نظرية الرسوس وسياسة التمييز العنصري "
محاضرة للمربي والمفكر العربي الاستاذ
ساطع الحصري
تلخيص وتقديم :ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث –العراق
في
اليوم التاسع عشر من شهر كانون الاول –ديسمبر سنة 1965 ، اقامت الحكومة العراقية حفلا تكريميا للمربي والمفكر العربي الكبير الاستاذ ساطع الحصري
تقديرا لجهاده وجهوده في سبيل الامة العربية ورفعة شانها وإحياء تراثها الفكري
والحضاري . وقد تكلم في الاحتفال كل من الاستاذ عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء ، والدكتور
نجيب خروفة رئيس جامعة بغداد بالوكالة في ذلك الحين منوهين بفضل هذا المربي الكبير
.
وخلال تلك المناسبة تفضل الاستاذ الحصري بأعداد محاضرة بعنوان : " نظرية الرسوس وسياسة التمييز
العنصري " . وقد القيت عنه بالنيابة
.ومما قاله الاستاذ الحصري في مقدمة محاضرته :" اني لآسف أشد الاسف على ان احوالي
البدنية ، لم تعد تسمح لي بإلقاء محاضرتي على مسامعكم بنفسي ، وتضطرني الى تحميل هذه المهمة على عاتق أحد اخواني ليتلوها
عليكم بالنيابة عني ، فأرجو ان تقدروا عذري في ذلك .اني اشعر بسرور عميق لهذه
الفرصة التي اتيحت لي لمخاطبتكم في هذه القاعة –قاعة الشعب ببغداد – في السنة
الخامسة والستين من بدء حياتي في ميدان التربية والتعليم والسنة الرابعة والأربعين
من بدء خدمتي للعراق .وطبيعي ان هذه السنين الطوال كانت مليئة بالأحداث الهامة فلا
يمكنني ان اذكرها ولا ان الخصها في هذا المقام وعليه فسأكتفي بذكر احد تلك الاحداث
.
في
سنة 1941 عندما عاد عبد الاله الى حكم العراق تحت حماية الحراب الانكليزية قررت
الحكومة التي الفها انذاك فصلي من الخدمة ونزعت عني الجنسية العراقية وأمرتني
بمغادرة البلاد خلال اربع وعشرين ساعة .
لقد كان ذلك ضربة شديدة اوجدت في حياتي جرحا عميقا
...ولكن حدث في ذلك اليوم ما واساني وأصبح بلسما على ذلك الجرح ..عندما سلمني
الشرطي الامر الرسمي الذي يطلب مني ان اسلمه ورقة الهوية وجواز السفر ،دخلت الى
مكتبي لاستحضار الاوراق المطلوبة ولكن ابني وابنتي سمعا الشرطي يتأه تأوها عميقا
ويقول "ياليت كنا نموت ولا نشوف هذه الايام " .
ان
هذا الكلام الذي صدر من اعماق قلب الشرطي البسيط اثر في نفسي تأثيرا عميقا وقلت في
نفسي "كلا ...هذا الحكم لايمكن ان يستمر ...والعراق لايمكن ان يعود الى احضان
البريطانيين ويبقى فيها مدة طويلة بعد الان " .
والحمد
لله ان الوقائع التي توالت بعد ذلك لم تٌخيب امالي في العراق بوجه خاص والأمة
العربية بوجه عام ..بل قوت ايماني بمستقبل الامة بمئات الدرجات ..
وبعد
هذه المقدمة انتقل الاستاذ ساطع الحصري الى موضوع المحاضرة وقال ان قضية التمييز
العنصري قفزت خلال السنوات الاخيرة الى الصف الاول من المسائل والمشاكل السياسية
والاجتماعية بسبب ماحدث في جنوب الولايات المتحدة الاميركية وجنوب افريقيا
وروديسيا .ثم استعرض الاستاذ الحصري تاريخ قضية التمييز العنصري منذ القرنين
الخامس عشر والسادس عشر عندما قام الاوربيين بحركة الاستكشافات الجغرافية ، وكيف
انقسم المفكرون بشأن سكان المناطق المكتشفة الى فريقين : الفريق الاول يقول بوحدة
اصل جميع الشعوب الاوربية وغيرها وكان هذا
الفريق يعرف ب " مونوجنيست " والفريق الثاني يقول بتعدد اصول الشعوب
ويعرف ب " بوليجينست " ولكن علم الحياة لم يلبث ان تقدم وأصدر حكمه
القاطع ، وهو انه طالما تزاوج الاوربيون مع اهالي البلاد المكتشفة الغريبة عنهم وأنجبوا
نسلا خصبا فأنهم يجب ان يعتبروا من نوع
واحد بحكم العلم وعليه يجب ان تعتبر هذه الشعوب فروعا لنوع واحد أي (رسوس ) .
ولكن
ظهرت مسألة اخرى هي :هل هذه الرسوس متساوية في القابليات ام مختلفة فيها ؟ ..من
هنا نشأت نظرية تفاوت الرسوس وأول من قال بهذه النظرية كان رجلا فرنسيا هو الكونت
كوبينو عندما نشر كتابه سنة 1855 " عدم المساواة بين الرسوس البشرية "
وفي هذا الكتاب يقول ان ثمة ثلاثة رسوس هي الرس الابيض والرس الاسود والرس الاصفر
.واعدى ان لكل رس صفات لم تتغير خلال التاريخ فالرس الاسو يمتاز بشدة الرغبات وشدة
الانفعال والرس الاصفر يتصف بالنفعية والمهارة والرس الابيض يمتاز بالذكاء وقوة
الابداع والاقدام . وصار لهذه الاراء
انصار ودعاة وخاصة في المانيا .
ثم دحض الاستاذ الحصري هذه الافكار وقال ان طبائع الامم لاتستقر على وتيرة
واحدة بل تتغير وتتطور حسب الظروف التاريخية ووقف عند ماقاله ماكس موللر الالماني
وجوهانة الفرنسي واستشهد بما قاله ريبلي العالم الاجتماعي الاميركي ان نظرية
الرسوس ليست إلا خرافة تعزو فضيلة خاصة او ذكاءا خاصا الى رس من رسوس البشر وذكر
الحصري بمن عمل معهم من الذين كانوا يعتقدون بتفوق الاوربيين علينا وقال انه اخذ
يدعو الى طريقة التكشيف والتوليد في التعليم بحمل الطلبة على التفكير واكتشاف
الحقائق وقال ان اولئك المعلمين "كانوا يضحكون مني ويقولون :" هذا
لايمكن في هذه البلاد لان ذكاء اطفالنا لايشبه ذكاء الاوربيين " وبعد زيارات لأوربا
القى الحصري محاضرة قال فيها زرت المدارس الاوربية ولم اجد بين التلاميذ ذكاء يفوق
ذكاء تلاميذنا وأضاف انه بدأ يهتم منذئذ بأختبارات الذكاء ونشر نتائج ما كان يصل اليها في " مجلة التربية والتعليم "
التي كان يصدرها ببغداد سنة 1929 .
ويختم
الاستاذ ساطع الحصري محاضرته بالقول ان الاختبارات العقلية التي توصل اليها تدل
على ان ذكاء طلبتنا لايقل عن ذكاء الطلبة الاوربيين ، وان نظرية الرسوس فقدت
مكانتها بتاتا بعد الحرب العالمية الثانية ، وان اليونسكو باتت تشجب هذه النظرية ،
وان سياسة التمييز العنصري ستندثر وقد اثبتت الايام صدق ما قاله الاستاذ الحصري
سنة 1965 وها هي الولايات المتحدة تحكم من رجل اسود ، وها هي سياسة التمييز
العنصري وقد تهاوت في جنوب افريقيا .
ان
من يقول بتفوق الاريين في بلادنا –يقول الاستاذ ساطع الحصري – فاتهم ان العلم
الحديث لايكتفي بإنكار تفوق الاريين على سائر الشعوب بل ينكر وجود الاريين من
اساسه ، والفرنسيون عندما حكموا لبنان حاولوا اشاعة ان اللبنانيين احفاد الصليبيين
لان شعرهم اشقر وعيونهم زرق .
ومن
جهة اخرى صار البعض ممن يكتبون عن الوحدة العربية يحاولون البرهنة على ان جميع
الشعوب العربية تنحدر من رس واصل واحد ويخالفون بذلك الحقائق العلمية دون ان
يخدموا القضية العربية وقال الاستاذ الحصري وهو ينتقد اولئك : " يجب ان
يعلموا ان الوحدة العربية ليست في وحدة الدماء او في وحدة الرسوس بل هي في وحدة
العواطف والشعور التي تنجم عن وحدة اللغة والتاريخ وما ينتج عن ذلك من وحدة الالام
والآمال ووحدة المصير .
وأضاف
:"في الاخير كثيرا ما نجد المنتقدين لأحوالنا الحاضرة والمتألمين من المساوئ
نشاهدها في البلاد العربية يستسلمون
لدواعي التشاؤم والقنوط فيقولون هذه حالة العرب هذه الحالة من طبائع العرب .فيجب
على هؤلاء ان يتذكروا على الدوام هذه الحقيقة العلمية :ان الامم ليست مفطورة على
حالة واحدة فلا يوجد في طبائع العرب ما يحول دون التقدم والنهوض ...وهذا يجب ان
يكون من اثمن الدروس التي يجب ان نستخلصها من استعراض نظريات الرسوس " .
رحم الله الاستاذ ساطع الحصري وجزاه خيرا على ماقدم ومحاضرته هذه وكثير من
الناس غير مطلع عليها تثبت انه كان مفكرا ومربيا يؤمن بالتقدم ويرفض الاراء
العنصرية والمذهبية ويؤكد على اهمية اللغة والتاريخ والمصالح المشتركة بين الاقوام
ويدحض اراء كل من يقول بنظرية العنصر والرس والدم وفي هذا فأنه سبق غيره في التبشير بأنهيار نظريات الرسوس والتمييز العنصري .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق