الأحد، 4 نوفمبر 2018

الحاج محمد الرضواني ..العالم التاجر الانسان ( 1852 - 1938 )




الحاج محمد الرضواني ..العالم التاجر الانسان 
( 1852 - 1938 )
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل
اليوم نقف عند رمز آخر من رموز الموصل ، وشخصية فذة من شخصياتها ، وعلم بارز من أعلامها ، لايزال الموصليون يحتفظون في ذاكرتهم التاريخية عنه بأجمل الذكريات ، وما تكاد مناسبة تدل على المحبة ، والعطف ، والتعاون الا ويُذكر فيها ...انه الحاج محمد الرضواني  (     1852 - 1938 ) رحمه الله وجزاه خيرا على ماقدم لمدينته ودينه وبلده .
والحاج محمد الرضواني ، حظي بكتابات كثيرة حتى ان الصديق والاخ الشيخ محفوظ العباسي الف كتابا كاملا عنه .كما كتب عنه الاستاذ أحمد محمد المختار فصلا في كتابه ( تاريخ علماء الموصل ) ، وكتب عنه الاستاذ عبد الجبار محمد جرجيس كذلك في كتابه ( موسوعة علماء الموصل ) . واتذكر ايضا ان الاستاذ غانم الحيو كتب عنه وعن مسجد الرضواني  في الباب الجديد.
على كل حال الحاج محمد الرضواني ، وهو حي بيننا نذكره ، ولا ننساه ، ونذكر مساعدته للفقراء  واليتامى والارامل والمعوزين  بصمت وهدوء لايعرف ما كان يقدمه الا الله سبحانه وتعالى ، شيخ جليل ، وعالم دين فذ ،  وركن من أركان الاصلاح والتنوير في المجتمع الموصلي المعاصر ..  عاش ستة  وثمانون سنة بين سنة ولادته 1269 هجرية -1852 ميلادية وسنة وفاته 1357 هجرية -1938 ميلادية ، ولم يكن  يفرط بوقته وجهده دون ان يفيد ويقدم شيئا .ومع انه كان حنفيا لكنه كان لايفرق بين المذاهب ويقول ان كلها على حق .
والشيخ محمد الرضواني ، من اسرة الرضواني الدينية المعروفة في الموصل  بأنها من السادة الحسينيين ؛ فوالده الشيخ عثمان الرضواني ، كان عالما درس العلوم النقلية والعقلية ، وقد درس الحاج محمد الرضواني على يد والده ، وعلى يد الشيخ صالح افندي الخطيب ، واخذ عنه اجازته العلمية كما جرت العادة انذاك عندما ينتهي التلميذ من دراسة المتطلبات الواجبة في مجال اللغة والفقه والتفسير والحديث .
ومما يذكره المؤرخون عنه ايضا ، انه لم يكتف بما درسه في الموصل بل سافر الى الحجاز  سنة 1897 ودرس على أيدي شيوخ افذاذ في مكة المكرمة ، والمدينة المنورة وادى فريضة الحج وهو في الاربعينات من عمره . ومن العلماء الذين درس على ايديهم الشيخ عبد الحق الحجازي ، وما ان عاد الى الموصل حتى أقدم على توسيع مسجد اسرته الاسرة الرضوانية من خلال شراء دور كانت تقع الى جانب مسجد الشيخ عثمان الرضواني ، وبنى مدرسة دينية هي مدرسة الرضواني  في باب الجديد لاتزال قائمة حتى يومنا هذا ، وانشأ فيها مكتبة قيمة ، واوقفها على المدرسة الرضوانية ثم انصرف للتدريس في هذه المدرسة ، وتحلق حوله عدد كبير ممن يحبون العلم واهله .
ومما يجب ان نذكره ، ان الحاج محمد أفندي الرضواني توجه بطبيعته المتسامحة ، وروحه المرحة الى التصوف فكان يحبذ قراءة كتب الامام الغزالي وخاصة كتابه المشهور (احياء علوم الدين ) .... كان يدرسه ويدرسه ويحث على اقتنائه وتدبر ما يضمه من معلومات غزيرة عن كيفية انعاش الطاقة الايمانية عند الانسان .
ومما يجب ان اذكره في هذا المجال ان كل ذلك انعكس على شخصية الحاج محمد الرضواني ، وسلوكه اليومي وطريقة تعامله مع الناس فكان معروفا بقلة الكلام  مع غزارة علمه ، وكان اذا تحدث أوجز وكان يميل الى الصمت واستماع الآخرين مع ان لديه ثروة كلامية لم تتوفر لغيره ، وكان كثيرا ما يدعو الناس الى ان لايتدخلوا فيما لايعنيهم،  وان لايتكلموا الا فيما هم على معرفة دقيقة به ، وان يكون كلامهم وفق ما يقتضيه الحال ويبرره .وفد عرف ايضا بأنه كان لبق في الكلام فصيحا في اللسان يبهر السائل اذا اجاب بعمق الجواب وبعمق معانيه واصابة بيانه وكان يحث على التعلم والاعتدال ومعاملة الجميع بروح المساواة وبدون تفريق او تمييز .
وكان الحاج محمد الرضواني ، يحذر  الناس من النفاق والرياء وان يكون عملهم خالصا لوجه الله ، وان يبعدوا عن انفسهم كل ما يدل على التكبر وطلب الشهرة الزائفة وان يعملوا :  (وقل اعملوا ) ويسعىوا في الارض ، ( وان ليس للانسان الا ما سعى)  ويترك الناس وهم  يتحدثون عن قيمة ما يقدمه  الانسان وما يقوله وما كان يفعله .
 اذا ان مما كان يميز الحاج محمد افندي  الرضواني انه كان هناك تطابق تام بين ما يقوله ويدعو  اليه وما يسلكه وهذه صفة لاتتوفر للاسف الشديد عند الناس  كثيرا ؛ فثمة تناقض بين القول والفعل وهذا ما كان ينبذه الحاج محمد الرضواني ولايستحبه .. كان يقدم الخير والمساعدة لمن يحتاجها ولايكترث بالدنيا وما يحدث فيها ويقول ان الله سبحانه وتعالى هو مدبر الكون ، ويتمثل بالقول المأثور لاتكن للعيش مجروح الفؤاد انما الرزق على رب العباد .. كان يدعو الى عدم التهالك على الدنيا وكان يقول ان على المؤمن ان يكون صابرا محتسبا لايجزع  وان يتحلى بالبر ووة الايمان بالقضاء والقدر خير وشر ، وكان له من الاولاد خمسة عشر ولدا فقد عددا منهم وكان كلما فقد واحدا منهم تولى تجهيزه ودفنه  ولاينتظر طويلا في المقبرة بل يعود الى مدرسته ليمارس عمله ودون ان تظهر عليه امارات الحزن او اي شيء من هذا القبيل كما يقول الاستاذ احمد محمد المختار .
كان الجميع في الموصل يعرفون انه يداوم في مدرسته منذ صلاة الفجر وطلوع الشمس .. يصلي الفجر في مدرسته وينشغل بالتدريس على مدى خمس ساعات متوالية في كل يوم وكانت له طريقة مشوقة في التدريس تجذب اليه الطلاب ، فهو يعرض المسائل ودقائق العلوم بعبارات بسيطة ومحكمة ، ويحبب الدرس لطلبته من خلال ادخال جانب من التشويق اليه ، وهذه هي الطريقة التربوية التي توصل اليها علم التربية الحديثة فيما بعد في العالم .
ومن تلاميذه الشيخ عبد الله النعمة والشيخ عبد الله الحسو والشيخ عثمان الديوه جي والشيخ احمد الديوه جي والشيخ فائق الدبوني وسيد علي النعيمي والشيخ رشيد الخطيب واخيه الشيخ سعد الدين الخطيب واستطيع ان اقول ان معظم علماء الدين في الموصل تخرجوا على يديه وخرجوا من داخل معطفه لهذا نجد تلاميذه يعتزون به ويتبنون في احاديثهم وخطبهم ، مقولاته وتوجيهاته ، ويحاولون تقليده وخاصة في توجهاته الاصلاحية للمجتمع ، ومعالجة امراضه الاجتماعية .
الذي اريد ايضا ان اقوله ان الحاج محمد الرضواني لم يكن يعتاش كما هو حاصل في ايامنا هذه على راتب الاوقاف ، بل كانت له تجارته  :كان تاجرا كبيرا . ومن الطريف ان هناك من يروي الكثير من سلوكيات الحاج محمد الرضواني فيقولون ان احدا لم يره يأكل  في محل تجارته ، وان احدا لم يره يجدد وضوءه في محل تجارته وان احدا لم يره ينام ويأخذ القيلولة في محل تجارته  .كان محل تجارته في سوق السراي لذلك ما رأوه الا وهو يؤدي الصلاة في اوقاتها في جامع الباشا  اي جامع الحاج حسين باشا الجليلي أو في جامع الشيخ عبدال القريب ايضا من محل تجارته في باب السراي .
وصفه من عرفه بأنه كان يتمتع بجمال الصورة وكان ذو طلعة مهيبة ..نوراني الوجه  .. قوي النظرات .. له هيبة .. انيقا في ملبسه يلبس العباءة والزبون ويضع على رأسه العمامة البيضاء  التي كانت تليق به وبمكانته الدينية
ابتدأ التجارة في خان قاسم اغا مقابل جامع الباشا في سوق باب السراي ثم  انتقل الى خان الجفت في نهاية سوق البرضعجية وكان له مكتب (Office  ) في الطابق الثاني .
وقد عرفه الناس تاجرا سمحا في البيع والشراء ، وكانوا يعرفونه محبا للفقرء عطوفا عليهم يشعر بشعورهم ويتابع اليتامى والارامل وكثيرا ما شوهد تحت استار الخفاء وفي اجنحة الظلام يتحرى البيوت المعوزة ،والعائلات الفاقدة من يعولها ليقدم لها الطحين الذي يحمله على ظهره او السكر او الشاي ودون ان يستعين بأحد .. كان سخيا كريما وظل على هذه الحال طوال حياته .
توفي الحاج محمد الرضواني في اليوم السادس من تموز سنة 1938 ، وحزنت الموصل كلها عليه وخرجت لتشييعه حتى قيل ان آلآف الموصليين كانوا يتزاحمون على حمل نعشه او السير وراءه وهي تبكي وتتحسر على فقدانه ، وقد ابنه الكثيرون ورثاه الاستاذ محمد رشيد المدرس بقصيدة جميلة جاء فيها :
هو الدهر لاينفك حالا وماضيا
يرينا مصيبات تشيب النواصيا
ابو العلم وابن العلم وهو بلا مرا
به افتخرت ايامنا واللياليا
ابا يوسف صبرا ان في الصبر نعمة
وفي ذاك من مولاك اجرا تلاقيا
واني اذا نادى المؤرخ قائلا
بجنة عدن وسطها حل ثاويا
اما الشاعر الاستاذ ذو النون الشهاب فقد رثاه بقصيدة عنوانها (ثلمة في هيكل الاسلام ) جاء فيها  :
هرب النوم من عيون العذارى ***وطغى الخطب فالجميع حيارى
قد رأوا جحفل الخطوب تبدى *** وصفو الزمان عنهم توارى
وقفوا ينظرون هل مادت الارض *** وهل بعثر الزمان النهارا
وكذا الفرقد إن يرقبن ما يُرعب ***  القلوبَ حزنا  مُثارا
ثم يقول :
فيعيث الظلوم فينا ويلهو *** وكأن الجميع قوما سكارى
من يمت لايرى بعينيه ما يؤسف *** ولايرى سوى الانوارا
ورثاه ايضا الشيخ حامد الراوي بقصيدة من الجزل جاء فيها :
حتى الحمامْ العلْ شجر بجاني
لفراك شيخي محمد الرضواني
حتى الحمام العل محزوني
هيًج بلابل لوعتي وشجوني
هلي الدمع طول العمر يعيوني
لفراك ذاك الهيكل النوراني
ويختم قصيدته بالقول :
وأختم مديحي إبنظم يجلي  الضيم
بألف الصلاة العل  نبي  وتسليمي
والال   ماغرد  هام الهيمي
ورفرف جناحينوا على الاغصاني
وكتبت جريدة (الرقيب ) الموصلية في عددها الصادر يوم 6 تموز سنة 1938  وكانت تصدر عوضا عن ( جريدة فتى العراق ) المتوقفة  تقول : " مات الحاج محمد  افندي الرضواني .. يا لهول المصاب .. ويا لعظيم الفادحة " . وانتشر الخبر ،  فتجاوبت مآذن الموصل : الله اكبر الله اكبر من القلوب ومن الاعماق .. لقد مات الرضواني الكبير سيد علماء الموصل ،  وأستاذ أساتيذها ".

رحم الله الحاج محمد الرضواني ، لقد كان عالما فذا ، وتاجرا سمحا ، وانسانا نبيلا .. وكم نحن اليوم بحاجة الى ان نتمثل في سلوكنا وتصرفاتنا ومعاملاتنا سلوكه ، وتصرفاته ، ومعاملاته .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...