حميد المطبعي 1942-2018 ....موسوعة العراق
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس جامعة الموصل
هل تكفي بضع صفحات للكتابة عن الرجل الموسوعي، الكاتب، والباحث، والأديب الأستاذ حميد المطبعي.. يقينا أنها لن تكفي، فنحن إزاء جبل من المعلومات، والوثائق، والصحف والمجلات.. له في الصحف فقط قرابة 5000 مقالة، فضلاً عن كتبه المنشورة، و»مجلة الكلمة»التي أصدرها، و«موسوعة المفكرين العراقيين»، وموسوعة «أعلام العراق في القرن العشرين» بثلاثة مجلدات.
في حزيران 2006، كرّم مع نخبة من رواد الصحافة العراقية وشهدائها. فوقف الرجل، شامخاً، بين زملائه روّاد الكلمة والحرف بإنجازاته الكبيرة.. حميد المطبعي كما يحب هو أن يقدم نفسه، إنسان مشغول بالفلسفة، ثائراً بطبعه، جدلي الفكر، كما انه جدلي الفعل / لايستقر، ولا يهدأ حتى يضع لمساته على موضوع مقال له.. يتناول الحرية، ويبحث في الإدارة، ويناقش مديات العطاء الإنساني.. هو"حميد محمد علي المطبعي».. ليس المهم هو من العشيرة الفلانية أو المدينة العلانية، انه ابن العراق، لايفرق بين من يسكن الشمال ومن يسكن الجنوب... المعيار عنده هو الإبداع.. والمقياس هو من يقدم للعراق.. يستحق أن يشار إليه بالبنان.
ولد في مدينة النجف الأشرف، العاصمة الثقافية العراقية سنة 1942.. وفي معاهدها العلمية درس الفلسفة، وعلوم العربية، وقد أخذ الكثير مما يجب أن يعرفه هو في سن الشباب من عبد الكريم الزنجاني صاحب نظرية التقريب بين المذاهب، ومن هنا تعلم التسامح،وتعلم احترام الآخر، وعرف الشوق لأنه كابده. وفي أواخر الخمسينات وأوائل الستينات من القرن الماضي، تعرف على الوجودية، فارتبط مع روّادها، وتراسل مع جون بول سارتر صاحب الفلسفة الوجودية، وتعلم من جيفارا أن النزعة الثورية حركة، وأعجب بحركة اليسار الجديد وهذا هو ما دفعه إلى كتابة رسالة في جدل الآخر سنة 1959 بعنوان:"الفجر الصادق». وبعد ذلك بعام، وقف عند القومية وألّف سنة 1960 رسالة (في القومية العربية).. الوجودية تعانقت مع اليسار والثورية ارتبطت بالقومية، ووجد نفسه مدفوعاً للتعبير عن مكنونات نفسه، فاجتمع مع نخبة من أصدقائه، وفي مقدمتهم الأستاذ موسى كريدي ليصدر مجلة: (الكلمة) في 26 كانون الثاني / يناير 1969 هذه المجلة التي كان لها حضورها الفاعل في الساحة الثقافية العراقية المعاصرة، مع بساطة إخراجها، وضعف إمكاناتها. قال عنها صديقنا الأستاذ الدكتور عبد الإله الصائغ في معرض حديثه عن الشيخ الدكتور محمد كاظم الطريجي، أحد علماء النجف الأشرف الكبار، أن حميد المطبعي، كان واحداً من مؤسسي (ندوة الآداب والفنون المعاصرة) التي تأسست في النجف الأشرف مطلع الستينات من القرن الماضي، إلى جانب الأساتذة الروّاد عبد الإله الصائغ، وزهير غازي زاهد، وزهير الجزائري، وموفق خضر، وعبد الأمير معلة، وموسى كريدي، وجاسم الحجاج.
وقد كان لهذه الندوة لقاءات، وحوارات ساخنة في مقاهي ومنتديات الكوفة والنجف، وقال الأستاذ الدكتور عبد الإله الصائغ، أن حميد المطبعي كان زميله في مدرسة الغري الأهلية المسائية، وفي متوسطة الخورنق، وانه أصدر (مجلة الكلمة) على هيئة ملفات مستغلاً ثغرة في قانون المطبوعات عهد ذاك مستفيداً من عمله في مطبعة الغري التي يمتلكها أخوه الأكبر عبد الرضا المطبعي، وأضاف الصائغ، أن المجلة اتجهت نحو اليسار والماركسية.. وكانت تتحدث عن الديمقراطية، وحرية الكلمة، فاستقطبت الكثير من الكتّاب والأدباء والشعراء، من داخل العراق وخارجه، أمثال نزار قباني، وسعدي يوسف، وادونيس، وعبد الواحد الخضيري، وبشرى البستاني، وعبد الرحمن طهمازي، وجليل القيسي، وإسماعيل فهد إسماعيل، ويوسف الحيدري، ومحمود جنداري.
أما الأستاذ زيد الحلي فكتب مقالاً أعرب فيه عن رأيه بمجلة الكلمة قائلاً: إن مجلة الكلمة"سطعت نهاية ستينات القرن الماضي، وحمل أجنحتها العديد من الأدباء المعروفين محلياً وعربياً، وفتحت صفحاتها (السمراء) لأقلام كانت تحلم بالنشر،... بينهم من تسلّق هامات الشهرة، وهو يستحق.. ومنهم بقى متعكزاً على وهم سرعان ما ضاع في التيه، لكن المجلة بقيت تتحمل أعباء الصدور».
وكان للمطبعي وزميله موسى كريدي، الذي التحق به في تحرير مجلة الكلمة، أن تجد المجلة طريقها إلى المكتبات والمثقفين آنذاك، وقال الحلي إن"من يطالع مجلة الكلمة مجدداً، ويحاكمها بمنطق العدالة، يجد أنها آمنت بسريان التاريخ والحضارة، وأدركت أنه ليس هناك حداثة لاتراث لها، وتجلّى ذلك بما نشرته في معظم أعدادها». لقد شكّل طائر العنقاء سمة أساسية في كل ما نشرته المجلة من شعر ودراسة ومقالة».
لقد كانت مجلة الكلمة ملتقى الأدباء، والشعراء، وكتاب القصة، فضلاً عن أنها سهّلت للشباب نشر نتاجاتهم. وقد أصدرت سنة 1973 عدداً خاصاً عن شعراء السبعينات من القرن الماضي، ونشرت بيانهم (بيان القصيدة اليومية).. كانت (الكلمة) تصدر بجهد شخصي من حميد المطبعي وموسى كريدي، وأصبح لها صدى في البلاد العربية، حتى أن أدونيس عندما زار العراق سنة 1969، أصر على زيارة المطبعة التي كانت تطبع مجلة الكلمة، وأعجب بجهد محرريها وحرصهم على نشر الأدب الحديث. كان حميد المطبعي يقترن ببغداد كصرح ثقافي، وجزء مهم من عمارتها الإبداعية والمعرفية.
جاء في ترويسة مجلة الكلمة.."أنها مجلة شهرية ثقافية تصدر في النجف الأشرف». وقد صدرت في النجف الأشرف ثم انتقلت إلى بغداد صاحبها حميد المطبعي، ورئيس تحريرها موسى كريدي.
كانت الحرية، ولاتزال، هاجسه الوحيد، فألّف كتابه (رسالة في الحرية) ولكن متى؟! انتظر أكثر من ثلاثين عاماً ليخرج كتابه إلى النور، فالكتاب صدر سنة 1990 وفي هذه الرسالة قال قولته الشهيرة:"الإنسان أقوى من الحرية، والحرية أضعف من أن تغري الإنسان على السقوط».
وخلال السنوات الأربعين الماضية، أصدر أكثر من ثلاثين كتاباً وموسوعة.. وارتبط بعلاقات واسعة مع معظم ممثلي الثقافة العراقية، بتياراتها المختلفة: القومية، والاشتراكية والدينية، والليبرالية.. ولم يزعل أحداً، ولم يغضب من أحد لكن البعض، وبخاصة من لم يعجبه العجب ولا الصوم في رجب، يلومه وينتقده ويسفّه مقالاته، لكن ذلك في اعتقادي لا يستطيع أن يضر بصخرة المطبعي بقدر ما يؤذي من يحاول الاصطدام بهذه الصخرة.. أراه أنا، إنساناً طيباً، ودوداً، يحترم غيره، ويعترف بمجهودات الجميع إلى درجة أنه روّج لأفكار وسير عدد كبير من أعلام العراق في القرن العشرين..
اصدر (20) جزءاً من (موسوعة المفكرين والأدباء العراقيين). كتب عن جواد علي، ومحمد بهجت الأثري، وسعيد الديوه جي، وحسين علي محفوظ، والدكتور سامي سعيد الأحمد، وعبد الرحمن التكريتي.. وغيرهم، لم ينس أحداً ولم يغبن أحداً.. وهذا دليل على أنه يضع الآخر ونشاطاته في مكانة متميزة من اهتماماته. قال عنه الأستاذ محمد بهجت الأثري، عضو المجمع العلمي العراقي، الكاتب والباحث والمحقق المعروف في سنة 1986، إن حميد المطبعي"كاتب من طراز خاص، معنيٌ بأحوال العلماء والأدباء والمتأدبين، وله بالتاريخ شغفٌ.. مع نزعة إلى فلسفة ما يُقرأ وحفظ واستحضار للألفاظ والنصوص... كما أنه محاور متفنّن لمن يحاول فعالية محاوره، ويحسن إثارته ليظفر منه بالصريح من الرأي والقول، وهو قبل هذا وذاك، إنسان اجتماعي متفتح، يحب الناس من كل جنس، مالم تكن لهم نازعة إلى الشر تكدر صفو الحياة، ويحترم أقدار الرجال، ويجتهد أن يضع كلاً منهم، فيما يكتبه في شؤونهم، في مكانته، كما يتراءى له...».
أما الفيلسوف العراقي الشهير الأستاذ مدني صالح، فقد قال عنه إنه كاتب لامع وهو"في نظري أحسن رئيس تحرير مجلة في تاريخ الصحافة العراقية حتى هذه الساعة (1985) من أزمنة الصحافة الثقافية في الجرائد وفي المجلات، وإلاّ، فمن في كل تاريخ الصحافة العراقية، أحبَّ مجلته واحترمها مثلما أحبَّ حميد المطبعي مجلته (الكلمة)، واحترمها فأحب واحترم، إكراماً لعينيها كل المبدعين الواعدين في الثقافة أينما كانوا: لافرق بين شرق وغرب ولافرق بين شمال وجنوب.. ولافرق بين الواعدين إذا توصلوا بالإبداع: يستخرج من المثقفين أحسن ماعندهم للثقافة ولايسأل المثقفين أجراً إلاّ المودة في استخراج الثقافة منهم ليعرضها على الناس في الجرائد والمجلات..».
من هو الذي يبهجك حين يحاورك، ويمدحك، ويرفعك في أعين الناس، ويلاحقك وأنت منسيٌ، ويزيّن لك الثقافة، ويستدرجك إلى الكتابة ويلح..ويلح.. ويلح.. من هو الذي يحسن في تعامله مع الناس في الساحة الثقافية العراقية، من هو الذي ينزل الناس منازلهم ويعطي لكل ذي حق حقه ويرد الأمانات إلى أهلها.. إنه أمير التحقيق الثقافي في الصحافة العراقية.. ولا أحسن منه في كل العراق.. ذلكم هو حميد المطبعي.. هكذا يقول مدني صالح ومدني صالح، كما عرفته لا يجامل ولا يحابي، ولايقرض أحداً شهادة إلاّ بالحق.
اعترف بأنني لم أرَ المطبعي إلا بضع مرات.. واقصد لم أتحدث معه كثيراً، لكنني أقرأ له.. وأعجب بما يكتب، ومازلت أتابع نشاطاته، وهو بالمقابل كتب عني في موسوعته:"موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين»، الجزء الثاني، وأشار إلى كتبي في أكثر من مكان في موسوعته.
رحم الله استاذنا حميد المطبعي الذي توفي اليوم مساء الاثنين 16 نيسان -ابريل 2018 وجزاه خيرا على ما قدم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق