التجريب في قصص مجموعة (مصاطب الآلهة ) للقاص محمود
جنداري*
د. جاسم خلف الياس
مدخل
بعد أن زحزحت التحولات النصية الثوابت الفنية في القصة القصيرة وانحرفت بها عن معاييرها التقليدية، أخذت تتفاعل مع المعطيات الجديدة التي فرضتها المتغيرات الحياتية، فحدث أن تخلخلت عملية القص في كثير من مكوناتها، وتبلورت هذه الخلخلة في اشتغالات جديدة عمدت إلى نزوعات تاريخية وأسطورية ارتفع فيها الوعي الذاتي بقصدية الكتابة القصصية ضمن مسارات جمالية مثلتها اتجاهات ما بعد الحداثة ، وأطلق عليها تسميات عديدة: ما وراء القص، الميتا قص، الميتا فيكشن، السيرفكشن، الانعكاسية الذاتية وغيرها من المصطلحات التي كثر الجدل حولها ويبدو أنها استقرت على مصطلح ما وراء القص. فانحازت الكتابة القصصية إلى النصوصية، وخصائصها الداخلية، ونفرت من التحفيز الواقعي، واقتربت في جمالياتها التجريبية من تشظي الأحداث، في نسق حكائي يندرج ضمن خطاب مفتوح على التجربة الإنسانية، سرعان ما يمتزج في سرد شعري يفلح في أحيان كثيرة في الإفصاح عن دلالات الخطاب القصصي ، كما يعتمد كسر الإيهام والسخرية التي تبلغ حد التهكم( ).
هذه التحولات التي فرضتها قسوة الحروب ومخلفاتها على الواقع العراقي منذ الحرب العراقية ـ الإيرانية وحتى واقعنا الراهن، جعلت القاص يدخل مأزقه الخاص ويتغرب عن عصره منشغلاً بالموروث التاريخي، والموروث الحكائي، والأساطير، مما أدى إلى تشكيل قصصي لدى البعض من كتاب القصة العراقية القصيرة ، بوصفه نصا معرفيا احتشد فيه التاريخ والأسطورة والسياسة والأدب فابتعد عن الحكاية بنية واقترب منها موضوعا. إذ وظف هذا الاحتشاد في مسار رمزي حاول فيه مغادرة الأطر التقليدية، وخلق رموز تتجاوز مقصديتها الذاتية، وتبتكر دلالات تتسع مدلولاتها في ترهين الموضوعة وتحديثها، من خلال الربط بين ماضي الحكايات ووقائع الحاضر. واحد هؤلاء القصاصين الذين اهتموا في مشغلهم القصصي في هذا المنحى هو القاص محمود جنداري، الذي اشتغل في مجموعة (مصاطب الآلهة) على تقانات جديدة عبرت عن وعيه بالكتابة والتجريب الفني، في تعرية الواقع والجرأة والغور في نسيجه في تقنيات مكنته من قول ما يريد، لاسيما اشتغاله على التاريخ بشكل مكثف وواضح، أي اختراق التاريخ من جميع جوانبه (أزمنة وأمكنة وإحداثا، ومعرفة متراكمة، أسسا وأسبابا ونتائج) ومنح القص إضافات جديدة، تمثلت في تداخل الميثولوجي والملحمي والتاريخي بالواقعي من اجل تشكيل بنية حكائية جديدة، هذا التشكيل الذي بدا عليه الافتراق عن الاتفاقيات السردية المتوارثة، والدخول في دائرة المضامين في ((استفزاز الجانب الفجائعي فيها . خاصة أن الذات العربية تختزن في تاريخها المعاصر الكثير من الخيبات، والكثير من الكبوات، فقد ظهرت فرص كثيرة في تاريخ الذات العربية ألهبت شغاف الفؤاد العربي وأدفأت جناحيه . لكن كل ذلك انقلب إلى خيبة كبيرة )) ( ). فأين مواطن التجريب في مجموعة (مصاطب الآلهة) وهي تشكل وعيها القصصي المختلف عن غيرها من القصص القصيرة؟ من المؤكد أن البحث لا يجيب مباشرة على أسئلته التي يطرحها، وإنما ستتمظهر إجاباته ضمن إجراء يؤكد على أن (( كل نص، وكل بنية، وكل ابتكار، إن لم يقدنا إلى ذائقة مضافة بالضرورة سيخلف إشكالية تخص الحاضر.. فالبعد الجمالي – الروحي كحل دينامي للمثقف يقف كمشروع مغير للإبداع من الداخل، دون أن يفقد ذلك المغزى القائل بان الأشكال ذاتها تمتلك قدرة إجراء تعديلات على المضمون. فالحل الجمالي – الروحي بهذا الاتساع يأخذ العملية الإبداعية مأخذ الجد، كمصير يخص النص، وبعد ذلك، لا ينفصل عن الكينونة الداخلية للمتلقي)) ( )
ولأن القاص التجريبي الذي يسعى إلى الاختلاف عن الآخرين من جهة ، والاختلاف عن نفسه من جهة أخرى ،(( لابد أن ينطلق من وعي مركب بحقيقة ما يرفض وما يضيف ، فهو يعرف أين (يخرق) وأين (يصل) دليله، وعي بموضع ( الشرخ ) حيث الجانب الميت أو الراكد الذي ينبغي اختراقه رفضا وهدما ، ووعي بموضع (الوصل) حيث الإضافة المقترحة إلى التيار بما يجعله أكثر نظارة وديمومة وخصوبة)) ( ) . وإذا كانت ملامح هذا الاشتغال قد انوجدت في قصة (الذي مات ) في (مجموعة أعوام الظمأ) ، وقصة (حدث في عام الفيل) في مجموعته الحصار، فإن عنف هذا الاشتغال قد اشتد في مجموعة (مصاطب الآلهة). وعند تتبعنا لقصص المجموعة وجدنا أن القاص قد أفاد كثيرا من تقانات ما وراء القص في أنماطه الثلاثة التي حددتها باتريشا واو: ( )
1- نمط يدمر دور السارد المحيط ، ويزعج الاتفاق الخاص بالقص التقليدي .
2- نمط يستحضر السخرية والتهكم في بعض الإعمال والصيغ الروائية .
3- نمط يظهر فيه ما وراء القص في صيغة تراكيب لغوية بديلة أو تدلل ضمنا على تشجيع القارئ على أن ينسحب من اتفاقيات القص التقليدية.
لقد استطاع الباحث أن يشخص نمطين من أنماط ما وراء القص في هذه المجموعة، إذ شكل كل نمط انزياحا نوعيا عن القصة القصيرة، لا بسبب توظيف القاص لتقانة فرضت هيمنتها على القص فحسب، وإنما بسبب اشتغالات أخر ساعدت القاص على التفرد بهذا الانزياح من مثل تدمير الحبكة التقليدية، وخلخلة السرد، وغيرها. وسنتناول في كل مبحث نمطا من هذين النمطين.
ما وراء القص التاريخي
أطلقت هذه التسمية على الأعمال القصصية التي شغلتها الانعكاسية الذاتية الواعية والاهتمام بالتاريخ ، ويبدو أن التاريخ والقص متناقضان اصطلاحا على الرغم من أن تركيب كلمة تاريخ الانجليزي(history) يتضمن كلمة قصة story)) إلا أنه مع تجذر الواقعية، أصبح التاريخ يمثل الموضوعية فيما تمثل الرواية التخيل. وعليه فما وراء القص التاريخي هي روايات الانعكاسية الذاتية المكثفة التي تعيد تقديم السياق التاريخي بطريقة ما وراء قص و(تمشكل) تبعا لذلك قضية المعرفة التاريخية بأكملها ( ) إذ يتموضع التاريخ في النص بوصفه تهكما أو سخرية، وفي إبدال (( العلاقة المرتابة بين المؤلف والنص بالعلاقة بين القارئ والنص)) ( ). هذه العلاقة المرتابة هي التي تعيد قصة تحكي عن قصة سبق أن حكيت حسب امبرتو ايكو إذ يقول (( القصص التي تعيد اسم الوردة حكيها هي كتابات أدبية لــ( لارثر كانون دويل، وخورخي لويس بورخس، وجيمس جويس، وتوماس مان، واليوت وآخرون) وكتابات تاريخية ( دوريات تاريخية من القرون الوسطى، وشهادات ديبنية) )) ( )
لقد قاربت الدراسات النقدية المعاصرة بين التاريخ والقص مستندة إلى أن التاريخ ليس إلا رواية بدون أي ادعاء مباشر بتمثيل الواقع أو عرض الحقيقة . ولقد عززت تقانات القصة التي وظفتها الكتابة التاريخية هذا الادعاء، فقد وظفت تلك الكتابات الحوارات والخطابات الحرة غير المباشرة، من اجل إحداث التأثير الفني. وتوريط القارئ في إيجاد علاقة بين الأحداث، وتأويل دوافعها وأسبابها، عكس ما قد يبدو للوهلة الأولى من حشد فوضوي لتفاصيل غير مترابطة في شكل منصص، يوظفه القاص ويحفزه على إعادة ترتيب الحكايات على أسس منطقية أو نفسية وإعادة تنصيصها من جديد . أي توريط القارئ في البحث عن تكملة النص المبتور أو المضمر مدفوعا بالحاجة إلى التواصل القسري إن جاز التعبير . كما في المقطع الآتي:
(( فقد شوهدت على مقربة من بابل ، وعلى مقربة من الأنبار ، وعلى شواطئ جزيرة دلمون / شوهدت في اغلب البحار والمحيطات والأنهار والمستنقعات التي تلحسها موجات المياه المالحة المندفعة من البحر السفلي . شوهدت وبداخلها ألواح من طين نينوى، منقولة إلى بابل ، ومن بابل إلى شروباك ومن ثم ارابخا : ألواح يقتعدها أنبياء وملوك مجانين وطواغيت من حجر)) ( )
وعلى القارئ أن يجد العلاقة بين ( بابل ، والانبار ، ودلمون ) ، وماذا تمثل كل مدينة من هذه المدن ؟ وما الذي يوحّدها ؟ وما الذي يوحّد ( نينوى وبابل وارابخا ) ؟
وعلى الرغم من أن هذا النوع من القص يحاكي تقانة التاريخ ، إلا أن شكلها في النهاية يعزز فكرة أن محتواها في الأساس يهدف إلى الانتقاد . فبدلا من محاولة خلق نظام , فإن أدب ما بعد الحداثة يطبق فوضى الوجود المعاصر على أشكاله ويسعى إلى تفكيك اتفاقيات القصة القصيرة وبناء نص يعتمد المغامرة والاقتحام . وعلى هذا الأساس يفقد نص جنداري القصصي استقراره وثبوتيته في عالم الكتابة والقراءة معا. إنه يعرض على القارئ طريقة ليعيد رؤية الحياة كلها من جديد، أسلوب جديد في قراءة العالم. ((فهو في إبداعه ذات متحولة تعمل بجد على تشظية المسارات الحكائية، واعتماد مبدأ التبدلات الدائمة لفن حكائي لا يعتمد التقليد بقدر ما يكتشف نسقه لتشكيل نسق مغاير، يبعث الحياة في كتابة لا تراهن على ثبات المعلن، وإنما تنزع إلى حراك تغيير المعايير الجمالية بوعي تام يعرف ـ حتما ـ معنى تعقيدات الكتابة السردية، لا سيما (القصة القصيرة) التي تتطلب إصرارا خاصا على إبلاغ (لا ينصّ..؟؟!)، وإنما يهيئ مسيرته الفنية للصراع مع مرايا غير متساوية في أبعادها وسطوحها)) ( ) .
إن تعالق التخيّل مع التاريخ في قصص جنداري، يتمثل في عرض وقائع الخرافة والجنون والفانتازيا، إذ تتسلل ببطء إلى النص، وتنتزع الاعتراف التاريخي بكونها ظواهر ذات دلالة، فيعمل على عرض هشاشة الوجود الإنساني والعشوائية والمفارقة في مواجهة الخلود والسيطرة والعقلانية، ويمكننا أن نلمس هذه الثنائيات متصارعة أو متوافقة في قصصه بوضوح. ومن أهم التحولات المتمظهرة بوضوح في قصص هذه المجموعة، هو إعادة اكتشاف التاريخ بوصفه موقفا قابلا للتطبيق في الحاضر من اجل التخفي وراء ايحاءاته المتعددة، أو من اجل تبعيد الحدث، والاشتغال في مأمن من أي سلطة مهما كان نوعها. ولأن جنداري لا يتناول التاريخ بوصفه عملية عقلانية، فإن بعض الأنواع الأدبية يعاد تجزئتها في شكل جمالي بديل بتضميناتها التي تتعالق مع الواقع في صياغة أدبية ، تكتنز نزوعها الجمالي والإبداعي.
(( صنعوا عشر سلاسل في عشر سنوات على غرار سلة الحكايات، وخلال عشر سنوات أخرى ملطوها بالقار والكبريت ثم حفروا حفرة عميقة في مكان قريب من البصرة عند نهايات الموج المالح الذي يلحس المستنقعات ويبدد ركودها، حفروا دون توقف في الليل كما في النهار طوال عشرة قرون بنهايات عصي مدببة صنعوها من عظام الخيل والخنازير ومن زعانف الأسماك التي تقتات على الوصول، وعشرة قرون أخرى حفروا بسكاكين من حجر صلب قد من أخاديد عميقة في الأرض بمعاول حجرية لها مقابض من خشب)) ( )
فالتداخل الذي حصل بين شخصية آنية وأخرى ذات حضور مرجعي ـ حسب الباحث محمد ونان جاسم ـ هو الذي حرك هذه الشخصيات بنوعيها في مجال الزمن اللامحدود، الزمن الأسطوري الممتد من اللانهاية، إلى الآن المستمر. وقد كان الأمر مضاداً في مجال حركة الشخصيات الفاعلة في المكان، إذ حدد المكان بالرقعة الممتدة من نينوى إلى البصرة، هذا الثبات المكاني ناقض اللاثبات الزمني وساعد على تشكيل المفارقة المبنية على خرق التداول، إذ كيف لا يتغير المكان تبعاً لتغير الزمان؟. فضلاً عن ذلك كان الانتقال الزمني انتقالاً غير منطقي وقد بانت اللامنطقية في أمرين هما: ( )
(1)- الانتقال من وحدة زمنية إلى وحدة زمنية أكبر، وبقاء الفاعلين أنفسهم مما أضفى عليهم صفة الخلود.
(2)- الدلالة التي تضمنها الانتقال الزمني.
وفي ظل غياب أية إثباتات على صحة التاريخ الذي وصلنا نصوصا ( ورقية ) فان جنداري يطمح إلى إعادة الوعي بالتاريخ من خلال التركيز على فكرة أن التاريخ قد كتب أساسا لصالح طغاة انتصروا على خصومهم ، وقمعوا شعوبهم ، واستدرجوا الكوارث بسوء تقديراتهم. فيدمج التقنيات التخيلية بكل ما هو تاريخي ( شخوص ، مدن ، كتابة ... وغيرها)، ويركز على فكرة خضوع الجماهير لقوى سياسية أو أيديولوجية خارجية لا سيما إلى حد كبير على الأفراد ودوافعهم، وطموحاتهم، ورغباتهم، وهو الهاجس الذي ظل يؤرقه في مجاميعه القصصية كافة. الأمر الذي منح القصص زخمها الإنساني، فـ((الواقع الذي تتعاطاه القصة القصيرة هو ليس الواقع المادي في عيانيته، وإنما هو بنيته التصورية، وكينونته الثقافية، أي الأشياء والإحياء والأفكار والوقائع، وهي تحوي أسماء ، وتنضوي في مفاهيم ، وبهذا يتبدل القول التقليدي من أن لغة المؤلف تعكس الواقع إلى القول البنيوي بان بنية اللغة تنتج الواقع)) ( ).
إن التحولات الحادة في الأوضاع الاجتماعية والسياسية قد أعادت التفكير بالتاريخ، وتوظيفه وتشكيله في رؤى جديدة قادرة على استيعاب الأزمات والنكبات التي تمر بها الأمة العربية. فأخذ يتخفى القاص خلف حكايات التاريخ وأدوات سرده المختلفة منتهكا الحدود بين الأنواع الأدبية، مراوحا بين الوصف والتعليق في نسق جديد يفضى في المحصلة إلى إلقاء تصوير طبيعة الطغاة المتناسلين منذ فجر السلالات وحتى اللحظة الراهنة وذلك في جميع قصص المجموعة. إذ تتوارى الشخوص الثانوية في الأجزاء التاريخية من القصة، ولكنها تظهر في زوايا أخرى من التسريد دون أن تتنازل عن عجزها وسلبيتها وهزيمتها حين تكتفي بدور المراقب المسجل للأحداث والمنتظر التائق للخلاص. فيوظف معطيات الماضي التي وصلت إلينا نصوصا وآثارا وصورا لتفسير وتقريب الحاضر، إذ أن (( زمن الكتابة في حالة استحضار دائمة في التاريخ واستدعاء أي لحظة من لحظاته وفي اللحظة التي نريد ونقلها إلى أيه لحظة آنية نتوقها بالحس الفني الذي نملك، على أن تتم هذه التبادلات الزمكانية بكيفية ديناميكية وإلا ما فائدة المحاولة الفاشلة)) ( ) فعلى سبيل المثال لا الحصر ـ حسب القاص نفسه ـ أن (( لحظة انتصار سرجون الاكدي ولحظة موت الاسكندر هي أزمنة خاصة مشحونة لا يمكن احتسابها بأية وحدة قياسية للزمن إنما يمكن القول إنها حاضرة في لحظة الكتابة التي تأخذ عنفوانها من عنفوان حضور وعي الكاتب , في حضور لحظة الكتابة وهيمنتها )) ( ) . وبهذا يشكل انتقالها وعيا جديدا بالتاريخ ، ويتم التعامل معها وفق المتخيل لا الموضوعية .
إن القصص التي تعتمد ما وراء القص التاريخي تستند في حقيقتها إلى خلفية تاريخية محددة , تعمل على انطلاق السرد مستفزا نكهة التاريخ، متناولا جوانب تاريخية تتدرج إلى زوايا الأسطورة والفانتازيا لتهيمن الفوضى والغرائبية والاسطرة على القصة، ويتورط القارئ في فك الخيوط وإعادة الحبك وتأويل التضمينات؛ لأن كما هو معروف يفترق الواقع القصصي ( المتخيل) عن الواقع الخارجي ( المرئي) ويهدف القاص من وراء هذا إلى ((تقديم رؤية للعالم الذي يعيش فيه من خلال خلق عالم كما يتصوره أو يتخيل أن يراه أو كما يراه وفق موقفه منه )) ( ) ويؤكد امبرتو ايكو على هذه الفكرة ببساطة ثنائية التجانس /اللاتجانس بين الواقع النصي والواقع المادي فيقول: ((ينبغي لعالم المرجع ( الواقعي ) نفسه أن ينظر إليه بأنه بنيان ثقافي ليس إلا)) ( ). ويبرر استنتاجه بالقول: (( إذا كانت مختلف العوالم الممكنة النصية تتراكب مع العالم الواقعي وان كانت العوالم النصية أبنية ثقافية فكيف يسعنا بعد إذن أن نقارن بنيانا ثقافيا بشيء (غير مجانس) فنجعلها قابلة للتحول بصورة متبادلة ؟ وبالطبع يتم ذلك بان نحيل الكيانات موضوع المقارنة والتحويل إلى كيانات متجانسة)) ( ). وهكذا تنقلب كل الممكنات الواقعية في النص القصصي (( مألوفية الرؤية ومألوفية التسمية والوصف والتتابع ، وبطريقة غير (عقلانية) أحيانا محدثة صدمة إدراكية نطل من منظورها على العالم بين الكلمة والثقافة وثروتها الدلالية والشعورية المتراكمة في الوعي فليس القارئ في النهاية أناء فارغا يملؤه قول الكاتب)) ( ).
إن قلق القارئ في كتابات ما وراء القص يشكل أحيانا هدفا بحد ذاته، والقارئ في نظر جنداري يستحق المغامرة، وفي هذا الصدد يقول : (( ثمة من يأخذ على هذه النصوص ( يقصد مصاطب الآلهة، زو- العصفور الصاعقة ، القلعة، عصر المدن، العصور الأخيرة ) منها خلوها من الهوامش والمرجعيات التي تعين القارئ على التعرف على الأحداث المستدعاة أو المتخيلة، ولكنني وكما قلت أكثر من مرة، أحاول أن اجعل النص، كل نص بما يثيره من متعة أو مماحكة واستفزاز أو كراهية هو موضوع القارئ نفسه؛ لأن النص القصصي ليس أحداثا منفرد أو منعزلة، لذا اعمل على دفع القارئ إلى البحث عن الأحداث والواقعات بنفسه)) ( ). فالقاص على الرغم من انه يرى أن فرضياتنا بحاجة إلى هزات من حين لآخر حتى لا تتحجر. فانه يغامر من اجل أن تكون تلك الهزات وسيلتنا إلى فهم مغاير، لا أن تعود الأشياء بعد القلق إلى سالف عهدها. فهو يضع ثقته في قارئ يستطيع أن يفكك هذه النصوص ويعيد بنائها من جديد .
إن كل قصة من القصص التي اعتمدت ما وراء القص التاريخي هي في الواقع ثلاث قصص تجريبية : القصة التي يحكيها السارد، التي تتسلل عبر التاريخ . والقصة التي يحكيها التاريخ في مكان وزمان آخر. وقصة حكي القصة أو الخطابات التي تخترق لحمة الإطار الخارجي طوعا أو كرها، حين يحاول سارد القصة وسارد التاريخ تنبيه القارئ إلى أن عمله محض صناعة بشرية، ومن ثم فالواقع والتاريخ ليسا إلا هياكل وتنظيمات بشرية تتعالق فيها الحقيقة بالخيال . وهكذا تغير مجال التاريخ في ما وراء القص إلى التعددية واللا تجانس. وقد وظف جنداري التاريخ ليعرض تعقيد وتناقض الخبرة التاريخية . فـ(( الأشياء لم تكن أشياء بالكينونة، بل ما تضمر من نعوت ودلالات، وهكذا شكل التاريخ مجالا تجريبيا للفن، ومجالا كشفيا خصبا كذلك )) ( ).
(( مع نقاط الدم والرمل صنع أهل ارابخا سبيكة صلبة، صنعوا منها أول سكين ، وأول فأس ، وأول منجل ، وأول دكة لغسل الموتى ، ثم واصلوا الحفر بالأظافر والسكاكين والمعاول والفؤوس والتعاويذ .. بقرون الجاموس ، وعظام الطير ، وزعانف السمكة الذي يقتات على الوحول )) ( ).
إن المعنى عند جنداري ليس وديعة أحداث تاريخية متعاقبة زمنيا، ولكنها وديعة تأويل القارئ . لأن ما يقوم به القاص هو إعادة تدوير الأحداث التاريخية، وصياغة الفكرة القائلة بأن الإدراك والفن هما إعادة خلق الواقع بصياغة مغايرة . فالتوتر في القصة ربما يعود إلى انتهاك تخوم العوالم المختلفة، أو حتى اختراق عالم ما من قبل عالم آخر. بهويات مختلفة تتداخل فيما بينها لتدلل على عدم يقينية الحواجز بين القص والتاريخ. فمن الصعوبة تفسير الشخوص في هذا القص فيما لو حاولنا تطبيق الأدوات النقدية التقليدية ، بل إننا نجد صعوبة في تسميتها شخوصا قصصية بالمعايير التقليدية. فهو يتعامل مع التاريخ بوصفه سردا غير موثوق به ، أو لغة كأي لغة أخرى تتحدث إلى متلقيها وليس العكس .
من المعلوم أن الدراسات النقدية التي تتناول عملية التسريد في كتابات ما وراء القص لا تكتمل بدون تعليقات يقوم بها المؤلف /السارد أو المؤلف / الشخصية بتوظيف صوته السلطوي للتعليق على العمل أو لإثبات حضوره حين يدس رسالة يمكن فهمها أحيانا على أنها تدخل مباشر من قبل المؤلف :
(( وحقيقة الأمر أنهم فكروا بتشتيت الحكايات والالتفاف على الذعر الذي تثيره كسرة من رقيم علقت بسلة تظهر كل عشرة قرون (...) على كل حال اتفقوا على حمل السلاح إلى منابع الزاب، خلف جبال قلعة دزه وإلقائها في النهر واحدة اثر واحدة، وعشرة قرون بين واحدة وأخرى)) ( ).
في هذين التداخلين تبدو المفارقة واضحة، فبعد أن يمهد السارد للشخوص، ويغريهم بتفتيت الحكاية، نراه وكأنما يعود إلى القص التقليدي والى التتابع والترتيب، ( واحدة إثر واحدة، وعشرة قرون بين واحدة وأخرى) في حين اخذ التباعد الزمني وتحولاته في بداية القصة مسارا غير منطقي، ويبدو أن التدخل الأخير لم يكن سوى وجه من أوجه التهكم والسخرية .
كما يبدو أن الأمكنة والأشياء بوصفها شخوصا تؤدي أحداثا وأفعالا معينة هي التي حركت العمل في هذه القصة، لذا فإن الشخصية الفردية التي تخلى عنها جنداري، لم تكن محط اهتمامه. فسعى إلى تعويض ذلك بتحشيد المستحيلات ضمن السرد نفسه؛ ليجبر القارئ على الإبحار إلى ابعد من معنى القصة الظاهر ويقوده إلى نهايات متعددة لتطابق عوالمه المتعددة، أو انه ببساطة قد يترك نصه في نهاية مفتوحة . وليست الشخوص هي المكون الوحيد المهدد في كتابات ما وراء القص ، بل أن عناصر أخرى قد انتهكت أو دمرت . وأعيدت هيكلة جذرية للاتفاقيات السردية مع الاحتفاظ بالحد الأدنى منها. وحتى المكونات القليلة التي ظلت على استحياء هي الأخرى تتعرض للعزل أو المحاصرة. فالتسلسل المنطقي الذي هو أهم العوامل التي تصعّب قصص جنداري انعدم في هذه القصة تماما. وأخذ إما شكل الاستطراد الضروري وليس الممل أو إدغام مقاطع في علاقات تناصية من اجل الاهتمام بها وكشف دلالاتها من قبل القارئ .
لا يكتفي ما وراء القص بالانفتاح على الماضي فحسب، إنما ينفتح على الحاضر أيضا كما في ( قصة العصور الأخيرة) التي كتبت في قص مختلف، وتمظهر فيها ضمير المتكلم شخصية فاعلة، بعد ما كان طاغياً ومهيمناً على القصص السابقة ضمير الغائب : ( )
(( الآن علمني كيف يقام الاعتراف، وسأعترف لك وحدك . سأعترف أنني سئمت النوم ونبذت المكوث في تجاويف الحقب التي تجري خلف بعضها مثل دلاء النواعير)) ( ).
ففي هذه القصة تؤدي المفردة وظيفتها الإشارية باستحضارها عددا من المفردات على سبيل (التداعي الخطي) ويقصد به أحد الباحثثين (( تحقيق الإشارة إلى التداعي اللفظي، المنظم وفقا لآليات الشكل القصصي، المتحقق بالعطف، وباعتماد آلية الخط المائل ( / ) )) ( ) إذ يحاول القاص من خلال هذه الوظيفة الانزياح عن السياق بجملة استطرادية واحدة تعمل على تكثيف هذا الاستطراد وتثبيت الدلالة الكلية للنص :
(( أما الخصاء فإنه محاولة لتوفير الأمن الجنسي للواني عند المصريين / للسارق عند الآشوريين / لثيران الحراسة في قرى حمام العليل / للخائن عند البابليين / للشعراء عند عبد الملك بن مروان / للوزراء عند طغرلبك)) ( ) .
ومع الأخذ بنظر الاعتبار ((أن الانزياح الدلالي الحاصل بسبب وجود المفردة في الخطاب لا يقطع عنها جذرها الدلالي الأصيل)) فإن مفردة ( الخصاء) في كل جملة من الجمل الاستطرادية هي التي عمقت دلالة (القمع) وحسب وجودها في الجملة . ويغدو هذا الانزياح اشد فاعلية واكتر تعددا في التكرار اللفظي (( كون المفردة تنطوي ضمنا على إشارة ما تحيل إلى طقس أسطوري، أو قصة أسطورية (..) لأن تكرار ظهور هذه المسميات في الخطاب القصصي الواحد ربما يؤدي إلى توفير طاقات إيحائية مضافة)) ( ) كما في تكرار مفردة ( آرانجا ) في قصة ( أمواج كالجبال) .
وتختلف رؤية الباحث فرج ياسين محمد عن رؤيتي كل من الباحثين صبري مسلم وعمار احمد في التكثيف الوجودي لهذه المسميات في النص الواحد، بقوله (( بعد تتبع كل واحدة من هذه المسميات في قوام السرد ، نكتشف أنها تختزن قوة الشخصية القصصية المحورية المفترضة في النص، وان كل مفردة لها قابلية واضحة على التحاور مع المفردات الأخرى، والتعايش معها وصولا إلى توفير اللحمة البنائية في القصة. ومن الآليات الضابطة لاشتغال هذه المفردات هو التنافر الزمني الذي يجعل كل مفردة لا تتخذ وضعا واحدا في القصة لأنها تخضع مثل أي من العناصر للتغيرات التي توجبها فرضية تفكيك السرد )) ( )
وتعد قصة (أمواج كالجبال) من قصص ما وراء القص التاريخي بامتياز، إذ تحدت ـ حسب تعبير ليندا هتشيون ـ سلطة التاريخ باعترافها بان الحقائق المعروضة في تأويل الوعي الذاتي الذي يعيد تقديم السياق التاريخي بطريقة ما وراء قص و (وتمشكل) قضية المعرفة التاريخية بأكملها كما اشرنا إلى ذلك سابقا. كما أن رموز قصته التاريخيين، لن يكونوا بعد اليوم شخصيات طيبة تحمل هوية ثابتة، ملامح وسمات اجتماعية ونفسية مستقرة، بل على النقيض من ذلك، إذ أن وجودهم سيكون أكثر تعقيدا، وهو اقرب إلى الواقع. ولم يحاول القاص الدفاع عن اغتراب رموزه التاريخية، فهم انفصاميون؛ أي أن كل فرد هو عدة ذوات ؛ لأن الفرد هو مكان ونقطة التقاء خطابات متنافسة ومتنوعة. لا توجد هوية حقيقية، ولا (أنا) متعالية ثابتة، فقط سلسلة من الأدوار المختلفة مشروطة بالتغير التاريخي. فالناس يراقبون ما يجري في واقعهم الذي يحيونه , وعندما يتخيلون عالما أخر فإنهم يبنون جسورا متخيلة بين ما يدركونه وبين العالم الذي يتخيلونه. وتلعب الشخوص التاريخية دور الجسور بين واقعنا وبين العالم الذي يريد القاص أن ينقلنا إليه سواء من حيث العمق المكاني أو التعددية الزمانية. وتتعالق الشخوص والجسور فيما بينها في القصص التي تنتمي إلى ما وراء القص التاريخي، ويحشر القارئ بين هذه الشخوص، إذ يحمل هاجس عالم لا يستطيع إدراكه , يفقد سيطرته عليه, ويفقد هويته، فينشد اللا موجود واللا متخيل، وتسوء ذاكرته الطفولية ـ عن كل ما يعرفه في عالم مجنون تتلاطم فيه الأمواج كالجبال. فـالتاريخ لم يكن مجرد مناطق إضاءة تساعد على استكمال البانوراما التي أراد التعبير عنها جنداري في مجموعته القصصية (مصاطب الآلهة) بل أصبح التاريخ هو مادة الكتابة ، والجدل ، والمحاورة الجادة العميقة ( ).
يبدو على هذا الأساس أن محاولات توظيف جنداري لتاريخ بلاد الرافدين حصرا جاء لسببين:
الأول : كونه من المهتمين بـ( المحلية الخلاقة ) حسب تعبيره (( أنا أحب بلدي العراق، أنا محلي، قلبا وروحا وفكرا وتطلعا ،أنا مفتون بتاريخ العراق ، إلى حد أنني بدأت أرى العالم من خلال العراق، أنا محلي وسأظل محلي))( ) .
والثاني: يتعامل مع التاريخ بوصفه (( ذاكرة حية وفاعلة )) ( ) .
من كل ما تقدم نستطيع القول أن الشخصية في التناص التاريخي يمكن أن تكون نموذجا أو رمزا، إذ أن دقة أو حقيقة التفاصيل لا تكون ذات أهمية في سبيل تحقيق الالتزام التاريخي الواقعي ، ويجري في العادة تركيب المعطيات من اجل استعارة إحساس بالمصداقية وبالحقيقة التي يمكن إثباتها . وغالبا ما تؤدي الشخوص التاريخية دورا ثانويا كما لو أنها تخفي الروابط بين القص والخيال بحيلة رسمية ووجودية بارعة . أما في ما وراء القص التاريخي فلا وجود لرمز أو نموذج . وتلجأ هذه الكتابات إلى التلاعب بالحقيقة وتكذيب السجل التاريخي أو توظيف المعطيات التاريخية، ومن النادر أن تقوم بتجميعها أو تركيبها أو ترتيبها فهي غير معنية بالنظام أو المصداقية قدر اهتمامها بإبراز بشرية الصناعة التاريخية ، ونزع القداسة والأسطورة والغموض عن التاريخ الذي وصل إلينا نصوصا يجوز لنا تناولها وتوظيفها واستجوابها . أما في ما يتعلق بالربط الوجودي للشخوص التاريخيين فان ما وراء القص التاريخي ينظر إليه بوصفه مشكلة تستحق المساءلة إذ كيف لنا أن نعلم عن الماضي ؟ وما الذي نعرفه عنه الآن؟ . وهذا ما جعل السخرية والتهكم من التقانات التي تم توظيفها في هذه الكتابات، إذ أن التهكم يخدش الاختلاف مع الماضي، في الوقت الذي تعمد السخرية إلى :
1- حشر الماضي بصورته النصية في نص الحاضر .
2- تجسير الهوة بين ماضي القارئ وحاضره مع رغبة جديدة في إعادة كتابة الماضي في سياق جديد .
3- تعليمنا أن كلا من النصوص الروائية والتاريخ تشير إلى المستوى الأول من نصوص أخرى: إننا لا نعرف الماضي إلا من خلال بقاياه المنصصة .
نستنتج من كل ما سبق أن جنداري ما أراد بهذا الحشد الهائل من المدن والأسماء التاريخية إدخال القارئ في متاهات الغموض، ودوائر التية المقفلة، وتشكيل جمل لغوية في تكثيف حدث أو وصف، من أجل زخرفة لفظية، بل جعل التاريخ بكل مكوناته ساحة مكشوفة تتمظهر فيها تجليات الحاضر في تعالقاتها المستمرة بين القبول والرفض .
*مجلة امضاء العدد المزدوج 1-2
جنداري*
د. جاسم خلف الياس
مدخل
بعد أن زحزحت التحولات النصية الثوابت الفنية في القصة القصيرة وانحرفت بها عن معاييرها التقليدية، أخذت تتفاعل مع المعطيات الجديدة التي فرضتها المتغيرات الحياتية، فحدث أن تخلخلت عملية القص في كثير من مكوناتها، وتبلورت هذه الخلخلة في اشتغالات جديدة عمدت إلى نزوعات تاريخية وأسطورية ارتفع فيها الوعي الذاتي بقصدية الكتابة القصصية ضمن مسارات جمالية مثلتها اتجاهات ما بعد الحداثة ، وأطلق عليها تسميات عديدة: ما وراء القص، الميتا قص، الميتا فيكشن، السيرفكشن، الانعكاسية الذاتية وغيرها من المصطلحات التي كثر الجدل حولها ويبدو أنها استقرت على مصطلح ما وراء القص. فانحازت الكتابة القصصية إلى النصوصية، وخصائصها الداخلية، ونفرت من التحفيز الواقعي، واقتربت في جمالياتها التجريبية من تشظي الأحداث، في نسق حكائي يندرج ضمن خطاب مفتوح على التجربة الإنسانية، سرعان ما يمتزج في سرد شعري يفلح في أحيان كثيرة في الإفصاح عن دلالات الخطاب القصصي ، كما يعتمد كسر الإيهام والسخرية التي تبلغ حد التهكم( ).
هذه التحولات التي فرضتها قسوة الحروب ومخلفاتها على الواقع العراقي منذ الحرب العراقية ـ الإيرانية وحتى واقعنا الراهن، جعلت القاص يدخل مأزقه الخاص ويتغرب عن عصره منشغلاً بالموروث التاريخي، والموروث الحكائي، والأساطير، مما أدى إلى تشكيل قصصي لدى البعض من كتاب القصة العراقية القصيرة ، بوصفه نصا معرفيا احتشد فيه التاريخ والأسطورة والسياسة والأدب فابتعد عن الحكاية بنية واقترب منها موضوعا. إذ وظف هذا الاحتشاد في مسار رمزي حاول فيه مغادرة الأطر التقليدية، وخلق رموز تتجاوز مقصديتها الذاتية، وتبتكر دلالات تتسع مدلولاتها في ترهين الموضوعة وتحديثها، من خلال الربط بين ماضي الحكايات ووقائع الحاضر. واحد هؤلاء القصاصين الذين اهتموا في مشغلهم القصصي في هذا المنحى هو القاص محمود جنداري، الذي اشتغل في مجموعة (مصاطب الآلهة) على تقانات جديدة عبرت عن وعيه بالكتابة والتجريب الفني، في تعرية الواقع والجرأة والغور في نسيجه في تقنيات مكنته من قول ما يريد، لاسيما اشتغاله على التاريخ بشكل مكثف وواضح، أي اختراق التاريخ من جميع جوانبه (أزمنة وأمكنة وإحداثا، ومعرفة متراكمة، أسسا وأسبابا ونتائج) ومنح القص إضافات جديدة، تمثلت في تداخل الميثولوجي والملحمي والتاريخي بالواقعي من اجل تشكيل بنية حكائية جديدة، هذا التشكيل الذي بدا عليه الافتراق عن الاتفاقيات السردية المتوارثة، والدخول في دائرة المضامين في ((استفزاز الجانب الفجائعي فيها . خاصة أن الذات العربية تختزن في تاريخها المعاصر الكثير من الخيبات، والكثير من الكبوات، فقد ظهرت فرص كثيرة في تاريخ الذات العربية ألهبت شغاف الفؤاد العربي وأدفأت جناحيه . لكن كل ذلك انقلب إلى خيبة كبيرة )) ( ). فأين مواطن التجريب في مجموعة (مصاطب الآلهة) وهي تشكل وعيها القصصي المختلف عن غيرها من القصص القصيرة؟ من المؤكد أن البحث لا يجيب مباشرة على أسئلته التي يطرحها، وإنما ستتمظهر إجاباته ضمن إجراء يؤكد على أن (( كل نص، وكل بنية، وكل ابتكار، إن لم يقدنا إلى ذائقة مضافة بالضرورة سيخلف إشكالية تخص الحاضر.. فالبعد الجمالي – الروحي كحل دينامي للمثقف يقف كمشروع مغير للإبداع من الداخل، دون أن يفقد ذلك المغزى القائل بان الأشكال ذاتها تمتلك قدرة إجراء تعديلات على المضمون. فالحل الجمالي – الروحي بهذا الاتساع يأخذ العملية الإبداعية مأخذ الجد، كمصير يخص النص، وبعد ذلك، لا ينفصل عن الكينونة الداخلية للمتلقي)) ( )
ولأن القاص التجريبي الذي يسعى إلى الاختلاف عن الآخرين من جهة ، والاختلاف عن نفسه من جهة أخرى ،(( لابد أن ينطلق من وعي مركب بحقيقة ما يرفض وما يضيف ، فهو يعرف أين (يخرق) وأين (يصل) دليله، وعي بموضع ( الشرخ ) حيث الجانب الميت أو الراكد الذي ينبغي اختراقه رفضا وهدما ، ووعي بموضع (الوصل) حيث الإضافة المقترحة إلى التيار بما يجعله أكثر نظارة وديمومة وخصوبة)) ( ) . وإذا كانت ملامح هذا الاشتغال قد انوجدت في قصة (الذي مات ) في (مجموعة أعوام الظمأ) ، وقصة (حدث في عام الفيل) في مجموعته الحصار، فإن عنف هذا الاشتغال قد اشتد في مجموعة (مصاطب الآلهة). وعند تتبعنا لقصص المجموعة وجدنا أن القاص قد أفاد كثيرا من تقانات ما وراء القص في أنماطه الثلاثة التي حددتها باتريشا واو: ( )
1- نمط يدمر دور السارد المحيط ، ويزعج الاتفاق الخاص بالقص التقليدي .
2- نمط يستحضر السخرية والتهكم في بعض الإعمال والصيغ الروائية .
3- نمط يظهر فيه ما وراء القص في صيغة تراكيب لغوية بديلة أو تدلل ضمنا على تشجيع القارئ على أن ينسحب من اتفاقيات القص التقليدية.
لقد استطاع الباحث أن يشخص نمطين من أنماط ما وراء القص في هذه المجموعة، إذ شكل كل نمط انزياحا نوعيا عن القصة القصيرة، لا بسبب توظيف القاص لتقانة فرضت هيمنتها على القص فحسب، وإنما بسبب اشتغالات أخر ساعدت القاص على التفرد بهذا الانزياح من مثل تدمير الحبكة التقليدية، وخلخلة السرد، وغيرها. وسنتناول في كل مبحث نمطا من هذين النمطين.
ما وراء القص التاريخي
أطلقت هذه التسمية على الأعمال القصصية التي شغلتها الانعكاسية الذاتية الواعية والاهتمام بالتاريخ ، ويبدو أن التاريخ والقص متناقضان اصطلاحا على الرغم من أن تركيب كلمة تاريخ الانجليزي(history) يتضمن كلمة قصة story)) إلا أنه مع تجذر الواقعية، أصبح التاريخ يمثل الموضوعية فيما تمثل الرواية التخيل. وعليه فما وراء القص التاريخي هي روايات الانعكاسية الذاتية المكثفة التي تعيد تقديم السياق التاريخي بطريقة ما وراء قص و(تمشكل) تبعا لذلك قضية المعرفة التاريخية بأكملها ( ) إذ يتموضع التاريخ في النص بوصفه تهكما أو سخرية، وفي إبدال (( العلاقة المرتابة بين المؤلف والنص بالعلاقة بين القارئ والنص)) ( ). هذه العلاقة المرتابة هي التي تعيد قصة تحكي عن قصة سبق أن حكيت حسب امبرتو ايكو إذ يقول (( القصص التي تعيد اسم الوردة حكيها هي كتابات أدبية لــ( لارثر كانون دويل، وخورخي لويس بورخس، وجيمس جويس، وتوماس مان، واليوت وآخرون) وكتابات تاريخية ( دوريات تاريخية من القرون الوسطى، وشهادات ديبنية) )) ( )
لقد قاربت الدراسات النقدية المعاصرة بين التاريخ والقص مستندة إلى أن التاريخ ليس إلا رواية بدون أي ادعاء مباشر بتمثيل الواقع أو عرض الحقيقة . ولقد عززت تقانات القصة التي وظفتها الكتابة التاريخية هذا الادعاء، فقد وظفت تلك الكتابات الحوارات والخطابات الحرة غير المباشرة، من اجل إحداث التأثير الفني. وتوريط القارئ في إيجاد علاقة بين الأحداث، وتأويل دوافعها وأسبابها، عكس ما قد يبدو للوهلة الأولى من حشد فوضوي لتفاصيل غير مترابطة في شكل منصص، يوظفه القاص ويحفزه على إعادة ترتيب الحكايات على أسس منطقية أو نفسية وإعادة تنصيصها من جديد . أي توريط القارئ في البحث عن تكملة النص المبتور أو المضمر مدفوعا بالحاجة إلى التواصل القسري إن جاز التعبير . كما في المقطع الآتي:
(( فقد شوهدت على مقربة من بابل ، وعلى مقربة من الأنبار ، وعلى شواطئ جزيرة دلمون / شوهدت في اغلب البحار والمحيطات والأنهار والمستنقعات التي تلحسها موجات المياه المالحة المندفعة من البحر السفلي . شوهدت وبداخلها ألواح من طين نينوى، منقولة إلى بابل ، ومن بابل إلى شروباك ومن ثم ارابخا : ألواح يقتعدها أنبياء وملوك مجانين وطواغيت من حجر)) ( )
وعلى القارئ أن يجد العلاقة بين ( بابل ، والانبار ، ودلمون ) ، وماذا تمثل كل مدينة من هذه المدن ؟ وما الذي يوحّدها ؟ وما الذي يوحّد ( نينوى وبابل وارابخا ) ؟
وعلى الرغم من أن هذا النوع من القص يحاكي تقانة التاريخ ، إلا أن شكلها في النهاية يعزز فكرة أن محتواها في الأساس يهدف إلى الانتقاد . فبدلا من محاولة خلق نظام , فإن أدب ما بعد الحداثة يطبق فوضى الوجود المعاصر على أشكاله ويسعى إلى تفكيك اتفاقيات القصة القصيرة وبناء نص يعتمد المغامرة والاقتحام . وعلى هذا الأساس يفقد نص جنداري القصصي استقراره وثبوتيته في عالم الكتابة والقراءة معا. إنه يعرض على القارئ طريقة ليعيد رؤية الحياة كلها من جديد، أسلوب جديد في قراءة العالم. ((فهو في إبداعه ذات متحولة تعمل بجد على تشظية المسارات الحكائية، واعتماد مبدأ التبدلات الدائمة لفن حكائي لا يعتمد التقليد بقدر ما يكتشف نسقه لتشكيل نسق مغاير، يبعث الحياة في كتابة لا تراهن على ثبات المعلن، وإنما تنزع إلى حراك تغيير المعايير الجمالية بوعي تام يعرف ـ حتما ـ معنى تعقيدات الكتابة السردية، لا سيما (القصة القصيرة) التي تتطلب إصرارا خاصا على إبلاغ (لا ينصّ..؟؟!)، وإنما يهيئ مسيرته الفنية للصراع مع مرايا غير متساوية في أبعادها وسطوحها)) ( ) .
إن تعالق التخيّل مع التاريخ في قصص جنداري، يتمثل في عرض وقائع الخرافة والجنون والفانتازيا، إذ تتسلل ببطء إلى النص، وتنتزع الاعتراف التاريخي بكونها ظواهر ذات دلالة، فيعمل على عرض هشاشة الوجود الإنساني والعشوائية والمفارقة في مواجهة الخلود والسيطرة والعقلانية، ويمكننا أن نلمس هذه الثنائيات متصارعة أو متوافقة في قصصه بوضوح. ومن أهم التحولات المتمظهرة بوضوح في قصص هذه المجموعة، هو إعادة اكتشاف التاريخ بوصفه موقفا قابلا للتطبيق في الحاضر من اجل التخفي وراء ايحاءاته المتعددة، أو من اجل تبعيد الحدث، والاشتغال في مأمن من أي سلطة مهما كان نوعها. ولأن جنداري لا يتناول التاريخ بوصفه عملية عقلانية، فإن بعض الأنواع الأدبية يعاد تجزئتها في شكل جمالي بديل بتضميناتها التي تتعالق مع الواقع في صياغة أدبية ، تكتنز نزوعها الجمالي والإبداعي.
(( صنعوا عشر سلاسل في عشر سنوات على غرار سلة الحكايات، وخلال عشر سنوات أخرى ملطوها بالقار والكبريت ثم حفروا حفرة عميقة في مكان قريب من البصرة عند نهايات الموج المالح الذي يلحس المستنقعات ويبدد ركودها، حفروا دون توقف في الليل كما في النهار طوال عشرة قرون بنهايات عصي مدببة صنعوها من عظام الخيل والخنازير ومن زعانف الأسماك التي تقتات على الوصول، وعشرة قرون أخرى حفروا بسكاكين من حجر صلب قد من أخاديد عميقة في الأرض بمعاول حجرية لها مقابض من خشب)) ( )
فالتداخل الذي حصل بين شخصية آنية وأخرى ذات حضور مرجعي ـ حسب الباحث محمد ونان جاسم ـ هو الذي حرك هذه الشخصيات بنوعيها في مجال الزمن اللامحدود، الزمن الأسطوري الممتد من اللانهاية، إلى الآن المستمر. وقد كان الأمر مضاداً في مجال حركة الشخصيات الفاعلة في المكان، إذ حدد المكان بالرقعة الممتدة من نينوى إلى البصرة، هذا الثبات المكاني ناقض اللاثبات الزمني وساعد على تشكيل المفارقة المبنية على خرق التداول، إذ كيف لا يتغير المكان تبعاً لتغير الزمان؟. فضلاً عن ذلك كان الانتقال الزمني انتقالاً غير منطقي وقد بانت اللامنطقية في أمرين هما: ( )
(1)- الانتقال من وحدة زمنية إلى وحدة زمنية أكبر، وبقاء الفاعلين أنفسهم مما أضفى عليهم صفة الخلود.
(2)- الدلالة التي تضمنها الانتقال الزمني.
وفي ظل غياب أية إثباتات على صحة التاريخ الذي وصلنا نصوصا ( ورقية ) فان جنداري يطمح إلى إعادة الوعي بالتاريخ من خلال التركيز على فكرة أن التاريخ قد كتب أساسا لصالح طغاة انتصروا على خصومهم ، وقمعوا شعوبهم ، واستدرجوا الكوارث بسوء تقديراتهم. فيدمج التقنيات التخيلية بكل ما هو تاريخي ( شخوص ، مدن ، كتابة ... وغيرها)، ويركز على فكرة خضوع الجماهير لقوى سياسية أو أيديولوجية خارجية لا سيما إلى حد كبير على الأفراد ودوافعهم، وطموحاتهم، ورغباتهم، وهو الهاجس الذي ظل يؤرقه في مجاميعه القصصية كافة. الأمر الذي منح القصص زخمها الإنساني، فـ((الواقع الذي تتعاطاه القصة القصيرة هو ليس الواقع المادي في عيانيته، وإنما هو بنيته التصورية، وكينونته الثقافية، أي الأشياء والإحياء والأفكار والوقائع، وهي تحوي أسماء ، وتنضوي في مفاهيم ، وبهذا يتبدل القول التقليدي من أن لغة المؤلف تعكس الواقع إلى القول البنيوي بان بنية اللغة تنتج الواقع)) ( ).
إن التحولات الحادة في الأوضاع الاجتماعية والسياسية قد أعادت التفكير بالتاريخ، وتوظيفه وتشكيله في رؤى جديدة قادرة على استيعاب الأزمات والنكبات التي تمر بها الأمة العربية. فأخذ يتخفى القاص خلف حكايات التاريخ وأدوات سرده المختلفة منتهكا الحدود بين الأنواع الأدبية، مراوحا بين الوصف والتعليق في نسق جديد يفضى في المحصلة إلى إلقاء تصوير طبيعة الطغاة المتناسلين منذ فجر السلالات وحتى اللحظة الراهنة وذلك في جميع قصص المجموعة. إذ تتوارى الشخوص الثانوية في الأجزاء التاريخية من القصة، ولكنها تظهر في زوايا أخرى من التسريد دون أن تتنازل عن عجزها وسلبيتها وهزيمتها حين تكتفي بدور المراقب المسجل للأحداث والمنتظر التائق للخلاص. فيوظف معطيات الماضي التي وصلت إلينا نصوصا وآثارا وصورا لتفسير وتقريب الحاضر، إذ أن (( زمن الكتابة في حالة استحضار دائمة في التاريخ واستدعاء أي لحظة من لحظاته وفي اللحظة التي نريد ونقلها إلى أيه لحظة آنية نتوقها بالحس الفني الذي نملك، على أن تتم هذه التبادلات الزمكانية بكيفية ديناميكية وإلا ما فائدة المحاولة الفاشلة)) ( ) فعلى سبيل المثال لا الحصر ـ حسب القاص نفسه ـ أن (( لحظة انتصار سرجون الاكدي ولحظة موت الاسكندر هي أزمنة خاصة مشحونة لا يمكن احتسابها بأية وحدة قياسية للزمن إنما يمكن القول إنها حاضرة في لحظة الكتابة التي تأخذ عنفوانها من عنفوان حضور وعي الكاتب , في حضور لحظة الكتابة وهيمنتها )) ( ) . وبهذا يشكل انتقالها وعيا جديدا بالتاريخ ، ويتم التعامل معها وفق المتخيل لا الموضوعية .
إن القصص التي تعتمد ما وراء القص التاريخي تستند في حقيقتها إلى خلفية تاريخية محددة , تعمل على انطلاق السرد مستفزا نكهة التاريخ، متناولا جوانب تاريخية تتدرج إلى زوايا الأسطورة والفانتازيا لتهيمن الفوضى والغرائبية والاسطرة على القصة، ويتورط القارئ في فك الخيوط وإعادة الحبك وتأويل التضمينات؛ لأن كما هو معروف يفترق الواقع القصصي ( المتخيل) عن الواقع الخارجي ( المرئي) ويهدف القاص من وراء هذا إلى ((تقديم رؤية للعالم الذي يعيش فيه من خلال خلق عالم كما يتصوره أو يتخيل أن يراه أو كما يراه وفق موقفه منه )) ( ) ويؤكد امبرتو ايكو على هذه الفكرة ببساطة ثنائية التجانس /اللاتجانس بين الواقع النصي والواقع المادي فيقول: ((ينبغي لعالم المرجع ( الواقعي ) نفسه أن ينظر إليه بأنه بنيان ثقافي ليس إلا)) ( ). ويبرر استنتاجه بالقول: (( إذا كانت مختلف العوالم الممكنة النصية تتراكب مع العالم الواقعي وان كانت العوالم النصية أبنية ثقافية فكيف يسعنا بعد إذن أن نقارن بنيانا ثقافيا بشيء (غير مجانس) فنجعلها قابلة للتحول بصورة متبادلة ؟ وبالطبع يتم ذلك بان نحيل الكيانات موضوع المقارنة والتحويل إلى كيانات متجانسة)) ( ). وهكذا تنقلب كل الممكنات الواقعية في النص القصصي (( مألوفية الرؤية ومألوفية التسمية والوصف والتتابع ، وبطريقة غير (عقلانية) أحيانا محدثة صدمة إدراكية نطل من منظورها على العالم بين الكلمة والثقافة وثروتها الدلالية والشعورية المتراكمة في الوعي فليس القارئ في النهاية أناء فارغا يملؤه قول الكاتب)) ( ).
إن قلق القارئ في كتابات ما وراء القص يشكل أحيانا هدفا بحد ذاته، والقارئ في نظر جنداري يستحق المغامرة، وفي هذا الصدد يقول : (( ثمة من يأخذ على هذه النصوص ( يقصد مصاطب الآلهة، زو- العصفور الصاعقة ، القلعة، عصر المدن، العصور الأخيرة ) منها خلوها من الهوامش والمرجعيات التي تعين القارئ على التعرف على الأحداث المستدعاة أو المتخيلة، ولكنني وكما قلت أكثر من مرة، أحاول أن اجعل النص، كل نص بما يثيره من متعة أو مماحكة واستفزاز أو كراهية هو موضوع القارئ نفسه؛ لأن النص القصصي ليس أحداثا منفرد أو منعزلة، لذا اعمل على دفع القارئ إلى البحث عن الأحداث والواقعات بنفسه)) ( ). فالقاص على الرغم من انه يرى أن فرضياتنا بحاجة إلى هزات من حين لآخر حتى لا تتحجر. فانه يغامر من اجل أن تكون تلك الهزات وسيلتنا إلى فهم مغاير، لا أن تعود الأشياء بعد القلق إلى سالف عهدها. فهو يضع ثقته في قارئ يستطيع أن يفكك هذه النصوص ويعيد بنائها من جديد .
إن كل قصة من القصص التي اعتمدت ما وراء القص التاريخي هي في الواقع ثلاث قصص تجريبية : القصة التي يحكيها السارد، التي تتسلل عبر التاريخ . والقصة التي يحكيها التاريخ في مكان وزمان آخر. وقصة حكي القصة أو الخطابات التي تخترق لحمة الإطار الخارجي طوعا أو كرها، حين يحاول سارد القصة وسارد التاريخ تنبيه القارئ إلى أن عمله محض صناعة بشرية، ومن ثم فالواقع والتاريخ ليسا إلا هياكل وتنظيمات بشرية تتعالق فيها الحقيقة بالخيال . وهكذا تغير مجال التاريخ في ما وراء القص إلى التعددية واللا تجانس. وقد وظف جنداري التاريخ ليعرض تعقيد وتناقض الخبرة التاريخية . فـ(( الأشياء لم تكن أشياء بالكينونة، بل ما تضمر من نعوت ودلالات، وهكذا شكل التاريخ مجالا تجريبيا للفن، ومجالا كشفيا خصبا كذلك )) ( ).
(( مع نقاط الدم والرمل صنع أهل ارابخا سبيكة صلبة، صنعوا منها أول سكين ، وأول فأس ، وأول منجل ، وأول دكة لغسل الموتى ، ثم واصلوا الحفر بالأظافر والسكاكين والمعاول والفؤوس والتعاويذ .. بقرون الجاموس ، وعظام الطير ، وزعانف السمكة الذي يقتات على الوحول )) ( ).
إن المعنى عند جنداري ليس وديعة أحداث تاريخية متعاقبة زمنيا، ولكنها وديعة تأويل القارئ . لأن ما يقوم به القاص هو إعادة تدوير الأحداث التاريخية، وصياغة الفكرة القائلة بأن الإدراك والفن هما إعادة خلق الواقع بصياغة مغايرة . فالتوتر في القصة ربما يعود إلى انتهاك تخوم العوالم المختلفة، أو حتى اختراق عالم ما من قبل عالم آخر. بهويات مختلفة تتداخل فيما بينها لتدلل على عدم يقينية الحواجز بين القص والتاريخ. فمن الصعوبة تفسير الشخوص في هذا القص فيما لو حاولنا تطبيق الأدوات النقدية التقليدية ، بل إننا نجد صعوبة في تسميتها شخوصا قصصية بالمعايير التقليدية. فهو يتعامل مع التاريخ بوصفه سردا غير موثوق به ، أو لغة كأي لغة أخرى تتحدث إلى متلقيها وليس العكس .
من المعلوم أن الدراسات النقدية التي تتناول عملية التسريد في كتابات ما وراء القص لا تكتمل بدون تعليقات يقوم بها المؤلف /السارد أو المؤلف / الشخصية بتوظيف صوته السلطوي للتعليق على العمل أو لإثبات حضوره حين يدس رسالة يمكن فهمها أحيانا على أنها تدخل مباشر من قبل المؤلف :
(( وحقيقة الأمر أنهم فكروا بتشتيت الحكايات والالتفاف على الذعر الذي تثيره كسرة من رقيم علقت بسلة تظهر كل عشرة قرون (...) على كل حال اتفقوا على حمل السلاح إلى منابع الزاب، خلف جبال قلعة دزه وإلقائها في النهر واحدة اثر واحدة، وعشرة قرون بين واحدة وأخرى)) ( ).
في هذين التداخلين تبدو المفارقة واضحة، فبعد أن يمهد السارد للشخوص، ويغريهم بتفتيت الحكاية، نراه وكأنما يعود إلى القص التقليدي والى التتابع والترتيب، ( واحدة إثر واحدة، وعشرة قرون بين واحدة وأخرى) في حين اخذ التباعد الزمني وتحولاته في بداية القصة مسارا غير منطقي، ويبدو أن التدخل الأخير لم يكن سوى وجه من أوجه التهكم والسخرية .
كما يبدو أن الأمكنة والأشياء بوصفها شخوصا تؤدي أحداثا وأفعالا معينة هي التي حركت العمل في هذه القصة، لذا فإن الشخصية الفردية التي تخلى عنها جنداري، لم تكن محط اهتمامه. فسعى إلى تعويض ذلك بتحشيد المستحيلات ضمن السرد نفسه؛ ليجبر القارئ على الإبحار إلى ابعد من معنى القصة الظاهر ويقوده إلى نهايات متعددة لتطابق عوالمه المتعددة، أو انه ببساطة قد يترك نصه في نهاية مفتوحة . وليست الشخوص هي المكون الوحيد المهدد في كتابات ما وراء القص ، بل أن عناصر أخرى قد انتهكت أو دمرت . وأعيدت هيكلة جذرية للاتفاقيات السردية مع الاحتفاظ بالحد الأدنى منها. وحتى المكونات القليلة التي ظلت على استحياء هي الأخرى تتعرض للعزل أو المحاصرة. فالتسلسل المنطقي الذي هو أهم العوامل التي تصعّب قصص جنداري انعدم في هذه القصة تماما. وأخذ إما شكل الاستطراد الضروري وليس الممل أو إدغام مقاطع في علاقات تناصية من اجل الاهتمام بها وكشف دلالاتها من قبل القارئ .
لا يكتفي ما وراء القص بالانفتاح على الماضي فحسب، إنما ينفتح على الحاضر أيضا كما في ( قصة العصور الأخيرة) التي كتبت في قص مختلف، وتمظهر فيها ضمير المتكلم شخصية فاعلة، بعد ما كان طاغياً ومهيمناً على القصص السابقة ضمير الغائب : ( )
(( الآن علمني كيف يقام الاعتراف، وسأعترف لك وحدك . سأعترف أنني سئمت النوم ونبذت المكوث في تجاويف الحقب التي تجري خلف بعضها مثل دلاء النواعير)) ( ).
ففي هذه القصة تؤدي المفردة وظيفتها الإشارية باستحضارها عددا من المفردات على سبيل (التداعي الخطي) ويقصد به أحد الباحثثين (( تحقيق الإشارة إلى التداعي اللفظي، المنظم وفقا لآليات الشكل القصصي، المتحقق بالعطف، وباعتماد آلية الخط المائل ( / ) )) ( ) إذ يحاول القاص من خلال هذه الوظيفة الانزياح عن السياق بجملة استطرادية واحدة تعمل على تكثيف هذا الاستطراد وتثبيت الدلالة الكلية للنص :
(( أما الخصاء فإنه محاولة لتوفير الأمن الجنسي للواني عند المصريين / للسارق عند الآشوريين / لثيران الحراسة في قرى حمام العليل / للخائن عند البابليين / للشعراء عند عبد الملك بن مروان / للوزراء عند طغرلبك)) ( ) .
ومع الأخذ بنظر الاعتبار ((أن الانزياح الدلالي الحاصل بسبب وجود المفردة في الخطاب لا يقطع عنها جذرها الدلالي الأصيل)) فإن مفردة ( الخصاء) في كل جملة من الجمل الاستطرادية هي التي عمقت دلالة (القمع) وحسب وجودها في الجملة . ويغدو هذا الانزياح اشد فاعلية واكتر تعددا في التكرار اللفظي (( كون المفردة تنطوي ضمنا على إشارة ما تحيل إلى طقس أسطوري، أو قصة أسطورية (..) لأن تكرار ظهور هذه المسميات في الخطاب القصصي الواحد ربما يؤدي إلى توفير طاقات إيحائية مضافة)) ( ) كما في تكرار مفردة ( آرانجا ) في قصة ( أمواج كالجبال) .
وتختلف رؤية الباحث فرج ياسين محمد عن رؤيتي كل من الباحثين صبري مسلم وعمار احمد في التكثيف الوجودي لهذه المسميات في النص الواحد، بقوله (( بعد تتبع كل واحدة من هذه المسميات في قوام السرد ، نكتشف أنها تختزن قوة الشخصية القصصية المحورية المفترضة في النص، وان كل مفردة لها قابلية واضحة على التحاور مع المفردات الأخرى، والتعايش معها وصولا إلى توفير اللحمة البنائية في القصة. ومن الآليات الضابطة لاشتغال هذه المفردات هو التنافر الزمني الذي يجعل كل مفردة لا تتخذ وضعا واحدا في القصة لأنها تخضع مثل أي من العناصر للتغيرات التي توجبها فرضية تفكيك السرد )) ( )
وتعد قصة (أمواج كالجبال) من قصص ما وراء القص التاريخي بامتياز، إذ تحدت ـ حسب تعبير ليندا هتشيون ـ سلطة التاريخ باعترافها بان الحقائق المعروضة في تأويل الوعي الذاتي الذي يعيد تقديم السياق التاريخي بطريقة ما وراء قص و (وتمشكل) قضية المعرفة التاريخية بأكملها كما اشرنا إلى ذلك سابقا. كما أن رموز قصته التاريخيين، لن يكونوا بعد اليوم شخصيات طيبة تحمل هوية ثابتة، ملامح وسمات اجتماعية ونفسية مستقرة، بل على النقيض من ذلك، إذ أن وجودهم سيكون أكثر تعقيدا، وهو اقرب إلى الواقع. ولم يحاول القاص الدفاع عن اغتراب رموزه التاريخية، فهم انفصاميون؛ أي أن كل فرد هو عدة ذوات ؛ لأن الفرد هو مكان ونقطة التقاء خطابات متنافسة ومتنوعة. لا توجد هوية حقيقية، ولا (أنا) متعالية ثابتة، فقط سلسلة من الأدوار المختلفة مشروطة بالتغير التاريخي. فالناس يراقبون ما يجري في واقعهم الذي يحيونه , وعندما يتخيلون عالما أخر فإنهم يبنون جسورا متخيلة بين ما يدركونه وبين العالم الذي يتخيلونه. وتلعب الشخوص التاريخية دور الجسور بين واقعنا وبين العالم الذي يريد القاص أن ينقلنا إليه سواء من حيث العمق المكاني أو التعددية الزمانية. وتتعالق الشخوص والجسور فيما بينها في القصص التي تنتمي إلى ما وراء القص التاريخي، ويحشر القارئ بين هذه الشخوص، إذ يحمل هاجس عالم لا يستطيع إدراكه , يفقد سيطرته عليه, ويفقد هويته، فينشد اللا موجود واللا متخيل، وتسوء ذاكرته الطفولية ـ عن كل ما يعرفه في عالم مجنون تتلاطم فيه الأمواج كالجبال. فـالتاريخ لم يكن مجرد مناطق إضاءة تساعد على استكمال البانوراما التي أراد التعبير عنها جنداري في مجموعته القصصية (مصاطب الآلهة) بل أصبح التاريخ هو مادة الكتابة ، والجدل ، والمحاورة الجادة العميقة ( ).
يبدو على هذا الأساس أن محاولات توظيف جنداري لتاريخ بلاد الرافدين حصرا جاء لسببين:
الأول : كونه من المهتمين بـ( المحلية الخلاقة ) حسب تعبيره (( أنا أحب بلدي العراق، أنا محلي، قلبا وروحا وفكرا وتطلعا ،أنا مفتون بتاريخ العراق ، إلى حد أنني بدأت أرى العالم من خلال العراق، أنا محلي وسأظل محلي))( ) .
والثاني: يتعامل مع التاريخ بوصفه (( ذاكرة حية وفاعلة )) ( ) .
من كل ما تقدم نستطيع القول أن الشخصية في التناص التاريخي يمكن أن تكون نموذجا أو رمزا، إذ أن دقة أو حقيقة التفاصيل لا تكون ذات أهمية في سبيل تحقيق الالتزام التاريخي الواقعي ، ويجري في العادة تركيب المعطيات من اجل استعارة إحساس بالمصداقية وبالحقيقة التي يمكن إثباتها . وغالبا ما تؤدي الشخوص التاريخية دورا ثانويا كما لو أنها تخفي الروابط بين القص والخيال بحيلة رسمية ووجودية بارعة . أما في ما وراء القص التاريخي فلا وجود لرمز أو نموذج . وتلجأ هذه الكتابات إلى التلاعب بالحقيقة وتكذيب السجل التاريخي أو توظيف المعطيات التاريخية، ومن النادر أن تقوم بتجميعها أو تركيبها أو ترتيبها فهي غير معنية بالنظام أو المصداقية قدر اهتمامها بإبراز بشرية الصناعة التاريخية ، ونزع القداسة والأسطورة والغموض عن التاريخ الذي وصل إلينا نصوصا يجوز لنا تناولها وتوظيفها واستجوابها . أما في ما يتعلق بالربط الوجودي للشخوص التاريخيين فان ما وراء القص التاريخي ينظر إليه بوصفه مشكلة تستحق المساءلة إذ كيف لنا أن نعلم عن الماضي ؟ وما الذي نعرفه عنه الآن؟ . وهذا ما جعل السخرية والتهكم من التقانات التي تم توظيفها في هذه الكتابات، إذ أن التهكم يخدش الاختلاف مع الماضي، في الوقت الذي تعمد السخرية إلى :
1- حشر الماضي بصورته النصية في نص الحاضر .
2- تجسير الهوة بين ماضي القارئ وحاضره مع رغبة جديدة في إعادة كتابة الماضي في سياق جديد .
3- تعليمنا أن كلا من النصوص الروائية والتاريخ تشير إلى المستوى الأول من نصوص أخرى: إننا لا نعرف الماضي إلا من خلال بقاياه المنصصة .
نستنتج من كل ما سبق أن جنداري ما أراد بهذا الحشد الهائل من المدن والأسماء التاريخية إدخال القارئ في متاهات الغموض، ودوائر التية المقفلة، وتشكيل جمل لغوية في تكثيف حدث أو وصف، من أجل زخرفة لفظية، بل جعل التاريخ بكل مكوناته ساحة مكشوفة تتمظهر فيها تجليات الحاضر في تعالقاتها المستمرة بين القبول والرفض .
*مجلة امضاء العدد المزدوج 1-2
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق