هذه قصة دخول المطبعة إلى المغرب
زارها الفاسي في القاهرة وكتب عنها الصفار من باريس وطلب العمراوي من السلطات إدخالها
العدد :2365 - 04/05/2014
إدريس الكنبوري
المطبعة لم تدخل المغرب إلا في وقت متأخر، قياسا مع تركيا وبلدان المشرق العربي، وتحديدا في عهد المولى محمد بن عبد الرحمان(1859-1873) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. إلا أن هناك أدلة تثبت بأن المغاربة تعرفوا على الطباعة قبل تلك الفترة بوقت طويل، من خلال الحجاج والعلماء المغاربة الذين كانوا يمرون ببعض بلدان المشرق في طريقهم إلى الحجاز، وخاصة مصر، حيث كانوا يعودون من رحلاتهم بالكتب المطبوعة، وكان بعض هؤلاء العلماء يحمل معه كتبه إلى القاهرة لطبعها هناك، نظرا لغياب الطباعة بالمغرب.
ويبدو أن بعض المغاربة الذين كانوا يزورون بلدان المشرق قد تعرفوا على المطبعة في وقت مبكر، حتى قبل أن تعرفها الدوائر الرسمية في الدولة. إذ تسجل الوقائع أن عالما مغربيا يدعى الشيخ محمد الفاسي زار المطبعة التي جاء بها نابليون إلى مصر أثناء غزوه لها، ضمن واحدة من الزيارات التي كان نابليون حريصا على تنظيمها لفائدة العلماء والمشايخ المصريين والعرب لإطلاعهم على المطبعة كآخر إنتاجات الحضارة الغربية، من أجل تسويغ الغزو الفرنسي بوصفه وسيلة لإدخال مخترعات الحضارة الأوروبية الحديثة. فقد كان هؤلاء المشايخ والعلماء «يزورون المطبعة الوطنية التي يديرها مارسيل، ويتردد عليها المهدي والفيومي والصاوي عدة مرات، ويندهش الشيخ محمد الفاسي، الذي عرف مطبعة القسطنطينية، وعدد من السوريين الذين شهدوا مطبعة كسروان في لبنان، من سرعة ودقة العمال الفرنسيين «. وقد وردت الإشارة إلى اسم الشيخ محمد الفاسي في جريدة فرنسية كانت تصدر بالقاهرة عام 1799 اسمها «بريد مصر»، جاء فيها أن حكومة نابليون وجهت الدعوة «لمجموعة من خيرة العلماء أمثال المهدي والصاوي لمشاهدة آلة الطباعة ذات الحروف العربية والفرنسية المتحركة التي أنشئت حديثا بالقاهرة، وكان من أبرز المدعوين الشيخ محمد الفاسي الذي بادر إلى الإشارة معلقا بأنه قد شاهد أيضا آلة الطباعة الموجودة في اسطنبلون، غير أنه يميل إلى الاعتقاد بأن مثيلتها في القاهرة تتميز عنها بسرعتها الفائقة وإنتاجها لكتب أرفع جودة»، بيد أن هوية هذا الرجل ظلت مجهولة، إذ لا يعرف هل كان واحدا من المسافرين العابرين أم كان مغربيا مقيما في الديار المصرية، وهل يتعلق الأمر بواحد من العلماء بالفعلـ وهذا مستبعد لكون المصادر لم تتطرق إلى عالم بهذا الاسم زار مصر في تلك الفترة وتعرف على المطبعة الوطنية ـ أم بمواطن مغربي أضيفت إليه النسبة إلى فاس لكونه ينحدر من المغرب، وفاس آنذاك معروفة في الأوساط المشرقية بجامعتها القرويين إضافة إلى أنها عاصمة المملكة الشريفية؟.
الصفار والمطبعة الفرنسية
غير أن المطبعة الفرنسية في مصر لم تثر اهتماما لدى المغاربة خلال مرحلة القرن الثامن عشر، بالرغم من أنهم كانوا على صلة وثيقة بتطورات الأحداث في أرض الكنانة، وكان هناك عدد كبير من العلماء الذين قاموا بالتدريس في الجامع الأزهر ولهم أروقة خاصة بهم فيه، كما برز علماء كثيرون في المغرب يدعون إلى الجهاد إلى جانب المصريين لقتال الفرنسيين. وكان يتوجب انتظار النصف الأول من القرن التاسع عشر لكي تظهر أول إشارة إلى المطبعة بشكل رسمي لدى أحد موظفي المخزن، وهو محمد الصفار الذي رافق عامل السلطان مولاي عبد الرحمان على تطوان، عبد القادر أشعاش، في رحلته السفارية إلى فرنسا عام 1845 بأمر من السلطان الذي طلب منه اختيار»عالم يقيم أمر الدين من صلاة وقراءة»، فوقع اختيار أشعاش على الصفار.
تعتبر رحلة الصفار أول وثيقة لعالم مغربي يتحدث عن المطبعة في القرن التاسع عشر، وبالنظر إلى الشخصية المزدوجة للصفار كموظف مخزني من جانب وعالم دين من جانب ثان فإن ما كتبه حول المطبعة، التي خصص لها قرابة سبع صفحات من رحلته متفوقا بكثير على جميع الرحالة السفاريين الذين تحدثوا عن نفس الموضوع، يستحق أن يكون نافذة نطل منها على الانشغالات التي كان يتهمم بها المخزن والعلماء اتجاه المخترعات الغربية، كوسيلة للاندماج في الحضارة الحديثة والأخذ بسبل التقنية. لقد درس الصفار، الذي ولد بتطوان، على يد كبار مشايخ عصره حيث تلقى العلوم الدينية، ثم رحل إلى فاس لكي يتابع تعليمه في القرويين، حيث حصل على الأدوات الشرعية التي أهلته لكي ينخرط في زمرة العلماء، وبعد استكمال تعليمه اشتغل عدلا بمسقط رأسه، وكان إلى جانب ذلك يقوم بتدريس علوم الحديث والفقه بمساجد تطوان، ثم تعرض لضغوط لكي يدخل في خدمة باشا المدينة عبد القادر أشعاش، وبهذه الصفة رافق هذا الأخير في رحلته إلى فرنسا. وبعد عودته من الرحلة انهمك في كتابة تقرير مفصل عنها لرفعه إلى السلطان المولى عبد الرحمان(1822-1859)، وبعد محنة قصيرة اجتازها بسبب غضبة السلطان على الباشا التي مسته من قريب بسبب ارتباطه به، دخل في خدمة المخزن على المستوى المركزي، حيث عين في البلاط السلطاني لكي يشغل بعد ذلك منصب الصدر الأعظم، الأمر الذي جعله قريبا من الدائرة السلطانية وسمح له بتطبيق بعض الإصلاحات التي كان يرى ضرورة إدخالها في جسم الدولة، مثل إحداث منصب وزير الشكايات الذي تم تكليفه بمهمته.
توسع الصفار في وصف المطبعة، التي أطلق عليها اسم «دار الاصطنبا» و»آلة الكتابة»، بحيث تطرق إلى جميع مراحل عملية طبع الكتب من البداية إلى النهاية بشكل دقيق، واعتبر ذلك الاختراع» من أعاجيب الصنائع». ولكن ما يهمنا نحن هنا هو هل كانت زيارة المطبعة مبرمجة للوفد المغربي سلفا، أم أنها جاءت لاحقا باقتراح من الصفار خلال تواجده في باريس أم كانت من اقتراح الجهة المضيفة؟ ، ذلك أن مثل هذا السؤال من شأنه أن يطلعنا على وجود وعي لدى الدوائر المخزنية المغربية بالمطبعة ومعرفتها بها. وعلى الرغم من أن الرحلة لا تشير إلى ذلك إلا أنه يسهل الافتراض بأن اقتراح زيارة المطبعة جاء من الجانب الفرنسي، لأن الفرنسيين كانوا مهتمين بإطلاع الوفود العربية على مخترعاتهم الجديدة ومنها المطبعة، كما حصل بالنسبة لمصر. وبوسعنا أن نستنتج، دون صعوبة، أن الصفار، ومن ورائه الدوائر المخزنية، لم يكن على اطلاع على المطبعة حتى ذلك الحين، لأن توسعه في وصف جميع الجزئيات وتعبيره عن الاندهاش من الاختراع الجديد يدلنا على أن ذلك الاختراع لم يكن معروفا من قبل في المغرب.
العمراوي يناشد السلطان اقتناء المطبعة
وإذا كان الصفار قد دخل في خدمة المخزن وأصبح داخل دواليب الدولة فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا لم يعمل على إقناع الدولة بجلب الاختراع الجديد إلى المغرب؟. الواضح أن هناك عدة أسباب يمكن أن تكون وراء عدم مبادرة السلطان إلى اقتناء المطبعة في تلك الفترة. لقد كانت مرحلة حكم المولى عبد الرحمان بن هشام مرحلة قلقة كان خلالها المغرب موضع تحرشات كثيرة من الخارج وأزمات في الداخل بعضها يشد برقاب بعض، بحيث تكثفت الضغوط على المخزن من أجل إبرام معاهدات تجارية مجحفة مع بعض الدول الأوروبية أرهقت ميزانية الدولة. وقد فتحت فرنسا التي كانت متواجدة في الجزائر جبهة ضد المغرب مما أدى إلى موقعة إيسلي الشهيرة عام 1844 التي كانت بداية تفكك الدولة المغربية. ولعل هذه الأسباب من جملة الدوافع التي يمكن أن تكون قد حالت دون اقتناع المخزن في ذلك الوقت بتخصيص المغرب بمطبعة.
غير أن السلطان الجديد، محمد بن عبد الرحمان، سوف يظهر أكثر إصرارا على اقتناء التقنيات الأوروبية الحديثة ومن جملتها المطبعة، إذ أوفد، حال تنصيبه خلفا لوالده، سفارة إلى نابليون الثالث إمبراطور فرنسا لتهنئته، يرأسها وزيره ادريس محمد بن ادريس العمراوي. كان العمراوي، مثله في ذلك مثل الصفار، موظفا مخزنيا ولعب دورا أساسيا في توجيه سياسة المخزن وإدارة شؤونه، كما كان معدودا ضمن فئة العلماء، إذ كتب عنه أكنسوس في»الجيش العرمرم» متحدثا عن سفارته:»وقد وجه مولانا نصره الله كاتبه الفقيه الأديب الصادق، الأمين الحازم الناظم الناثر، الحسيب الأديب، سيدي الحاج ادريس بن الوزير الأعظم الأجل الأكرم العلامة سيدي محمد بن ادريس في هذه القضية وفي غيرها من شؤون المملكة».
سجل العمراوي في رحلته «تحفة الملك العزيز بمملكة باريز» مشاهداته في العاصمة الفرنسية عام 1859 ووقف على أهمية المطبعة التي وصفها بأنها «معينة على تكثير الكتب والعلوم وأثرها في ذلك ظاهر معلوم». ولكن بخلاف الصفار الذي اكتفى بوصف محايد للمطبعة، أرفق العمراوي تقريره عن الرحلة بمناشدة موجهة إلى السلطان، يطلب منه فيها إدخال هذا الاختراع الجديد إلى المغرب، حيث قال: «ونطلب الله بوجود مولانا الإمام أمير المؤمنين أن يكمل محاسن مغربنا بمثل هذه المطبعة ويجعل في ميزان حسناته هذه المنفعة»، ولعل هذه المناشدة لقيت ترحيب السلطان الذي سارع إلى توجيه بعثة علمية إلى مصر في عهد سعيد باشا، ضمت شخصين، الأول من أجل تعلم صناعة البارود والثاني لتعلم صناعة الطباعة.
تعتبر رحلة الصفار أول وثيقة لعالم مغربي يتحدث عن المطبعة في القرن التاسع عشر، وبالنظر إلى الشخصية المزدوجة للصفار كموظف مخزني من جانب وعالم دين من جانب ثان فإن ما كتبه حول المطبعة، التي خصص لها قرابة سبع صفحات من رحلته متفوقا بكثير على جميع الرحالة السفاريين الذين تحدثوا عن نفس الموضوع، يستحق أن يكون نافذة نطل منها على الانشغالات التي كان يتهمم بها المخزن والعلماء اتجاه المخترعات الغربية، كوسيلة للاندماج في الحضارة الحديثة والأخذ بسبل التقنية. لقد درس الصفار، الذي ولد بتطوان، على يد كبار مشايخ عصره حيث تلقى العلوم الدينية، ثم رحل إلى فاس لكي يتابع تعليمه في القرويين، حيث حصل على الأدوات الشرعية التي أهلته لكي ينخرط في زمرة العلماء، وبعد استكمال تعليمه اشتغل عدلا بمسقط رأسه، وكان إلى جانب ذلك يقوم بتدريس علوم الحديث والفقه بمساجد تطوان، ثم تعرض لضغوط لكي يدخل في خدمة باشا المدينة عبد القادر أشعاش، وبهذه الصفة رافق هذا الأخير في رحلته إلى فرنسا. وبعد عودته من الرحلة انهمك في كتابة تقرير مفصل عنها لرفعه إلى السلطان المولى عبد الرحمان(1822-1859)، وبعد محنة قصيرة اجتازها بسبب غضبة السلطان على الباشا التي مسته من قريب بسبب ارتباطه به، دخل في خدمة المخزن على المستوى المركزي، حيث عين في البلاط السلطاني لكي يشغل بعد ذلك منصب الصدر الأعظم، الأمر الذي جعله قريبا من الدائرة السلطانية وسمح له بتطبيق بعض الإصلاحات التي كان يرى ضرورة إدخالها في جسم الدولة، مثل إحداث منصب وزير الشكايات الذي تم تكليفه بمهمته.
توسع الصفار في وصف المطبعة، التي أطلق عليها اسم «دار الاصطنبا» و»آلة الكتابة»، بحيث تطرق إلى جميع مراحل عملية طبع الكتب من البداية إلى النهاية بشكل دقيق، واعتبر ذلك الاختراع» من أعاجيب الصنائع». ولكن ما يهمنا نحن هنا هو هل كانت زيارة المطبعة مبرمجة للوفد المغربي سلفا، أم أنها جاءت لاحقا باقتراح من الصفار خلال تواجده في باريس أم كانت من اقتراح الجهة المضيفة؟ ، ذلك أن مثل هذا السؤال من شأنه أن يطلعنا على وجود وعي لدى الدوائر المخزنية المغربية بالمطبعة ومعرفتها بها. وعلى الرغم من أن الرحلة لا تشير إلى ذلك إلا أنه يسهل الافتراض بأن اقتراح زيارة المطبعة جاء من الجانب الفرنسي، لأن الفرنسيين كانوا مهتمين بإطلاع الوفود العربية على مخترعاتهم الجديدة ومنها المطبعة، كما حصل بالنسبة لمصر. وبوسعنا أن نستنتج، دون صعوبة، أن الصفار، ومن ورائه الدوائر المخزنية، لم يكن على اطلاع على المطبعة حتى ذلك الحين، لأن توسعه في وصف جميع الجزئيات وتعبيره عن الاندهاش من الاختراع الجديد يدلنا على أن ذلك الاختراع لم يكن معروفا من قبل في المغرب.
العمراوي يناشد السلطان اقتناء المطبعة
وإذا كان الصفار قد دخل في خدمة المخزن وأصبح داخل دواليب الدولة فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا لم يعمل على إقناع الدولة بجلب الاختراع الجديد إلى المغرب؟. الواضح أن هناك عدة أسباب يمكن أن تكون وراء عدم مبادرة السلطان إلى اقتناء المطبعة في تلك الفترة. لقد كانت مرحلة حكم المولى عبد الرحمان بن هشام مرحلة قلقة كان خلالها المغرب موضع تحرشات كثيرة من الخارج وأزمات في الداخل بعضها يشد برقاب بعض، بحيث تكثفت الضغوط على المخزن من أجل إبرام معاهدات تجارية مجحفة مع بعض الدول الأوروبية أرهقت ميزانية الدولة. وقد فتحت فرنسا التي كانت متواجدة في الجزائر جبهة ضد المغرب مما أدى إلى موقعة إيسلي الشهيرة عام 1844 التي كانت بداية تفكك الدولة المغربية. ولعل هذه الأسباب من جملة الدوافع التي يمكن أن تكون قد حالت دون اقتناع المخزن في ذلك الوقت بتخصيص المغرب بمطبعة.
غير أن السلطان الجديد، محمد بن عبد الرحمان، سوف يظهر أكثر إصرارا على اقتناء التقنيات الأوروبية الحديثة ومن جملتها المطبعة، إذ أوفد، حال تنصيبه خلفا لوالده، سفارة إلى نابليون الثالث إمبراطور فرنسا لتهنئته، يرأسها وزيره ادريس محمد بن ادريس العمراوي. كان العمراوي، مثله في ذلك مثل الصفار، موظفا مخزنيا ولعب دورا أساسيا في توجيه سياسة المخزن وإدارة شؤونه، كما كان معدودا ضمن فئة العلماء، إذ كتب عنه أكنسوس في»الجيش العرمرم» متحدثا عن سفارته:»وقد وجه مولانا نصره الله كاتبه الفقيه الأديب الصادق، الأمين الحازم الناظم الناثر، الحسيب الأديب، سيدي الحاج ادريس بن الوزير الأعظم الأجل الأكرم العلامة سيدي محمد بن ادريس في هذه القضية وفي غيرها من شؤون المملكة».
سجل العمراوي في رحلته «تحفة الملك العزيز بمملكة باريز» مشاهداته في العاصمة الفرنسية عام 1859 ووقف على أهمية المطبعة التي وصفها بأنها «معينة على تكثير الكتب والعلوم وأثرها في ذلك ظاهر معلوم». ولكن بخلاف الصفار الذي اكتفى بوصف محايد للمطبعة، أرفق العمراوي تقريره عن الرحلة بمناشدة موجهة إلى السلطان، يطلب منه فيها إدخال هذا الاختراع الجديد إلى المغرب، حيث قال: «ونطلب الله بوجود مولانا الإمام أمير المؤمنين أن يكمل محاسن مغربنا بمثل هذه المطبعة ويجعل في ميزان حسناته هذه المنفعة»، ولعل هذه المناشدة لقيت ترحيب السلطان الذي سارع إلى توجيه بعثة علمية إلى مصر في عهد سعيد باشا، ضمت شخصين، الأول من أجل تعلم صناعة البارود والثاني لتعلم صناعة الطباعة.
مطبعة الروداني
وكانت نتيجة ذلك الوعي الرسمي بأهمية المطبعة أن المغرب عرف أول مطبعة حجرية عام 1864، خمس سنوات بعد رحلة العمراوي، ولكن بمبادرة فردية قام بها شخص يدعى محمد الطيب بن محمد السوسي التملي الروداني، الذي كان قاضي تارودانت. اشترى الروداني المطبعة من المشرق عندما كان في طريق عودته من الحج وجاء بها إلى المغرب ومعها طابع مصري يدعى محمد القياني بن ابراهيم المصري. ويورد المؤرخ محمد المنوني نص الاتفاق الموقع بين الروداني والقياني، والذي يلتزم فيه هذا الأخير بالعمل لمدة سنة كاملة مقابل تحمل الروداني لكافة احتياجاته ولوازمه، ونصه:»إنه لما كان يوم الأربعاء المبارك 14 خلت من شهر ربيع الأول سنة 1281 ه - 17 غشت 1864م اتفق حضرة العمدة الفاضل السيد الطيب الروداني والمرحوم السيد محمد الروداني، من أهالي مدينة رودانة بالمغرب، مع الفقير إلى الله تعالى كاتب الأحرف الفقير محمد القباني المطبعي ابن المرحوم ابراهيم من أهالي مصر المحروسة، على أنه يتوجه رفقته إلى مدينة رودانة بأرض المغرب، ويشتغل عنده على مطبعته سنة كاملة، ابتداؤها شهر ربيع الأول سنة 1281ه غشت 1864م».
ولكن الروداني لم يستعمل المطبعة لفائدته الشخصية بل قدمها هدية إلى السلطان شهورا قليلة بعد شرائها، فأصبحت نفقة الطابع المصري على عاتق ميزانية الدولة، وصارت تلك المطبعة تسمى»المطبعة السعيدة» أو «المطبعة المحمدية» نسبة إلى السلطان محمد الرابع، وانتقلت من مكناس إلى فاس حيث مقر إقامة السلطان.
فعندما وصلت السفينة التي أقلت الطيب مع القباني إلى ميناء الصويرة في شتنبر 1864م أخبر أمين المرسى القباج، الذي كان يدعى بالفرنساوي، قائد المنطقة عبد الله أوبيهي السوسي بأمرها، فكاتب هذا الأخير السلطان يستفسر عن الإجراء الواجب القيام به، فأصدر السلطان أمره بنقل المطبعة مع الطابع إلى مكناس حيث كان يقيم. ويتحدث المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان عن ظروف نقل هذه المطبعة من الطيب الروداني إلى المخزن فيما نقله عنه الأستاذ المنوني في كتابه « مظاهر يقظة المغرب الحديث»، فيقول:»وجاء الأمير سيدي محمد هذا السلطان محمد الرابع بالمطبعة التي تطبع بها الكتب، هدية أهداها له خادمه الفقيه العلامة سيدي الطيب الروداني قاضي تارودانت من سوس لما حج ورجع من الحج، وجاء بشيخ كبير عارف بكيفية الطبع، فقبل الأمير منه الهدية، وأكرم الشيخ المذكور، وأجرى عليه النفقة، وأعطاه ما يحتاج من خدمة». ويقول محمد المختار السوسي في كتابه «خلال جزولة»، متحدثا عن جلب الروداني للمطبعة الحجرية:»ومن مآثره أنه هو الذي اشترى في حجته المطبعة الحجرية الفاسية يريدها لنفسه، ثم حازها منه سنة 1281م السلطان سيدي محمد بن مولاي عبد الرحمن».
إن الاستنتاج الذي يخرج به المؤرخ جرمان عياش، من خلال مصير مطبعة الروداني، هو أن أول مطبعة في المغرب قد عملت لفائدة الدولة قبل أن يتم إطلاق حرية التملك للخواص، لأن السلطان كان يريد تحديث الدولة بعد هزيمة تطوان وكانت المطبعة تشكل جزءا من هذا المشروع التحديثي. غير أن تلك المطبعة لم تعمل على تحريك الحياة الثقافية في البلاد، لأن عدد الكتب التي تم طبعها ظل محدودا جدا والعديد منها كان معروفا كمخطوطات يجري تداولها قبل ظهور المطبعة، وكانت المطبعة الجديدة تهتم أكثر بطبع الكتب المقررة للدراسة في القرويين، بينما كان أصحاب المؤلفات الحديثة يتوجهون إلى المشرق لطباعة كتبهم، أمثال الناصري الذي طبع كتابه «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى» بالعاصمة المصرية. كما أن كتابا هاما في تاريخ المغرب هو» الجيش العرمرم الخماسي في دولة أولاد مولانا علي السجلماسي» لمحمد أكنسوس الذي ظهر عام 1867 كمخطوط وتم تداوله بين الناس لم يطبع إلا عام 1917، لذلك يخرج عياش باستنتاج مفاده أن إدخال المطبعة لم يشكل أي فائدة مهمة في تلك المرحلة، وأنها كانت مجرد واجهة للتحديث أكثر مما كانت عملية تحديثية حقيقية، الهدف منها فقط هو«المحافظة على التقليد السائد، التقليد الذي يحظى بالاحترام والذي لم يكن بحاجة إلى المطبعة لكي يستمر».
ظهور المطابع الخاصة
غير أنه ابتداء من عام 1872 تم السماح للخواص بتملك مطابع خاصة بهم، وكانت أول مطبعة خاصة هي مطبعة الحاج الطيب الأزرق بفاس. ويبدو أن هذا التحول قد أثار مخاوف لدى المخزن من أن يتم استثمار المطبعة في الصراع ضده من قبل المناوئين له في الداخل، لذلك اتخذ المولى عبد العزيز أول مبادرة من نوعها لتقنين عملها، فأصدر ظهير عام 1897 الذي حاول تقنينها ووضع شروطا للطابعين. وقد منح الظهير لقاضي فاس سلطة مراقبة محتويات الكتب التي يراد طبعها، ونص على جملة شروط من بينها أن لا يقبل الطابعون»المؤاجرة على طبع كتاب إلا بعد أن يعلموا به القضاة، خشية أن يقدموا على طبع ما لا يأذن الشرع فيه». ويرى العروي أن تلك الشروط التي فرضها المخزن على الطباعة قد حدت من عدد الكتب المطبوعة في المغرب ومن نوعيتها، لذلك كان يتم الاعتماد كثيرا على الكتب المطبوعة في مصر من أجل تغطية الخصاص، فكان التجار المغاربة المتواجدون في القاهرة يقومون بطبع الكتب المطلوبة في القرويين بالعاصمة المصرية ثم يجلبونها إلى المغرب، كما ظلت الزوايا الصوفية بالمغرب تعتمد في الحصول على الكتب والمطبوعات على البلدان المشرقية.
ويظهر أن الدوافع وراء إصدار الظهير المذكور هي تخوف المخزن من منافسة الزوايا الصوفية والزعماء الدينيين له، خاصة مع تنامي الوعي لدى نخبة العلماء بضرورة القيام بالإصلاحات الضرورية في الدولة، وبدء الاحتكاك بالأفكار التجديدية التي كان يمور بها المشرق. وفي الوقت الذي أصدر السلطان عبد العزيز الظهير المشار إليه كانت الزاوية الكتانية بزعامة كل من عبد الكبير ومحمد الكتاني تستفيد من استعمال الطباعة التي ساهمت في ترويج أفكارهما وفي الرفع من مكانة الزاوية الكتانية ومنحها المزيد من الشهرة والنفوذ، بينما كان المخزن يرى في كل تلك التحركات منافسة له، الأمر الذي دفعه إلى اتخاذ إجراءات معينة ضد استعمال الطباعة للحيلولة دون التوظيف السياسي لها، بحيث تم فرض مجموعة من الشروط على أي راغب في طبع الكتب، من بينها أن تتم قراءة تلك الكتب من طرف مسؤول يتم تعيينه من طرف المخزن، حتى لا تقع انفلاتات.
الدين والمطبعة
ارتبط ظهور المطبعة في أوروبا المسيحية بالدين منذ البداية، فقد كان اختراع الطباعة التقليدية بالأحرف المنفصلة أو المتحركة، من طرف الصائغ الألماني يوهان غوتنبرغ عام 1450 متزامنا تقريبا مع بروز النزعة التوسعية الأوروبية في العالم ونشر المسيحية واستيطان المناطق الأخرى، بمثل ما تزامن مع تبلور الشعور الصليبي لدى الغرب المسيحي، الذي مهد للحروب الصليبية. وكان أول كتاب يطبع في أوروبا هو الإنجيل، بحيث يعتبر اكتشاف المطبعة في ذلك الوقت بداية نشر الديانة المسيحية على نطاق واسع.
في النصف الثاني من القرن الخامس عشر فطن البابا بولس الثاني إلى الإمكانية الجبارة للكتب كواسطة اتصال جماهيرية مع العرب المسيحيين. وبعزيمة مثل هذا الخطاب أمر البابا مطبعة مدينة «فانو» الإيطالية بطباعة أول كتاب باللغة العربية ظهر في أوروبا وهو كتاب «صلاة السواعي»، الذي يتضمن تراتيل الصلوات المسيحية، لكن البابا بولس الثاني توفى قبل إتمام الطباعة، فواصل البابا ليون العاشر (1475–1521) المشروع، وعندما جهز الكتاب في عام 1514م، ولضمان ولائهم للمؤسسة البابوية، أمر بتوزيعه حصريا على العرب من الروم الأرثوذكس الشرقيين. أراد البابا ليون مع الملك الفرنسي فرانكو الأول استعراض تفوق وقدرات الآلة الأوربية(التي تطبع الكتب ليس فقط بسرعة بل أيضا بجودة)على العرب المتفاخرين بيدوية اليد التي تخط المخطوطات، فأمر في عام 1516 بطباعة كتاب «مزامير داوود»، وقد طبع ضمن ما طبع 50 نسخة فاخرة أهداها قادة العرب من أمراء مسيحيين ومسلمين.
شعر العرب المسيحيون بأهمية تيسير نقل المعرفة من خلال الكتب الرخيصة ولتوطيد استقلالية محلية فأنشؤوا أول مطبعة عربية في مدينة حمص على يد رجل من آل دباس، ثم نشر فيها عام 1706 كتاب الإنجيل مزينا بصورة الانجيلين الأربعة، وبعد ذلك قامت مطبعة دير الشوير بلبنان، وكان باكورة مطبوعاتها كتاب (ميزان الزمان) سنة 1734.
وإذا كانت المؤسسة الكنسية في أوروبا المسيحية قد ساعدت على ترويج وتوظيف المطبعة، فإن المؤسسة الدينية في العالم الإسلامي قد وقفت ضد هذا الاختراع لأسباب دينية، بحجة أنها دخيلة على الإسلام. وقد بقي الوضع كذلك إلى النصف الثاني من القرن السابع عشر، حين أطلق مفتي الإمبراطورية العثمانية شيخ الإسلام عبد الله أفندي، في عهد السلطان أحمد الثالث (1673- 1736)، بجواز استخدام المطبعة الأوروبية. وقد حصل هذا بعد مناقشات قاد مجهودها التنويري إبراهيم مُتـَفرّقـة (1674 – 1745) مع المفتي. اقتنع المفتي، فأجاز استخدام المطبعة لطباعة كتب الحكمة واللغة والتاريخ والطب والهيئة على أن تتعهد المطابع بعدم طباعة كتب الفقه والتفسير والحديث وعلم الكلام. وعندما لاحظت مؤسسة المشيخة العثمانية انتشار الكتب بين الأتراك، بسبب رخص أسعارها أصدروا فتوى أخرى تجيز طبع الكتب الدينية وأذنوا بطبع وتجليد القرآن الكريم.
ارتبط ظهور المطبعة في أوروبا المسيحية بالدين منذ البداية، فقد كان اختراع الطباعة التقليدية بالأحرف المنفصلة أو المتحركة، من طرف الصائغ الألماني يوهان غوتنبرغ عام 1450 متزامنا تقريبا مع بروز النزعة التوسعية الأوروبية في العالم ونشر المسيحية واستيطان المناطق الأخرى، بمثل ما تزامن مع تبلور الشعور الصليبي لدى الغرب المسيحي، الذي مهد للحروب الصليبية. وكان أول كتاب يطبع في أوروبا هو الإنجيل، بحيث يعتبر اكتشاف المطبعة في ذلك الوقت بداية نشر الديانة المسيحية على نطاق واسع.
في النصف الثاني من القرن الخامس عشر فطن البابا بولس الثاني إلى الإمكانية الجبارة للكتب كواسطة اتصال جماهيرية مع العرب المسيحيين. وبعزيمة مثل هذا الخطاب أمر البابا مطبعة مدينة «فانو» الإيطالية بطباعة أول كتاب باللغة العربية ظهر في أوروبا وهو كتاب «صلاة السواعي»، الذي يتضمن تراتيل الصلوات المسيحية، لكن البابا بولس الثاني توفى قبل إتمام الطباعة، فواصل البابا ليون العاشر (1475–1521) المشروع، وعندما جهز الكتاب في عام 1514م، ولضمان ولائهم للمؤسسة البابوية، أمر بتوزيعه حصريا على العرب من الروم الأرثوذكس الشرقيين. أراد البابا ليون مع الملك الفرنسي فرانكو الأول استعراض تفوق وقدرات الآلة الأوربية(التي تطبع الكتب ليس فقط بسرعة بل أيضا بجودة)على العرب المتفاخرين بيدوية اليد التي تخط المخطوطات، فأمر في عام 1516 بطباعة كتاب «مزامير داوود»، وقد طبع ضمن ما طبع 50 نسخة فاخرة أهداها قادة العرب من أمراء مسيحيين ومسلمين.
شعر العرب المسيحيون بأهمية تيسير نقل المعرفة من خلال الكتب الرخيصة ولتوطيد استقلالية محلية فأنشؤوا أول مطبعة عربية في مدينة حمص على يد رجل من آل دباس، ثم نشر فيها عام 1706 كتاب الإنجيل مزينا بصورة الانجيلين الأربعة، وبعد ذلك قامت مطبعة دير الشوير بلبنان، وكان باكورة مطبوعاتها كتاب (ميزان الزمان) سنة 1734.
وإذا كانت المؤسسة الكنسية في أوروبا المسيحية قد ساعدت على ترويج وتوظيف المطبعة، فإن المؤسسة الدينية في العالم الإسلامي قد وقفت ضد هذا الاختراع لأسباب دينية، بحجة أنها دخيلة على الإسلام. وقد بقي الوضع كذلك إلى النصف الثاني من القرن السابع عشر، حين أطلق مفتي الإمبراطورية العثمانية شيخ الإسلام عبد الله أفندي، في عهد السلطان أحمد الثالث (1673- 1736)، بجواز استخدام المطبعة الأوروبية. وقد حصل هذا بعد مناقشات قاد مجهودها التنويري إبراهيم مُتـَفرّقـة (1674 – 1745) مع المفتي. اقتنع المفتي، فأجاز استخدام المطبعة لطباعة كتب الحكمة واللغة والتاريخ والطب والهيئة على أن تتعهد المطابع بعدم طباعة كتب الفقه والتفسير والحديث وعلم الكلام. وعندما لاحظت مؤسسة المشيخة العثمانية انتشار الكتب بين الأتراك، بسبب رخص أسعارها أصدروا فتوى أخرى تجيز طبع الكتب الدينية وأذنوا بطبع وتجليد القرآن الكريم.
بدايات المطبعة في العالم العربي
ولم تكن هنالك طباعة في العالم العربي غير الطباعة بالقوالب الخشبية مع بداية القرن الميلادي العاشر، وظهرت أول حروف طباعة عربية على يد «مارتن روث» عام 1468 م الذي طبع ترجمة لكتاب «برنارد برايدنباخ « عن رحلته إلى الأماكن المقدسة، وكانت المحاولة الثانية في إسبانيا عام 1505 م بصدور كتاب وسائل تعلم قراءة اللغة العربية ومعرفتها، وفي عام 1516 م نشر كتاب «المزامير» بخمس لغات من بينها العربية، والمحاولة الثالثة كانت طبع الإنجيل عام 1591 م، وفي لبنان طبعت المزامير بالعربية عام 1610 م، وأول مطبعة أنشئت بها عام 1751 م، وسبقتها تركيا حيث ظهرت أول مطبعة عام 1727، شريطة أن لا يطبع فيها القرآن الكريم، وكانت حلب أول مدينة سورية تدخلها الطباعة ثم انتقلت إلى دمشق.
خلال القرن الثامن عشر كان معظم الدول العربية ولايات تابعة للإمبراطورية العثمانية، وفي هذا الإطار العام كانت هناك استثناءات حيثما تعلق الأمر بالطباعة والصلات الثقافية بالعالم الخارجي، خاصة بالنسبة للأقليات المسيحية العربية، التي استفادت مبكرا من مبتكرات العصر الحديث. والمثال البارز في هذا الشأن هو الجماعات المسيحية في سوريا ولبنان، حيث كانت الكنائس هناك على اتصال وثيق بالكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وكانت تتلقى نصوصا دينية مطبوعة، كالأناجيل وكتب الصلاة التي تطبع في روما وأماكن أخرى غيرها، ولم ينقض وقت طويل حتى اتخذ قرار بإقامة مطابع محلية لطبع مثل هذا الكتاب.
أنشئت المطبعة الأولى من هذا النوع في لبنان عام 1610، على أنه تعين الانتظار حتى عام 1706 لكي يرى النور الكتاب العربي الأول المطبوع بحروف عربية داخل العالم العربي، وذلك في حلب على يد رجل يدعى عبد الله زاخر. واقتضت طباعة الكتب من قبل المسلمين العرب، الانتظار قرنا آخر من الزمن، حتى وصول المطبعة الشهيرة التي جلبها نابليون إلى القاهرة في إطار حملته على مصر.
وحتى ذلك الحين، اقتصر استخدام المطابع الموجودة في العالم العربي على طبع الكتاب بلغات مثل العبرية، حيث كان هناك تردد في استخدام المطابع لطبع الكتب العربية التي تتناول الإسلام. وعندما غادر نابليون مصر عائدا إلى فرنسا عام 1801، اصطحب معه مطبعته وتوقف طبع الكتب في مصر حتى عام 1822، حين تم في ذلك العام طبع كتاب في ضواحي القاهرة، في مكان قدر له أن يحظى بشهرة مدوية هو بولاق، حيث أقيمت مطبعة شهيرة هناك بناء على تعليمات محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك والرجل الذي عقد العزم على تحديثها.
خلال العقود التالية، قدمت مطبعة بولاق المصرية الشهيرة إنتاجا لا ينقطع من الكتب باللغة العربية، حول حشد كبير من الموضوعات، بما في ذلك الكتب التي تدور حول الفقه والتصوف. وهكذا تم بالفعل تجاوز الحظر الذي كان مفروضا عمليا، على الكتب المطبوعة بالعربية التي تتناول مطبوعات إسلامية. وفي وقت لاحق، أقيمت مطابع أخرى في مصر وفي بلاد عربية أخرى، وتم التغلب على الانحياز ضد طباعة الكتاب باللغة العربية في العالم العربي بأسره. ونلاحظ هنا أنه في مالطا، على سبيل المثال، أنشئت مطبعة نشطة عمل فيها الكاتب العربي الشهير فارس الشدياق، وطبعت في هذه المطبعة كتب عديدة لاستخدامها في المدارس، واستخدم الكثير من هذه المطابع حديثة الإنشاء لطبع الصحف والدوريات.
وشهد منتصف القرن التاسع عشر انطلاق الطباعة العربية في منطقة الشرق الأوسط، حيث أنشئت المطابع خلال هذه الفترة في القدس ودمشق والموصل، وأقيمت مطبعة كبيرة في بغداد، وانتشرت المطابع تدريجيا في شمال إفريقيا كذلك.
وسرعان ما أصبحت الطباعة الحجرية منتشرة على نطاق واسع، وكان تم اختراعها في نهاية القرن الثامن عشر، حيث كان يتم الطبع مباشرة من سطح أصلب من الحجر مزود بالحبر، ثم استخدمت فيه بعد ذلك مواد أخرى. وقد راج هذا النمط من الطباعة في الغرب لطبع الكتب المصورة، أما في العالم العربي فسرعان ما تم إدراك أن تلك الطريقة يمكن استخدامها لإعادة إنتاج النصوص. وهكذا فإنه بدلا من صف الحروف المفردة، وجد أنه يمكن توظيف كاتب يكتب الخط مباشرة على الحجر أو على الصفيحة المستخدمة في الطباعة الجاهزة لعملية الطبع. وقد لجأ الكثير من المطابع والمكتبات التي لا تستطيع استثمار أموال في أطقم الحروف، إلى استخدام هذا الأسلوب الفني.
وكانت عملية إعادة إنتاج النسخ المفردة من الكتب، تعني أن الكثير من الأدب الكلاسيكي المخطوط قد ضاع للأبد، في الحالات التي توجد فيها نسخة وحيدة من عمل ثمين، ومع استخدام العرب للطباعة، فإن الكثير من مثل هذه المخاطر تم تجاوزه في تلك المرحلة.
ولم تكن هنالك طباعة في العالم العربي غير الطباعة بالقوالب الخشبية مع بداية القرن الميلادي العاشر، وظهرت أول حروف طباعة عربية على يد «مارتن روث» عام 1468 م الذي طبع ترجمة لكتاب «برنارد برايدنباخ « عن رحلته إلى الأماكن المقدسة، وكانت المحاولة الثانية في إسبانيا عام 1505 م بصدور كتاب وسائل تعلم قراءة اللغة العربية ومعرفتها، وفي عام 1516 م نشر كتاب «المزامير» بخمس لغات من بينها العربية، والمحاولة الثالثة كانت طبع الإنجيل عام 1591 م، وفي لبنان طبعت المزامير بالعربية عام 1610 م، وأول مطبعة أنشئت بها عام 1751 م، وسبقتها تركيا حيث ظهرت أول مطبعة عام 1727، شريطة أن لا يطبع فيها القرآن الكريم، وكانت حلب أول مدينة سورية تدخلها الطباعة ثم انتقلت إلى دمشق.
خلال القرن الثامن عشر كان معظم الدول العربية ولايات تابعة للإمبراطورية العثمانية، وفي هذا الإطار العام كانت هناك استثناءات حيثما تعلق الأمر بالطباعة والصلات الثقافية بالعالم الخارجي، خاصة بالنسبة للأقليات المسيحية العربية، التي استفادت مبكرا من مبتكرات العصر الحديث. والمثال البارز في هذا الشأن هو الجماعات المسيحية في سوريا ولبنان، حيث كانت الكنائس هناك على اتصال وثيق بالكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وكانت تتلقى نصوصا دينية مطبوعة، كالأناجيل وكتب الصلاة التي تطبع في روما وأماكن أخرى غيرها، ولم ينقض وقت طويل حتى اتخذ قرار بإقامة مطابع محلية لطبع مثل هذا الكتاب.
أنشئت المطبعة الأولى من هذا النوع في لبنان عام 1610، على أنه تعين الانتظار حتى عام 1706 لكي يرى النور الكتاب العربي الأول المطبوع بحروف عربية داخل العالم العربي، وذلك في حلب على يد رجل يدعى عبد الله زاخر. واقتضت طباعة الكتب من قبل المسلمين العرب، الانتظار قرنا آخر من الزمن، حتى وصول المطبعة الشهيرة التي جلبها نابليون إلى القاهرة في إطار حملته على مصر.
وحتى ذلك الحين، اقتصر استخدام المطابع الموجودة في العالم العربي على طبع الكتاب بلغات مثل العبرية، حيث كان هناك تردد في استخدام المطابع لطبع الكتب العربية التي تتناول الإسلام. وعندما غادر نابليون مصر عائدا إلى فرنسا عام 1801، اصطحب معه مطبعته وتوقف طبع الكتب في مصر حتى عام 1822، حين تم في ذلك العام طبع كتاب في ضواحي القاهرة، في مكان قدر له أن يحظى بشهرة مدوية هو بولاق، حيث أقيمت مطبعة شهيرة هناك بناء على تعليمات محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك والرجل الذي عقد العزم على تحديثها.
خلال العقود التالية، قدمت مطبعة بولاق المصرية الشهيرة إنتاجا لا ينقطع من الكتب باللغة العربية، حول حشد كبير من الموضوعات، بما في ذلك الكتب التي تدور حول الفقه والتصوف. وهكذا تم بالفعل تجاوز الحظر الذي كان مفروضا عمليا، على الكتب المطبوعة بالعربية التي تتناول مطبوعات إسلامية. وفي وقت لاحق، أقيمت مطابع أخرى في مصر وفي بلاد عربية أخرى، وتم التغلب على الانحياز ضد طباعة الكتاب باللغة العربية في العالم العربي بأسره. ونلاحظ هنا أنه في مالطا، على سبيل المثال، أنشئت مطبعة نشطة عمل فيها الكاتب العربي الشهير فارس الشدياق، وطبعت في هذه المطبعة كتب عديدة لاستخدامها في المدارس، واستخدم الكثير من هذه المطابع حديثة الإنشاء لطبع الصحف والدوريات.
وشهد منتصف القرن التاسع عشر انطلاق الطباعة العربية في منطقة الشرق الأوسط، حيث أنشئت المطابع خلال هذه الفترة في القدس ودمشق والموصل، وأقيمت مطبعة كبيرة في بغداد، وانتشرت المطابع تدريجيا في شمال إفريقيا كذلك.
وسرعان ما أصبحت الطباعة الحجرية منتشرة على نطاق واسع، وكان تم اختراعها في نهاية القرن الثامن عشر، حيث كان يتم الطبع مباشرة من سطح أصلب من الحجر مزود بالحبر، ثم استخدمت فيه بعد ذلك مواد أخرى. وقد راج هذا النمط من الطباعة في الغرب لطبع الكتب المصورة، أما في العالم العربي فسرعان ما تم إدراك أن تلك الطريقة يمكن استخدامها لإعادة إنتاج النصوص. وهكذا فإنه بدلا من صف الحروف المفردة، وجد أنه يمكن توظيف كاتب يكتب الخط مباشرة على الحجر أو على الصفيحة المستخدمة في الطباعة الجاهزة لعملية الطبع. وقد لجأ الكثير من المطابع والمكتبات التي لا تستطيع استثمار أموال في أطقم الحروف، إلى استخدام هذا الأسلوب الفني.
وكانت عملية إعادة إنتاج النسخ المفردة من الكتب، تعني أن الكثير من الأدب الكلاسيكي المخطوط قد ضاع للأبد، في الحالات التي توجد فيها نسخة وحيدة من عمل ثمين، ومع استخدام العرب للطباعة، فإن الكثير من مثل هذه المخاطر تم تجاوزه في تلك المرحلة.
*http://www.almassae.press.ma
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق