10 سنوات على حرب العراق : الحرب والثورة في العالم العربي (1991-2013)
كنعان مكية يكتب لـ «الشرق الأوسط» عن المنطقة بعد عقد من الحرب في العراق
قبل عشرة أعوام، في التاسع من أبريل (نيسان)، أسقطت جيوش التحالف الغربي بغداد. في هذه المقالة سوف استكشف العلاقة بين الإطاحة بالدكتاتور العربي، صدام حسين، إثر تدخل عسكري بقيادة أميركية وخلع عدد آخر من الطغاة العرب خلال الأحداث المتوالية بداية من 2011 والمعروفة باسم الربيع العربي. وذلك بناء على فرضية وجود صلة وثيقة بين هذين الحدثين الكارثيين، وهي الصلة التي تم إغفالها، جزئيا، نظرا للعداء المفهوم الذي أثارته حرب العراق 2003 في العيون الغربية والعربية – وربما أضيف غير العراقية – وهو العداء الذي لم يكن موجودا لحظة التدخل العسكري في 2003. قبل عشرة أعوام، في التاسع من أبريل (نيسان)، أسقطت جيوش التحالف الغربي بغداد. في هذه المقالة، سوف أستكشف العلاقة بين الإطاحة بالديكتاتور العربي صدام حسين، إثر تدخل عسكري بقيادة أميركية، وخلع عدد آخر من الطغاة العرب خلال الأحداث المتوالية بداية من 2011 والمعروفة باسم الربيع العربي. وذلك بناء على فرضية وجود صلة وثيقة بين هذين الحدثين الكارثيين، وهي الصلة التي تم إغفالها، جزئيا، نظرا للعداء المفهوم الذي أثارته حرب العراق 2003 في العيون الغربية والعربية - وربما أضيف غير العراقية - وهو العداء الذي لم يكن موجودا لحظة التدخل العسكري في 2003.
وكانت النتيجة الرئيسة لهذا العداء، هي أنه لم يكن من بين الأطراف العربية الرئيسة على الأرض خلال الربيع العربي، سواء في تونس، أو مصر، أو سوريا - أقصد الشبان والشابات الشجعان الذين كانوا يحتجون ويموتون - من يرى صلة أو من هو على استعداد حتى للاعتراف باحتمالية أن تكون هناك صلة بين هذين الحدثين. فعلى سبيل المثال، أنكر وائل غنيم، الناشط المصري، أي صلة بين ما فعله والأحداث في العراق. وبالمثل، أنكر كافة النشطاء العرب بقوة وجود أي صلة بين مطالبهم بالإصلاح و- أو الثورة العفوية والمحلية والحرب الدولية التي يعتقدون أنها غير شرعية أو حتى إمبريالية في طبيعتها.
وعندما تطور الربيع العربي، أصبح ذلك الإنكار أقل وضوحا، بل وربما يكون قد اختفى بين الليبيين والسوريين الذين أصبحوا الآن يطالبون بنفس نوع التدخل الذي كانوا يعارضونه بشراسة في 1991 و2003.
ولكي ندرك الصلة بين خلع نظام صدام حسين وخلع نظام حسني مبارك، علينا أن نعود بالقصة إلى جذورها؛ لنشير إلى أن حرب 2003 كان لها تاريخ يبدأ في 2 أغسطس (آب) 1990؛ وهو التاريخ الذي تحرك فيه النظام البعثي في بغداد صوب الكويت.
ما هو إذن سبب حرب الخليج الأولى ضد العراق في 1991؟ المذهل، أخذا في الاعتبار موقفنا اليوم، هو أن تلك الحرب كانت تتمحور أساسا حول استعادة النظام العربي، الذي نعرف جميعا أنه نظام قام بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الإمبراطورية العثمانية. وذلك حيث تعرض ذلك النظام لانتهاك شامل لأول مرة منذ ثمانين عاما على يد صدام حسين، عندما غزا واحتل وألحق واغتصب بمنهجية دولة الكويت لمدة تسعة أشهر، بدءا من 2 أغسطس 1990.. ولم يكن شيء مثل ذلك سبق أن حدث في السياسة العربية. فرغم أن مصر تدخلت في اليمن في الستينات، وأن حافظ الأسد كان دائما يحرك الأحداث ويقوم بعمليات اغتيال وتدخل في لبنان خلال الحرب الأهلية (كذلك إسرائيل)، لم يحدث من قبل شيء يضاهي إزاحة دولة، عضو في الجامعة العربية، من على الخريطة.
لقد حظيت حرب الخليج الأولى بدعم الأنظمة العربية التي تم شن الحرب باسمها، ولم تحظ بدعم الشعوب العربية (أعلن الفلسطينيون ومنظمة التحرير الفلسطينية افتخارهما باحتلال صدام للكويت، كدلالة على القوة العربية، حيث كانوا يعتقدون أن الدور سيأتي بعد ذلك على إسرائيل، وهو الموقف الذي كلف الفلسطينيين في الكويت الكثير واحتاج إلى سنوات وإلى عملية أوسلو لإصلاحه)، فحتى النظام البعثي، التابع لحافظ الأسد في سوريا، انضم إلى جهود خلع النظام البعثي الشقيق في الكويت.
وكان العراقيون (والكويتيون تحت الاحتلال العراقي) هم الاستثناء في 1990 الذي أصبح القاعدة العربية باندلاع الربيع العربي في 2011. فقد انتفض ملايين العراقيين جنوبا وشمالا ضد نظامهم في أعقاب حرب العراق في 1991. وقاموا بما كان بالنسبة للسياسة العربية في ذلك الوقت مستبعدا، إن لم يكن مستحيلا. فقد دعوا قوات التحالف التي كانت تقصفهم لأسابيع في حملة جوية عنيفة تشبه الدمار الذي لحق بدرسدن في 1945 للمساعدة على تخليصهم من طاغيتهم. وبغض النظر عن مدى طغيان النظام، عادة ما تلتف الجماهير حول زعامته في أوقات التعرض لهجوم خارجي (مثلما كان الحال عند تعرض الاتحاد السوفياتي للقصف على يد هتلر)، ولكن الشعب العراقي حطم تلك القاعدة؛ ووضع معاناته في ظل حكم هذا الطاغية في صدارة ومركز الأحداث. فقد حصدت انتفاضة 1991 نحو 200 ألف شخص بنهاية عام 1991، معظمهم شيعة من جنوب البلاد، حيث إنهم، بخلاف الأكراد في شمال البلاد، كانوا أسرى العوامل الجغرافية وطبيعة المنطقة. ولأول مرة، تحول الخطاب الذي استخدمه النظام القومي العلماني لصدام حسين للقضاء على التمرد على نحو سافر، إلى خطاب طائفي كان إرهاصا مبكرا لما نشهده اليوم في سوريا. فقد كانت الدبابات التي تجوب النجف وتطلق نيرانها على المتظاهرين في كافة أنحاء الجنوب تحمل شعار «لا شيعة بعد اليوم».
ويجب أن نتذكر عدد العراقيين الذين ماتوا في 1991، خاصة في ضوء التجربة السورية خلال العامين الماضيين (حيث بلغ عدد السوريين الذين ماتوا حتى الآن ما بين 70 إلى 90 ألفا وفقا لتقديرات الأمم المتحدة، ومن المتوقع أن يضاهي هذا الرقم المستوى العراقي بخريف هذا العام). في 1991، وقفت الجيوش الغربية والعربية، التي جاءت لتحرير الكويت، على التراب العراقي وهي تراقب، بل وحتى تتفاوض على استخدام المروحيات مع جنرالات صدام، بينما كان المتمردون يطالبون بالدعم والسلاح ثم قتل عشرات الآلاف منهم تحت وطأة قصف تلك المروحيات. فلم يكن خلع صدام حسين، وفقا لما أعرب عنه خبير تلو الآخر في وسائل الإعلام، جزءا من مهمة الأمم المتحدة المتعلقة بالحرب. وبالتالي، كان العراقيون العاديون يموتون أسرابا، بينما كان النظام العربي الذي يخضع كثير منه لقيادة مجموعة متماسكة من الطغاة يستعيد وضعه السابق بقوة الجيوش الغربية. وعندما ننظر إلى الماضي، يمكننا القول إن القتلى العراقيين مهدوا الطريق لما يحدث في الأجزاء الأخرى من الشرق الأوسط اليوم.
لقد نجحت حرب الخليج الأولى في أهدافها المعلنة، وباستثناء المعقل الكردي، فإنها لم تتجاوزها. ولكن الشعب العراقي هو من دفع ثمن هذا النجاح. والأسوأ من ذلك، فقد تركوه يعاني تحت وطأة العقوبات الاقتصادية لمدة 13 عاما أخرى في ظل حكم طاغية قاس وعنيف، يرغب في الانتقام ممن ثأروا ضده. ثم تحول الهجوم الطائفي البعثي لقمع التمرد في 1991 إلى سياسة رسمية للدولة كما تفعل سوريا بشار الأسد حاليا. وبحلول عام 2003، تعرضت الطبقة الوسطى العراقية للدمار؛ حيث انهارت مؤسسات الدولة التي كانت تعمل بفعالية معظم الوقت خلال السبعينات والثمانينات عندما كانت العراق ما زالت «جمهورية الخوف»، ثم سادت حالة من العداء وانعدام الثقة تجاه الولايات المتحدة في 2003 بين العراقيين، بعد أن خذلتهم في عام 1991.
لقد استهانت كل من إدارة بوش والمعارضة العراقية لصدام حسين خارج العراق (المعارضة الوحيدة التي كانت موجودة وقتها)، بمن في ذلك الأفراد مثلي، إلى حد كبير، بتكلفة حرب 2003. فلم ندرك أن الدولة العراقية مصفوفة كأنها بيت من أوراق اللعب. فقد كتبت مقالا حول «الدولة الإجرامية» التي حلت محل الدولة الشمولية في النسخة المعدلة من «جمهورية الخوف» التي كانت موجودة في عام 1996. ولكن، لم تكن لدي أي فكرة أن الدولة كانت منهارة من الداخل لأسباب عملية.
لم تكن هناك حرب بالمعنى الحقيقي للحرب في 2003. فهذا خطأ في التسمية؛ كانت هناك فقط بعض المناوشات بين فدائيي صدام حسين، معركة أو اثنتان، ثم انهارت البنية الكلية البشعة لذلك النظام ذاتيا. فقد حل الجيش نفسه قبل أن يصدر بول بريمر قراره غير الضروري. والغريب أن الولايات المتحدة كان بإمكانها إدارة تغيير النظام في العراق في 2003 بمجرد دفع رواتب الجنود العراقيين بالدولار بدلا من تركهم يتقاضون تلك الدنانير المحدودة من بغداد، وهي الدنانير التي كانت قيمتها قد انخفضت حتى إنها لم تكن تكفي أجرة الأتوبيس الذي يستقله الجنود للعودة إلى منازلهم. وكان الاعتراض الأميركي الرئيس على تلك الفكرة التي طرحتها المعارضة العراقية في أواخر التسعينات، هي أنها سوف تثير مشكلة حول سيادة ووحدة الدولة العراقية، ولا حاجة للقول إن الأمم المتحدة لم تكن لتوافق على ذلك أبدا. وبالطبع، لم تمثل أي من تلك الأحكام الخاطئة من قبل إدارة بوش ضد الحرب وإسقاط النظام، في 2003 على الأقل، إذا كانت تحقيق مصلحة الشعب العراقي. لم نكن نعرف في 2002 و2003 ما نعرفه اليوم، ولا أشير الآن إلى الغطرسة الأميركية ولا إلى تجاهلهم المنطقة، حيث إن البعض، بمن فيهم أصدقاء لي، حذروا من ذلك. لم أكن منتبها لذلك في 2003. وما زلت أعتقد أنني كنت محقا في ذلك؛ حيث إن السياسة في الشرق الأوسط، وبالطبع السياسة الديمقراطية أو الليبرالية، تبنى على انتصار الأمل على التجربة؛ فهي ليست محض حسابات. فيمكن تصحيح الأخطاء الأميركية في العراق، على الأقل جزئيا. على أي حال، فبحلول صيف 2004 تراجع تأثير النفوذ الأميركي على تطور السياسة العراقية إلى حد كبير مع السلطة إلى حكومة إياد علاوي. والإسراع الأميركي المهين في مغادرة العراق في 2010، ولكن الخطأ الأكبر هو أن تنظر إلى ما فعلته الولايات المتحدة أو لم تفعله باعتباره هو المهم وكونه السبب الوحيد للفشل السياسي في العراق.
يجب وضع اللوم الأعظم في الكارثة التي لحقت بالعراق على أكتاف النخبة السياسية العراقية بعد 2003، وأساسا على عاتق زعماء الأحزاب الشيعية المتعددة التي تهيمن على النظام السياسي في العراق خارج كردستان اليوم. فقد حذرت من ذلك في «القسوة والصمت» في 1993: «ليس هناك، سوى شيعة العراق، من يستطيع إيقاف صدام من اغتصاب النصر بعد موته عبر تصاعد العنف الطائفي في السنوات التالية. ونظرا لأفضليتهم العددية، فإنهم يتحملون مسؤولية تاريخية عن ذلك المستقبل، أكثر من أي مجموعة عرقية أو طائفية أخرى في العراق... وكلما عزز شيعة العراق موقفهم كشيعة، ازداد اندفاع الأقلية السنية العراقية للمشاركة في تلك النهاية المأساوية... إن المنافسة على موقع الضحية لن يؤدي إلا إلى كارثة. وأخذا في الاعتبار أن طبيعة النظام في بغداد تركت لدى الجميع حسابات يحتاجون إلى تصفيتها، ربما كان من الأفضل على الطبقة السياسية تصفية أقل ما يمكن من هذه الحسابات.
أخفقت الطبقة السياسية الشيعية التي وصلت إلى السلطة على ظهر الدبابات الأميركية في 2003، في أن تصل إلى مستوى من الحكمة السياسية على كافة الأصعدة، فقد تبنت سياسة السباق على من كان أكثر ضحية ومعاناة ومن ثم لديه الحق في أن يأخذ أكثر لنفسه. وبالتالي، فإنهم نظروا إلى سنة العراق باعتبارهم بعثيي العراق وتناسوا كيف كان الجميع، بمختلف طوائفهم وقومياتهم، متورطين بشدة في جرائم النظام (وهي من النقاط التي فصلتها أيضا في «القسوة والصمت»). وكان خطأي هو عدم الانتباه لتلك التحذيرات التي قدمتها في 1993 وتجاهلي في ما كتبته على أمل أن يتمكن زعماء الشيعة من التصرف على نحو مختلف. ولكنني كنت مخطئا تماما. والأهم من ذلك، هو أن نفس الخطأ سوف يتكرر في سوريا، ويبدو أن الزعماء السنة سوف يعرضون الشعب السوري لنفس الآلام التي مارستها القيادة الشيعية في العراق.
* * * إذا كانت حرب 1991 قد قامت من أجل استعادة منظومة الدول العربية، فإن حرب عام 2003، التي جاءت في أعقاب صدمة 11 - 9 جاءت لتشكك في شرعية تلك المنظومة. رغم سوء الأداء في العام الأول من الاحتلال الأميركي للعراق، فإن سياسة إدارة بوش وواقع إسقاط النظام كشفا عن حقيقة جوهرية ومأساوية في صميم السياسة العربية الحديثة كما عرفناها منذ عام 1967. إن المشاكل المعقدة التي ألمت بالمنطقة سياسيا وثقافيا منذ عام 1967، أسفرت عن ظواهر متخلفة، غير متصلة الواحدة مع الأخرى على الإطلاق، ولكنها متساوية في الخطورة، مثل ظاهرة البعث العربي، شخص صدام حسين (أو حافظ الأسد)، وتنظيم القاعدة والحركات السلفية الأخرى. بعد أن كانت السياسة الخارجية الأميركية تدعم مثل هذه الأنظمة باسم الحفاظ على الاستقرار، تغيرت هذه السياسة بشكل جذري سنة 2003، وسوف يثني التاريخ، والعالم العربي في الوقت المناسب، على الولايات المتحدة بفضل هذا التغيير المهم في سياستها الخارجية الجديدة تجاه الشرق الأوسط، التي لعبت دورا لا يستهان به في اندلاع الربيع العربي.
بعد الإطاحة بأبشع طاغية عرفه العالم العربي على الإطلاق صدام حسين، الذي أشعل وخاض عدة حروب وقتل ملايين من البشر، انكشفت هذه الظواهر المتخلفة وأصبحت خاضعة لنوع جديد من الرقابة المنبعثة من داخل المجتمع العربي (وخاصة الشباب). كان سقوطه تحولا جذريا في أسس منظومة الحكومات العربية. هناك إشارات مهمة إلى تصدع هذا الهيكل قبل أحداث الربيع العربي بفترة طويلة: مثل خروج اللبنانيين عام 2005 في مسيرات ضمت مئات الآلاف لإجلاء جيش الاحتلال السوري من بلادهم؛ وخرجوا مرة أخرى احتجاجا على اغتيال رئيس وزرائهم رفيق الحريري؛ كما خاض الفلسطينيون أول انتخابات حقيقية لهم بغزة والضفة الغربية؛ بينما تعرض حسني مبارك للضغط من قبل مسؤولين أميركيين للسماح للمصريين بخوض انتخاباتهم الأولى المتنازع عليها في عام 2005؛ وظهور التحرك الأخضر الإيراني الشعبي احتجاجا على تزوير انتخابات عام 2009؛ وانتشار نوع جديد من الكتابة الناقدة عبر الإنترنت، لم تشهده الثقافة العربية من قبل (مثل كتابات شلش العراقي، وهو اسم مستعار، حيث قرأ مقالاته مئات الآلاف). وتستمر القائمة.
كذلك من المهم أيضا، في حالة ما إذا تناولنا ما هو وراء النفسية السياسية العربية، أن نفهم أن الأفكار التي استمدت شرعيتها من السياسات العربية في الفترة في ما بعد عام 1967 - مثل العروبة، والكفاح المسلح، والهروب من المسؤولية باسم مناهضة الإمبريالية ومعاداة الصهيونية - وهي الأفكار التي كانت أساسا لكل من نظامي الحكم في العراق وسوريا، أصبحت هذه الأفكار عارية ومكشوفة؛ لتضاربها مع الواقع الذي كانت عليه الحياة تحت حكم صدام حسين. وقبل عام 2003، كانت لدى الفرد العربي القدرة على إنكار عمليات الإبادة الجماعية التي كانت تشن ضد الشعب الكردي العراقي وتجاهلها، أو حقيقة القتل الجماعي للمتظاهرين الشيعة في عام 1991، ولكن الجهل بتلك الجرائم لم يعد ممكنا بعد سقوط حزب البعث العراقي واكتشاف ما يقرب من ثلاثمائة مقبرة جماعية والتعرف عليها بجنوب العراق وشمالها.
لم يكن عليك أن توافق على الحرب التي شنت في عام 2003، أو دعم النخبة السياسية الجديدة الأنانية والطائفية (فهي تمثل انعكاسا للطائفية التي اتسم بها صدام حسين، بل هي أسوأ) لمعرفة أن نظاما سيئا للغاية قد مارس السلطة في تلك البلاد الغارقة في الظلام الدامس منذ عام 1968، وأن صعوده وحكمه الذي استمر لمدة 30 عاما يرجع إلى الإجابة التي قدمها لأسباب هزيمة العرب في حرب 1967 ضد إسرائيل (أن هناك طابورا خامسا مكونا من بقايا ضئيلة من المجتمع اليهودي بالعراق الذي كان مزدهرا لفترة - هذا هو الجواب الذي قدمه حزب البعث العراقي لأسباب انهزام القوات العربية المتعددة خلال ستة أيام).
ورغم ذلك، فلا يوجد أي متظاهر من متظاهري «الربيع العربي» - مهما رأى أنه يتعاطف مع محنة الفلسطينيين (كما أفعل)، أو يندد بالسياسات الوحشية للاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية (كما أفعل) - سوف يفكر في الوقت الحالي في نسب كافة الآفات التي تتسم بها السياسات العربية إلى التعليلات فارغة المحتوى مثل «الصراع ضد الإمبريالية والصهيونية». إنهم يعلمون ويستشعرون اليوم أن تلك العبارات ليست سوى أدوات للغة مصممة من أجل دعم الأنظمة المستبدة، وتشتيت الشعوب وصرفهم عن الكفاح للحصول على حياة أفضل. لقد ضحت أجيال من العرب بحياتهم ومستقبلهم نتيجة لمجموعة من الأوهام، التي أصبحت في الوقت الحالي واضحة بأنها ليست لها علاقة بالإمبريالية أو بوجود إسرائيل أو استمرار احتلالها غير الأخلاقي؛ فتلك الأوهام التي أنشأناها بأنفسنا نحن العرب، من داخل العالم العربي، التي تتطلب دراسة عميقة، أضفت شرعية على الأنظمة المستبدة إلى حين إسقاط النظام البعثي في العراق. المعنى العميق للربيع العربي هو كشف إفلاس الأفكار السابقة، فقام الشباب (ويجب أن يكون الشباب) بنضال سلمي، هدفه التخلص من الديكتاتورية والاستبداد، أولا وقبل أي شيء كأولوية سياسية كما فعل نظراؤهم العراقيون منذ 20 عاما مضت خلال انتفاضة عام 1991.
من المؤكد أن نظام المعتقدات الذي قدمه حزب البعث الاشتراكي كان متحجرا، وفقد قدرته على إلهام أي شخص منذ فترة طويلة قبل تجريد صدام حسين من السلطة في عام 2003. بيد أن صدام ظل موجودا في السلطة رغم الحروب الشنيعة التي شنها. وكان من المستحيل، بالنسبة للعراقيين على الأقل، أن يفكروا في ما بعد صدام حسين. هل كان من الممكن أن يشهد العراق ربيعا عربيا إذا لم تحدث الحرب في عام 2003؟ لا يمكننا معرفة ذلك على الإطلاق، ولكنني أشك في ذلك. لقد كان العراقيون منهكين وضعفاء، ولقد كان الثمن الذي دفعوه في عام 1991 باهظا للغاية، كما أن تركة الديكتاتورية التي دامت لمدة 30 عاما كانت ثقيلة للغاية. لقد استخففنا جميعا بشأنها. ومن المثير للاهتمام أن نسأل إذا كان الربيع العربي سوف يقع بالفعل إذا لم تتم الإطاحة بصدام حسين في عام 2003. الجواب، على الأرجح، هو نعم، ولكن متى كان سيندلع هذا الربيع مع بقاء صدام حسين في بغداد؟
لا تتقيد الأفكار بالحدود والفواصل. ليس بوسعنا سوى تذكر تأثير دعوة الرئيس كارتر لتبني سياسات تحفظ حقوق الإنسان بأميركا اللاتينية عقب سقوط ديكتاتورية تلو الأخرى في الثمانينات من القرن العشرين. الشباب، على الأخص في العالم العربي، ليسوا مقيدين بانحيازات كبار السن، أو تحيزات جيلي وتسوياته مع الديكتاتورية وسياسة العنف تحت مسمى أولوية النضال ضد الصهيونية والإمبريالية. وينطبق الأمر ذاته في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا، فهناك ظاهرة لا تزال تحت الإنشاء، فهي تسلط الضوء على الحكومات الديكتاتورية، وتطالب بسيادة نظام سياسي تنشأ شرعيته من المواطنة الحقيقية، وهو ما عرفه الشباب العربي من خلال الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي. يملك هؤلاء الشباب رؤية حول أشكال جديدة من المجتمع، لا يقوم على انتماء قومي خانق. فكل ما كان يطلبه محمد البوعزيزي، البائع المتجول التونسي، في يوم 17 من ديسمبر (كانون الأول) في عام 2010، هو الحفاظ على كرامته واحترامه لذاته باعتباره مواطنا له كرامته الشخصية. ومن هنا، بدأ الربيع العربي على أي حال، وقد أدى سقوط أول ديكتاتور عربي، صدام حسين، إلى تمهيد الطريق للكثير من الشباب العربي لتخيل ذلك الربيع.
* * * ولكن الربيع العربي، كما يقال، قد تحول إلى شتاء. وهنا أيضا يمكننا الاستفادة ببعض دروس العراق بعد 2003، حيث إن الدعم الذي منحته بعض الدول العربية في 1991 لقوى التحالف التي دفعت صدام حسين خارج الكويت - كان يرجع أساسا إلى التهديد الذي كان صدام حسين يمثله بالنسبة لهذه الدول، ويجب الإشارة هنا إلى أن هذا الدعم العربي لم يكن موجودا في أعقاب سقوط الطاغية في 2003 عندما كان فرصة لبناء عراق أكثر عدالة، ولا أقول ديمقراطيا. ولكن العداء الشامل للعراق ما بعد 2003 أصبح النهج الذي اتخذته كافة أنظمة المنطقة. فقد تدفق الجهاديون من الخارج عبر سوريا، وقام الإيرانيون بتمويل الكل طالما كانت مهمتهم هي عرقلة قيام حكومة مستقلة في العراق وغيرها.
وكانت النتيجة الأساسية للسنوات القليلة التالية لعام 2003 في العراق، هي إخلال منظومة الدول العربية، التي كانت استعادتها هي هدف حرب 1991. والتي انتهكها أساسا صدام حسين. وقد تعاملت النخبة السياسية العراقية مع الوضع الجديد بعد 2003 بأن أصبحت أكثر طائفية مما كان عليه حتى صدام حسين. فقد استخدم صدام الطائفية والشوفينية القومية كوسيلة ضد الأعداء الداخليين عندما كان ضعيفا. ولكن اليوم، تحاول الأحزاب الشيعية العراقية اكتساب شرعيتها السياسية من خلال سياسة طائفية، وهي تتخلى يوما على يوم عن فكرة العراق والمواطنة العراقية، إلى حد أنها أصبحت معتمدة للغاية على الجمهورية الإيرانية، وقد أصبحت كافة القرارات السياسية المهمة اليوم تصدر من طهران.
ومنذ الربيع العربي، تغيرت تماما كافة القواعد القديمة التي كانت تحكم النظام العربي. ففي دولة عربية تلو الأخرى، أدى الضعف المتنامي لمنظومة الدول العربية التي نشأت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، في بلدان مثل ليبيا وسوريا، والعراق بل وحتى لبنان، إلى أن أصبحت تلك البلدان على وشك الانقسام أو أصبحت غير فعالة أو متوحدة داخل حدودها التاريخية السياسية. والمفارقة، هي أن الدعم الذي تقدمه عدد من الدول العربية المحورية لقوى المقاومة ضد نظام بشار الأسد يزيد من الحد من شرعية النظام العربي ككل، وهو النظام الذي بدأ ينهار في هذه الأنظمة الجمهورية القومية الاجتماعية (سوريا، العراق، ليبيا). وتقليديا، كانت بعض الدول العربية المحافظة تقوم بما هو غير متوقع، فقد دخلوا اليوم في نزاع بالوكالة مع النظام القومي الذي كان من القيادات العربية سابقا - سوريا بشار - والمتحالف مع حزب الله وإيران. وينبعث تدخلهم في سوريا أساسا من الرغبة في تشكيل نوع الدولة التي يمكن أن تنشأ عن تلك الفوضى. لم تعد الحرب الأهلية السورية حربا يمكن تجنبها أو تركها من دون نهاية واضحة. فهي سوف تستمر، في خطوة مؤلمة تلو الأخرى حتى لا يعود هناك نظام بعثي في سوريا أو ربما لا يصبح هناك سوريا لاستعادتها. نحن ندخل إلى عالم المجهول، فالسياسة في الشرق الأوسط هي اليوم أمر مثير للقلق والخوف..
مما لا شك فيه أن هناك القليل من الأشياء الإيجابية التي يمكن قولها حول انهيار دول مثل سوريا وربما العراق، وربما يمكننا إضافة لبنان وليبيا في نهاية القائمة؛ وبالطبع فإن ما يحدث في الحالتين العراقية والسورية، هو الطريق الواضح للموت والدمار الشامل للمجتمعات العربية، لا يقارن بأي شيء حدث في الماضي عن طريف الحروب الكثيرة السابقة بين الدول في المنطقة. ونحن نرى هذا الدمار الاجتماعي والأخلاقي والثقافي يوميا في الأخبار التي تأتي من سوريا، حيث يتدفق اللاجئون من البلاد، محاولين الهرب أو الاختباء في الكهوف للهرب من قصف نظامهم الذي لا يرحم.
إن الجنس البشري، على الأقل في شكله الحديث، يحتاج إلى دول. فما زالت الدول هي حجر الأساس لأمننا كأفراد، والتي تقدم على الأقل إمكانية وجود حياة متحضرة تعتمد على الطريقة التي نشأت بها الدولة واكتسبت الشرعية. ومن دونها، فإن «الحياة خبيثة، ووحشية وقصيرة»، وفقا لما قاله المفكر الإنجليزي هوبز في القرن السابع عشر.
وهناك استثناء وحيد من هذه الصورة السيئة التي كنا نعيشها في الشرق الأوسط منذ 1991، يمكنني الإشارة إليه: التجربة الكردية في كردستان العراق وربما في أماكن أخرى من المنطقة التي يهيمن عليها الأكراد في دول أخرى مثل سوريا وتركيا. فقد كان الأكراد هم أكبر الخاسرين في نظام الشرق الأوسط الذي نشأ بعد الإمبراطورية العثمانية. ولكنهم لم يعدوا كذلك، إذا كان نموذج العراق يعتد به، فالجزء الوحيد من العراق الذي يعمل حاليا كما كان يأمل الكثير منا أن يعمل العراق بأكمله بعد 2003 - هو كردستان العراق. وللأسف، يبدو أنه لا يوجد في إدارة أوباما من يفهم ذلك. ويبدو أننا لم نحرز تقدما كبيرا في بعض دوائر السياسة الأميركية منذ 1991. وفي الوقت نفسه، فإن كردستان مكان آمن للحياة والعمل، كما أنها تتطور اقتصاديا في ظل عمل المئات من الشركات التركية التي تستثمر في كافة مناحي الحياة بها، وتنتعش ثقافيا في ظل وجود عدة جامعات جديدة. فماذا يمكن أن نطلب غير ذلك؟
* أكاديمي عراقي - بريطاني، من مواليد بغداد، يعمل أستاذا للدراسات الإسلامية والشرق أوسطية في جامعة براندايس بضواحي مدينة بوسطن في الولايات المتحدة. درس العمارة في معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا (إم آي تي) الشهير في الولايات المتحدة، ومضى على خطى والده المهندس المعماري الشهير محمد مكية، فمارس العمارة لفترة غير قصيرة، وحصل على الجنسية البريطانية عام 1982.
ألف كتاب «جمهورية الخوف» عام 1989، تحت اسم مستعار، هو سمير الخليل. وألف عام 1993 كتابا آخر هو «القسوة والصمت». وكان عضوا بارزا في المعارضة العراقية المؤيدة للحرب عام 2003.
* http://www.aawsat.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق