حسب الله يحيى .. الجرح الذي لا يعرف الأنين*
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس -جامعة الموصل
لا أعرف كاتبا جادا، وأديبا دؤوبا وإنسانا صادقا، مثل الأستاذ القاص حسب الله يحيى. فمنذ ما يقارب الـ 40 عاما، والرجل يكتب، ويحاور، ويجادل في أسس الثقافة العراقية المعاصرة، ويبحث عن مكنوناتها الدفينة، ولا يرى إلا أنها متقدمة، منحازة لقضية الإنسان، وهمومه، وإشكالاته مع الحياة، والكون، والمجتمع.
كان، ولا يزال، ثائرا مناضلا يدافع عن الكلمة الحرة ويسعى لتعميق الإدراك بحب الوطن والعمل من أجله. هكذا عرفته قبل الاحتلال، وبعد الاحتلال تعمقت نظرتي إليه ولانجازاته، وكم كنت متألما وأنا أقرا عن بعض ما أصابه مؤخرا والإحباط واليأس مما حل بالوطن، لكنني وأنا اتابع ما يعمل، اشعر بأنه إنسان "عنقاوي" كلما احترق له جناح تسامى في الارتفاع والعلو. أليس هو القائل سنة 1969 وهو يقدم لحركة قصص 69 وجماعة أصدقاء القصة في الموصل: "قصص 69، تولد من كبت وجودنا، من بسمة الشحوب في جباهنا، من تداخل أفكار تشيد عالم الإنشاء، ولن يسل الأمل في رؤوسنا، نغني للجدب، ونحرق بخور أهازيج لما نقدمه، ولكنها علامة لوجودنا، إصرارنا الحي رغم كل الرسوم الذليلة التي تنحتها أزمة الوجوه الصدئة، وكل اغتيال لصوتنا سوف يحقق هزيمة نعرفها مسبقاً، ونعلنها للشمس والقمر".
ويبدو أن أصدقاء القصة في الموصل، وفي مقدمتهم حسب الله يحيى ومعه يوسف الصائغ، وطلال الحديثي، ولؤي الزهيري وأنور عبدالعزيز، وعبدالستار ناصر، وسالم حسين الطائي، وعبدالغني علي يحيى وغيرهم، قد أدركوا أنه لا بد لهم من أن يبدأوا مشروعاً أدبياً، ونضالياً يرتكز على أسس من الوعي بضرورة الخروج من شرنقة القوالب الكلاسيكية في التعبير عن أنفسهم، وذواتهم، وعصرهم بانسيابية تعتمد الحرية والأمل والصدق. وقد وجدوا من حولهم أناسا رحبوا بمشروعهم، وأسهموا معهم في زرع "أكف الحب، والاهتمام، والنقد الأصيل".
ويقيناً أنهم مضوا للولوج في كل الطرق التي أسموها، في حينه، (عرجاء) وكانوا متأكدين من أن "الومضة ستكبر" وستمدد جذورها نحو الرسوخ؛ فالمشروع نقطة ارتكاز نحو الفهم، وثورة وثوق حارة في تلامس الأصوات، أما كل الأحلام العصفورية فينبغي أن تأول إلى زوال، لذلك قالوا في صدر الحلقة الثانية من "قصص 69" التي صدرت في مارس/آذار 1969، إن قصصهم ثورية، وتصدر "تضامناً مع الحركة النضالية التقدمية في العالم، والتحاقاً بغد الإنسان المشرق في فلسطين وفيتنام". إنهم وعدوا قراءهم بأن تحمل قصصهم رايات الإقدام الصلد، والانفتاح الجاد على التيارات القصصية المتسمة بالصدق والمعاناة.
لقد جاء ظهور جماعة "قصص 69"، الأدبية متزامناً مع سلسلة من الأحداث المحلية والعربية والدولية، لعل من أبرزها انعكاسات هزيمة حزيران 1967، وتمرد الشباب على الواقع المر الذي كانوا يعيشونه، حيث الانكسار، والإحباط، واليأس، وخيبة الأمل من أنظمة سياسية ظلت تضحك على ذقون شعوبها، وتستنزف إمكاناتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتأتي النتائج مؤلمة. فكان لا بد لمثقفي الأمة من أن يبحثوا عن طريق آخر يمكن ان يوصلهم إلى بر الأمان.
وإذا كان نزار قباني قد عبر عن حالة السقوط تلك بقصيدته الشهيرة "هوامش على دفتر النكسة"، وإذا كان صادق جلال العظم قد كتب نقداً ذاتياً قاسياً بحق حكامه ومواطنيه في كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، فإن أدباء الموصل ومعهم زملاؤهم في بغداد والمدن العراقية الأخرى، قد وجدوا في "الفن القصصي" ما يعينهم على تحمل المآسي، والتدهور، والتراجع، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل جعلوا من تلك الحالات اليائسة نقطة انطلاق "لرفض وتجديد الفكر والأسلوب" ولن يكون ذلك، كما قالت مجلة "العلوم" اللبنانية في حينه في معرض نقدها لقصص 1969، الا "بالانفتاح لكل فكر يخدم الإنسانية".
ولد حسب الله يحيى الجبوري في مدينة الموصل سنة 1944 من عائلة فقيرة لكنها متنورة. درس في مدارس الموصل الابتدائية والمتوسطة، واضطره ضيق العيش إلى الدخول في معهد المعلمين في الموصل وتخرج فيه سنة 1970. وقد عين معلما ثم مديرا في إحدى المدارس القروية ولم يلبث أن ترك التعليم حيث لم يجده متوافقا مع مزاجه وتطلعاته، وسافر إلى بغداد لينغمس في العمل الصحفي واشتغل أول الأمر محررا في جريدة "التآخي" والتي أصبحت فيما بعد جريدة العراق وانتقل للعمل في جريدة "الثورة" سنة 1976 وفي الوقت نفسه في مجلة "الأقلام" وسكرتيرا لها.
ولم تكن ثمة جريدة أو مجلة في بغداد في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي إلا وكان لحسب الله يحيى حصة فيها. كنت أتابع بأستمرار ما ينشره عن حركة المسرح في مجلة "الثقافة" وفي أماكن أخرى. كان ناقدا مسرحيا من الطراز الأول فهو متسلح بثقافة أدبية ومسرحية ذات مستوى عال. هذا فضلا عن توجهه الأول في كتابة القصة ونشره العديد من المجاميع القصصية التي طالما كانت تنشر منجمة في الصحف والمجلات العراقية والعربية.
ومن مجاميعه القصصية: "الغضب" 1967، "القيد حول غصن الزهرة" 1974، و"ضمير الماء" 1972، و"الحطب" 1974، و"النهار يدق الأبواب" 1977، و"هي امرأة عراقية" 1982، و"الأشواق" 1986، و"كتمان" 1989، و"أنفاس" 1993، و"أجنحة حجرية" 2001، و"كوميديا الكاتب في الزمن الكاذب" 1999، كما أصدر مجاميع قصصية للأطفال منها "دفاع عن الفرح" 1977، و"الفراشات" 1977. و"مقدمة في مسرح الأطفال" 1997، وأصدر دراستين هما: " فنارات في القصة والرواية" 1993، و"المسرح العراقي قضايا ومواقف" 2001. كما أصدر "مجموعة مقالات ورؤى عن كردستان" في بيروت سنة 1974.
ولحسب الله يحيى مقالات ودراسات منشورة لا تعد ولا تحصى منها تلك التي رصدها الدكتور صباح نوري المرزوك في" معجم المؤلفين والكتاب العراقيين 1970-2000"، وأبرزها مقال بعنوان: "انهيار الليبرالية الجديدة"، ومقال عن "وعي القيم في كتابات الصادق النيهوم".
ومن المفرح أن يسهم حسب الله يحيى اليوم بفاعلية في النشر الإلكتروني، فله موقع فرعي في "الحوار المتمدن" يضم عشرات المقالات. كما أن له صفحة على الفيسبوك مما يساعد على انتشاره .
يقول الدكتور عمر الطالب أن ثمة مسألتين تشغلان حسب الله يحيى في قصصه هما: "مشاكل الحياة اليومية" و"العلاقات الغرامية"، وهو دقيق في تصوير لقطاته معبرا بأسلوبه الجميل، وحواره السريع المتلاحق ولا تزيد قصصه عن بضع صفحات وقد تطول أحيانا إذا اقتضى الحدث أو العرض كما في قصته "أجنحة حجرية".
ويضيف: "ونستطيع القول بأن مجموعته الثانية (ضمير الماء) 1972 هي أفضل مجاميعه القصصية، فقد سعى إلى التجريب في كتابتها، فلجأ إلى كتابة القصة ذات المقاطع في قصة (الجرح لا يعرف الأنين)، وتتكون من أربعة مقاطع: هي، هو، الموت، الجرح. ويمتلك حسب الله يحيى في قصصه القدرة على التقاط الموضوع بذكاء من أجواء عراقية صميمة.
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس -جامعة الموصل
لا أعرف كاتبا جادا، وأديبا دؤوبا وإنسانا صادقا، مثل الأستاذ القاص حسب الله يحيى. فمنذ ما يقارب الـ 40 عاما، والرجل يكتب، ويحاور، ويجادل في أسس الثقافة العراقية المعاصرة، ويبحث عن مكنوناتها الدفينة، ولا يرى إلا أنها متقدمة، منحازة لقضية الإنسان، وهمومه، وإشكالاته مع الحياة، والكون، والمجتمع.
كان، ولا يزال، ثائرا مناضلا يدافع عن الكلمة الحرة ويسعى لتعميق الإدراك بحب الوطن والعمل من أجله. هكذا عرفته قبل الاحتلال، وبعد الاحتلال تعمقت نظرتي إليه ولانجازاته، وكم كنت متألما وأنا أقرا عن بعض ما أصابه مؤخرا والإحباط واليأس مما حل بالوطن، لكنني وأنا اتابع ما يعمل، اشعر بأنه إنسان "عنقاوي" كلما احترق له جناح تسامى في الارتفاع والعلو. أليس هو القائل سنة 1969 وهو يقدم لحركة قصص 69 وجماعة أصدقاء القصة في الموصل: "قصص 69، تولد من كبت وجودنا، من بسمة الشحوب في جباهنا، من تداخل أفكار تشيد عالم الإنشاء، ولن يسل الأمل في رؤوسنا، نغني للجدب، ونحرق بخور أهازيج لما نقدمه، ولكنها علامة لوجودنا، إصرارنا الحي رغم كل الرسوم الذليلة التي تنحتها أزمة الوجوه الصدئة، وكل اغتيال لصوتنا سوف يحقق هزيمة نعرفها مسبقاً، ونعلنها للشمس والقمر".
ويبدو أن أصدقاء القصة في الموصل، وفي مقدمتهم حسب الله يحيى ومعه يوسف الصائغ، وطلال الحديثي، ولؤي الزهيري وأنور عبدالعزيز، وعبدالستار ناصر، وسالم حسين الطائي، وعبدالغني علي يحيى وغيرهم، قد أدركوا أنه لا بد لهم من أن يبدأوا مشروعاً أدبياً، ونضالياً يرتكز على أسس من الوعي بضرورة الخروج من شرنقة القوالب الكلاسيكية في التعبير عن أنفسهم، وذواتهم، وعصرهم بانسيابية تعتمد الحرية والأمل والصدق. وقد وجدوا من حولهم أناسا رحبوا بمشروعهم، وأسهموا معهم في زرع "أكف الحب، والاهتمام، والنقد الأصيل".
ويقيناً أنهم مضوا للولوج في كل الطرق التي أسموها، في حينه، (عرجاء) وكانوا متأكدين من أن "الومضة ستكبر" وستمدد جذورها نحو الرسوخ؛ فالمشروع نقطة ارتكاز نحو الفهم، وثورة وثوق حارة في تلامس الأصوات، أما كل الأحلام العصفورية فينبغي أن تأول إلى زوال، لذلك قالوا في صدر الحلقة الثانية من "قصص 69" التي صدرت في مارس/آذار 1969، إن قصصهم ثورية، وتصدر "تضامناً مع الحركة النضالية التقدمية في العالم، والتحاقاً بغد الإنسان المشرق في فلسطين وفيتنام". إنهم وعدوا قراءهم بأن تحمل قصصهم رايات الإقدام الصلد، والانفتاح الجاد على التيارات القصصية المتسمة بالصدق والمعاناة.
لقد جاء ظهور جماعة "قصص 69"، الأدبية متزامناً مع سلسلة من الأحداث المحلية والعربية والدولية، لعل من أبرزها انعكاسات هزيمة حزيران 1967، وتمرد الشباب على الواقع المر الذي كانوا يعيشونه، حيث الانكسار، والإحباط، واليأس، وخيبة الأمل من أنظمة سياسية ظلت تضحك على ذقون شعوبها، وتستنزف إمكاناتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتأتي النتائج مؤلمة. فكان لا بد لمثقفي الأمة من أن يبحثوا عن طريق آخر يمكن ان يوصلهم إلى بر الأمان.
وإذا كان نزار قباني قد عبر عن حالة السقوط تلك بقصيدته الشهيرة "هوامش على دفتر النكسة"، وإذا كان صادق جلال العظم قد كتب نقداً ذاتياً قاسياً بحق حكامه ومواطنيه في كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، فإن أدباء الموصل ومعهم زملاؤهم في بغداد والمدن العراقية الأخرى، قد وجدوا في "الفن القصصي" ما يعينهم على تحمل المآسي، والتدهور، والتراجع، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل جعلوا من تلك الحالات اليائسة نقطة انطلاق "لرفض وتجديد الفكر والأسلوب" ولن يكون ذلك، كما قالت مجلة "العلوم" اللبنانية في حينه في معرض نقدها لقصص 1969، الا "بالانفتاح لكل فكر يخدم الإنسانية".
ولد حسب الله يحيى الجبوري في مدينة الموصل سنة 1944 من عائلة فقيرة لكنها متنورة. درس في مدارس الموصل الابتدائية والمتوسطة، واضطره ضيق العيش إلى الدخول في معهد المعلمين في الموصل وتخرج فيه سنة 1970. وقد عين معلما ثم مديرا في إحدى المدارس القروية ولم يلبث أن ترك التعليم حيث لم يجده متوافقا مع مزاجه وتطلعاته، وسافر إلى بغداد لينغمس في العمل الصحفي واشتغل أول الأمر محررا في جريدة "التآخي" والتي أصبحت فيما بعد جريدة العراق وانتقل للعمل في جريدة "الثورة" سنة 1976 وفي الوقت نفسه في مجلة "الأقلام" وسكرتيرا لها.
ولم تكن ثمة جريدة أو مجلة في بغداد في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي إلا وكان لحسب الله يحيى حصة فيها. كنت أتابع بأستمرار ما ينشره عن حركة المسرح في مجلة "الثقافة" وفي أماكن أخرى. كان ناقدا مسرحيا من الطراز الأول فهو متسلح بثقافة أدبية ومسرحية ذات مستوى عال. هذا فضلا عن توجهه الأول في كتابة القصة ونشره العديد من المجاميع القصصية التي طالما كانت تنشر منجمة في الصحف والمجلات العراقية والعربية.
ومن مجاميعه القصصية: "الغضب" 1967، "القيد حول غصن الزهرة" 1974، و"ضمير الماء" 1972، و"الحطب" 1974، و"النهار يدق الأبواب" 1977، و"هي امرأة عراقية" 1982، و"الأشواق" 1986، و"كتمان" 1989، و"أنفاس" 1993، و"أجنحة حجرية" 2001، و"كوميديا الكاتب في الزمن الكاذب" 1999، كما أصدر مجاميع قصصية للأطفال منها "دفاع عن الفرح" 1977، و"الفراشات" 1977. و"مقدمة في مسرح الأطفال" 1997، وأصدر دراستين هما: " فنارات في القصة والرواية" 1993، و"المسرح العراقي قضايا ومواقف" 2001. كما أصدر "مجموعة مقالات ورؤى عن كردستان" في بيروت سنة 1974.
ولحسب الله يحيى مقالات ودراسات منشورة لا تعد ولا تحصى منها تلك التي رصدها الدكتور صباح نوري المرزوك في" معجم المؤلفين والكتاب العراقيين 1970-2000"، وأبرزها مقال بعنوان: "انهيار الليبرالية الجديدة"، ومقال عن "وعي القيم في كتابات الصادق النيهوم".
ومن المفرح أن يسهم حسب الله يحيى اليوم بفاعلية في النشر الإلكتروني، فله موقع فرعي في "الحوار المتمدن" يضم عشرات المقالات. كما أن له صفحة على الفيسبوك مما يساعد على انتشاره .
يقول الدكتور عمر الطالب أن ثمة مسألتين تشغلان حسب الله يحيى في قصصه هما: "مشاكل الحياة اليومية" و"العلاقات الغرامية"، وهو دقيق في تصوير لقطاته معبرا بأسلوبه الجميل، وحواره السريع المتلاحق ولا تزيد قصصه عن بضع صفحات وقد تطول أحيانا إذا اقتضى الحدث أو العرض كما في قصته "أجنحة حجرية".
ويضيف: "ونستطيع القول بأن مجموعته الثانية (ضمير الماء) 1972 هي أفضل مجاميعه القصصية، فقد سعى إلى التجريب في كتابتها، فلجأ إلى كتابة القصة ذات المقاطع في قصة (الجرح لا يعرف الأنين)، وتتكون من أربعة مقاطع: هي، هو، الموت، الجرح. ويمتلك حسب الله يحيى في قصصه القدرة على التقاط الموضوع بذكاء من أجواء عراقية صميمة.