " نحن وتركيا" الذي صدرا مؤخرا بطباعة أنيقة وحجم كبير عن سلسلة شؤون إقليمية في مركز الدراسات الإقليمية بجامعة الموصل بـ (576) صفحة حملت بين طياتها 21 فصلاً، هي في حقيقة الأمر إحدى وعشرين دراسة وبحثا قام بجمعها المؤرخ العلاف بين دفتي هذا الكتاب الذي أثرى بصدوره المكتبة العراقية وأضاف للباحثين والمؤرخين أفكارا جديدة نحن بأمس الحاجة إليها في المرحلة الراهنة.
تنفتح فصول الكتاب على مواضيع متنوعة تحدد الأدوار السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية والمائية، بدءاً من الفصل الأول الذي يحدد موقف تركيا من الحرب العراقية الإيرانية، خلال الأعوام 1980_1988 حيث تكتسب معرفة موقف تركيا من الحرب العراقية الإيرانية، كما يشير الباحث العلاف، أهمية كبيرة لسببين أولهما: يكمن في الروابط التاريخية والجغرافية والدينية والاقتصادية التي تربط العراق بتركيا، وثانيهما، ماتحتله تركيا من مكانه متميزة في المنطقة كان يمكن أن تؤهلها لان تقوم بدور ايجابي في إنهاء النزاع العراقي-الإيراني.
إما الفصل الثاني من الكتاب، فقد ركز من خلاله الباحث العلاف، على موقف تركيا وحرب الخليج الثانية من خلال الطموحات التركية المتعلقة بالقيام بدور اكبر في المنطقة ومن خلال الضغط الأمريكي على الحكومة التركية للانضمام إلى تحالف سريع التشكيل ضد العراق في إعقاب إحداث الثاني من آب 1990، وكذلك من خلال ضغط المعارضة التركية وخاصة المتمثلة بالجيش والأحزاب السياسية الرئيسة والداعية إلى منع أي تورط تركي في الحرب، إلا إن سرعان ما أعلنت الحكومة التركية عن استعدادها لإرسال قوات تركية إلى منطقة الخليج العربي بحجة الإسهام في تطبيق قرار الحصار الاقتصادي على العراق الصادر من مجلس الأمن،وسمحت للطائرات الأمريكية باستخدام قاعدتي (انجر ليك وباطمان) في العمليات العسكرية ضد العراق.
إما الفصل الثالث فقد تناول الباحث العلاف السلوك السياسي الخارجي التركي تجاه العراق بعد حرب الخليج الثانية حيث اتضح هذا السلوك في موقف اتسم القليل منها بالايجابية وتركز في تأكيد الأتراك على إن تركيا تخسر كثيرا بسبب الحصار المفروض على العراق منذ نهاية سنة 1990 إلا إن الكثير من تصرفات تركيا كما أشار الباحث كشفت عن سلوكيات وتصرفات لاتخدم بأي حال من الأحوال مستقبل العلاقات العراقية التركية، وقد حاول الدكتور العلاف في هذا الفصل، تحسس ما في السلوك السياسي الخارجي التركي في مكامن وبؤر التقاطع والتضاد تجاه العراق ومنها مواقف تركيا تجاه منطقتي الموصل وكركوك، وادعاء تركيا لحماية تركمان العراق، والأنشطة التركية في كردستان العراق، ومن ثم الاجتياح المستمر للأراضي العراقية في شمال العراق ، واستخدام مسألة المياه للضغط على العراق وسوريا معا .ويجد المؤلف إن المستقبل قد يحمل قدراً من التنسيق بين العرب لمواجهة المخاطر والتحالفات ، وعندئذ تتحمل تركيا المسؤولية الكاملة عن الإعمال بغض النظر عن الذرائع التي تدعيها. ويبقى منطق الحوار والتصالح واحترام حقوق الجيرة الحسنة والتنسيق مع دول الجوار بما يحقق الأمن الحدودي والتفاهم والرؤية المتوازنة والموضوعية لمشاكل المنطقة وكيفية معالجتها هو الأسلوب الأمثل الذي يصب في مصلحة الطرفين.
ويتناول الباحث العلاف في الفصل الرابع من كتابه (نحن وتركيا) الموقف التركي من مشروع العقوبات الأمريكية البريطانية على العراق عام 2001، حيث اتفق المراقبون على إن خيبة الأمل الكبيرة التي صادفها وزير الدفاع الأمريكي من تركيا هي التي تعلقت بالملف العراقي عندما سمع رئيس الوزراء التركي أجاويد ما أصابه بالصدمة إذ قال له :" إن نظام العقوبات لم يجد فتيلاً على مدى السنوات العشر الماضية، وانه أحرى بكم إن تدخلوا في حوار مع بغداد، وان تطرحوا أفكارا جديدة، فيما نقلت أجهزة الإعلام عن إسماعيل جم وزير الخارجية التركي آنذاك:"إن تركيا تأخذ بعين الاعتبار السياسات الأمريكية المتعلقة بالعراق، لكنها ستتحرك وفقاً لمصالحها، وان تركيا ستفتح معبراً حدوديا ثانياً مع العراق، وان هذا موشرا على تحسن العلاقات بين تركيا و العراق، حيث إن الأمر كما أشار جم يصب مباشرة في مصلحة البلداني ، وقد علق احد المراقبين على قول جم :" إن الولايات المتحدة الأمريكية حليفة تركيا في حلف شمال الأطلسي تنظر إلى الخطوات التركية بتحسن العلاقات مع العراق بقدر كبير من القلق.
أما في الفصل الخامس من الكتاب، فقد تناول فكرة المنطقة الأمنية العازلة على الحدود العراقية التركية ومخاطرها على الأمن الوطني العراقي ،ففي الثاني من أيلول عام 1996 دعت تانسو جيللر نائبة رئيس الوزراء ووزيرة الخارجية التركي آنذاك العراق إلى سحب قواته من شمالي العراق فوراً، حفاظا على السلام في المنطقة، وختمت تصريحها للصحفيين بالقول:" إن تركيا تسعى للحفاظ على ما أسمته سلامة (شعوب) العراق من كرد وترك وعرب، ولكن هذا لايعني أن تركيا تسمح بإقامة كيان كردي مستقل في شمالي العراق، ونوهت الوزيرة حسب ما جاء في الفصل بان الصراع بين الحزبين الكرديين سيكون في صالح عناصر حزب العمال الكردستاني الذي سوف يشدد هجماته على المصالح التركية انطلاقاً من قواعده التي أنشأها في شمالي العراق.
وفي الرابع من أيلول من العام نفسه أي بعد يومين من تصريح جيللر نقلت هيئة الإذاعة البريطانية باللغة العربية أخبارا عن مسؤولين أتراك يدعون إلى إنشاء منطقة عازلة في شمالي العراق، ويقول انه إجراء امني وليس ضرباً من ضروب الاحتلال، وأكدت الإذاعة أن جيللر قالت:" أن تركيا تستعد لدخول العراق لمنع الانفصاليين من عناصر حزب العمال الكردستاني في شن هجمات على المصالح والمؤسسات والأراضي التركية، وقد أطلقت تركيا فكرة جديدة تقوم على أساس إنشاء نظام متطور للمراقبة الالكترونية على حدودها مع العراق، وقالت جيللر : إن حدونا مع العراق تمر في منطقة جبلية يمكن عبورها بسهولة وقد رفض العراق الإجراءات العسكرية التركية على الحدود العراقية لأنها بنظرة، تعد تصرفا غير مبرر كلياً إلى جانب كونه انتهاكا لسيادة العراق ووحدة أراضيه ، وقال متحدث باسم وزارة الثقافة والإعلام العراقية بان تركمان العراق يحظون بالرعاية الكاملة ويتمتعون بحقوقهم. وأكد سفير العراق في أنقرة رفض العراق قاطعا لما تحدثت عنه تركيا بإقامة مايسمى بالمنطقة الأمنية العازلة،موضحا إن عودة سيادة العراق على شماله ستنهي المشاكل الأمنية في المنطقة، وأكد على ضرورة إجراء مباحثات سياسية وحوار عميق على مستوى رفيع بين البلدين لتطوير العلاقات وحل المشاكل.
فيما أشار الباحث العلاف في الفصل السادس من الكتاب إلى السلوك السياسي الخارجي التركي تجاه العراق بعد 9 نيسان عام 2003، حيث رفضت الحكومة التركية أي مشاركة عسكرية لها في الحرب على العراق، كما رفض البرلمان التركي الذي كان يسيطر عليه نواب حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب اردوغان أن تنطلق القوات الأمريكية الجوية من الأراضي التركية، وقيل ان تركيا قاومت الضغوط الأمريكية حيث عرضت عليها مليارات الدولارات إن هي أسهمت في الحرب، حيث أعلن اردوغان عشيه الحرب:" لقد أغلقنا ملف التعاون مع الولايات المتحدة في الحرب ضد العراق. وقد جاء الرفض التركي على خلفية أمرين مهمين كما يشير الدكتور العلاف اولهما: سعي حكومة حزب العدالة والتنمية لتشكيل موقف عربي وإقليمي يمنع خيار الحرب، وثانيهما تصاعد المعارضة الشعبية التركية ضد خيار الحرب.
وفي المجال المائي فقد افرد الباحث العلاف الفصل السابع عشر من كتابة (نحن وتركيا) للحديث عن سد ايليسو التركي وتأثيره على البيئة والمحيط والإنسان في كل من العراق وتركيا، حيث أن هذا السد يقع على نهر دجلة وهو احد المشاريع الثلاثة عشر التي تولد الكهرباء بالقوة المائية التي تعتزم الحكومة التركية أقامتها على نهري دجلة والفرات، وسد ايليسو هو احد مشروع جنوب شرقي الأناضول المعروف (مشروع الغاب) ويقع قرب الحدود السورية العراقية وقد تعرض مشروع السد إلى انتقادات لاذعة من لدن أنصار البيئة الذين أكدوا بأنه سيؤثر على معيشة أكثر من ستين ألف شخص يعيشون على ضفاف نهر دجلة في كردستان تركيا، كما عبرت الكثير من المخاوف من أن بناء هذا السد سيؤدي إلى انخفاض كبير في منسوب المياه في نهري دجلة وقد أكدت الحكومة التركية أن تطوير المزارع وتوسيع الأراضي المروية ضمن مشروع الغاب سيؤدي إلى إنقاص كمية المياه في دجلة إضافة إلى ما ستترتب على ذلك من حدوث تلوثات خطيرة ونقص في قدرة توليد الطاقة، مما سيؤثر سلباً في اقتصاد العراق.
كما أشار المؤلف العلاف في الفصل التاسع عشر إلى تنامي القدرات العسكرية وتأثيرها على الأمن الوطني العراقي حيث تنامت قوة الجيش التركي وازداد حجمه خلال السنوات العشر التي أعقبت مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وأقامت تركيا برنامجا واسعا للصناعات العسكرية بما ينسجم مع التوجهات السياسية لتركيا حيث إن القوات المسلحة التركية الكبيرة اليوم تعد الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وكرست التفاعلات العسكرية بين العراق وتركيا حالة الخلل القائم لصالح تركيا في موازين القوة العسكرية من جهة أخرى، وقد ظهر ذلك واضحا في سلسلة الاختراقات والضغوط التركية على العراق، وما رافق ذلك من دعوات لتعديل رسم الحدود مع العراق والمطالبة بمنطقة الموصل_كركوك وذلك من جراء الخلل الحاصل في الميزان الإستراتيجي في المنطقة الذي أدى إلى ترك فراغ امني واتاح فرصة واسعة لتركيا في التحرك وممارسة نفوذها.
وفي الفصل (العشرون) أوضح المؤلف المؤشرات العامة عن الاقتصاد التركي في ظل الحصار على العراق حيث أن هذا الحصار قد أسهم بشل الحركة الاقتصادية في جنوب شرق تركيا، وخلق، برأي السلطات التركية، تربة خصبة لانتشار أعمال العنف وانتهاك القانون لكونه قد أدى إلى انتشار البطالة، مما جعل تركيا تتحمل من جراء الحصار أعباء اقتصادية أثرت على معدلات النمو فيها وزادت من أعداد البطالة وارتفعت معدلات التضخم فيها من جراء فقدان فرص كانت ستحقق لتركيا في ظل غياب الحصار الذي هو حصار على تركيا والشعب التركي إلى جانب كونه حصاراً على العراق والشعب العراقي.
لقد افرد المؤلف تسعة فصول من أصل واحد وعشرين فصلاً ضمنها الكتاب الحديث عن الرؤية التركية العراقية،وماعدا ذلك فان الفصول المتبقية وعددها اثني عشر فصلاً فتناولت المؤشرات العامة عن الاتفاق العسكري التركي _الإسرائيلي ومدى مخاطره على الأمن القومي العربي من خلال نصف قرن من تاريخ العلاقات التركية الإسرائيلية، كما تناولت القومية كبديل للخلافة من خلال تغيير مفهوم الأمة في تركيا، ودور الماسونية في الحياة الاجتماعية والسياسية التركية المعاصرة وكذلك الحركة النورسية في تركيا المعاصرة وخارطة الحركات الإسلامية في تركيا ومستقبلها وموقف تركيا من الحرب الأمريكية على أفغانستان، ومشروع مياه السلام التركي من خلال أهدافه المعلنة وأثاره على مستقبل المصادر المائية في الوطن العربي، واختتم المؤلف كتابه بالفصل الحادي والعشرين الذي حمل عنواناً واسعاً (تركيا والأمن الإقليمي) أشار فيه إلى أن على تركيا لكي تقوم بما ينبغي عليها أن تقوم به من مهام تساعد في تحقيق الأمن الإقليمي،فان ذلك لايكون بإظهار السلوك السلبي، وليس بالاندفاع لتوثيق علاقاتها مع إسرائيل وإصرارها على إيذاء العراق ورفضها الجلوس مع العراقيين والسوريين لحل مشكلة اقتسام المياه، بل لابد تركيا السعي باتجاه عدم نسيان التاريخ والجغرافية ، ورفض انسلاخها من موقعها، وهذا لايتحقق إلا عندما تنأئ تركيا بنفسها عن السياسة الأمريكية لكي تتمكن من الإسهام الفاعل في حماية الأمن والاستقرار في المنطقة وان تواجه التهديدات الأمريكية للعراق وغيره من الدول بموقف حكيم ومتوازن.
كما أسلفنا، فأن الكتاب سد فراغاً كبيراً في المكتبة الوثائقية والتاريخية والسياسية لما احتواه من معلومات عالية الدقة يحتاجها الباحثون والكتاب والدارسون الأكاديميون لتغذية مشاريعهم الكتابية واطروحاتهم ورسائلهم الجامعية، كما يحتاجها المثقف العراقي بشكل خاص وعموم المثقفين العرب، بالقدر الذي يحتاجها المثقف التركي فيما لو تم ترجمتها إلى اللغة التركية أو إلى كل اللغات السائدة في دول آسيا الوسطى والبلقان.
***********************************************
*المقال الأخير للكاتب والأديب والصحفي المبدع الأستاذ عبد الوهاب ألنعيمي وقد كتبه قبل يوم من وفاته يوم 11 حزيران 2009 ولم يتسن له نشره وقد زودني به ولده (عدي ) رحم الله ألنعيمي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق