الثلاثاء، 20 نوفمبر 2018

المولد النبوي في الموصل بقلم : ا.د. ابراهيم خليل العلاف



المولد النبوي في الموصل
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس –جامعة الموصل
قد لايعرف كثيرون ، ان الموصل هي من اولى المدن العربية والاسلامية التي احتفلت بالمولد النبوي الشريف في الثاني عشر من ربيع الاول .ولم ثمة احتفال بالمولد النبوي الشريف كما نشاهده اليوم لكن الموصل وبعدها اربيل ثم مدن الشام ومصر والمغرب العربي .
وعندما واجهت خطر الفرنجة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلادي وجدت ان الضرورة الدينية والشرعية تقتضي منها تأكيد ( الذات الاسلامية ) من خلال الاحتفال بمولد سيد الكائنات محمد صلى الله عليه وسلم .
وقد أدركتُ منذ الاربعينات من القرن الماضي ، الاحتفال بالمولد النبوي في الموصل من خلال سلسسلة من الفعاليات التي كانت تبتدأ من جامع النبي جرجيس حيث تستخرج شعرات النبي محمد صلى الله عليه وسلم من الحضرة الجرجيسية ويطوف بها الناس وبقيادة اشخاص من بيت شيال العلم وهم يحملون الراية الخضراء راية الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في شوارع الموصل .
وكنت اشاهد توزيع الشوربة والحلويات في جامع النبي جرجيس وكانت جموع الموصليين تتجمع في سوق الشعارين ثم تتقدم بإتجاه هذا الجامع للمشاركة في احتفالات المولد النبوي .
وغالبا ما كان يرافق الاحتفال بالمولد النبوي الشريف القاء خطب وكلمات واقامة ما نسميه بالمولديات التي ترافقها المدائح والتزيلات الموصلية التي تشيد وتفخر بالنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم .
هذا فضلا عن ان الصحف الموصلية ومنها ( فتى العراق ، وصدى الاحرار ، ونصير الحق ، والاديب ، والمثال ، والعاصفة ) . فضلا عن المجلات ومنها ( الجزيرة ) كانت عندما تصدر تزخر بالمقالات عن الذكرى ذكرى مولد الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم .
ولازلت اذكر ايضا اننا في المدارس كنا نصدر النشرات المدرسية وبأعداد خاصة عن المولد ، ويحرر هذه الاعداد المدرسين والطلبة ولدي اعداد من هذه الصحف والمجلات والنشرات المدرسية ، وهي تحتفل بهذه الذكرى الخالدة .
الشيء الذي اريد أن اقوله ايضا ان الموصل وكانت تزخر بالاصناف المهنية كالخشابين والقصابين والعلافين والحلاقين والنجارين والصاغة وغيرهم كانوا يقيمون السرادقات امام محلاتهم واسواقهم وتتوفر في هذه السرادقات الحلويات والشاي وتوزع على الافراد الذين كانوا يأتون للتهنئة فترى احدنا يخرج من سرادق الصياغ ليدخل في سرادق العلافين وبعدها سرادق الخشابين وهكذا .
وكنا نرى الوجوه وجوه الناس في هذا اليوم مستبشرة فرحة وهي في عيد حقا يهنئ بعضهم بعضا وتستمر الاحتفالات طوال النهار .
عندما أشرفت على اطروحة الدكتوراه التي قدمها تلميذي الدكتور نمير طه ياسين الصائغ بعنوان ( الاصناف والتنظيمات المهنية في الموصل منذ اواخر القرن التاسع عشر حتى 1958 ) طلبت منه ان يكتب عن دور الاصناف الاجتماعي ومشاركتها في المناسبات والاحتفالات الدينية .وقد كتب فصلا جميلا اشار فيه الى ان احتفالات الاصناف بالمولد النبوي الشريف كانت من اروع الاحتفالات التي تقام في مدينة الموصل ، فقد كانت معالم الزينة ترفع على الدور والاسواق والدوائر الحكومية وقد عثرنا على وثائق كثيرة حول هذا الموضوع محفوظة في ارشيف بلدية الموصل وكانت معالم الزينة هذه ترفع قبل المناسبة بيوم او يومين وتنور المصابيح الكهربائية الملونة التي تظهر المدينة بزي جميل .كما تجري الاستعدادات لاقامة المهرجانات والاختفالات الدينية التي تليق بهذا اليوم الخالد في التاريخ البشري .
وفي صباح يوم المولد ، تطلق المدفية عددا من الاطلاقات إيذانا ببدء الاحتفالات ويجتمع منتسبي الاصناف في المساجد والجوامع للاستماع الى الذكر الحكيم والمناقب النبوية والمدائح والتنزيلات الموصلية ، ويجلس رئيس الصنف في السرادق ومعه اعضاء الصنف ، يتلقون التهاني ووفود المهنئين ويتم استقبال وفود المهنئين وتقدم القهوة كما تقدم الحلويات ويتزاور ابناء الاصناف والاهالي مع بعضهم البعض .
كما كنا نشاهد الاهالي ، وهم يطوفون في الشوارع العامة وتظهر عليهم مظاهر الزينة والفرح ومن ابرز الاصناف والتنظيمات التي كانت تهتم بهذه المناسبة الصياغ والخشابين والعلافين والبقالين وعمال الاحذية والاطرقجية والقصابين والصفارين واصحاب الكمرك والحمامين والحياك والقوطجية واصحاب المحلات التجارية .
ومما يجب علي ان اذكره ان مناسبة المولد النبوي كانت فرصة لاغاثة الفقراء واسعاف اليتامى والارامل والاسر المتعففة والسعي الى ادخال الفرح والسرور والبهجة لهم ولاطفالاهم ونسائهم وقد اطلعت من خلال جريدة ( فتى العراق ) الموصلية في الثلاثينات وما بعدها على كثير من اخبار هذه الممارسات الطيبة .
كما قرأت في صحف الاربعينات والخمسينات من القرن الماضي الكثير مما يشير الى ان الاصناف كانت تقوم بذلك وتقوم ايضا بتشكيل وفود للتزاور والتهنئة واستقبال المهنئين من الاهالي والمسؤولين الحكوميين ونشر ذلك كله في الصحف المحلية التي كانت تصدر في الموصل خلال تلك السنوات وهي كثيرة .
والشيء الجميل الاخر ان مناسبة المولد النبوي الشريف كانت ايضا فرصة لبعض الحرفيين للتبرع بما ينتجه الى الجهات التي تقوم بالاحتفالات من خلال التبرع بإقامة السرادقات واقواس النصر وتزيين المكان وتنويره وقد قرأت في عدد من جريدة (البلاغ ) الكثير من التشكرات لهؤلاء المتبرعين ومنهم مثلا السيد عبد الرحمن ياسين التوتونجي الذي تبرع بالسيكائر والقهوة وماء الورد فضلا عن ما تحتاجه السرادقات من اقمشة وشراشف للزينة .
وقبل ايام وانا قد تحدثت عن المطهرجية والسيد مجيد السيد حمو ذكرت انه كان يتبرع بختان الاطفال مجانا في المولد النبوي الشريف .
انا عن نفسي اقول ان ما من مدينة في العالم تظهر فيها قيمة الاحتفال وابهة الاحتفال وروحية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، مثل الموصل وهذا ليس غريبا عن هذه المدينة التاريخية التي تعرف مكانة الرسول الكريم محمد صلي الله عليه وسلم ودوره في انقاذ الامة من الجهل والشرك والضلال وسعيه المتواصل لاقامة شرع الله على الارض والدعوة الى العدل والثورة ضد الظلم والاستبداد والتخلف وكم نحن اليوم ونحن نحتفل بذكرى مولد سيد وفخر الكائنات محمد صلى الله عليه وسلم بحاجة الى ان نتمثل ثورته وقدرته على اعادة البناء والوقوف بوجه الظلم والتطرف والغلو ...بسم الله الرحمن الرحيم :" وما ارسلناك الا رحمة للعالمين " صدق الله العلي العظيم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...