موقع الكوفة
المعظمة ومكانتها في التاريخ والتراث*
ا.د. ابراهيم خليل
العلاف
أستاذ التاريخ
الحديث المتمرس – جامعة الموصل
سعيد جدا، وفرح جدا،
بدعوة الأحبة في (أمانة مسجد الكوفة المعظم)، لي لافتتاح الموسم الثقافي السنوي، وقد
حرصتُ على الحضور من الموصل أم الربيعين لعوامل عديدة أبرزها ان (الكوفة المعظمة) كمكان،
وكروح، وكرمز، تحتل مساحة مهمة في عقلي وتفكيري منذ زمن بعيد لما لهذه المدينة
المعظمة من مكانة سامية، وسامقة، ورفيعة في التاريخ العربي والإسلامي والإنساني.
ويقينا ان هذا الشعور،
ليس خاصا بي، وانما كنتُ احسه في كل من يكتب عن الكوفة، أو يزورها سواء من الكتاب
او المفكرين او المستشرقين او من عامة الناس. وهذا الإحساس أيضا قديم عمره قرابة
قرن من الزمان، وكثيرا ما سمعت حديثا عنه، او قرأت نصا تناوله.
مما يفرح حقا؛ ان
الكوفة كانت موضوعا لأطروحة دكتوراه متميزة قدمها المؤرخ التونسي الكبير المرحوم
الأستاذ هشام جعيط الى جامعة السوربون بفرنسا سنة 1981، وكانت بعنوان: (الكوفة:
نشأة المدينة العربية الإسلامية) والاطروحة هذه نشرت في دار الطليعة ببيروت سنة
1993 بالعنوان ذاته. كما كانت الكوفة موضوعا لكتب ودراسات وبحوث ورسائل واطروحات
كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر ما كتبه الأستاذ الدكتور صالح احمد العلي (2003)
بعنوان (الكوفة وأهلها في صدر الإسلام ) وما كتبه الأخ الأستاذ الدكتور حسن عيسى
الحكيم والأستاذ الدكتور طاهر العميد عن تأسيس مدينة الكوفة وما كتبه المستشرق
لويس ماسينيون بعنوان ( خطط الكوفة وشرح خريطتها ) وما كتبه الأستاذ الدكتور محمد حسين
الزبيدي سنة 1970 بعنوان (الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكوفة من القرن الأول
الهجري ) والدكتور علي عبد العباس حسن
الفتلاوي في بحثه (مدينة الكوفة :النشأة والتسمية والحياة الاجتماعية والسياسية) وهو
منشور في مجلة كلية الآداب عدد 145 السنة 2023 وآخرين لا يتسع المجال لذكر أسمائهم
وعناوين كتبهم ودراساتهم وبحوثهم .
مؤرخ العراق الرسمي،
أو هكذا انا أعده المرحوم السيد عبد الرزاق الحسني أفسح في كتابه الموسوم (العراق
قديما وحديثا)، صفحات متفرقة للحديث عن الكوفة، ووجدت انه يعد الكوفة مدينة ( كوسموبولتية)
أي مدينة عالمية ، وحتى منذ ما قبل
الإسلام . كانت ارضا اجتمع فيها العرب والفرس،
واجتمعت فيها الحرف، والصناعات حتى ان أبو جعفر المنصور عندما شرع ببناء مدينة بغداد
استقدم البنائين، والحرفيين، وحتى الفعلة من الكوفة، وقيل انه جعل لها بابا من
أبوابها الأربع سماه (باب الكوفة)، وجلب (الباب) من الكوفة، واجتمع فيها أي في
الكوفة العرب والموالي، لا بل واجتمعت فيها المذاهب ، وفيها ازدهر الفكر ، وازدهر
الخط ، وازدهرت المذاهب ، وفيها اتبع الكثيرون الإسلام .
نعم الكوفة من
المدن الإسلامية التي أسست في أوائل عهد الإسلام عقب الفتوحات التي جرت في القرن
الأول للهجرة، القرن السابع للميلاد. ومسجد الكوفة المعظم المركز الديني والفكري
بني على مساحة مربعة الشكل تقريبا لان طول اضلاعها الأربعة اقصد هذه الساحة يختلف
بعضها عن بعض قليلا؛ فهو على التوالي 110 -116- 109 -116.. اما سور المسجد فيبلغ ارتفاعه
20 مترا؛ وهو مدعوم بأبراج مستديرة وصحنه محاط من جميع جهاته بصف من واحد من
العقود خلف بعضها غرف صغيرة وخلف البعض الاخر رواق طويل. بعد التنقيب فيه اتضح ان
في المسجد الجامع هذا من جهته الجنوبية بقايا ثلاث دور للأمارة احداها على أنقاض
الأخرى وأقدمها الدار التي شيدها سعد بن ابي وقاص وهي مربعة الشكل ابعادها ( 176 x 176 ) مترا في وسطها قبة خضراء. معنى هذا ان المسجد؛ مسجد
الكوفة لم يصمم كمسجد فقط، وانما كمكان دفاعي؛ كقلعة او حصن وهذا تم استجابة
للظروف التي كانت تحيط بالدولة آنذاك. كان الموقع أقرب الى القلعة او الحصن منه
الى مركز ديني او الى مسجد جامع يتسع ل (40) ألف مصل وبعدها طور ليتسع ل (60) ألف
مصل
ومسجد الكوفة، هو أول ما اختط في الكوفة، وهو اليوم يتألف من
أربعة جدران مدعومة بأبراج نصف دائرية يبلغ عددها 28 برجاً وفي ساحته عدة مقامات
منها، مقام النبي إبراهيم (ع )، ومقام الخضر ( ع )، ومقام بيت الطشت، ودكة القضاء،
ومقام النبي ( ص )، ومقام الإمام جعفر الصادق ( ع )، ومقام آدم ( ع )، ومقام
جبرائيل ( ع )، ومقام الإمام زين العابدين ( ع )، وفي صدر الجدار القبلي للمسجد
يقع محراب المسجد ، وهو مزخرف بالقاشاني
وفي وسطه مشبك نحاسي. وفي وسط المسجد منفذ يؤدي إلى سرداب يعرف بـ (سفينة نوح أو
التنور).
ودار الامارة، ارتبط بمسجد الكوفة المعظم من جهة القبلة من الخارج..
وضم دار الامارة، بيت المال وكان القائد الصحابي سعد بن ابي وقاص يسكن فيها اول
الامر ثم صارت منزلا لمن أتوا من بعده.
ان مما ينبغي التأكيد عليه هو ان المسجد كان في مركز المدينة
والأسواق كانت في شماله وشرقيه. ف (السوق) عنصر أساسي في المدينة العربية
الإسلامية والساحة المركزية كانت مرعى عام للخيل التي كانت تستخدم في الجهاد كما
قال اليعقوبي في كتابه (البلدان) وفي الأيام الأولى للكوفة كان ثمة (4000) فرس
واقطعت أراضٍ لكبار الصحابة، وحين خطت خطة الكوفة نهجت فيها خمسة مناهج أي (شوارع)
في ودعة الصحن الى الشمال ، وأربعة نحو القبلة وثلاثة في الغرب فنزلت سليم ، وثقيف
، وهمدان ، وتيّم في الودعة مما يلي الصحن . وفي الشرق نزل الأنصار، ومزينة ، وتميم
، ومحارب وفي القبلة بنو اسد وكندة والنخع وفي الغرب بجالة وبجيلة وحذيلة واخلاط
أخرى وسائر الناس بين ذلك ومن وراء ذلك ..وكانت الشوارع تنطلق من المركز المربع ولما
كانت المدينة دون سور فقد كان للحزام السكني ان يتسع ما شاء . وفي أيام المنصور
احيطت بسور وخندق وكانت القطائع بين الشوارع – المناهج تتراوح بين 23و46 مترا كما
يظهر من البقايا الاثرية.
الكوفة انتظرت كالبصرة حتى سنة 155 هجرية -771 ميلادية لترى حولها
سورا وخندقا ويشير المؤرخ الطبري الى انه لم يكن هناك ما يهدد الكوفة طوال تلك
الفترة وعلى ما يبدو ان المنصور، يقول الأستاذ شاكر مصطفى ، " أراد عقوبة الكوفة لتشيعها ، وقرب خطرها من بغداد ، وضرورة ضبط امرها ، ومراقبة
الداخل والخارج منها " ، حتى انه جمع من أهلها ، كما ذكر الطبري ، تكاليف
انشاء السور والخندق .ولم يكتف بذلك ؛ بل فرض على الكوفيين أربعين درهما حتى ان
شاعرهم قال :
يا لقومي ما لقينا *** من أمير المؤمنينا
قسّم لخمسة فينا ***
وجبانا الاربعينا
ويقال ان خندق الكوفة أصبح له دور اهم من سورها اذ كان قناة محصنة
وعليه الجسور الى دروب المدينة وجعل منها مدينة جميلة يطيف بها الماء بدل الصحراء
وقام للكوفة نتيجة ذلك ارباض كربض عيسى بن موسى وربض الكناسة، وأضحت المدينة مدينة
الكوفة كلها مدينة إسلامية اصيلة.
ثمة حقيقة يجب ان
نعرفها أيضا عن الكوفة، وهي، ان الكوفة المدينة العربية الإسلامية تقع على بعد
أربعة اميال من الحيرة، وقد نقلت اليها كثيرا من مواد البناء من الحيرة. واقول انه
في مطلع الخمسينات من القرن الماضي كانت الكوفة ناحية تتبع قضاء النجف، والقضاء
والناحية يتبعان لواء كربلاء وعدد نفوس لواء كربلاء كان 274264 نسمة أي أكثر من
نصف مليون نسمة بقليل.
موقع مدينة الكوفة
موقع استراتيجي يساعد في توفير الدعم اللوجستي للجيش العربي الإسلامي المتوجه نحو العراق،
ومكان الكوفة مكان يلائم طبيعة العرب، وينسجم مع ما يحبونه؛ فالقائد سعد بن ابي
وقاص طلب من رجاله اختيار مكان وراء نهر الفرات بينه وبين الحيرة كان ذلك في سنة
17 هجرية -638 ميلادية. وهكذا الكوفة أصبحت وما تزال مركزا من مراكز الفكر والحضارة.
أنجبت عددا كبيرا من العلماء والفقهاء ورجال الحرب.. وكانت محط رحال العلم والفكر
ويقال انها تفوقت على البصرة في هذا.
في مسجد الكوفة المعظم،
اقصد على طرفيه قبرا مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة اللذين قتلهما عبيد الله بن
زياد عامل بزبد بن معاوية على الكوفة سنة 60 هجرية - 679 ميلادية لسعيهما في اخذ البيعة للحسين عليه
السلام ورضي الله عنه وارضاه وفيهما يقول عبد الله بن الزبير الشاعر الاسدي :
فإن كنتِ لا تدرين
ما الموت فإنظري *** الى هانئ في السوق وابن عقيل ِ
الى بطل قد هشم
السيف وجهه *** وآخر يهوي في طمار
قتيل ِ
من أبرز محطات
تاريخ الكوفة العام؛ انها كانت مقر خلافة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام ورضي
الله عنه وارضاه شرفها بمقدمه بعد واقعة الجمل الشهيرة، وقد حكم الامام علي بن ابي
طالب عليه السلام ورضي الله عنه الكوفة متبعا سياسة قائمة على روح العدل والمساواة
والعفو بين الجميع. كما ان الامام الحسين عليه السلام نزل فيها بعد تحركه من مكة
المكرمة يوم 22 من أيلول – سبتمبر سنة 680 ميلادية.
وفي الكوفة بويع
أبو العباس السفاح بالخلافة سنة 132 هجرية – 749 ميلادية.. طبعا أبو العباس السفاح
لما كثر أنصاره في العراق وخراسان نزل الكوفة، ومعه اخوه أبو جعفر المنصور حدث هذا
بعد ان سقط حكم بني امية وذهبت دولتهم وكثر أنصار العباسيين، وبعد الكوفة بنى له
في الهاشمية في الانبار عاصمة.
من ملامح التاريخ
الكوفي العام، ان الخط الكوفي ظهر فيها واليها أي الى الكوفة أيضا ينسب المذهب
الكوفي في النحو وقواعد اللغة العربية لغتنا الجميلة لغة القرآن الكريم. و(قصبة
الجسر)، كانت مركزا لناحية الكوفة وهي قصبة جميلة فيها أسواق عظيمة وبنايات انيقة
واشجار وحدائق ومن الطريف القول انه كان ثمة سكة حديد يسير فيها ترام طولها 9600
متر اسستها شركة أهلية سنة 1325 هجرية – 1907 ميلادية ثم رفعتها سنة 1948. وكانت
(الجسر) مركز تجارة الفرات الأوسط ويمر بها شط الكوفة وكان فيها نادي المثنى، ومستشفى
الفرات الكبير، وفيها قصر للأسرة المالكة العراقية السابقة 1921-1958 كانت منطقة
جميلة كما يقول استاذنا وشيخنا السيد عبد الرزاق الحسني.
الأستاذ المحامي
جمال بابان في الجزء الأول من كتابه (أصول
أسماء المدن والمواقع العراقية ) طبعة
بغداد 1986 ، وقف عند (الكوفة) فقال انها
مركز لقضاء بالاسم نفسه أي (قضاء الكوفة ) ، ويتبع القضاء محافظة النجف الاشرف
ويقع قضاء الكوفة على بعد اقل من عشرة كيلومترات من مدينة النجف الاشرف وبينهما
(مسجد الكوفة المعظم ) ، واطلال مدينة الكوفة القديمة التي انشأها العرب سنة 17
هجرية – 638 ميلادية بعد فتحهم العراق ، وصارت الكوفة عاصمة الدولة العربية
الإسلامية في عهد امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام ورضي الله عنه وكرم
وجهه ، وقد اتخذها عاصمة له بعد واقعة الجمل الشهيرة .
والكوفة، تقع جنوب العاصمة بغداد، وتبعد عنها بنحو 156 كم، و10 كم شمال شرق النجف،
ويقدر عدد سكانها بحوالي 230 ألف نسمة حسب تقديرات سنة 2014.
وذهب الأستاذ جمال
بابان، بعد ترديد ما قيل عن سبب تسمية الكوفة:"ان الكوفان الدغل من القصب
والخشب " واعتمد في هذا على ما قاله البلداني ياقوت الحموي في الجزء الرابع
من كتابه ( معجم البلدان) وقال هو الرأي الأرجح . وقد قال الحموي ان الكوفة سميت
بالكوفة لاستدارتها والعرب يقولون (رأيت كوفانا للأرض الرملية المستديرة. وقيل سُميت
لاجتماع الناس بها من قولهم (تكوف الرمل أي اجتمع مع بعضه)، وسميت كوفة بموضعها من
الأرض وذلك ان كل رملة او لنقل ذرة من الرمل يخالطها الحصى تسمى (كوفة).
والكوفة تقع على
نهر الكوفة وهم يسمونه (شط الكوفة).
أعود الى الكتاب
الجميل الذي الفه المؤرخ السوري الكبير الأستاذ
الدكتور شاكر مصطفى (رحمه الله) ، واقصد
كتاب ( المدن في الإسلام ) وأقول ان هذا الكتاب ويقع بجزئين من اهم ما كُتب عن
المدن . يقول الأستاذ الدكتور شاكر مصطفى ان الكوفة ، حظيت باهتمام المؤرخين
القدامى فألفوا عنها باعتبارها مصرا سياسيا ثقافيا (خمسة) كتب منها لابن فضال ..الحسن بن علي توفي سنة 224 هجرية
-838 ميلادية وهو من أصحاب الامام الرضا عليه السلام ( أواسط القرن الثالث الهجري – التاسع الميلادي)
وابن مجالد مخول بنابي المجالد راشد
الكوفي أواخر القرن الثالث الهجري –التاسع الميلادي وابن النجار الامام المقرئ لبو
الحسن محمد بن جعفر بن محمد بن هارون بن فروة التميمي النحوي الكوفي (402 هجرية – 1011 ميلادية ) ،
والعلوي الحسيني البغدادي الامام الحافظ
السيد أبو المعالي محمد بن محمد بن زيد بن علي (445 هجرية – 1053 ميلادية ) ،وابن
النجار الحافظ البغدادي محب الدين أبو عبد
الله محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله (توفي سنة 643 هجرية -1245 ميلادية ) .
والبلداني المقدسي توفي في القاهرة سنة 380 هجرية -990 ميلادية في كتابه (أحسن التقاسيم
في معرفة الأقاليم) قال في الصفحتين 116-117 ان الكوفة " قصبة جليلة، خفيفة
حسنة البناء جليلة الاسواق، كثيرة الخيرات، جامعة ...والجامع على ناحية الشرق على
اساطين طوال من الحجارة الموصلة، والنهر على طرفها من قبل بغداد، ولهم آبار عذبة،
حولها نخيل ، ولهم حياض وقنى ..." .
ومن الطريف ان يشير الأستاذ الدكتور شاكر مصطفى في كتابه آنف الذكر الى ان هناك من
يسمي الكوفة (خد العذراء) وتمصيرها كان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وارضاه في
ذات السنة التي مصرت فيها البصرة أي في سنة 17 هجرية- وقيل 18 هجرية لما فرغ
القائد سعد بن ابي وقاص من وقعة القادسية. قال له عمر:" ان العرب لا يصلحها
من البلدان الا ما اصلح الشاة والبعير فلا تجعل بيني وبينهم بحرا عليك َ بالريف
" . وانتهى سعدا الى موضع مسجدها المعظم وجعل مرمى السهم من هذا الموقع (هي
حدود الابتعاد عنه) ثم علم دار امارتها ومسجدها واسهم لأصحابه فيها فصارت خطط اهل
اليمن في الشرق وخطط نزار في الغرب وكتب اليه عمر بن الخطاب ان يختط موضع المسجد
الجامع على عدد مقاتليه فخط على أربعين الف انسان. .
كان للكوفة دور في
الثقافة العربية، وفي تخريج العلماء. ويقول البلداني ابن حوقل أبو القاسم محمد
الموصلي توفي سنة 378 هجرية – 988 ميلادية؛ ان مدينة الكوفة قريبة الاوصاف من
البصرة ، وهواؤها اصح ،وماؤها أعذب ...الا انها خراج بخلاف البصرة لان ضياعها
قديمة ، وضياع البصرة احياء موات. قبر الامام علي بن ابي طالب عليه السلام ورضي
الله عنه وارضاه على فرسخين منها، وقد شَهَرَ أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان ، هذا
المكان وابتنى على القبر قبة عظيمة مرتفعة الأركان ، من كل جانب لها أبواب ، وسترها
بفاخر الستور ، ودفن حولها جلة سادات أبي طالب.
ان مما أكده
المؤرخون ان "عناصر المدينة العربية الإسلامية"، اكتمل واتضح شكله في
(الكوفة) ، ويقول الأستاذ الدكتور شاكر مصطفى انه مع انها أقيمت اول ما أقيمت على
انها " مركز عسكري حدودي وجزء من
الجهاز العسكري الحربي لاحتلال ومراقبة المشرق الساساني ، لكنها خططت على أساس بقعة إقامة دائمة قابلة
للتطور الى مدينة . ومع انها كانت مصرا
للبدو أول الامر الا انها قامت على مخطط منظم وعلى أساس مركز للتعايش بين قبائل
متباعدة منذ زمن طويل، فهذه تستورد والكوفة توزع وقد شُيدت الكوفة على مراحل
ولكنها مراحل حاسمة في حياتها: الأولى هي خلافة عمر بن الخطاب 17-23 هجرية
،634-638 ميلادية. وهنا لابد ان نقول ان القائد سعد بن ابي وقاص ، يعد المؤسس
الأول لمدينة الكوفة ، فهو من اختار موضعها ، وهو من أمر بتخطيطها ، وطبيعي
العوامل العسكرية لعبت دورا أساسيا ، ومركزيا في مسألة الاختيار. الثانية هي ولاية
زياد بن ابيه 50-53، 670-672 ميلادية. الثالثة هي ولاية خالد القسري أيام هشام بن
عبد الملك 105- 120 هجرية، 723-737 ميلادية
والمرحلتان
الاوليان رئيسيتان، ثم تراجع دور الكوفة بعد بناء بغداد التي استأثرت بالازدهار
الحضاري والتواصل العالمي.
الأستاذ الدكتور
عبد الجبار ناجي المؤرخ العراقي الكبير، كتب عن الكوفة في كتابه (دراسات في تاريخ
المدن العربية الإسلامية)، وصدر الكتاب سنة 1986 وقال: “ان الكوفة تعد المدينة
الام في العراق “. ويقول: “وليس غريبا بأن التاريخ العربي الإسلامي خلال القرن
الأول الهجري، هو تاريخ الكوفة والبصرة لما قاما به من دور سياسي، واداري، وعسكري
مهم جدا ...كما انه ليس غريبا القول بأن هذين المصرين الكوفة، والبصرة اقتسما
الحركة الفكرية العربية خلال ذلك القرن، وبما أسهما به من مدارس نحوية، وادبية
صارت تعرف بأسمائهما مدرسة النحو الكوفية ومدرسة النحو البصرية “. وقد ظهرت من
جراء ذلك العديد من الكتب والرسائل والكراريس والكتيبات في ابراز فضائل كل منهما
على الأخرى في النحو والادب والشعر والفقه والتاريخ والإدارة والسياسة.
الكوفة برزت في
ميادين التاريخ والسياسة والفكر والخط والنحو والاعمار .كانت كل قبيلة عربية قد
اختطت لها فيها موضعا وخلال مراحل التاريخ المختلفة تم اعمار عدد من معالمها
العمرانية ومن ذلك الجسور والجوامع والأسواق والبساتين وكانت محاطة بسور محاط بخندق وللسور
أبواب وقد تم حفر بعض الأنهار من قبيل نهر الهندية وكانت وجهة لكثير ممن هاجر
اليها من العشائر .وفي أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين شهدت مدينة الكوفة نوعا من التحديث فمدت اليها
اسلاك البرق سنة 1905 وبعدها بنيت فيها أسواق عصرية سنة 1907 .وفي سنة 1909 مدت
اليها سكة حديد ترام ربطت بين الكوفة والنجف .كما فتحت فيها المدارس الحديثة
والمستشفيات الحديثة .
شهدت الكوفة في
تاريخها الإسلامي والحديث احداثا عديدة ويقينا ان العهد القديم انتهى بانهيار
الإمبراطورية الساسانية سنة 636 ميلادية، واستقرار مجاميع من العشائر العربية فيها
.
كما انها ضمت
عناصر من السريان، واليهود، والنبط، وشارك أهلها في احداث مختلفة خلال مراحل
التاريخ الإسلامي ووقائعه المختلفة ومنها حادث مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه وواقعتي
الجمل وصفين وثورتي التوابين والمختار بن ابي عبيدة الثقفي وثورة زيد بن علي
وحادثة ابن الاشعث وحادثة سعيد بن جبير وغيرها من الحوادث التاريخية.
لكن الكوفة بدأت
تفقد أهميتها بعد بناء بغداد واتخاذها عاصمة للدولة العربية الإسلامية في عهد العباسيين،
لكنها بقيت تحتفظ بمركزها الفكري والعسكري.
ومن الطريف القول
ان الرحالة ابن جبير زارها سنة 580 هجرية – 1184 ميلادية كما زاها الرحالة ابن
بطوطة سنة 726 هجرية – 1325 ميلادية واكدا انها تعاني من التدمير والخراب بسبب
غارات البدو والعشائر عليها.
الأستاذ مصطفى
عباس الموسوي في كتابه ( العوامل التاريخية لنشأة وتطور المدن العربية الإسلامية)
وصدر سنة 1982 افرد فصلا كاملا عن الكوفة استغرق الصفحات من (78-82) أشار فيه الى
حقيقة مهمة ان القبائل العربية ومنهم بنو شيبان لم يكونوا قادرين على مواجهة الفرس
لذلك تهيأت الجيوش لمواجهة الفرس سنة 15 هجرية -636 ميلادية في معركة القادسية
بالقرب من الحيرة وكانت الكوفة ارض خالية من السكان تقع شرقي الحيرة وكان بينها
وبين النهر لسان من الرمل يقترب عموديا من الفرات يسمى ( الملطاط) ، وفي السهل المحصور بين الفرات شرقا والبادية
الواسعة المطلة على مشارف الشام غربا كانت الكوفة لذلك تقرر اتخاذها قاعدة عسكرية
عربية إسلامية ومعنى هذا ان تأسيسها كان لضرورة عسكرية فرضتها دواعي الفتح
الإسلامي لبلاد فارس في عهد عمر بن الخطاب واندفاع الجيوش العربية الإسلامية
بقيادة القائد سعد بن ابي وقاص بعد فتوح السواد الفاصلة الى بلاد فارس أدى الى
ضرورة ان تكون هناك قاعدة او نقطة ارتكاز فأصدر عمر بن الخطاب امره الى سعد ان :
يتخذ للمسلمين دار هجرة وقيروانا " .والقيروان مكان يتجمع فيه الجيش مع
خيلهم (الخيالة ) ومن ذلك جاء اسم مدينة
القيروان في تونس وتبعد عن العاصمة تونس قرابة 100 كم .كما أشار الى ذلك المؤرخ
البلاذري في كتابه (فتوح البلدان) . وكما سبق ان قدمت فإن للعامل الجغرافي ولطبيعة
البيئة وقربها من المركز دور في هذا الاختيار وهوان لا تكون ثمة موانع طبيعية بين
الجيش العربي الإسلامي ومركزه في العاصمة المدينة المنورة ووضخ كما قلت لسعد بن
ابي وقاص الفكرة بقوله: “ان العرب بمنزلة الابل، لا يصلحها الا ما يصلح الابل،
فارتد لهم موضعا عدتا ولا تجعل بيني وبينهم بحرا". ويذكر المؤرخون ان من اختار
موضع الكوفة واستحسنه هو نفيلة الغساني الذي وجد في ارض الكوفة ارضا مرتفعة عن
المياه منحدرة عن الفلاة نبتت فيها الخزامى والاقحوان والشيح والقيصوم والشقائق
وغيرها كان حوها صافيا ونسيمها عذبا وبخاصة إذا كان شماليا او غربيا. وهي تقع على
حافة الصحراء صحراء الجزيرة العربية لا يفضلها عن العاصمة ماء ولا
جسر ولا مرتفعات، وهذا مما يسهل ربط العاصمة بقواتها العسكرية ويسهل وصول
الامدادات العسكرية والمؤن.
حقا أرادها عمر بن
الخطاب دارا للهجرة وللجهاد ومستقر لا قامة المقاتلين ومعسكرا لهم يسيطرون منها
على العراق وفارس واخبر القائد سعد بن ابي وقاص عمر بن الخطاب انه اتخذ الكوفة
معسكرا ودار هجرة وانها تلائم حالة المقاتلين الصحية ووضعهم العسكري ونشر فسطاطه
وخيامه فيها وهذا يؤكد ان اختيار الكوفة لم يكن امرا اعتباطيا او عفويا وانما كان
بعد دراسة وبحث وتمحيص وتفتيش متواصل النتائج أظهرت انه كان اختيارا موفقا
والدواعي لهذا الاختيار كانت عسكرية وجغرافية.
النقطة المهمة ان
الكوفة تطورت عبر التاريخ عمرانيا وحضريا فالكوفة تمثل حجر الأساس في التوجه نحو
تطور المدينة العربية الإسلامية وهذا برز ليس في شكل البناء وانما أيضا في خططه
ومواده الرئيسية المستخدمة في البناء ومنها الآجر حتى ان العرب اخذوا يشيدون دورهم
بالآجر بدلا من الطين واللبن ويعلق المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون على ما حدث في
الكوفة من تطور معماري بالقول ان مسجد
الكوفة المعظم "اكبر واجمل مسجد عربي إسلامي آنذاك) ويضيف الاثاري كروزويل
وهو يتناول خصائص العمارة الإسلامية فيقول :"ان فن العمارة في الكوفة سجل
تقدما ملموسا " . ويقرر المستشرق زرتشين وهو يكتب مادة (ALKUFA
) في انسكلوبيديا اوف اسلام The
Encyclobidia of Islam ،
ان الكوفة تحولت الى مدينة منظمة بيوتها
من الآجر" .
الخليفة الثاني
عمر بن الخطاب قال الكثير في الكوفة وكل كتب التاريخ ومنها تاريخ خليفة بن خياط
والبلاذري في فتوح البلدان والطبري في الرسل والملوك والمسعودي في مروج الذهب وابن
الاثير في الكامل في التاريخ، مليئة بالكلام الجميل عن الكوفة ودورها في التاريخ والتراث.
ذكر ابن سعد في طبقاته ان عمر بن الخطاب كتب الى اهل الكوفة يقول:" يا اهل
الكوفة انتم رأس العرب وجمجمتها وسهمي الذي ارمي به ان اتاني شيء من ها هنا وها
هنا " وفي مناسبة أخرى يقول:" الكوفة رمح الله وفية الإسلام وجمجمة
العرب يكفون نفورهم ويمدون الامصار" وفي مرة أخرى يسجل شهادته في اهل الكوفة
فيقول :" جزى الله اهل الكوفة خيرا ، يكفون حوزتهم ويمدون أهل الامصار "
.
هنا أيضا لابد من
الإشارة الى السفر الكبير الذي انجزه اخي وصديقي الموسوعي الاكاديمي الكبير
المرحوم الأستاذ الدكتور صباح نوري المرزوك بثلاث مجلدات وملحق ، وصدر عن مؤسسة
مسجد السهلة المعظم ودار المتقين للثقافة والعلوم والطباعة والنشر ببيروت سنة 2012
بعنوان (التحف من تراجم أعلام وعلماء الكوفة والنجف) .
خلال التاريخ
الحديث وعند سيطرة العثمانيين على العراق أصبحت الكوفة وضمن التقسيمات الإدارية
العثمانية (ناحية) تابعة لإدارة قضاء النجف الاشرف. وقد ظلت الكوفة - والحمد لله
وحتى يومنا هذا، مركزا فكريا مهما وازدهر
فيها الشعر وكان فيها مربد خاص يسمى (الكناسة ) تجري فيه المناظرات كما ازدهر فيها
نوع من الخط العربي عرف بالكوفي وكانت مركزا من مراكز المقاومة للسيطرة العثمانية
حتى انها أسهمت في ثورة 1917 ضد الاحتلال البريطاني وكان مكانا يجتمع فيه الثوار
حيث انها
سكن المرجع الديني الكبير السيد محمد كاظم اليزدي. وفي الكوفة وضعت خطط
الثورة العراقية الكبرى سنة 1920 وفيها جرت بعض الاحداث المهمة ومنها اغراق الباخرة
الحربية ( فاير فلاي ) على يد الثوار، وكان من نتائجها تعرض مسجد الكوفة المعظم
لقصف الطائرات والمدفعية البريطانية .
وكما
تعرفون – احبتي الكرام – فإن الكوفة كأي مدينة عراقية وعربية تتألف من احياء ومحلات
سكنية منها محلات البو ماضي –الرشادية (الجديدات) –الشرطة – المعلمين- ميثم التمار
– السهيلية – ميسان- الوقف- السراي –الفرات – الجمهورية وغيرها .
وكما
تعرفون، فإن في الكوفة مساجد، وجوامع ، وحسينيات منها فضلا عن مسجد الكوفة المعظم
مسجد السهلة وجامع الخلخالي وحسينية الرشادية وفيها مكتبات منها مكتبة مسلم بن عقيل العامة، ومكتبة دار الرسالة الإسلامية
العامة، و مكتبة الإدارة المحلية العامة وتضم المدينة مكتبات أهلية خاصة منها مكتبة جعفر الشيخ علي المذحجي، مكتبة الشيخ علي
البازي، مكتبة السيد تقي الخلخالي، مكتبة الشيخ كاتب الطريحي مكتبة الدكتور عبد
الرزاق الشهرستاني.
تولى إدارة الكوفة نخبة من رجالات الدولة العربية الإسلامية
كان لهم تاريخهم ودورهم نذكر منهم سعد بن ابي وقاص والمغيرة بن شعبة وعمار بن ياسر
وخالد بن عبد الله القسري . كما تولى القضاء فيها قضاة معروفون منهم شريح بن
الحارث وسعيد بن جبير وبرز فيها فقهاء كبار منهم أبو حنيفة النعمان وبرز من الكوفة
في مجال الحديث معاذ بن مسلم الهراء وفي النحو أبو الأسود الدؤلي وعلي بن حمزة
الكسائي ويعقوب بن إسحاق بن السكيت وفي اللغة برز كثيرون منهم المفضل بن محمد الضبي
وكان فيها شعراء عظام منهم الكميت بن زيد ، والطرماح بن حكيم ، ودعبل الخزاعي ، وأبو
العتاهية ، وأبو الطيب المتنبي . وكان جابر بن حيان عالم الكيماء منها، وفي الكوفة
كما في الموصل اسر وبيوتات علمية، وكريمة، وعريقة معروفة .
ولا ننسى ان مدينة الكوفة تتميز بمعالم تاريخية شاخصة منها
الأسواق ومنها المحلات ومنها القرى القديمة ومنها الشوارع ومنها الاثار ومنها
الأنهار ومنها القصور التاريخية، ومن يطلع على خطط الكوفة يعرف ذلك ويستطيع سرد
أسماء كل هذه المعالم فهناك من محلاتها القديمة الثوية والسبيع وكندة ومن اسواقها
سوق اسد، وسوق حراضة ، ومن قراها القديمة برثة البويب ، وجرعة ، واقساس . ومن
شوارعها شارع السيد ياسين الصعبري ، وشارع النهر ومن انهارها القديمة نهر كوثي ، ونهر
الغدير ، ونهر نرس .
ومن الطريف ان اشير وخلال زيارتي لتونس في نيسان 2023 وجدت ان
هناك مدينة في محافظة توزر تسمى (الكوفة) الصغرى ويعتز أهلها بالكوفة وفيها نوع من
التمر يسمى دقلة او دقلة نور يشبه تمر الكوفة والمدينة تقع في الجنوب الغربي من
تونس وهي مسقط رأس الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي وهو صاحب قصيدة:
إذا الشعب يوما أراد الحياة **فلا بد ان يستجيب القدر
وفي الكوفة جامعتها العتيدة: جامعة الكوفة اعزها الله فلها
تاريخ علمي باهر ونعتز بها جميعا لدورها الفاعل في الحركة العلمية الاكاديمية
العراقية المعاصرة.
وختاما أقول واستعيد ما قاله رجل من اهل الشام لوفد من اهل
الكوفة قدموا على عمر :"يا اهل الكوفة ،انكم كنز اهل الإسلام ،ان استمدكم اهل
البصرة أمددتموهم ،وان استمدكم اهل الشام أمددتموهم " . حفظكم الله وزادكم
رفعة وبهاء وتوفيقا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
· ملخص للمحاضرة التي القيتها في قاعة مسجد الكوفة
المعظم في محافظة النجف الاشرف في الساعة السادسة مساء يوم الاثنين 14 من تشرين الأول
– أكتوبر سنة 2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق