الخميس، 25 أبريل 2013

محمود الكاشغري وموسوعته : ( ديوان لغات الترك )

محمود الكاشغري وأثره الخالد : ( ديوان لغات الترك )
فاضل ناصر كركوكلي  
*http://www.bizturkmeniz.com/ar/showArticle.asp?id=16123

يحتفي المؤرخون الأتراك بأهم ِّ حدث ٍ في حياتنا الثقافية تأريخيا ً وهو صدور القاموس اللّغوي الكبير ( ديوان لغات التُرك ) للعالِم واللّغوي ( محمود الكاشغري ) ، و يأتي هذا الإحتفاء ُ في سياق ٍ عظمة ِ هذا القاموس العلميّة والمعلوماتيّة واللغويّة في إطار تثبيت ِ و ترتيب أول منهج ٍ علمي صحيح في علم الكلام ... كما يتّفقُ المطّلعون على المحطات الثقافيّة و سِماتها في تأريخ الأتراك بأن هذا الأثر ، فضلا ً عن إحتوائهِ على تلك المعلومات ، يُعتبر ُ مصدرا ً لعلم ِ ( التوركولوجيا ) وأساس َ الشعور ِ به والإحساس بقوامِه و بمنظومتهِ العلميّة إضافة ً الى آثار ٍ اخرى لا تقل ُّ أهميّة ً عن هذا الإثر والتي صدرت في مراحل مختلفة عن مرحلة ِ صدور ( ديوان لُغات الترك ) في سبيل تأسيس و تأصيل البُنية الداخلية للإنسان التركي والتي شَهدت أربعة َ مراحل كبيرة في تحوّلاتها :

1- صدور ملحمة ( ده ده قورقوت ) الأغوزية .
2- صدور كتاب ( محاكمة اللغتين ) لعلي شيرنوائي .
3- صدور قاموس ( ديوان لغات الترك ) لمحمود الكاشغري .
4- صدور كتاب ( قوتا دوغو بيليك ) ليوسف خاص حاجب .

ولا ينسى بعض ُ المؤرخين في هذا الصدد من أمثال ( ضياء گوك ألب ) بإضافة الآثار الابداعية للشاعر ِ التركماني ( محمد سليمان الفضولي ) ضمن هذه الأحداث والمحطات الكبرى في تأريخ الاتراك ...

وُلد اللغوي والَعالِم الكبير ( محمود الكاشغري ) عام ( 1029 ) و توفي في عام ( 1121 ) الميلادية ، فهو بهذا الصدد قد عاش َ ما يقارب ُ على مئة ِ عام من عمره ِ الابداعي الطويل في خدمة اللغة التركية التي خصص َ لها جُلَّ اوقاته في كتابة القاموس الكبير ( ديوان لغات التُرك ) والذي أنهى كتابته في عام ( 1077 ) الميلادية ، كما قضى حياتَه في خدمة النَسل السادس من أحفاد ِ ( بغراخان ) التي إنحدر من أصلابهِم العريقة ، وقد ترقى بشرف ِ إنتمائه الأصيل لأسلافه وفي خدمةِ قبيلته ِ ( قره خان ) حتى وصل الى منصبِ ( شاه زاده ) في محيطه الواسع ،،،،

وقد كتب الباحث ( عليار صفارلي ) عن هذا الاثر الكبير مُشيدا ً بأنه ُ من الأوابد ِ الثقافية المشرّفة في تأريخ الأتراك ومشيرا ً بأنه ُأول مصدر ٍعريق من مصادراللغة التركية و آدابها كُتب من أجل تعريف وتعليم العرب اللغة التركية بالإضافة الى حاجات ِ الدولة و إداراتِها في محيط ِ قبائل ( قره خان ) الى تعليم ِ اللغة التركية بتنويعاتها ومصادرها و إشتقاقاتها اللغويّة، أما بالنسبة الى رأي ( الكاشغري ) نفسه فإنه كتب يقول (( بأن الله تعالى قد خلق َ الاتراك من منابع ٍ أصيلة فأخرج َمنهم ( خاقانات ) و إمارات حَكمت الأرض و ألهم َ بُناتَها صفات َ الجمال والشجاعة فالذي يقاربِهم و يُعلي مراتبَهم فإن الله تعالى يستجيب ُ لسعيه ِ ومطلبه ِ ))

إن ( ديوان لغات التُرك ) ليس تعقيبا ً عميقا ًوشاملا ً لآثار لغة ِ الأتراك فحسب بل قاموسا ً أحاط َ الى القرن ِ الحادي عشر الميلادي ميراث َ الماضي اللغوي والأدبي و التأريخي والجغرافي بشكل موسوعي ( انسيكلوبيدي ) عام وبهذا المستوى يعتبر( محمود الكاشغري ) بحق الأبَ الروحي لعلم ( التوركولوجيا ) لذا فإن أثره حظي ، ولازال يَحظى ، بإحتفاء الجميع وذلك بإصدارهم أبحاثا ً و دراساتا ً متنوعة بحقهِ وقيامهم بتنطيم ِ يوبيله السنوي الى يومنا هذا ....

وإننا نأسف ُ من الأعماق على أثره ِ اللغوي الآخر الموسوم ب( قواعد اللغة التركية ) الذي ضاع َ ولم يصل الى أيدينا لحد َّ الآن ، وهذا يدل ُّ بشكل ٍ لا يقبل ُ الشك ّ بأن ( الكاشغري ) أوّل ُ نحوي ٌّ أيضا ً تناول َ قواعد َ اللغة التركية وكتَب عنها ، وفي نفس ِ الوقت أوّل ُ مَن أحاط َ بالأدب ِ الشعبي و لهجاتهِ الذي أورده ُ في كتابه الخالد و ذلك بإيرادِه نماذجا ً مستقاة من صميم ِ هذا الأدب في الأحداث ِ التأريخية التي إندلعت في المجتمع ِ التركي وفي تأريخه ُ الممتدّ الى ما قبل إنهاء أثره بقرون قتبوّأ بهذا المعنى مكانة َ أديبٍ واسع الإطلاع ِ في تناول ِ فولكلور الأتراك لأوّل مرة في عاداتهم و تقاليدهم وفي ملاحِمهم وأساطيرهم وفي سلوكهم ومشاربِهم وفي جمال ِ قصائِدهم ومنظوماتهم الشعرية وفي حِكم الآباء و أمثالهم وحتى في مراثيهم وبكائياتهم الطويلة التي نلمسُها في صور ٍ رائعة وفي إطار ِ أغنى المعارف و أجلى العلوم التي إختزنَها هذا الأثر المبدع بحق ....

وقد إستلهم َ ( الكاشغري ) ،حسب قوله ، في كتابة ِ هذا الأثر من النبيِّ ( محمّد ) الذي قال:

(( تعلّموا لغة َ التُرك لأنهم سوف يمتلكون َ سلطنة ً طويلة ، إن لي جحافل َ جنود ٍ أسميتَهم الأتراك َ ))

فكتب ( الكاشغري ) يقول :

(( إن الله تعالى أسكن َ الأتراك َ في أعالي الأرض و إستوطنهم في مُدن ٍ هوائُها نقيّة ، وقد قال ( النبي ُّ) عنهم بأنهم ( جنودي ) فمُنحوا صفاتَ حسن التعامل ِ والضيافة و إحترام الكبير ، فلا يَحيدون عن الحق ِّ وصدق ِ الكلام والشجاعة ِ والتواضع ، إنهم يَرفلون َ بصفات ٍ حميدة لا حصر لها ))

لذا فإن ( الكاشغري ) كان يؤمن ُ إيمانا ً راسخا ً بمستقبل الأتراك وينتظر ُ بلهفة ٍ إنتشار َ لغتهم فيرصدُه باشتياق ٍ ممضّ ، لابل يمهّد في سبيل هذا الإنتشار ِ والتوسع قاموسَه اللغوي المبدع الذي حوى على شرح ِ وتحليل ِ ( 7500 ) كلمة هي من صميم اللغة التركية الخالصة والغيرالدخيلة من اللغات الأخرى وقد إشتغل َ في هذا التناول العلمي ببدائع اللغة على عشرة ِ آلاف كلمة ٍ تركية متداولة وعلى إشتقاقاتها الخاصة في لغة ِ المخاطبة للقبائل والأفخاذ والعشائر التركية من مصادرها و منابعها ومن حقيقة تكويناتها الأوليّة بشكل ٍ محيّر حقا ً ، فضلا ً عن إعطاء ِ معلومات ٍ عميقة بحقها ، كما حوى القاموس على ( 5300 ) رباعية شعرية أخذت شكلها النهائي من صميم ِ التعايش مع التأريخ بالإضافة ِ الى إحتوائه ِ على معلومات ٍ مستفيضة عنها من ناحيةِ جمعها وترتيبها و إستجلاء معانيها ...

وقد كتب َ ( الكاشغري ) يقول :

(( لقد كتبت ُ هذا القاموس في ترتيب ِ الحروف الأبجديّة و زيّنته ُ بالأقول ِ الحكيمة و بالسّجع والمقالة ِ والحماسة و الأشعار وببدائع ِ النثر والرَجز الأدبي ))

وبالإضافة الى كل ِّ هذه الانواع البديعيّة فإن ( الكاشغري ) تناول بقلمه ِ الملحمة التركية ( ألب آرتونقا ) التي حوت أشكالاً شعرية خاصة من المراثي ( قوشوق ، ساقو ، آغيت ) والتي تسمى عندنا ( سازلاماق ) وهذه الاشكال ، كما هي معروفة في الادب التركي ، أحاطتَها كتابات ُ أتراك ( كوك تورك ) التي إستقرّت في صدور الاسلاف فإنتقلت جيلا ً بعد جيل حتى وصل الينا في أقدم ِ قالب ٍ شعري ٍونثري لتكون نماذج تصويرية حيّة ولتستقرّ نهائيا ً في كتاب ( الكاشغري ) ...

فهذه النماذج الأدبية التي حوتها الملاحم ُ التركية لا تؤشر الى تأريخ كتابتِها ولا الى ُكتّابها ومبدعيها فهي بدون أدنى شكٍّ أقدم ُ بكثير من عصر ( الكاشغري ) كما ذكرنا ...

لذا فإن الرباعيات التي حوتها ملحمة ُ ( آرتونقا ) التركيةهي من أقدم ِ الرباعيات والأطر ِ الشعرية التي وصلت الينا لحد ِّ الآن ، وإن الشكل القومي والأثني لهذه القصائد و أوزانِها تنبع ُ من عمق التأريخ الذي زيّن روافد َ الأدب التركي بأشكال ٍ تعبيرية خاصة والحافلةِ بالتنوع و التعدّد ْ، والجدير بالذكر هنا أن بعضَ الأحداث التأريخية عاصَرها ( الكاشغري ) شخصيا ً قبل ما يقارب تسعمائة عام ونيّف فوظّفها في قاموسه ِ كنماذج أدبية جميلة مثل السجالات التي حدثت بين قبائل ( قره خان ) و قبائل ( اليابغو ) :

من جديد .. أصبح َ هذا ( البودراج ) مسعورا ً
فألّبَ رجَاله و أنهض َ جحافلَه علينا
ليزحف َ ركبُنا إذا إلتهب َ الفجر ُ
و يسفحَ دماء َ ( البودراج ) و يأسرَ ( باصمل بيك )
فليجتَمع َ الآن .... الرجال ُ الشجعان

وكما هو معروف من هذه الرباعيات فإن – بودراج – كان قائدا ً لقبائل ( اليابغو ) وإنه أُسر َ من قبل القائد ( أصلان تكين ) من قبائل ( القره خان )
وقد عاصر َ ( الكاشغري ) هذا السِجال فكتب َ عنه ُ لوحاتا ً أدبية أخّاذة و بلغة ٍ حيّة و ناطقة ...كما أورد في قاموسه أقدم النماذج الأدبية الخاصة بموت ( آرتونقا ) الذي أغرق بموته قبائلَ الأتراك بالحزن والغم فإنبرى ( الكاشغري ) يصف ُ هذاالحدث الأليم الضّاج بالدموع ِوالنحيب بقلمه ِ الخلاق وبخطابه ِ التعبيري الحاشد بالبكائية الحادة وفي رباعيات ٍ حافلة بالألم في ذكرى ذلك البطل المقدام الذي تحولت ذكراه ُ الى مأتم ٍ قومي ٍ في أعمق معانيه ِ وفي أرفع دلالاته التي تستحضر ُ أمام الأعين أقدم مراسيم ( يوغ ) التركية العريقة التي تستدرّ الدموع من المآقي والقلوب الغارقة باليأس :

ألف ٌ وخمسمائة من الفوارس ِ الأتراك
يدورون َ بخيولِهم المطهّمة حول جسد ِ ( آرتونقا )
المسجى في خيمته ِ الواسعة
يشقّون الجيوب َوينهالون بقبضاتِهم على دروعِهم
يجرحون َ أجسادَهم الغضّة بسيوفهم الطويلة
يُطلقون صيحاتا ً مريرة ً مثل الذئاب ِ الثكلى
تتدفقُ الدماء ُ من وجوههم وتختلط ُ مع النحيب
الخيولُ تعبت من وقع ِ حوافرِها
وملامح ُ الشجعان تحولت الى صفرة الزعفران

وهكذا ، تستدعي هذه المرثية في ملحمة ( آلب آرتونقا ) إستذكاراتا ً عميقة في مخيلتنا تُماهي رثاءَ ( گلگامش ) لصديقه ( أنكيدو ) في الملحمة السومرية التركية وتماثل ُ فاجعة َ الطف التي أخذت لاحقا ً ملامحا ً إسلامية ....

فيتناولُُ المغني والشاعرالشعبي ( أوزان ) في ملحمة ( آرتونقا ) آلة َ ( قوپوز ) الموسيقية بعد أن يغرق َفي طوفان ٍمن الأسى حزنا ًعلى موت ( الخاقان الأكبر ) و ينشد ُمن الأعماق :

أهكذا يموت ُ ( أرتونقا )
وتبقى هذه الدنيا الشريرة
أهكذا ينتقم ُ الزمن ُ منّا
فلينشق َ قلبي من الأسى

ففي هذه المرثية يتحدث الشاعر ( المغني ) عن خصال ِ( آرتونقا ) الإنسانية النبيلة وعن كلِّ صفاته النادرة واصفا ً موتَه في برد ِ الشتاء القارس وكأن الأقاليم التركية بعد موته بقيت بدون سلوان :

كان يوقّر ُ الضيوفَ
ويحطّم رقاب َ الأعداء
الموت ُ أحكم َ ثُقلَه عليه
بالذي كان يقوم ُ بعظائم ِ الأمور
وألقاه أرضا ً
في جليد ِ هذا الشتاء
غادر شعبَه الغارق ِ بالقنوط

وقد كُتب َ في أثرِ ( الكاشغري ) جميع ُ الرباعيات بشكل ٍ شفاف و نابض ٍ بالروح مما أكسَبَ الشعر التركي زخما ً إستثنائيا ً و أهمية تأريخية عظيمة ... .. ..

لقد كان ( الكاشغري ) يقدّس اللغة التركية في صفائِها و شفافياتها وفي قابلياتها التعبيريّة الواسعة وكان يمقت ُ من الأعماق التراكيب واللهجات َ الدخيلة على اللغة التركية التي تثقلُها وتحد ُّ من إمكانية ِ حركتها الحرّة ورتمِها الموسيقي الخاص في النطق ِ الجميل والكتابة ِ المعبّرة فهو يحذر ُ من هذا الإنزلاق في توظيف ِ الكلمات الدخيلة بنفور ٍ كبير :

(( أجمل و أوسع و أصدق لغة هي لغة ٌ وحيدة لم تختلط ْ مع لسان الفرُس ولم تذهب بعيدا ً عن منبعِها الى المدن المجهولة ، فالذي يتقن ُ لغتين من أهل المدن يكون حديثه مشوها ً ، والذين يعاشرون أويصادقون الأجانب هم من أقسام ِ أقوام ( خوتن ) مع ( توبوت ) و( تانقوت ) وهؤلاء كلُّهم أتوا الى ديارِ الأتراك لاحقا ً ... ))

وقد كتب َ ( الكاشغري ) في أجمل ِ ديباجة ٍ علمية عن الأقاليم التي تنطق ُ اللغة التركية وعن إنتشارها حتى في الأقاصي وفي مراسيم ِ الدولة و إستكتابها للرسائل بين الأقاليم في ذلك الزمن قائلا ً :

(( للشعب الصيني لغة ٌ خاصة ولكنهم ، وبالأخص الذين يستوطنون َ المدن ، يعرفون اللغة التركية جيدا ً ، إنهم يكتبون رسائلَهم الينا باللغة ِ التركية ))

أما عن الطوائف ِ والقبائل ِ الذين يتقنون َ اللغة التركية عن سليقة ٍ و عن أصالة هم :

(( قيرغيز ، قيبجاق ، أوغوز ، توخسى ، ياغما ، چغيل ، أوغراق ، چاروق ،،، وهؤلاء القبائل لهم لغة واحدة هي اللغة التركية الخالصة بدون شوائب ))

أما في تصنيفه ِ اللهجات التركية فإنه يقسّمُها الى قسمين كبيرين ... اللهجات الخاقانية واللهجات الأوغوزية ...

إن كتاب َ ( ديوان لغات الترك ) لمحمود الكاشغري المكتوب قبل تسعة قرون كان ولازال صرحاً لغويا ً وأدبيا ً وكنزا ً فولكلوريا ً لايُقدر بثمن ، إنه من الأوابد ِ التأريخية التي أثبتت بصدق ٍ بأن حضارة َ الأتراك بلغتِها و آدابها وفنونها وميراثها تنبع ُ من مصدر ٍ واحد ... الشعب التركي .





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 ...............أ.د إبراهيم خليل العلاف

                                                            الاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 أ....