فضيلة الشيخ نافع عبد الله ابا معاذ الداعية العراقي الموصلي الكبير في حوار
اجرى الحوار :الدكتور محمد علي احمد النعيمي والشيخ حذيفة ياسين العبادي
نشر الحوار في مجلة (الرباط ) تصدر عن مؤسسة الفيضي العدد (79)
- هو الشيخ نافع عبد الله يونس داود صفر صالح آل الصباح الحمداني.
- وُلد في محلة رأس الكور سنة 1945م بالموصل، ودرس في مدارسها وجوامعها.
- بدأ بالخطبة في جامع قبع في حي الزهور عام 1989م.
- كان مواظبا على حضور خطب الشيخ بشير الصقال، والشيخ ذنون البدراني، ويحضر مجالسهم العلمية.
- صدر له كتاب بجزأين يجمع خطبه في جامع قبع على مدى (30) عاماً.
- يعمل على مشروع كتاب عن مذكراته وسيرته الذاتية.
فضيلة الشيخ نافع عبد الله يونس أبي معاذ، ترحب بكم مجلة الرباط في رحابها ويسرها أن تجري مع فضيلتكم هذا اللقاء المبارك.
الرباط: من هم أشهر الأساتذة والشيوخ الذين أخذ الشيخ عنهم العلم والعمل؟ وكيف كانت البداية؟
الشيخ: مما يؤسفني جدًا أني لم آخذ العلم كما أخذتموه أنتم من مشايخكم، فقد استغرقت وظيفتي غيابي عن مدينتي طوال مدة الوظيفة، وفي الوقت الذي أُحِلْتُ فيه إلى التقاعد كُلِّفْتُ بالخُطْبة، وكان ذلك سنة 1989م.
وكانت ثقافتي العامة قد أخذتها من جانبين:
الجانب الأول: أني ومذ كنت صغيرًا لا يفوتني درس من دروس المشايخ، ولا جلسة وعظ، ولا خطبة متميزة إلا كنتُ أحدَ شهودها، وخاصة خطب الشيخ بشير الصقال، والشيخ ذنون البدراني، وكنت أحضر بعضَ مجالسهم، غفر الله لهم وجزاهم جزاء المحسنين.
الجانب الثاني: كنت كثيرَ المراجعة للمكتبة العامة، وذات يوم استوقفني أحد موظفي المكتبة واسمه (عثمان) - وكان رجلًا صالحًا - فقال لي - لما رأى كثْرَةَ مطالعتي، واستعارتي للكتب المختلفة -: أتكتب أحسن ما تقرأ؟ قلت: لا. قال: هذا خطأ، لا بدّ من توثيق أحسن ما تقرأ للاستفادة منه في المستقبل، فكانت كلمته نقلةً في حياتي العلمية فبدأت - قبل أن أكون خطيبًا - بتوثيق أجمل القصص والحكم، والنُكَت الفقهية، ونوادر الكلام وغرائب الأحداث في سجلات خاصة أصبحت مادة لما كُلِّفْتُ به في خطب الجمعة، وقد أخذتُ بنصيحة الشيخ علي طنطاوي القائل: (خذوها مني نصيحةَ مُجَرّب يريد أنْ يجنبكم عواقب السَيّء من تجاربه: دوّنوا كل ما يمرّ على أذهانكم من أفكار، وما يعتلج في نفوسكم من مشاعر، اكتبوه في حينه فإنكم إن أجلتموه فَتَّشْتُم عنه فلم تجدوه).
وحصل معي موقف في مدرسة أبي تمام الابتدائية آلمني جدًا، وهو أني كنت جالسًا في الصف الخامس الابتدائي على الرَّحْلة الأولى وبجانبي تلميذ آخر، فدخل علينا معلّم اللغة الإنكليزية، وكنت من المعفوّين عنده في هذه المادة، فطلب دفتر الواجب من جليسي الذي إلى جنبي، فقال التلميذ: لقد نسيتهُ. فتركه والتفت إليّ وقالَ: وأنت، أين دفتر الواجب؟ فقلت له: أنا كذلك نسيته يا أستاذ، فقال لي: قُمْ. فلمّا قمتُ صفعني على خدي صفعة آلمتني جدًا - إذ كانت أوّلَ صفعة في حياتي المدرسية، وآخرها - فاستعظمتُ أن يضربني هذه الضربة القاسية، وأنا تلميذه المجتهد، فاعترضتُ عليه قائلًا - وأنا أبكي بحرقة -: لماذا عفوتَ عن جليسي ولم تعفُ عني، وأنا من المعفوّين، فقال لي - وكأنه انتبه وندم -: أنتَ مجتهد لا يجوز أن تتهاون وتنسى، وهذا الذي إلى جانبك [حمار] إذا أتى بواجبه أو لم يأتِ، وهذا الكلام وإن كان ليس من أصول التربية إلا أنه أسكتني وخفّف عني ما لقيت منه، غفر الله له.
اشتغلتُ في التعليم ستًا وعشرين سنة، نصفها في تدريس اللغة العربية والإنكليزية في المدارس الابتدائية والمتوسطة، والنصف الآخر مديرًا لبعض المدارس، ولما أُحِلْتُ على التقاعد سنة 1989م طلب مني الأخ غانم طه [أبو غزوان] - وكيل جامع قبع - أن أتولى الخطبة في الجامع، وكان هذا الجامع كثيرَ المشاكل في ذلك الوقت.
الرباط: ما أجمل ذكرياتكم عن مدينة الموصل وجوامعها، لا سيما بعد خطبتكم في جامع قبع؟
الشيخ: إذا كانت الموصل مدينة نبينا يونس (عليه السلام) ومدينة الأولياء، ومدينة المجاهدين الصلحاء، فما ظنكم بالبركات التي حباها بها الله، بركات في العلم، والرزق، العالم كلُّه يستهدفها، والأمل بيد الله الغالبة أن ترجع إلى سابق مجدها بفضله وبجهود المخلصين.
أما بركات جوامعها، خاصة منها المساجد والجوامع القديمة، فمنها ما أعرفه عن جامع قبع الذي رُئِيت فيه رؤى كثيرة صالحة تبشر بالخير العميم.
وكان الدرس الأول من مشاكل الجامع: أني خرجت من بيتي لأخطب الجمعة الأولى فقابلني رجل وقال لي: هذا الجامع مليء بالبدع، وعليك أن تتكلم عليها، فقلت له: أنا لا أستطيع أن أُجابِه الناس بما يعتقدونه من أفكار، ولكني أستطيع أن أعرض ما اتفقت عليه الأمة من صحيح الاعتقاد، وما شذَّ عن ذلك فإنه سيزول، وبلا مشاكل.
وأول موقف طريف في هذا اليوم: لما اقتربت من باب الجامع لإلقاء الخطبة الأولى إذا بالشيخ عبدالمنعم بجانبي فقال لي: خير إن شاء الله؟ فقلت له: لقد كُلِّفْتُ أن أخطب بهذا الجامع، فقال لي: أنا الخطيب - وذلك أَنهم بلغوني بالخطبة ولم يبلغوه بالعزل - ثم قال: إذن أنا سأرجع، فقلتُ له: لا. إنما أنتَ اليوم مخير بين أن تخطب أنت وأنا استمع، أو أخطب أنا وأنت تستمع، فوافق على الاستماع، فلما أذن المؤذن الأذان الأول، دفع ركبتي بيده قائلًا: لا توجد في هذا الجامع سنة قبلية فقم - ولا علم لي بذلك - فلما صعدت المنبر رأيت نصف أهل الجامع يصلون، فجلست أنتظرهم حتى قضوا الصلاة، وعرفت آنذاك أن أهل الجامع منقسمون على أنفسهم.
الرباط: للقراءة أهمية كبيرة في حياة العالم والداعية، فكيف تنظرون إلى ذلك، وما أثرها في حياة الشيخ أبي معاذ؟
الشيخ: لا يستطيع أيُّ إنسان أن يقَيّم نَفْسَه تقيمًا صحيحًا ما لم يَتَشَبَّع فِكْرُه بالقراءة النافعة، ومعظم المشايخ الذين جالستهم أو قرأتُ عنهم وجدتهم أكْثَر نضجًا في أواخر أيامهم، لأن النضجَ الفكري عند العلماء، لا يكون إلا بعد زيادة المعرفة واستقرار الإيمان وغلبة الرحمة، وقد قال العلماء: (الرضا عن الله والرحمة للخلق درجة المرسلين)... وأنا اليوم أجد نَقْسَي أكثر وعيًا لأمانةِ المنبر وأصولِ الدعوة إلى الله.
الرباط: كيف تنظرون إلى حال الموصل الدعوي بين الأمس واليوم، وما الكلمة التي توجهها إلى الدعاة والخطباء؟
الشيخ: القيود التي فُرِضَتْ على الخطباء أسقطتْ جانبًا كبيرًا من أهميتها، والأفكارُ المفروضة لا تعطي معاني الإبداع الذاتي، وإذا كان ولا بدّ من توجيه كلمة إلى الدعاة والخطباء، فأرجو منهم أن يوسّعوا دائرة ثقافتهم العامة في جميع شؤون الحياة، ولا يقتصروا على العلوم الدينية، بل يقرؤوا التاريخ والسياسة والأدب والمعارف العامة وعلم النفس، وكلما اتسعت دائرة الثقافة ووُجد الإخلاص فقد تم المراد في هذا الباب.
الرباط: المجتمع الموصلي له ميزة خاصة بوصفه مجتمعا مثقفا في الغالب.. ما واجب الداعية تجاه مراعاة هذه الخصوصية؟
الشيخ: إذا كان المجتمع واسعَ الثقافة فإن على الداعية أن يكون له السبْق في توسيع دائرة ثقافته، فالذي يعطي هو المُمَوّل الذي يسد مواقع النقص والتقصير في مسيرة الحياة.
الرباط: ما مدى تأثير الخطب في سلوك المجتمع، لا سيما في ظل الانفتاح الإعلامي الذي يشهده زماننا، وسهولة السماع للموعظة والإرشاد؟
الشيخ: يحتاج المجتمع إلى جهد عالٍ ومكثف لمواجهة الهجمة الشرسة على أخلاق هذه الأمة المباركة، والكلام المخلص الذي يُبْتغى به وجه الله هو أعظم معين للدعاة في هذه المواجهة؛ لأن الله لا يصلح عمل المفسدين.
الرباط: من خلال مسيرتكم العلمية والدعوية.. ما واجب الخطيب والداعية؟ وما العوائق التي تحول دون القيام بمهامهما؟
الشيخ: واجبه كما أسلفنا الإخلاص والاستعانة بالله، والسير في الخط العام للإسلام، وترك الخصوصيات الفكرية للجلسات الخاصة، والسير على طريق من قال: (لا تحِملْ سَعَة الإسلام عن ضيقِ صدرك).
فإدخال الخصوصيات الفكرية في الخطب والدعوة إلى الله تثير الفتن، وتخلق التحزب البغيض، ودين الإسلام واسع الرحمة والمغفرة، ولا يستغنى عن المحاضرات الشهرية من قِبَل الخطباء الأكفاء القدماء لتصحيح مسار الخطب الناجحة.
الطريق الصحيح في إصلاح الناس أن تراعى المشارب الخاصة في المعتقدات الدينية، إذ لها خصوصية، ولا ينبغي لكل من تصدى لإصلاح الأمة أن يرتكز عليها، إنما واجبه أن يأخذ الناس بالكليات العامة في العقيدة والسلوك، دون تحزب لفكر معين، ودون طعن بالآخرين.
فالمنبر ملك الجميع، لا يصدر منه إلا ما دعا إلى تأليف القلوب ووحدة الأمة، والشعار العام الذي يجب أن يراعى هو قول الله عز وجل الجامع {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}.
فما حقق معنى الأخوة فهو مادة المنبر وشعاره، وقول القائل: (لا تحْمِلْ سَعَةَ الإسلام على ضيق صدرك)، قول سديد لمن أرادَ أن يبتغي وجه الله لا أهواء نفسه ومشاربها. فكليات الإسلام كافية لنهضة الأمة، مع رعاية القاعدة الأساسية الفذة التي دعا إليها هذا الدين وهي قوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}
وقد خطبت على منبر جامع قبع ما يقارب من (1600) خطبة، ولم يعترض على مضامينها الفكرية أحد من الناس، وذلك لأني أسيرُ في الخط العام المتفق عليه من جميع الأمة، وتركتُ تجريح الناس، إذ لا طائل تحت المهاترات الفكرية والعقدية التي كانت ولا تزال السبب الأول الذي جعل هذه الأمة تخوض في دمائها، تدفعها إلى ذلك دفعًا أيدٍ خفِية خائنة من وراء الستار إلى موجبات الهلاك، عصمنا الله عز وجل من ذلك.
الرباط: لكم جهود مباركة في إصلاح ذات البين، ما الأسس التي ينبغي مراعاتها في الإصلاح؟
الشيخ: أشعُر أن الكلام الذي يحتويه القلب مؤمنًا به أحْسَنُ بلاغ في طريق الوعظ والمواعظ، فليست النائحة الثكلى كالمستأجرة.
وقد سأل علي بن الفضيل بنُ عياض أباه فقال: (يا أبتِ! ما أحلى كلام صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: يا بني! وتدري لِمَ حلا؟ قلتُ: لا، قال: لأنهم أرادوا به اللهَ تبارك وتعالى).
وسأله يومًا، قال: (يا أبتِ لم كان كلام السلف الصالح أنفَع من كلامنا؟ قال: يا بني: لأنهم تكلموا لعِز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن ونحن نتكلم لعز النفوس، وطلب الدنيا ورضا الخلق).
الرباط: عُرِفَ عن الشيخ جهوده الوعظية المشهود لها في المجتمع الموصلي، لا سيما في المساجد والمناسبات الدينية، وحتى تشييع الجنائز والوعظ في المدافن، حدثنا عن ذلك؟
الشيخ: أعظم الأجر عند الله، الإصلاح بين الناس، وهذه المهمة من أصعب المهمات وأخطرها، وتحتاج إلى فهم، وحِلْم، وعلم، إذا سقطَ أحد هذه الثلاثة مع النية الصالحة في الإصلاح سقطَ المشروع. وما كل أحد يستطيع الإصلاح، فالإصلاح فنٌّ قائم بذاته ويحتاج إلى كثير من الإخلاص والتجرد عن الأهواء إيثارًا للحق والعدل.
الرباط: كلمة أخيرة توجهونها لمن يتصدر الوعظ والإرشاد؟
الشيخ: أقول لهم: أبشروا بالتوفيق والخير العميم والرؤى الصالحة العاجلة لبشرى المؤمن، وقد جعل الله الإصلاح بين الناس - لأمر ما يعلم هو - أفضلَ من درجة الصيام والصدقة. وقد وجدتُ في حياتي ثمرةً لما قُلتُه آنفًا، فلا يرفع الله العبدَ بالقيل والقال، إنما بسخاء الأنفس، وسلامة الصدور، والنصح للأمة.
*مجلة (الرباط ) ،العدد(79) ،محرم - صفر - ربيع الاول 1444 هجرية - 18 نوفمبر - تشرين الثاني 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق