دراسة :
**************
مأزق الحكم في تونس *
بقلم : أ.د. محمود صالح الكروي
أستاذ العلوم السياسية » جامعة بغداد
على رغم من مضي اكثر من عامين ونصف على التغيير الذي شهدته تونس، الا ان الحكومة التونسية التي تشكلت في 14»12»2011 لم ترتق حصيلتها الاجتماعية والاقتصادية الى طموحات التونسيين اصحاب المصلحة الحقيقية في الثورة. اذ ان الاجور والرواتب ظلت على حالها، لا بل ارتفعت الاسعار فازداد المستوى المعيشي تدهورا في ظل ارتفاع ارقام البطالة وتراجع الصادرات وكساد السياسة وتفاقم المديونية الخارجية وتدني الخدمات الصحية ناهيك عن تفشي الجريمة المنظمة وتراجع الاستثمارات وارتفاع نسبة التضخم لتقرب من 6 كما شهدت تراجعاً للحريات، فضلا عن التحدي الامني الذي يتمثل بانتشار قوات الجيش في انحاء البلاد كافة منذ اكثر من سنتين، ومع ذلك لم تتمكن الحكومة من تأمين الاستقرار السياسي رغم الشرعية الديمقراطية، ذلك ان الائتلاف الحاكم لم يتصرف كحكومة ذات برنامج سياسي ثوري في مرحلة انتقالية بل تصرف كحكومة تسيير اعمال كونه كان ائتلاف الضرورة وليس ائتلافاً مبنياً على برنامج وخطة عمل واضحة، وتبين مع مرور الزمن ان الحكومة التي قامت بعد الثورة لم تكن حكومة من صنعوا الثورة وانما حكومة مزيج من قوى المعارضة والسلطة في النظام السابق وبذلك فرطت قوى الثورة بحقها الطبيعي في تشكيل حكومة انتقالية يتمثل فيها جميع اولئك الذين كانوا شركاء في عملية التغيير.
اذ شهدت تونس عام 2012 احداث عنف ارتبطت بفاعلين متعددين ولغايات عديدة، فنسبت احداث للتيار السلفي وأخرى للجان حماية الثورة وثالثة كانت على هامش الاضرابات العامة التي دعا لها الاتحاد التونسي للشغل، ورابعة تمثلت باقتحام السفارة الامريكية في تونس ونهب محتوياتها في 14»9»2012، ترافق ذلك والمشهد السياسي الذي تميز بالانقسام والصراع السياسي بين احزاب الائتلاف الحكومي نفسها وبين قوى سياسية ونقابية.
ومرد ذلك الاخطاء القاتلة التي ارتكبتها الحكومة، وأولى هذه الاخطاء تزايد
1ــ6
نزعة الهيمنة لدى حزب النهضة على مجمل العملية السياسية، وقد تجلى ذلك في تعيين انصاره والمقربين له في المناصب الحساسة والمؤسسات التربوية ووضع يده على القضاء والاعلام في سياق تركيز السلطة، كذلك عمد حزب النهضة الى اعتماد سياسة العصا لمن عصى مع رجال الاعمال، فيما غض الطرف عن السلفيين الذين يطبقون نظرية زعيم الحزب راشد الغنوشي في التدافع الاجتماعي فتحول السلفيون الى شرطة اخلاق غير معلنة، فضلا عن عجز حزب النهضة وافتقاره الى الرؤية في مواجهة التدهور الاقتصادي، كل ذلك وغيره دفع بالعديد من التونسيين الى التخلي عن مساندة الحكومة.
بالمقابل تصاعدت وتيرة التظاهرات الشعبية اليومية وكشفت عن تنامي حدة الغضب على الحكومة وهو ما جسدته عمليات حرق مقار حزب النهضة المتواصلة في المدن التونسية اثر انتهاجه سياسة نقض المعاهدات، اذ رفضت كتلة النهضة في المجلس الوطني التأسيسي تحديد موعد لنهاية اشغال المجلس وتماطلت في تحديد موعد الانتخابات. يعزز ذلك غياب البرامج وطغيان مسألة الزعاماتية وسيطرة الحسابات الحزبية الضيقة فضلا عن الخشية من احتمال الاطاحة بانجازات النظام السابق، سيما وأن بعضها حداثوي وتونس رائدة التحديث في العالم العربي، ويبقى التحدي الذي يواجه جميع الاطراف السياسية بما فيها الاسلاميون هو ادماج حركة النهضة في الحياة السياسية الديمقراطية وتكريس حالة من الوضع الطبيعي وليس الاستثنائي على المستوى السياسي. يتناغم ذلك والصراع المتفاقم داخل صفوف حزب النهضة على القيادة بين العائدين من قيادات الخارج برئاسة راشد الغنوشي الذين يسيطرون على اللجنة التنفيذية والقريب من التيار السلفي، وكوادر الداخل بقيادة حمادي الجبالي الامين العام لحزب النهضة الذين يعدون انفسهم الاولى بسدة القيادة لما قدموه من تضحيات ويدعون الى اسلام تونسي معتدل متفاعل مع التجربة التونسية التحديثية، وبذلك أضحى الصراع بين القوى المعتدلة وممثلي التيار الآخر يهدد باحتمال انشقاق حزب النهضة. في ظل هذه التطورات تفاقمت الازمة السياسية بعد اغتيال المعارض السياسي شكري بلعيد الامين العام لحركة الوطنيين الديمقراطيين والقيادي بالجبهة الشعبية في 6»2»2013، ذلك ما دفع حمادي الجبالي رئيس الوزراء والأمين العام لحزب النهضة الى التصريح لصحيفة لوموند الفرنسية بالقول بان هناك جهازا بأكمله ولديه استراتيجيته يقف خلف هذا الهجوم…
2ــ6
وان الهدف من وراء هذا الاغتيال هوتونس برمتها.
لا بل اتهمت شخصيات سياسية معارضة عدة حركة النهضة بالمسؤولية السياسية عن الجريمة ومن بين هؤلاء الباجي قائد السبسي رئيس حزب نداء تونس.
وكان من تداعيات الاغتيال بروز الخلافات بين احزاب الائتلاف الحكومي الترويكا وقد تجلى ذلك باعلان حمادي الجبالي عن دعوته لتشكيل حكومة تكنوقراط او حكومة كفاءات مستقلة عن الاحزاب السياسية، ومع الترحيب الذي حظي به الاعلان من قبل احزاب المعارضة، اذ دعت الجبهة الشعبية وهي تحالف اطراف يسارية راديكالية، كان من بين قيادييها شكري بلعيد الى عقد مؤتمر انقاذ وطني تنبثق عنه حكومة ازمة، الا ان هذه الدعوات جوبهت برفض من حزب النهضة وحزب المؤتمر من اجل الجمهورية وحزب التكتل الديمقراطي من اجل العمل والحريات.
ونتيجة لرفض حزب النهضة تشكيل حكومة كفاءات مستقلة، قدم حمادي الجبالي استقالته من منصبه كرئيس للوزراء في 19»2»2013. بعدها أجرى حزب النهضة مفاوضات سياسية مع حلفائه في الترويكا وأعلن عن تشكيل حكومة جديدة برئاسة علي العريض وزير الداخلية في 3 آذار»مارس 2013، لمواصلة إدارة الشأن العام وعملية الاصلاح السياسي، وفي الوقت نفسه أنشأت لجنة لتسوية الخلافات داخل المجلس التأسيسي، وبهذا كانت الحكومة بمثابة إعادة إنتاج للائتلاف الحاكم، لابل حكومة ترضية كما يراها البعض. أثر ذلك تصاعدت حدة الازمة السياسية في تونس وأصبحت أزمة معقدة أثر هيمنة حزب النهضة على حلفائه في الترويكا ، وعدم تمكن الحكومة الجديدة من تقديم بدائل عملية
لآليات الضمان الاجتماعي ووسائل الحماية للمواطنين، وعدم تقديم معالجات لانقاذ تونس من ازمتها السياسية والأمنية والاقتصادية، تعزز ذلك بتأخر المجلس التأسيسي عن السقف الزمني المقرر لانجاز مهمته في إعداد الدستور في 23»10»2012، وتحديد موعد الانتخابات المقبلة، ويؤكد ذلك بالقول الحبيب خضر المقرر العام للجنة كتابة الدستور عن حزب النهضة بالقول انه لم يبدأ بعد النقاش في فصول الدستور، فيصعب إعطاء موعد دقيق لانتهاء الدستور، كما أن الانطلاق في النقاش فصلا فصلا مرتبط بحسم بعض النقاط الجوهرية في لجنة
3ــ6
التوافقات. ترافق ذلك واستمرار انطلاق التهديدات بالقتل وانتشار الجماعات السلفية التي تحرس الأحياء ورابطات الثورة المنتشرة في عموم البلاد، مما نتج عن ذلك استشراء ظاهرة العنف حتى بات العنف السياسي ينذر بالخطر بصورة متزايدة. وجاءت عملية الاغتيال للمعارض السياسي محمد براهمي عضوالمجلس التأسيسي في
25»7»2013، لتكون الضربة القاصمة لعملية الحوار الوطني في المجلس التأسيسي، وبعد الانتهاء من مراسيم تشييع جنازة براهمي توجه حشد جماهيري كبير نحو مقر المجلس التأسيسي، اذ يجري اعتصام منذ ذلك الحين للمطالبة بحل المجلس التأسيسي وحل الحكومة وتشكيل حكومة انقاذ وطني وتكليف لجنة خبراء بإعداد الدستور وعرضه على الاستفتاء الشعبي، وانضم للاعتصام 60 نائبا من أصل 217 من أعضاء المجلس التأسيسي بعد ان علقوا مشاركتهم في اجتماعات المجلس، فضلا عن انضمام محامين وفنانين وأساتذة جامعات…الخ، وأطلق على هذا الاعتصام اسم اعتصام الرحيل وقرر المشاركون في الاعتصام البقاء في أماكنهم الى ان يتم حل المجلس. وضمن هذا السياق حصل تطوران الاول شكلت بعض الاحزاب السياسية يتقدمها حزب نداء تونس جبهة الانقاذ الوطني التي دعت الى حل المجلس التأسيسي والحكومة وحملت الاحزاب الحاكمة وعلى رأسها حزب النهضة مسؤولية انتشار العنف والتحريض عليه والجريمة السياسية المنظمة التي طالت لطفي نفق، شكري بلعيد ومحمد براهمي ، والثاني انضمت للاعتصام حركة شبابية شعبية أعلنت على نفسها حركة تمرد مماثلة في الاسم للحركة الموجودة في مصر،دعت اليها اطراف اكدت على ان لا انتماء سياسي لها , وجمعت هذه الحركة عشرات الالاف من التوقيعات من المواطنين المطالبين باسقاط المجلس التأسيسي حسب منظميها.
وفي ضوء ماتقدم، أصبح النظام السياسي في تونس يواجه الاخفاق في ادارة الشأن العام للدولة وتراجع النموالاقتصادي وتعطيل التنمية وتفشي البطالة وانتشار الجريمة المنظمة وتنامي الاحتقان السياسي والاجتماعي، فضلا عن اسلوب السلطة الفج في تعاطيها مع الاحتجاجات، كل هذه باتت معضلات تهدد مسار الانتقال الديمقراطي في تونس الذي مهدت له انتفاضة التغيير في مطلع 2011. وفي خضم هذه المعضلات وما رافقها من تطورات واحتقان سياسي مأزوم أعلن مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي مساء6»8» 2013 .تعليق أعمال المجلس التأسيسي الى حين التوافق حول صيغة مثلى للخروج من مأزق الحكم في تونس.
مشاهد مستقبلية
ان قرار تعليق اعمال المجلس التأسيسي التونسي في 6»8»2013، يدخل في اطار ايجاد مخرج لازمة الحكم الخانقة التي تعيشها تونس، وقد مثل هذا القرار في جانب منه استجابة لمطالب الاحزاب والقوى السياسية والشعبية المعارضة في تونس التي تطالب بحل المجلس التأسيسي والحكومة، هذا من جهة، كما اكد قرار التعليق القدرة على استثمار رد الفعل الشعبي المؤيد لحل المجلس التأسيسي، لاسيما وان هناك من يشير الى ان القرار قد اتخذ بالتوافق بين رئيس المجلس التأسيسي وقيادة حزب النهضة لامتصاص غضب المعارضة وتهدئة النفوس وبما يخدم مصالحهما معا وتفويت الفرصة على احزاب المعارضة التي تلوح بهذه الورقة في موقفها من النظام من حين لآخر من جهة ثانية، فضلا عن ان القرار جاء عقب تطورات سياسية واقتصادية في غاية الاهمية مصحوبة بتصاعد العنف السياسي الذي شهدته الساحة التونسية. وفي سياق الحديث عن استشراف احتمالات المستقبل لمأزق الحكم في تونس، يمكن تقديم اربعة مشاهد عنها، وفق معطيات البحث وهي
المشهد الاول خيار دفع الازمة للامام.
يفترض هذا المشهد خيار دفع الازمة السياسية في تونس للامام، اوكسب الوقت للاحتواء. ومما يشجع هذا الخيار طلب رئيس المجلس التأسيسي عند تعليقه اعمال المجلس من الاتحاد التونسي للشغل تولي دور التنسيق في فتح الحوار بين حزب النهضة وحلفائه في الترويكا والأحزاب السياسية الليبرالية، وربما ضم احزاب جديدة ممثلة في المجلس التأسيسي مثل حركة وفاء بغية الاتفاق على خارطة طريق جديدة مشتركة بعد ان يقدم حزب النهضة بعض التنازلات من اجل تشكيل حكومة توافقية لادارة الشأن العام من شأنها ان تحدد المواعيد الرئيسة في الاجندة السياسية مثل كتابة الدستور وتحديد موعد الانتخابات القادمة وغيرها، وبذلك يتمكن حزب النهضة من الاستمرار في الامساك بقيادة السلطة، وتبعا لذلك سيشكل ذلك حلا جزئيا.
المشهد الثاني الخيار التبادلي.
وهذا المشهد يشير الى ان بقاء حزب النهضة على رئاسة الحكومة يعني القبول باستمرار الازمة السياسية مع ازمات اقتصادية متتالية تتفاقم في ضوئها البطالة ويتردى المستوى المعاشي للشعب، ولتجاوز ذلك وتحقيق الرفاه الاقتصادي يتطلب الأخذ بالخيار.
5ــ6
التبادلي والذي يتمثل باجبار حزب النهضة على الانسحاب من قيادة الحكومة والتحول الى
ممارسة دور المعارضة في البرلمان مقابل وصول الليبراليين للسلطة وبمباركة أوربية أمريكية بفتح ابواب التعامل الاقتصادي مع تونس من قبل الاتحاد الاوربي والولايات المتحدة الامريكية وتدفق الشركات الاوربية والأمريكية للاستثمار في تونس واعادة جدولة الديون بما يحقق الرفاه الاقتصادي للمواطن التونسي وتحقيق الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي. ذلك ان ما يهم الغرب هي الرقعة نفسها وليس البيادق التي فوقها.
المشهد الثالث خيار التصادم.
وهذا المشهد يقوم على احتمال الدفع باتجاه وقوع التصادم بين جناح المعتدلين والمتشددين داخل حزب النهضة، لاسيما بعد ان برزت ازمته على السطح، اذ ان التشدد داخل الحقل الديني ينشأ ويتنامى حين يحتكر طرف مشروعية الخطاب، والتيار العلماني يدفع بهذا الاتجاه، او ان يكون التصادم بين الجناح المتشدد في حزب النهضة والليبراليين، اوبين كليهما معا، وضمن هذا المشهد احتمالية وقوع التصادم الخفي من خلال اعتماد اسلوب الاغتيالات السياسية وهذا ما شهدته الساحة السياسية التونسية مؤخرا بتبادل الاتهامات في هذا الشأن.
واحتمالية هذا المشهد وان كانت ضعيفة،الا انه يبقى قائما، لان خيار التصادم سواء داخل حزب النهضة أومع الأطراف الأخرى فإن كلفته تكون عالية كما هو معروف ونتائجه وخيمة على مكانة ودور حزب النهضة في الساحة التونسية من جهة، وعلى الشعب والنظام السياسي من جهة أخرى ، اذا لم تحسن ادارته وفق توافقات سياسية فيما بين الاحزاب التونسية والأطراف الدولية ذات المصلحة.
المشهد الرابع خيار الحل الشعبي.
ويكون هذا الخيار على غرار الانموذج المصري الاخير، وتبقى نسبة هذا الخيار مرشحة، وممكنة التحقق اذا استمرت الازمة السياسية بالتفاقم، ويعني هذا الخيار عمليا مواجهة مفتوحة مع حزب النهضة واقصائه عن السلطة، مقابل الاتفاق والتعاون بين مؤسسة الجيش والليبراليين، وتشكيل حكومة انقاذ وطني تحرر المجتمع من الخطاب الديني المتشدد وتتولى عملية ادارة الشأن العام والتعجيل باصدار الدستور وعرضه للاستفتاء الشعبي وتحديد موعد الانتخابات المقبلة وارساء السلم الاجتماعي بين التونسيين.
*جريدة الزمان (الندنية ) http://www.azzaman.com/?p=44689
**************
مأزق الحكم في تونس *
بقلم : أ.د. محمود صالح الكروي
أستاذ العلوم السياسية » جامعة بغداد
على رغم من مضي اكثر من عامين ونصف على التغيير الذي شهدته تونس، الا ان الحكومة التونسية التي تشكلت في 14»12»2011 لم ترتق حصيلتها الاجتماعية والاقتصادية الى طموحات التونسيين اصحاب المصلحة الحقيقية في الثورة. اذ ان الاجور والرواتب ظلت على حالها، لا بل ارتفعت الاسعار فازداد المستوى المعيشي تدهورا في ظل ارتفاع ارقام البطالة وتراجع الصادرات وكساد السياسة وتفاقم المديونية الخارجية وتدني الخدمات الصحية ناهيك عن تفشي الجريمة المنظمة وتراجع الاستثمارات وارتفاع نسبة التضخم لتقرب من 6 كما شهدت تراجعاً للحريات، فضلا عن التحدي الامني الذي يتمثل بانتشار قوات الجيش في انحاء البلاد كافة منذ اكثر من سنتين، ومع ذلك لم تتمكن الحكومة من تأمين الاستقرار السياسي رغم الشرعية الديمقراطية، ذلك ان الائتلاف الحاكم لم يتصرف كحكومة ذات برنامج سياسي ثوري في مرحلة انتقالية بل تصرف كحكومة تسيير اعمال كونه كان ائتلاف الضرورة وليس ائتلافاً مبنياً على برنامج وخطة عمل واضحة، وتبين مع مرور الزمن ان الحكومة التي قامت بعد الثورة لم تكن حكومة من صنعوا الثورة وانما حكومة مزيج من قوى المعارضة والسلطة في النظام السابق وبذلك فرطت قوى الثورة بحقها الطبيعي في تشكيل حكومة انتقالية يتمثل فيها جميع اولئك الذين كانوا شركاء في عملية التغيير.
اذ شهدت تونس عام 2012 احداث عنف ارتبطت بفاعلين متعددين ولغايات عديدة، فنسبت احداث للتيار السلفي وأخرى للجان حماية الثورة وثالثة كانت على هامش الاضرابات العامة التي دعا لها الاتحاد التونسي للشغل، ورابعة تمثلت باقتحام السفارة الامريكية في تونس ونهب محتوياتها في 14»9»2012، ترافق ذلك والمشهد السياسي الذي تميز بالانقسام والصراع السياسي بين احزاب الائتلاف الحكومي نفسها وبين قوى سياسية ونقابية.
ومرد ذلك الاخطاء القاتلة التي ارتكبتها الحكومة، وأولى هذه الاخطاء تزايد
1ــ6
نزعة الهيمنة لدى حزب النهضة على مجمل العملية السياسية، وقد تجلى ذلك في تعيين انصاره والمقربين له في المناصب الحساسة والمؤسسات التربوية ووضع يده على القضاء والاعلام في سياق تركيز السلطة، كذلك عمد حزب النهضة الى اعتماد سياسة العصا لمن عصى مع رجال الاعمال، فيما غض الطرف عن السلفيين الذين يطبقون نظرية زعيم الحزب راشد الغنوشي في التدافع الاجتماعي فتحول السلفيون الى شرطة اخلاق غير معلنة، فضلا عن عجز حزب النهضة وافتقاره الى الرؤية في مواجهة التدهور الاقتصادي، كل ذلك وغيره دفع بالعديد من التونسيين الى التخلي عن مساندة الحكومة.
بالمقابل تصاعدت وتيرة التظاهرات الشعبية اليومية وكشفت عن تنامي حدة الغضب على الحكومة وهو ما جسدته عمليات حرق مقار حزب النهضة المتواصلة في المدن التونسية اثر انتهاجه سياسة نقض المعاهدات، اذ رفضت كتلة النهضة في المجلس الوطني التأسيسي تحديد موعد لنهاية اشغال المجلس وتماطلت في تحديد موعد الانتخابات. يعزز ذلك غياب البرامج وطغيان مسألة الزعاماتية وسيطرة الحسابات الحزبية الضيقة فضلا عن الخشية من احتمال الاطاحة بانجازات النظام السابق، سيما وأن بعضها حداثوي وتونس رائدة التحديث في العالم العربي، ويبقى التحدي الذي يواجه جميع الاطراف السياسية بما فيها الاسلاميون هو ادماج حركة النهضة في الحياة السياسية الديمقراطية وتكريس حالة من الوضع الطبيعي وليس الاستثنائي على المستوى السياسي. يتناغم ذلك والصراع المتفاقم داخل صفوف حزب النهضة على القيادة بين العائدين من قيادات الخارج برئاسة راشد الغنوشي الذين يسيطرون على اللجنة التنفيذية والقريب من التيار السلفي، وكوادر الداخل بقيادة حمادي الجبالي الامين العام لحزب النهضة الذين يعدون انفسهم الاولى بسدة القيادة لما قدموه من تضحيات ويدعون الى اسلام تونسي معتدل متفاعل مع التجربة التونسية التحديثية، وبذلك أضحى الصراع بين القوى المعتدلة وممثلي التيار الآخر يهدد باحتمال انشقاق حزب النهضة. في ظل هذه التطورات تفاقمت الازمة السياسية بعد اغتيال المعارض السياسي شكري بلعيد الامين العام لحركة الوطنيين الديمقراطيين والقيادي بالجبهة الشعبية في 6»2»2013، ذلك ما دفع حمادي الجبالي رئيس الوزراء والأمين العام لحزب النهضة الى التصريح لصحيفة لوموند الفرنسية بالقول بان هناك جهازا بأكمله ولديه استراتيجيته يقف خلف هذا الهجوم…
2ــ6
وان الهدف من وراء هذا الاغتيال هوتونس برمتها.
لا بل اتهمت شخصيات سياسية معارضة عدة حركة النهضة بالمسؤولية السياسية عن الجريمة ومن بين هؤلاء الباجي قائد السبسي رئيس حزب نداء تونس.
وكان من تداعيات الاغتيال بروز الخلافات بين احزاب الائتلاف الحكومي الترويكا وقد تجلى ذلك باعلان حمادي الجبالي عن دعوته لتشكيل حكومة تكنوقراط او حكومة كفاءات مستقلة عن الاحزاب السياسية، ومع الترحيب الذي حظي به الاعلان من قبل احزاب المعارضة، اذ دعت الجبهة الشعبية وهي تحالف اطراف يسارية راديكالية، كان من بين قيادييها شكري بلعيد الى عقد مؤتمر انقاذ وطني تنبثق عنه حكومة ازمة، الا ان هذه الدعوات جوبهت برفض من حزب النهضة وحزب المؤتمر من اجل الجمهورية وحزب التكتل الديمقراطي من اجل العمل والحريات.
ونتيجة لرفض حزب النهضة تشكيل حكومة كفاءات مستقلة، قدم حمادي الجبالي استقالته من منصبه كرئيس للوزراء في 19»2»2013. بعدها أجرى حزب النهضة مفاوضات سياسية مع حلفائه في الترويكا وأعلن عن تشكيل حكومة جديدة برئاسة علي العريض وزير الداخلية في 3 آذار»مارس 2013، لمواصلة إدارة الشأن العام وعملية الاصلاح السياسي، وفي الوقت نفسه أنشأت لجنة لتسوية الخلافات داخل المجلس التأسيسي، وبهذا كانت الحكومة بمثابة إعادة إنتاج للائتلاف الحاكم، لابل حكومة ترضية كما يراها البعض. أثر ذلك تصاعدت حدة الازمة السياسية في تونس وأصبحت أزمة معقدة أثر هيمنة حزب النهضة على حلفائه في الترويكا ، وعدم تمكن الحكومة الجديدة من تقديم بدائل عملية
لآليات الضمان الاجتماعي ووسائل الحماية للمواطنين، وعدم تقديم معالجات لانقاذ تونس من ازمتها السياسية والأمنية والاقتصادية، تعزز ذلك بتأخر المجلس التأسيسي عن السقف الزمني المقرر لانجاز مهمته في إعداد الدستور في 23»10»2012، وتحديد موعد الانتخابات المقبلة، ويؤكد ذلك بالقول الحبيب خضر المقرر العام للجنة كتابة الدستور عن حزب النهضة بالقول انه لم يبدأ بعد النقاش في فصول الدستور، فيصعب إعطاء موعد دقيق لانتهاء الدستور، كما أن الانطلاق في النقاش فصلا فصلا مرتبط بحسم بعض النقاط الجوهرية في لجنة
3ــ6
التوافقات. ترافق ذلك واستمرار انطلاق التهديدات بالقتل وانتشار الجماعات السلفية التي تحرس الأحياء ورابطات الثورة المنتشرة في عموم البلاد، مما نتج عن ذلك استشراء ظاهرة العنف حتى بات العنف السياسي ينذر بالخطر بصورة متزايدة. وجاءت عملية الاغتيال للمعارض السياسي محمد براهمي عضوالمجلس التأسيسي في
25»7»2013، لتكون الضربة القاصمة لعملية الحوار الوطني في المجلس التأسيسي، وبعد الانتهاء من مراسيم تشييع جنازة براهمي توجه حشد جماهيري كبير نحو مقر المجلس التأسيسي، اذ يجري اعتصام منذ ذلك الحين للمطالبة بحل المجلس التأسيسي وحل الحكومة وتشكيل حكومة انقاذ وطني وتكليف لجنة خبراء بإعداد الدستور وعرضه على الاستفتاء الشعبي، وانضم للاعتصام 60 نائبا من أصل 217 من أعضاء المجلس التأسيسي بعد ان علقوا مشاركتهم في اجتماعات المجلس، فضلا عن انضمام محامين وفنانين وأساتذة جامعات…الخ، وأطلق على هذا الاعتصام اسم اعتصام الرحيل وقرر المشاركون في الاعتصام البقاء في أماكنهم الى ان يتم حل المجلس. وضمن هذا السياق حصل تطوران الاول شكلت بعض الاحزاب السياسية يتقدمها حزب نداء تونس جبهة الانقاذ الوطني التي دعت الى حل المجلس التأسيسي والحكومة وحملت الاحزاب الحاكمة وعلى رأسها حزب النهضة مسؤولية انتشار العنف والتحريض عليه والجريمة السياسية المنظمة التي طالت لطفي نفق، شكري بلعيد ومحمد براهمي ، والثاني انضمت للاعتصام حركة شبابية شعبية أعلنت على نفسها حركة تمرد مماثلة في الاسم للحركة الموجودة في مصر،دعت اليها اطراف اكدت على ان لا انتماء سياسي لها , وجمعت هذه الحركة عشرات الالاف من التوقيعات من المواطنين المطالبين باسقاط المجلس التأسيسي حسب منظميها.
وفي ضوء ماتقدم، أصبح النظام السياسي في تونس يواجه الاخفاق في ادارة الشأن العام للدولة وتراجع النموالاقتصادي وتعطيل التنمية وتفشي البطالة وانتشار الجريمة المنظمة وتنامي الاحتقان السياسي والاجتماعي، فضلا عن اسلوب السلطة الفج في تعاطيها مع الاحتجاجات، كل هذه باتت معضلات تهدد مسار الانتقال الديمقراطي في تونس الذي مهدت له انتفاضة التغيير في مطلع 2011. وفي خضم هذه المعضلات وما رافقها من تطورات واحتقان سياسي مأزوم أعلن مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي مساء6»8» 2013 .تعليق أعمال المجلس التأسيسي الى حين التوافق حول صيغة مثلى للخروج من مأزق الحكم في تونس.
مشاهد مستقبلية
ان قرار تعليق اعمال المجلس التأسيسي التونسي في 6»8»2013، يدخل في اطار ايجاد مخرج لازمة الحكم الخانقة التي تعيشها تونس، وقد مثل هذا القرار في جانب منه استجابة لمطالب الاحزاب والقوى السياسية والشعبية المعارضة في تونس التي تطالب بحل المجلس التأسيسي والحكومة، هذا من جهة، كما اكد قرار التعليق القدرة على استثمار رد الفعل الشعبي المؤيد لحل المجلس التأسيسي، لاسيما وان هناك من يشير الى ان القرار قد اتخذ بالتوافق بين رئيس المجلس التأسيسي وقيادة حزب النهضة لامتصاص غضب المعارضة وتهدئة النفوس وبما يخدم مصالحهما معا وتفويت الفرصة على احزاب المعارضة التي تلوح بهذه الورقة في موقفها من النظام من حين لآخر من جهة ثانية، فضلا عن ان القرار جاء عقب تطورات سياسية واقتصادية في غاية الاهمية مصحوبة بتصاعد العنف السياسي الذي شهدته الساحة التونسية. وفي سياق الحديث عن استشراف احتمالات المستقبل لمأزق الحكم في تونس، يمكن تقديم اربعة مشاهد عنها، وفق معطيات البحث وهي
المشهد الاول خيار دفع الازمة للامام.
يفترض هذا المشهد خيار دفع الازمة السياسية في تونس للامام، اوكسب الوقت للاحتواء. ومما يشجع هذا الخيار طلب رئيس المجلس التأسيسي عند تعليقه اعمال المجلس من الاتحاد التونسي للشغل تولي دور التنسيق في فتح الحوار بين حزب النهضة وحلفائه في الترويكا والأحزاب السياسية الليبرالية، وربما ضم احزاب جديدة ممثلة في المجلس التأسيسي مثل حركة وفاء بغية الاتفاق على خارطة طريق جديدة مشتركة بعد ان يقدم حزب النهضة بعض التنازلات من اجل تشكيل حكومة توافقية لادارة الشأن العام من شأنها ان تحدد المواعيد الرئيسة في الاجندة السياسية مثل كتابة الدستور وتحديد موعد الانتخابات القادمة وغيرها، وبذلك يتمكن حزب النهضة من الاستمرار في الامساك بقيادة السلطة، وتبعا لذلك سيشكل ذلك حلا جزئيا.
المشهد الثاني الخيار التبادلي.
وهذا المشهد يشير الى ان بقاء حزب النهضة على رئاسة الحكومة يعني القبول باستمرار الازمة السياسية مع ازمات اقتصادية متتالية تتفاقم في ضوئها البطالة ويتردى المستوى المعاشي للشعب، ولتجاوز ذلك وتحقيق الرفاه الاقتصادي يتطلب الأخذ بالخيار.
5ــ6
التبادلي والذي يتمثل باجبار حزب النهضة على الانسحاب من قيادة الحكومة والتحول الى
ممارسة دور المعارضة في البرلمان مقابل وصول الليبراليين للسلطة وبمباركة أوربية أمريكية بفتح ابواب التعامل الاقتصادي مع تونس من قبل الاتحاد الاوربي والولايات المتحدة الامريكية وتدفق الشركات الاوربية والأمريكية للاستثمار في تونس واعادة جدولة الديون بما يحقق الرفاه الاقتصادي للمواطن التونسي وتحقيق الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي. ذلك ان ما يهم الغرب هي الرقعة نفسها وليس البيادق التي فوقها.
المشهد الثالث خيار التصادم.
وهذا المشهد يقوم على احتمال الدفع باتجاه وقوع التصادم بين جناح المعتدلين والمتشددين داخل حزب النهضة، لاسيما بعد ان برزت ازمته على السطح، اذ ان التشدد داخل الحقل الديني ينشأ ويتنامى حين يحتكر طرف مشروعية الخطاب، والتيار العلماني يدفع بهذا الاتجاه، او ان يكون التصادم بين الجناح المتشدد في حزب النهضة والليبراليين، اوبين كليهما معا، وضمن هذا المشهد احتمالية وقوع التصادم الخفي من خلال اعتماد اسلوب الاغتيالات السياسية وهذا ما شهدته الساحة السياسية التونسية مؤخرا بتبادل الاتهامات في هذا الشأن.
واحتمالية هذا المشهد وان كانت ضعيفة،الا انه يبقى قائما، لان خيار التصادم سواء داخل حزب النهضة أومع الأطراف الأخرى فإن كلفته تكون عالية كما هو معروف ونتائجه وخيمة على مكانة ودور حزب النهضة في الساحة التونسية من جهة، وعلى الشعب والنظام السياسي من جهة أخرى ، اذا لم تحسن ادارته وفق توافقات سياسية فيما بين الاحزاب التونسية والأطراف الدولية ذات المصلحة.
المشهد الرابع خيار الحل الشعبي.
ويكون هذا الخيار على غرار الانموذج المصري الاخير، وتبقى نسبة هذا الخيار مرشحة، وممكنة التحقق اذا استمرت الازمة السياسية بالتفاقم، ويعني هذا الخيار عمليا مواجهة مفتوحة مع حزب النهضة واقصائه عن السلطة، مقابل الاتفاق والتعاون بين مؤسسة الجيش والليبراليين، وتشكيل حكومة انقاذ وطني تحرر المجتمع من الخطاب الديني المتشدد وتتولى عملية ادارة الشأن العام والتعجيل باصدار الدستور وعرضه للاستفتاء الشعبي وتحديد موعد الانتخابات المقبلة وارساء السلم الاجتماعي بين التونسيين.
*جريدة الزمان (الندنية ) http://www.azzaman.com/?p=44689
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق