السبت، 25 أكتوبر 2014

ذكريات جانبية بقلم الاستاذ سامي مهدي (14 ) ماركسي ووجودي

ذكريات جانبية  بقلم الاستاذ سامي مهدي (14 )
ماركسي ووجودي
منذ صباي وأنا أتابع بدقة أدباء جيل ما بعد الحرب العالمية ، جيل الخمسينيات ، كما اصطلح على تسميتهم ، ولاسيما الشعراء والقصاصون . كنت أريد أن أتعلم منهم وأعرف شيئاً عنهم ، كنت أريد أن اتأكد من أن في العراق أدباء لا يقلون أهمية عن أدباء مصر ولبنان ، وكان عبد الملك نوري واحداً ممن تابعت .
حين أتأمل اليوم أدب ( مَلِك ) كما يدعوه أصدقاؤه المقربون أجده مر بمرحلتين ، الأولى تبدأ من مطالع أربعينيات القرن العشرين ، والثانية تبدأ من مطالع الخمسينيات وتنتهي بوفاته عام 1998 . وأنا لم أرافق كتاباته إلا في مرحلتها الثانية . أما كتابات المرحلة الأولى فلم أطلع عليها إلا بعد زمن طويل ، بفضل الجهود التي بذلها الأستاذ هاتف الثلج في جمع أعماله الكاملة ونشرها في كتابين صدرا بعد وفاته بمدة قليلة .
يقول الأستاذ هاتف الثلج إن عبد الملك توقف عن الكتابة عام 1972 ، وهذا ما لاحظته فعلاً ، ولكنني قرأت له ( إيضاحاً ) حول مقال كتبه الدكتور جميل نصيف عن قصته ( مأساة الفن ) ونشر هذا الإيضاح في جريدة القادسية عام 1989 . ولا أدري ما إذا كانت له كتابات أخرى غير هذا الإيضاح أم لا .
كنت أتابع عبد الملك حيثما يكتب : في جريدة ( صوت الأهالي ) التي كان يحرر ملحقها الأدبي ، وفي مجلة الأديب اللبنانية غالباً ، ثم في زميلتها مجلة ( الآداب ) على قلة ما نشر فيها ، وفي مجلة الثقافة الجديدة على قلة ما صدر من أعدادها ، وفي غيرها وغيرها . وكنت لا أتردد في اقتناء أي مجلة أو جريدة أجد فيها شيئاً له أو عنه ، وهكذا اقتنيت مجموعته القصصية الثانية ( نشيد الأرض ) عند صدورها عام 1954 ، ثم نسخة قديمة رثة من مجموعته القصصية الأولى ( رسل الإنسانية ) اشتريتها من سوق السراي . 
ولكن عبد الملك نوري كان متعدد النشاطات ، فلم يكن قاصاً فحسب ، بل كان ناقداً أدبياً أيضاً ، وكاتباً سياسياً ، واكتشفت بعد زمن طويل أنه كتب نحو عشر مسرحيات قصيرة ، ومارس الترجمة عن اللغة الإنكليزية ، وكتب قصائد نثر ، وإن غلبت عليه صفته القصصية بين الأدباء . 
والواقع أن عبد الملك كان من أبرز المثقفين العراقيين في عصره ومن أكثرهم جرأة . فقد كان مناضلاً من مناضلي حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، كان عضواً في اللجنة المركزية لحزب الشعب ، ذلك الحزب التقدمي الذي ضم نخبة من المثقفين الماركسيين ، وهو منهم ، وكان يكتب مقالات سياسية تعبرعن آرائه ومواقف حزبه من الأحداث وكانت مقالاته تتميز بالدقة وقوة الحجة .
إذن فقد كان الرجل ماركسيأً ، وله أكثر من مقال عن الأدبيات الماركسية ، وكان من دعاة ( الواقعية ) في الأدب ، ومن المدافعين عن ( الأدب الواقعي ) وممن ناهضوا الأدبيات الوجودية ، ولكنه ، وهذه مفارقة ، ممن تأثروا بالأدب الوجودي ، ويظهر هذا التأثير في بعض قصصه !
وما زلت أتذكر حتى اليوم بعض كتاباته النقدية : مقاله عن رواية جبرا إبراهيم جبرا ( صراخ في ليل طويل ) مثلاً ، ومقاله ( العائشون في الحاضر والحياد الأدبي ) ثم مقاله ( صور خاطفة من حياتنا الأدبية ) التي قدم فيها انطباعاته عن نتاجات بعض الشخصيات الأدبية ( ذنون أيوب ، فؤاد التكرلي ، شاكر خصباك ، نزار سليم ، صفاء خلوصي ، صفاء الحيدري ، خالد الشواف ، حسين مردان ) . وأظنه كان صارماً وحاسماً ، وربما قاسياً ، في صياغة بعض تلك الإنطباعات . وقد ساعدت هاتف الثلج فهديته إلى مظان هذه المقالات ، ليضيفها إلى بقية أعماله .
ومما لاحظته في تلك الحقبة أن لعبد الملك خصومه في عالم الأدباء ، إذ كان هناك من يشكك في أصالة أعماله القصصية ، ومن هؤلاء الناقد محيي الدين إسماعيل ، والشاعر كاظم جواد ، ولكن كان له أصدقاؤه أيضاً . فقد كشفت لي قراءاتي ومتابعاتي أنه كان في الخمسينيات صديق كل من فؤاد التكرلي وأخيه نهاد التكرلي والشاعر عبد الوهاب البياتي ، وكان الأربعة يلتقون أسبوعياً في مقهى ( سويس بوفيه ) ثم في ( المقهى البرازيلي ) في شارع الرشيد . وقد كتب البياتي عن هذه العلاقة قصيدة عنوانها ( الأصدقاء الأربعة ) ونشرها في مجلة ( الأديب ) وأعاد نشرها في ديوانه الثالث ( المجد للأطفال والزيتون ) . ولكن هذه الصداقة انفرطت بعد حين ، وهي مما كتبت عنه في كتابيّ ( نهاد التكرلي رائد النقد الأدبي الحديث في العراق ) و ( المجلات العراقية الريادية ) . ولكن عبد الملك وفؤاد احتفظا بهذه الصداقة إلى النهاية .
لا أتذكر كيف تعرف هاتف الثلج على عبد الملك نوري ، ولكن الذي أعرفه أن الثلج كسب ود عبد الملك حتى أصبح صديقه الذي يطمئن إليه ويستقبله في بيته ويأتمنه على نتاجه الأدبي . وكان الثلج ، بالمقابل ، وفياً له فتولى جمع كتاباته ، على اختلاف أجناسها ونشرها بعد وفاته ، وبذلك قدم خدمة جليلة لصديقه عبد الملك ولتاريخ الأدب العراقي .
وبينما كان الثلج منهمكاً في جمع أعمال ( ملك ) طلبت منه أن يرتب لي موعداً معه لأزوره بصحبته . كان ذلك عام 1995 على ما أذكر ، وكنت منهمكاً أنا الآخر في تأليف كتابي ( نهاد التكرلي رائد النقد الأدبي الحديث ) وكانت لدي استفسارات عن علاقته بالتكرليين نهاد وفؤاد ، وأخرى عن كتاباته في الخمسينيات . ونجح الثلج دون عناء في ترتيب الزيارة .
كان عبد الملك يعيش يومئذ في عزلة تامة عن عالم الأدباء ، لا يزوره أحد أو يتفقده سوى هاتف الثلج ، وليس هناك من يراسله سوى فؤاد التكرلي أيام إقامته في تونس . وكان يقيم في بيت ورثه وأخته عن أبيهما ، بيت يقع في الأعظمية ، في زقاق من الأزقة الفرعية العريضة التي تمتد بين شارع الإمام الأعظم وشارع الكورنيش . وكانت أخته هذه هي التي ترعاه وتسهر على شؤونه الخاصة وهي من ضيفنا عند زيارتي له .
كان بيت عبد الملك يدل على عز قديم ، فأبوه (عبد اللطيف نوري) كان ضابطاً برتبة فريق وقائداً للفرقة الأولى في الجيش العراقي ، تعاون مع بكر صدقي في تنفيذ الإنقلاب العسكري الذي قاده الأخير عام 1936 ، وعين نوري وزيراً للدفاع بعد الإنقلاب . غير أن هذا البيت كان شبه معتم في داخله ، وكانت الرثاثة بادية عليه وعلى أثاثه حين دخلته ، وكان ( ملك ) نفسه متعباً ، ومريضاً . ولعله استغرب أن يزوره رجل مثلي ، فكان يرد على أسئلتي بتحفظ وبرود واقتضاب ، وكنت أرى في عينيه علامات استفهام كثيرة ، مع أن أسئلتي كانت أسئلة أدبية خالصة ، ليس فيها ما يزعجه أو يحرجه . ولذك لم أخرج عن حدود هذه الأسئلة ، وفضلت اختصار الزيارة لكي أريحه ولا أثقل عليه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صلاة الجمعة في جامع قبع - الزهور -الموصل

                                                                    الشيخ نافع عبد الله أبا معاذ   صلاة الجمعة بسم الله الرحمن الرحيم :...