الاثنين، 5 مايو 2014

*نادي هوانم بغداد في عمّان بقلم :الاستاذ علي شاكر* * مؤلف كتاب A Muslim on the Bridge (Signal 8 Press, 2013)

*نادي هوانم بغداد في عمّان

 بقلم :الاستاذ علي شاكر*
* مؤلف كتاب A Muslim on the Bridge
(Signal 8 Press, 2013)
باتت الظاهرة تستفزني الى درجة لم أعد أحتمل معها السكوت وغض السمع والبصر كما كنت أفعل عقب كل زيارة لي الى العاصمة الأردنية خلال السنوات الست الماضية، في كل مرة كنت أعقد العزم على الكتابة ثم أتراجع بعد أن أواجه نفسي بأسئلة من قبيل "ألا يحق لسيدات بغداد المهاجرات أن يوجدن لأنفسهن مساحة من الفرح بعد عقود من الحروب وبعد أن غاب الأمل أو كاد في العودة الى المدينة التي ظنن أنهن سيعشن فيها مع أحبابهن حتى اخر العمر؟ أيعيب السيدة في العقد السادس أو السابع أو الثامن من عمرها أن ترقص مع رفيقاتها حتى وان تزامن ذلك مع تساقط العشرات بل المئات من القتلى والجرحى في العراق وفي سوريا التي يملأ لاجئيها المخيمات ويعانون من شظف العيش وشحة المياه والدواء والخدمات؟ ألا نغبط اللبنانيين على قدرتهم العجيبة على تجاوز المحن المتعاقبة فيهز دوي الانفجارات مدنهم في النهار وتختلط فيها أشلاء الضحايا مع هشيم الزجاج والدخان ثم تمتلئ مرابعهم بالساهرين الراقصين في الليل؟ ما خطيئة أن يسعد المرء أو أن يوهم نفسه بالسعادة عندما يخيم السواد الحالك على واقعه اليومي طالما أنّه لا يؤذي أحدا أو يتجاوز على حقوق أحد؟ إجابة السؤال الأخير هي بالتحديد التي دفعتني الى الكتابة عما كنت أتحاشى الخوض فيه لفترة طويلة
لفت انتباهي اسم السيدة الذي ردده سائق التاكسي الأردني وهو يحادث على موبايله سيدة عراقية كانت تحاول أن تدله على موقع شقتها المجاورة لشقة السيدة الأولى التي كانت من زبوناته، كنت أعرفها جيدا، فهي صديقة لوالدتي وزوجها الراحل كان صديقا لوالدي أيضا، لكني بقيت صامتا ولم أعلق بشيء حتى انتهى السائق من حديثه ثم قال: "يا زلمة عجيب أمر هؤلاء النسوة، أصغرهن في السبعينات من عمرها ومع ذلك تحتفل بعيد ميلادها خمس مرات في السنة! لا يكللن ولا يمللن من تلبية دعوات الفطور والغداء والعشاء في بيوتهن أو في المطاعم التي يحجزنها ويصررن على وجود مطرب وراقصة فيها، أو حتى دي جي يقوم بتهيئة الأغاني التي يفضلن الرقص على أنغامها قبل وبعد تناول الطعام، الأدهى والأمر أنهن لا يكففن عن اغتياب صاحبة الدعوة في طريق الذهاب والإياب، أسمعهن بأذنيّ هاتين ثم أشاهدهن وهن يقبلنها ويحتضنها كأنها فرد من أفراد عائلتهن!"
لم يدهشني حديث سائق التاكسي فأخبار الحفلات النسائية كانت تفرض نفسها فرضا على حواراتنا في كل لقاء لي مع أصدقائي في عمان، أنا لا أتحدث هنا عن زوجات رجال الأعمال والأحزاب من العراقيين الذين يتملّكون العقارات الباهظة الأثمان ويقيمون المشاريع السياحية والصناعية والتجارية في طول الأردن وعرضه، فأولئك وثرواتهم المسروقة ونمط حياتهم المشين قصة أخرى كنت قد تناولتها في مقال بعنوان "شهريار، ثري حرب" قبل سنوات قليلة، السيدات اللاتي أعنيهن هن من الطبقة البغدادية الوسطى، أو ما يصطلح على تسميته بأعلى الوسط رغم تحفظي على التقسيمات الطبقية للمجتمعات بشكل عام، لكنهن في المجمل سيدات حاصلات على شهادات جامعية، ربات بيوت أو متقاعدات، في بحبوحة من العيش، أرامل أو يوشكن على الترمّل، في تلك المرحلة من العمر التي يصبح الزوج فيها كقطعة أثاث متهرئة قد لا يكون الاستغناء عنها فكرة سيئة على الاطلاق!
ليس من الضرورة أن تكون هناك مناسبة تستدعي الاحتفال بها، كثيرا ما يحدث أن تقوم السيدات بجمع المال لتأجير عاملات اسيويات يقمن على خدمتهن في شقة واحدة منهن، ويجلبن دي جي، لزوم الطرب والرقص، ثم يتشاركن ثمن الطعام الذي يقمن بالتوصية عليه من أحد المطاعم أو محلات التجهيزات الغذائية الكثيرة التي تملأ المدينة ... من الطبيعي ربما أن يتساءل المرء عن طبيعة الرابط الذي يجمع بين السيدات المحتفلات، هل هن صديقات صدوقات يتمنين الخير لبعضهن البعض ويقفن مع بعضهن البعض في أوقات الرخاء والشدة؟ مع الأسف، هن أبعد ما يكن عن ذلك، وأنا لا أتحدث هنا عن حفلات الأعراس أو مجالس العزاء التي صارت مناسبات للتسلية وتبادل النميمة، فتلك يحرص الجميع على التواجد فيها، لكنني عندما سألت عن سيدة مسنة أعرفها كي أقوم بزيارتها والاطمئنان عليها، اكتشفت أن لا أحد يعلم عنها شيئا منذ أن أقعدها المرض عن إقامة الولائم وتلبية الدعوات، لم يكترث أحد بزيارتها أو السؤال عنها بالتلفون، لا يعرفون حتى ان كانت لا تزال على قيد الحياة أم توفت!
فماذا إذا؟ أية متعة تجدها السيدات البغداديات في التزيّن والتنقّل بين شقة وأخرى ومطعم واخر للقاء صديقات لسن بالصديقات؟ أية لذة في التمايل على نفس الايقاعات الصاخبة والأصوات النافرة في كل مرة، وتناول نفس أصناف الطعام وتبادل النميمة عن الحاضرات والغائبات ثم العودة الى البيوت في نهاية اليوم؟ ألا يزهقن من تكرار نفس الروتين مرة تلو الأخرى؟ ألا يخطر على بال احداهن أن تقوم بأمر ذي قيمة وجدوى؟
قيل لي بأن هناك سيدة عراقية مقيمة في عمان أخذت على عاتقها جمع التبرعات للمساعدة في علاج المرضى من المعوزين في المستشفيات الأردنية، لكن رسائلها التي كانت تبعثها الى السيدات الأخريات كي تحضهن على مد يد العون والتبرع كان يتم حذفها بمجرد وصولها الى صناديق بريدهن الإلكتروني ... "قلوبنا خلصت من الهم، يكفينا ما مررنا به، لسنا بحاجة الى المزيد من الكآبة وقصص الأطفال المرضى بالقلب والفشل الكلوي والسرطان،" قالت لي واحدة من السيدات عندما اقترحت عليها القيام بأعمال تطوعية على هامش لقاءاتهن الدورية كما اعتادت أن تفعل سيدات بغداد في الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن المنصرم
لست ضد أن يبحث الناس عن البهجة حتى في أحلك الظروف وأشدها قتامة فالحياة يجب أن تستمر ولا جدوى في البكاء على الأطلال، لكن المتعة والترفيه ليسا بالضرورة مرادفين للسطحية والنفاق وتغييب الفكر خصوصا وأنّ عمان، بالرغم من ضغوط الوضع الاقتصادي المتردي والاضطراب الأمني في دول الجوار، تكاد تكون من أنشط العواصم العربية على الصعيد الثقافي، فقلما يمر يوم فيها دون افتتاح معرض تشكيلي جديد أو إقامة ندوة أدبية أو أمسية موسيقية أو سواها من المناسبات كمهرجانات الأفلام والتصوير الفوتوغرافي أو حتى نوادي السينما والكتب التي باتت ظاهرة منتشرة بشكل ملفت للانتباه ... معظم تلك الفعاليات مجانية والقليل منها فقط يتطلب دفع اشتراكات سنوية أو شراء تذاكر بأسعار زهيدة، بالرغم من ذلك، فأن سيدات بغداد يعزفن عن حضور أي منها
من الجدير بالذكر أن الاجتماعات النسائية أو الرجالية المغلقة ليست غريبة عن مجتمع بغداد التقليدي، في حقيقة الأمر ان المناسبات الاجتماعية المختلطة تزامن ظهورها وانتشارها مع ما اصطلح على تسميته بنهضة العراق المعاصرة في مطلع القرن العشرين عندما لم يعد مقبولا أن تظل المرأة حبيسة دارها، محجوبة عن السمع والأبصار، تلك المرحلة المضيئة شهدت خروج النساء الى مضمار الحياة العامة وحصولهن على مؤهلات جامعية مرموقة وتقلدهن مناصب ريادية في مختلف الميادين، فتعيّنت أول طبيبة عراقية في وزارة الصحة في نهايات الثلاثينات كما برز في نفس تلك الفترة جيل من القانونيات والصحفيات والعالمات والأديبات والفنانات والسياسيات الناشطات حتى أن أول امرأة تتقلّد منصبا وزاريا في العالم العربي في الخمسينات كانت من العراق
كيف إذا ومتى حصلت الكبوة التي عادت بالمرأة العراقية الى محبسها القديم، ملغية عقودا من تأثيرها الفاعل في مجتمعها ومختصرة اهتماماتها في الحياة في الزينة والملبس وإقامة الولائم وتناقل النمائم؟ بل لعل السؤال الأهم يكون هل أن العودة طوعية أم قسرية؟ هل هي فعل استسلام ويأس من التغيير أم غضب أم تخدير للوعي؟ لا أزعم بأني أستطيع الإجابة على تلك الأسئلة التي تؤرقني كعراقي شهد الانحدار المؤسف ويقف اليوم عاجزا ازاءه فالأمر بحاجة الى بحث وتحليل معمّق من قبل المختصين في علم الاجتماع، لكنني أجزم بأن الحروب المتتالية وغياب الأمن والاستقرار والمد الديني الذي اجتاح البلد في العقدين الأخيرين، كلها عوامل تركت تأثيرها على وضع المرأة العراقية وسلبتها بالتدريج الكثير من حقوقها التي ناضلت من أجلها طوال عقود
كما ذكرت في بداية المقال، لا يحق لي أو لأحد سواي التدخل في الطريقة التي يراها أي شخص، رجل كان أو امرأة، مناسبة للترويح عن النفس طالما أنها لا تعتدي على حرية وحقوق الاخرين، لكن الخط الأحمر قد تم تجاوزه مرارا كما أكد لي سائق التاكسي قبل وصولي الى الفندق الذي كنت أقيم فيه ... "أعرف سيدة عراقية اشترت شقة أرضية في عمارة في حي سكني راق، ما أن انتقلت اليها حتى بدأت الزائرات بالتوافد عليها وتوالت الولائم والحفلات، بعد أسابيع قليلة نفد صبر الساكنين في البناية على جارتهم الجديدة بعد أن استحال عليهم النوم بسبب ضجيج الأغاني المنبعث من شقتها طوال الليل، فذات ليلة وبينما كانت وضيفاتها يتراقصن في الحديقة، انهالت عليهن الكراسي البلاستيكية من الطوابق العليا مع سيل من المياه الباردة والشتائم ثم تم استدعاء الشرطة التي جعلت الجارة الطروب تتعهّد خطيا في المخفر بالامتناع عن ازعاج الساكنين بصخب حفلاتها!" لم أتمالك نفسي من الضحك على كوميدية الموقف عندما أنهى السائق روايته، بالفعل، فان شرّ البلية ما يضحك!
*وصلني المقال من الصديق الاستاذ فاروق زيادة السفير العراقي الاسبق ووجدت المقالhttp://www.alaalem.com/index.php?news=%E4%C7%CF%ED+%E5%E6%C7%E4%E3 منشورا في

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

هويتي في مكتبة المتحف البريطاني 1979 ...............ابراهيم العلاف

  هويتي في مكتبة المتحف البريطاني 1979 ومما اعتز به هويتي هذه الهوية التي منحت لي قبل (45) سنة أي في سنة 1979 ، وانا ارتاد مكتبة المتحف الب...