الأربعاء، 29 سبتمبر 2021

خروتشوف: السياسة والفن التشكيلي: بين الزعيم نيكيتا خروشوف والفنان التشكيلي آرنست نيزفستني

                                                آرنست نيزفستني والتمثال النصفي لخروشوف


خروتشوف: السياسة والفن التشكيلي*

بقلم :الاستاذ جمال العتّابي

مقال نشرته  جريدة ( القدس العربي)  ، الإثنين 27 أيلول 2021

دشّن الزعيم (السوفيتي نيكيتا خروشوف 1894-1971) عهده الجديد منذ عام 1953، بمراجعة نقدية لحكم ستالين، والتنديد بأساليب القمع وكبت الحريات، والإعلان عن برنامجه في الإصلاح، وتغيير السياسة الخارجية نحو الإنفتاح على العالم، وإرساء دعائم التعايش السلمي.
في ظل سياسة الانفتاح، بدأت المحاولات الأولى للمطالبة بإعادة تقييم الواقعية في الأدب والفن، ومواجهة التعسف المستتر خلف قناع (الإشتراكية)، ليس بمعزل عن الأحداث الجديدة، فثمة جيل جديد وجسور وهادئ، بدأ بمواجهة الجمود الذي يلبس رداء الفن والأدب، هذا الجيل حرم نفسه من تذوق الجديد بإسم المعايير الضيقة للواقعية، فإتجه نحو الوعي بالمشاركة في خلق وتجديد الإنسان لنفسه، بإعتبار ان هذا الوعي أرقى أشكال الحرية. وهكذا أتيح للفنان التشكيلي في (الإتحاد السوفييتي)، أن ينقل أدواته إلى مكان يشعر بمتعة الوجود فيه، أبعد وأعمق إيغالا في التجربة الإنسانية، حيث هناك شمس صغيرة تبزغ، يلتقط فيها غريزة اللون التي أصابها النضوب.
أقام عدد من الفنانين التشكيلين الروس الذين تأثروا بالتيارات الجديدة في الغرب، معرضاً تشكيلياً للرسم، في موسكو عام 1962، وصف انه طليعي، ضم عدداً من الأعمال التي تنتمي لأساليب رسم حديثة، وبمواد مختلفة، لم يألفها الجمهور سابقاً، منها تجريدية، وتعبيرية، وبموضوعات ذات توهجات ورؤى وأحلام خفية.
إحدى مفاجآت المعرض، زيارة الرئيس خروشوف أثناء الإفتتاح، أو مابعده، وعرف عنه انه ولد لعائلة فلاحية فقيرة، ثم أصبح عاملاً في إحدى مصانع الحديد والصلب، ومقاوماً للإحتلال النازي الهتلري، أثناء الحرب العالمية الثانية، ومن المفارقات المثيرة ان خروشوف، وأثناء دخوله المعرض، كان بمواجهة عمل للفنان  آرنست نيزفستني
Ernst Neizvestny

، تأمله سريعأ، وقطب حاجبيه، وسرعان ما وصف العمل بإمتعاض، انه (منحط)، وتابع القول : ان هذا الرسام لا يستحق منا سوى أن نمنحه جواز سفر للذهاب فقط، دون عودة لبلد ( الإشتراكية)، وإتهمه بتشويه تاريخ الشعب السوفييتي، لم تصدر عن الفنان أية ردود أفعال سلبية، إنما إلتزم نيزفستني الصمت، لم يكن أمامه غير ذلك، وفي داخله سخرية مريرة، جاهد أن لايعلن عنها أمام الرئيس.

وتجدر الإشارة إلى ان نيزفستني، كان أحد الشباب الذين إلتحقوا بالجيش الأحمر عام 1942،وعمره 17عاماً، وقاتل قوات الإحتلال الإلماني دفاعاً عن وطنه، ثم درس الرسم في موسكو وريگا، وسرعان ما إكتسب عمله كرسام ونحات إعترافاً وطنياً ودولياً، وهاجر الى نيويورك، في الولايات المتحدة عام 1976، متذرعاً بالإختلافات الجمالية مع النظام، وقام هناك بتدريس الفن في جامعات متعددة، بما في ذلك روما وجنيف واستكهولم وإستمر في العمل حتى وفاته عن عمر يناهز التسعين عاماً.
المثير في الأمر، ان خروشوف أجبر على الإستقالة عام 1964،وإعتكف في منزل ريفي قدمته له الحكومة حتى وفاته في 11سبتمر من عام 1971، ولم يدفن في مقبرة قصر الكرملين في الساحة الحمراء، إسوة برفاقه من الزعماء السوفييت، وتختلف الروايات بشأن النصب الذي أنجزه نيزفستني، أمام قبر خروشوف، يعلوه الرأس المنحوت بالمرمر، بناءً على طلب العائلة، ورواية أخرى تقول ان النحات فاجأ كريمة خروشوف، وهي زوجة رئيس تحرير جريدة الأزفستيا أنذاك ، بإتصال هاتفي رفضته في بادئ الأمر، ثم إضطرت لقبوله بعد إلحاح شديد، وقدم لها الرأس المنحوت، مع عبارة (هدية النحات المنحط) .
كان نيزفستني نحاتا يمتلك تجربته المتقدمة بين الفنانين الروس، انطلق عما يثري تجارب الفنانين الكبار في بلده، واستطاع ان يحيي هذا التراث بجدارة ومهارة، والمتأمل لتمثال خروشوف، يجد فيه لحظة سلام وراحة، ولا يسع المرء الواقف أمام النصب، إلا الإحساس بجمال العمل، وقوته الهادئة. ربما أراد النحات أن يشارك زعيمه عمق اللوعة حين يذهب للموت طائعاً، لأن الماضي لم يعد يسكنه، بعد ان لملم أوراقه وانطوى في زاوية منسية، مثخن بذكريات مؤلمة.

*https://www.alquds.co.uk


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...