السبت، 4 نوفمبر 2017

البروفيسور يوزو ايتاكاكي ورجلة الاستعراب الياباني المعاصرة *

المستعرب الياباني يوزو إيتاكاكي ورحلة التأسيس


البروفيسور يوزو ايتاكاكي ورجلة الاستعراب الياباني المعاصرة *
 بقلم : ا.د. محمود عبد الواحد محمود القيسي
March 25, 2017
يشكل المستعرب الياباني يوزو إيتاكاكي حالة خاصة تسهم في فهم التحول الكبير الذي طرأ على الدراسات العربية والإسلامية والشرق أوسطية. فعلى مدى سبعة عقود من تطور هذا الدراسات ،قدم هذا المستعرب البارز نتاجات مهمة حاولت أن تحلل تاريخ العرب المعاصر وأهمية العالم العربي والشرق الأوسط في تحول النظام العالمي . المقالة محاولة لتتبع سيرة هذا المستعرب البارز ومكانته في الدراسات الشرق أوسطية في اليابان.
واعترافا بدور إيتاكاكي الأكاديمي في اليابان وخارجها، كرمته الحكومة اليابانية في عام 2003 بوصفه شخصية الجدارة الثقافية،وفي عام 2015 ?اختارته الإمارات العربية المتحدة واحدا من أعضاء لجنة التحكيم لتكريم عدد من الباحثين اليابانيين لجائزة الشيخ زايد للكتاب للدورة التاسعة2014 -2015  للمهتمين بالدراسات العربية والإسلامية. وفي العام ذاته،اختارته كلية الآداب في جامعة بغداد بكونه شخصية المنتدى العراقي الياباني الخامس المنعقد في جامعة البصرة في كانون الأول 2015  وخصصت جلستين من أعمال المنتدى على شرفه لدراسة وإبراز جهود البروفسور إيتاكاكي في الدراسات العربية والإسلامية،وفي العام التالي،2016 ?كرمته مؤسسة بيت الحكمة العراقية بوسام الإبداع إعترافا بدوره الفكري ومساهماته الأكاديمية. ولهذا المستعرب الياباني سمعة طيبة في المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي،إذ شارك في العديد من الملتقيات الثقافية والأكاديمية التي تخص علاقات اليابان مع العالم العربي،إلى جانب سمعته في غالبية البلدان العربية الأخرى بما قدمه من دراسات قيمة عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في مصر والعراق والجزائر وبلدان عربية وشرق أوسطية أخرى. فمن هو البروفسور إيتاكاكي؟ وهل يستحق منجزه الذي غطى أكثر من سبعة عقود أن يكون إحدى الشخصيات المحورية للاستعراب الياباني؟
يعد المستعرب الياباني يوزو إيتاكاكي Yuzo Itagaki 1930 –الوقت الحاضر احد من أهم المستعربين اليابانيين الذين أسسوا للتحول الأكاديمي في الدراسات العربية الإسلامية والشرق أوسطية. فهذا المستعرب المتخصص في التاريخ الأوربي قد تحول في اهتمامه للشرق الأوسط عموما والعالم العربي على نحو خاص لما كان يتلمسه من تحولات مهمة في العالم العربي،يقابلها حالة مماثلة من التحول في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية،فأراد أن يفهم الذات اليابانية وما تشهده من تحولات من خلال فهم الآخر العربي الذي كان يعاني بدوره من هجمة استعمارية متزامنة مع صراع مع العدو الإسرائيلي الذي كان يهدد الوجود العربي برمته. فكان عقد الخمسينات من القرن العشرين قد شهد ولادة قامتين في حقل الدراسات الإسلامية قدر لهما أن يؤثرا بعمق في هذه الدراسات المناطقية عن العرب والإسلام:سينئكي ناكاؤوكا ويوزو إيتاكاكي،اللذان يُعدان بحق مؤسسين لرؤية جديدة في الدراسات العربية الإسلامية والشرق أوسطية.
تخرج البروفسور إيتاكاكي من جامعة طوكيو في الخمسينات،وعمل أستاذ للدراسات العربية والإسلامية  في جامعات طوكيو،كيزاي،وطوكيو للدراسات الأجنبية وطوكيو للاقتصاد بين 1966 -1991 . أسهم في توجيه الطلاب اليابانيين للتوجه إلى البلدان العربية لفهم العالم العربي بدلا من التوجه إلى أوربا للدراسة،مما أحدث تحولا في نظرة اليابان للعالم العربي برؤية يابانية بعيدا عن المركزية الأوربية للاستشراق الغربي ورؤيته المسبقة عن العرب،والإسلام،والمسلمين والشرق الأوسط،لاسيما بعد”الصدمة النفطية” في تشرين الأول 1973  التي جعلت اليابان وكوريا الجنوبية تعيدان النظر في رؤيتهما للعالم العربي وفقا للموشور الأمريكي والغربي،فأسستا لرؤية جديدة للعالم العربي ودعمتا المؤسسات البحثية والجامعات التي تهتم بالعالم العربي والإسلامي.
الموقف البريطاني
          بعد أن أكمل إيتاكاكي مشروعه للدكتوراه عن “الموقف البريطاني من الثورة الأمريكية” في النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين،أدرك أن هناك تطورات متسارعة وعميقة في العالم العربي والشرق الأوسط،فقد كان يراقب تطورات الثورة المصرية في تموز يوليو 1952?وتصاعد التيار القومي العربي المناهض للاستعمار،إلى جانب التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كانت تشهدها المملكة العربية السعودية والعالم العربي،فكان يتابع هذه التطورات،لاسيما في المجالين الاقتصادي والسياسي،وفي الوقت ذاته يراقب ما تمر به اليابان من أحداث متسارعة تلت عهد الاحتلال الأمريكي وحصول اليابان على الاستقلال في عام 1952وتحقيق نجاحها الاقتصادي في بداية الستينات،على نحو متزامن مع الثورة المصرية والثورات الأخرى في العالم العربي،والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956  والثورات العراقية عام 1958 والجزائرية 1962  إلى جانب تأميم النفط الإيراني عام 1951 من قبل محمد مصدق1880 -1967 . أدرك إيتاكاكي”إن العالم بأجمعه ينعكس على الشرق الأوسط ويتركز فيه وتلك هي فرادة هذه المنطقة”. سافر إلى مصر في الستينات وتعلم اللغة العربية،وبدأ بدراسة المجتمع المصري الحديث وناقش المؤثرات الاستعمارية على المجتمع المصري وردود الأفعال المحلية من خلال ثورات أحمد عرابي عام 1881 و 1919 و الضباط الأحرار عام 1952 .
          من أهم مؤلفاته باليابانية كتابه مع زميلة سنئيكي ناكاؤوكا”تاريخ العرب الحديث والمعاصر”،الذي يعد بحق مٌعَبرا عن الاتجاه الجديد في الدراسات العربية والإسلامية،بتركيزه على التحولات المهمة التي شهدها العالم العربي في الخمسينات والستينات. إلى جانب هذا الكتاب،ترك هذا المستعرب عددا مهما من المؤلفات والمقالات التي نشرها باللغتين اليابانية والانكليزية. يرى إيتاكاكي الإسلام كظاهرة حضارية حداثوية سبقت الحداثة الغربية،بل أن الأخيرة هي امتداد للحداثة الإسلامية،ويقارن بين الإسلام كظاهرة حضارية وبين ظهور الدولة اليابانية على نحو متزامن في القرن السابع الميلادي. أسس مع مستعربين يابانيين آخرين رابطة اليابان للدراسات الشرق أوسطيةJapan Association of Middle Eastern Studies-JAMES في عام 1986 ?والإتحاد الأسيوي للدراسات الشرق أوسطية Asian Federation of Middle Eastern Studies-AFMA في عام 1995التي ضمت جمعيات مماثلة لرابطة اليابان للدراسات الشرق أوسطية في الصين وكوريا ومنغوليا،وأصبح أول رئيس لكلاهم  والشرق الأوسط.
          كان للبروفسور إيتاكاكي مواقف مشرفة أيضا من الصراع العربي-الإسرائيلي وحق الشعب الفلسطيني بتشكيل دولته،إذ أسهم في تشكيل محكمة طوكيو لمحاكمة رموز الكيان الصهيوني بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 . فشكل ذلك موقفا جريئا مناهضا للعنصرية الإسرائيلية.
وترأس المستعرب ايتاكاكي،الذي كان ضمن كادر المعهد، المشروع البحثي “الإسلاميات Islamization” في عام 1976  الذي استمر لحوالي عشر سنوات، اشترك في المشروع أكثر من خمسين استاذاً وباحثاً مما حقق نقاشات مثمرة عن موضوعات متعددة ارتبطت بحيوية المجتمعات الإسلامية. وكان مشروع اليابان الأوسع الأول في الدراسات العربية والإسلامية بعد حقبة الحرب العالمية الثانية، ومن الطبيعي أن يكون له تأثير كبير على توسع الشبكات البحثية في اليابان وخارجها. وفي نيسان من عام 1988? شرع البروفسور ايتا?اكي بمشروع الثلاث سنوات عن “المدنية في الإسلام” Urbanism in Islam? بتمويل من وزارة التعليم والعلوم والرياضة والثقافة اليابانية. وشارك في المشروع أكثر من مائة وثلاثين متخصصاً في حقول متعددة مثل التاريخ، الجغرافية، السياسة، الاقتصاد،علم الاجتماع،علم الإنسان والعمارة لدراسة “المدنية” في الجوانب المقارنة بوصفها جوهر الحضارة الإسلامية.
وفي الجوانب المقارنة للمشروع، عقد المؤتمر الدولي عن المدنية في الإسلام في المدة بين الثاني والعشرين وحتى الثامن والعشرين من تشرين الأول عام 1988 بالتعاون مع مركز الثقافة الشرق أوسطية في اليابان the Middle Eastern Culture Center in Japan ?الذي تأسس في طوكيو في عام 1979. وشارك حوالي ثلاثمائة باحث في المؤتمر بضمنهم سبعون باحثاً من بلدان مثل الصين، اندونيسيا، الهند، الشرق الأوسط،أفريقيا،أوربا،روسيا السوفيتية والولايات المتحدة. وتلا المؤتمر الدولي الأول، عقد المؤتمر الدولي الثاني عن “المدنية في الإسلام” الذي عقد في السنة التالية بين 27-29 تشرين الثاني في مركز الثقافة الشرق أوسطية أيضا. ونشرت وقائع المؤتمرات على هيئة كتب بعنوان المدنية في الإسلام صدر العدد الأول بخمسة مجلدات في طوكيو، 1989? والعدد الثاني بمجلد واحد في طوكيو في عام 1994.
تولى إيتاكاكي هذا المشروع العلمي في  معهد الثقافة الشرقية ،فيما بعدمعهد الدراسات المتقدمة حول آسيا بجامعة طوكيو 1988 -1991 . وبرهن هذا المشروع أن الثقافة الإسلامية ليست ثقافة البدو في الصحراء، ولكنها تتسم بعمرانها المدني مادامت قد تطورت بدءا من المدن في غابر الأزمان،وشكلت بذلك عددا من الثقافات المختلفة .وبالمقارنة مع الثقافة الأوربية ومدنها في العصور الوسطى ،التي أقصت الفلاحين والغرباء ولم تمنح الجنسية لأحد سوى أبناء البلد الأصليين المقيمين،فإن المدن الإسلامية أدركت مستوى رفيعا من المرونة أتاح لها حل المشكلات المماثلة.وقد نجح هذا المشروع بعقد مائدة مستديرة حول التمدن الإسلامي، عقدت في المؤتمر الدولي الثامن عشر للعلوم التاريخية الذي عقد في كندا. وحرر وقائع المائدة المستديرة البروفسور تسو?يتاكا ساتو، وكانت بعنوان : التمدن الإسلامي في التاريخ الإنساني : السلطة السياسية والشبكات الاجتماعية ، صدرت وقائعه في كتاب في لندن عام 1997.
وبدأ مشروع “المداخل الدينامية لدراسة الإسلام المعاصر” Dynamic Approach to the Study of Contemporary Islamالذي أطلق عليه على نحو عام “مشروع الدراسات المناطقية الإسلامية الأول” the First Islamic Area Studies Project  الذي رأسه تلميذه تسوكيتاكا ساتو، في عام 1997 واستند على نحو دقيق على تجربة سلفيه، ليستمر حتى عام 2002. ولتوجيه الأهداف البحثية، تشكلت شبكة ربطت ستة مراكز بحثية قائمة، ضمتها مدرسة الإنسانيات والعلوم الاجتماعية Graduate School of Humanities and Social Science مركزاً للتنسيق ومدرسة الهندسة Graduate School of Engineeringومعهد الثقافة الشرقية في جامعة طوكيو Institute of Oriental Culture of the University of Tokyo ومعهد الثقافات الآسيوية في جامعة صوفيا Sophia University’s Institute of Asian Cultures ومركز التخطيط والتبادل لدراسات الاثنولوجيا الأعراق في المتحف الوطني National Museum of Ethnology’s Area Studies Planning and Exchange center   والمكتبة الشرقية Toyo Bunko . وعلى مدى أكثر من خمس سنوات ، كان المشروع خلالها فاعلاً، عقدت العديد من الملتقيات، وجلسات قراءة، وورش، ومؤتمرات دولية، وجهت سلسلة بثمانية مجلدات باللغة اليابانية ومجلدين باللغة الانكليزية سلسلة الدراسات المناطقية الإسلامية، خمسة مجلدات، عن دار نشر كيكن بول الدولية Kegan Paul International ? 2000-2004? والآفاق الجديدة في الدراسات الإسلامية، خمسة مجلدات، دار نشر روتلج Routledge 2003-2006 وتحتوي جميعها على البحوث الأساسية التي تجمعت على مدى سنوات المشروع، ووضعت السلسلتين باللغة الانكليزية والموقع باللغة الانكليزية حقل الدراسات المناطقية الإسلامية حرفياً على الخارطة الأكاديمية العالمية.
والدراسات المناطقيةالميدانية الإسلامية حقل بحثي جديد يهدف إلى تجميع هيكل المعرفة التجريبية عن الإسلام والحضارة الإسلامية، بالتأكيد على كل من الدراسات الإقليمية المقارنة وبرؤية تاريخية للقضايا المعاصرة. ومنذ عام 2006 فان برنامج الدراسات المناطقية الإسلامية الجديد The New Islamic Area Studies Program الذي رأسه أيضا الراحل البروفسور ساتو، بالارتباط مع المعاهد الوطنية للإنسانيات The National Institutes for Humanities NIHU  بشبكة من المراكز البحثية المكونة من جامعة طوكيو، جامعة صوفيا، المكتبة الشرقية تويو بنكو، جامعة كيوتو، وكذلك جامعة واسيدا التي تنسق النشاطات البحثية بشبكة مترابطة. واستمر هذا البرنامج بتطوير مشروع الدراسات المناطقية الإسلامية السابق 1997-2002 لتأسيس مراكز للبحث والتعليم فيما يخص الدراسات الإسلامية في اليابان.
قاد البروفسور إيتاكاكي وجيله التحول الذي طرأ على تطور الاستعراب الياباني منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين ورؤيته الجديدة للعرب والإسلام والشرق الأوسط،لاسيما بالابتعاد عن رؤية الجيل الأول المؤسس لرؤية كولونيالية لخدمة المصالح الاستعمارية لليابان إلى الجيل الثاني،جيل إيتاكاكي،الذي أسس لرؤية جديدة اعتمدت على فهم العرب والإسلام من داخل المجتمعات الإسلامية وبرؤية يابانية مستقلة عن الرؤية الغربية.كان دور وجهود المستعرب إيتاكاكي في هذا التحول من خلال تغطية ما تركه من تراث فكري وأكاديمي،إلى جانب نشاطاته الفكرية والميدانية وعلاقاته مع العالم العربي والإسلامي. إن مسيرة أكثر من ستين عاماً في بناء شبكة من المؤسسات الأكاديمية والبحثية التي تتبنى وتدعم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية،جعل الباحثين يطلقون على هذه المرحلة من تطور الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية مصطلح”مدرسة إيتاكاكي”،التي تميزت بتعاطفها مع شعوب الشرق الوسط عموما وقضاياهم المصيرية،والشعب العربي على نحو خاص. فمنذ خمسينات القرن العشرين،نشر إيتاكاكي وزميله ناكاؤوكا العديد من المؤلفات والدراسات باللغتين اليابانية والإنكليزية عن تاريخ الشرق الأوسط الحديث والمعاصر. فتحدثا عن الثورات العربية في النصف الثاني من القرن العشرين،وناقشا الثورات المصرية والجزائرية والعراقية واليمنية. وحاولا تحليل البنى الفكرية والاقتصادية لهذه الثورات ودور الطبقة المتوسطة. حاول إيتاكاكي تحليل المجتمعات العربية من وجهة نظر التحولات التي كانت تشهدها اليابان في النصف الثاني من القرن العشرين وتنامي دور الطبقة المتوسطة والصراع الذي كانت تشهده في الخمسينات والستينات مع الولايات المتحدة وتصاعد المد اليساري في المجتمع الياباني ورفض تجديد الاتفاقية الأمنية في عام 1960 من خلال التظاهرات التي شهدتها المدن اليابانية رد فعلٍ لتمسك الحكومات المحافظة التي تزعمها الحزب الليبرالي الديمقراطيجمنتو،الذي كان يرى أن مصلحة اليابان هي الحفاظ على علاقاته الوثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
مدرسة ايتكاكي
كانت”مدرسة إيتاكاكي” تتبلور في فهمها للشرق الأوسط المبني على رؤية أخرى لتاريخه مبتعدة عن مقولات الإستشراق الغربي الذي درس العرب والإسلام وفقا لإيديولوجيات عنصرية واستعمارية تفهم ما يحدث في الشرق الأوسط وفقا لمفهوم”المركزية الغربية”. حاولت “مدرسة إيتاكاكي” أن تكون أكثر قربا للشرق الأوسط وقضاياه العادلة،وأظهرت المدرسة تعاطفا مع العرب وفهما أوسع لقضاياهم بموشور ياباني،لاسيما بعد التحول الكبير والدعم الواسع الذي شهدته الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية في اليابان بعد الصدمة النفطية في عام 1973. فتشكل جيل جديد متعلق باللغة العربية وأخذَ هذا الجيل وبنصائح من البروفسور إيتاكاكي التوجه للشرق الأوسط والبلدان العربية بدلا من التوجه للغرب والولايات المتحدة للدراسة. وكانت رؤية إيتاكاكي وجيله تؤكد أن من الأفضل للجيل الجديد من المستعربين اليابانيين زيارة الشرق الأوسط والعالم العربي وتعلم لغاته والدراسة في مؤسساته والإطلاع على مخطوطاته وكتبه من أجل فهم أوسع لتاريخه من خلال مصادره الأساسية والابتعاد عن النظرة المسبقة للأدبيات الغربية التي شكلت صورة نمطية عن العرب والإسلام والشرق الأوسط. فظهر جيل جديد من المستعربين اليابانيين يمكن أن نطلق عليهم الجيل الثالث الذي يحمل سمات جديدة تتميز بتعاطفها مع القضايا العربية. ومن أبرز مستعربي هذا الجيل تسوكيتاكا ساتو وياسوشي كوسوجي  وماساشي هانيدا وتورو ميؤرا وكيكو ساكاي وايجي ناكاساوا وكيكو ساكوراي ونابو ميساوا وجيلهم الذي تميز برؤية يابانية جديدة للقضايا العربية والإسلامية. زار غالبية هذا الجيل الشرق الأوسط وتفاعلوا مع شعوبه وقضاياه مما أسهم في امتداد”مدرسة إيتاكاكي” إلى بنية الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية.
حاولت”مدرسة إيتاكاكي” أن تفهم الشرق الأوسط في ضوء امتداداته العالمية. ففي تقديمه لكتاب “مؤتمر الدراسات المناطقية الأمريكية اليابانية”،الذي حرره ماساتاكي ماتسوبارا وجون كامبل وصدر في أوساكا عن مركز اليابان للدراسات المناطقية في عام 1997 كتب إيتاكاكي مقالة تقديمية للكتاب بعنوان”يجب أن تكون الدراسات المناطقية أساسا للمعرفة البحثية الجديدة”،حاول أن يوضح فيها أهمية الدراسات المناطقية في اليابان لتقديمها رؤية شاملة للقضايا العربية والإسلامية والشرق أوسطية. ويضرب مثلاً بقضية القدس التي يرى أنه لا يمكن فهم أبعادها دون ربطها بالحروب الصليبية والغزو المغولي للعالم الإسلامي. وينطبق الحال ذاته على القضية الفلسطينية التي لا يمكن فهمها دون فهم المجتمعات اليهودية في أوربا الشرقية وروسيا والولايات المتحدة.
 ويمكن ملاحظة الحالة ذاتها عند دراسة التأثيرات الإسلامية في الشرق الأوسط التي يمكن تتبعها في الصين وجنوب شرق آسيا والهند وآسيا الوسطى وأفريقيا وأوربا.
 ووفقا لذلك،وكما يرى إيتاكاكي،فمن الضروري للباحثين في الاختصاصات الإنسانية والاجتماعية الأخرى أن يدرسوا الشرق الأوسط وكذلك الحال بالنسبة للمتخصصين في الشرق الأوسط الذين عليهم أن يدرسوا المناطق الأخرى المرتبطة به.وهذا “يفسر سبب دعوتنا الى الدراسات الكونية وتكوين رؤية عالمية للأحداث”. ووفقا لهذا الفهم، فقد تعدى إيتاكاكي فهمه للشرق الأوسط كمحاولة لتفسير الظاهرة اليابانية الى عالم أكثر اتساعا بمحاولته فهم الشرق الأوسط واليابان من خلال رؤية عالمية شاملة.
وبرؤية متبصرة لأهمية الشرق الأوسط والعالم الإسلامي،تنبأ إيتاكاكي بتأثير الإسلام على تداعي النظام العالمي وأزمة أنظمة الدولة القومية وإنفجار الصراعات العرقية. ودعا الى تعاضد جميع العلوم الإنسانية والاجتماعية لتقديم رؤية عالمية شاملة عن مشكلات العالم بما فيها مشكلات اليابان والشرق الأوسط. ويؤكد إيتاكاكي إن تعاضد حقول متنوعة في المشروع الذي أشرف عليه عن”التمدن في الإسلام” أظهر أن الحضارة الإسلامية قد أسهمت في التعايش مع البيئة وليس تدميرها،وهذا ما أثبتته الدراسات المعمقة للحضارة المدينية في الإسلام من وجهة نظر العلوم الإنسانية والاجتماعية بل وحتى التطبيقية مثل البيئة والهندسة المدنية وعلم العمارة والبيئة. ولتأكيد أهمية”المعرفة البحثية الجديدة”،يناقش إيتاكاكي الدور الذي قام به الأوربيون في دمج حقول متنوعة لدراسة أوربا من جوانب متعددة.
وقد أخذ الأوربيون هذه المعرفة من العرب الذين قاموا في العصور الوسطى بدمج حقول متنوعة لدراسة الكلاسيكيات اليونانية واللاتينية. وقد أسس العرب خلال العصور الوسطى”معرفة بمستوى جامعي” عبر العالم الإسلامي،وقد جمعوا هذا النظام بما يسمى”المدرسة” التي سبقت ظهور الجامعة في أوربا التي يعود ظهورها إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وقد أظهر الحوار في رواية “فاوست” انتقال الفلسفة والقانون والعلوم الطبية بل وحتى علم الكلام من العالم الإسلامي إلى أوربا. وقد طور الأوربيون المعرفة البحثية الجديدة في القرن السادس عشر،وتطورت هذه المعرفة من التاريخ الطبيعي ثم امتدت إلى الدراسات الإنسانية. وقام نابليون بونابرت عند غزوه لمصر في عام 1798 بما يشبه الإفادة من المعرفة البحثية الجديدة عندما جلب معه حوالي مائتي عالما في اختصاصات متنوعة لدراسة جميع جوانب الحياة في مصر بما يشبه”الدراسات المناطقية”،وصدرت هذه الدراسات البحثية في كتاب”وصف مصر”.
ومما تجدر الإشارة إليه أن اليابانيين يستخدمون مصطلح تشيكي كنكيو chiiki kenkyu ليشير إلى”الدراسات المناطقية” التي عدت منظورات العلوم الطبيعيةالبيئة والأحياء والموارد الطبيعية عاملا أساسياً لتكامل ودمج الحقول البحثية المتنوعة. ووفقا لهذه الرؤى،يخلص إيتاكاكي إلى أن الدراسات المناطقية ستكون أساسا للمعرفة البحثية والأكاديمية في العقود القادمة.
درجة متقدمة
وفي مقالة معمقة نشرها في عام 2014 تؤشر درجة متقدمة من الفهم الفلسفي للحضارة العالمية وتأثير التبادل الثقافي بين الأمم،قام إيتاكاكي “بتأمل تاريخي لمعضلة اليابان من منظور ستراتيجية حــــــــــضارية نقدية”. فرأى أن”معضلة اليابان” هي ظاهرة ذات أبعاد ثقافية-جغرافية تسبب توترا بسبب وضع اليابان التاريخي. وهذه المهمة تتطلب مراجعة تفكيكية للحضارة والحداثة. وهذا يتطلب إعادة فحص للتهجين والمصادفة التاريخية في مصطلحي”التوحيد” الإسلامي و”الهوايان” Huayan  البوذي والفلسفات الكونفوشيوسية الجديدة. حاول إيتاكاكي أن يستثمر معرفته الشمولية بحقول متعددة للمقارنة بين مفاهيم التوحيد في الإسلام والمسيحية والبوذية ليصل الى الرؤية الكوزموليتانية للحضارة.
وفي كل ذلك أسهم هذا المؤرخ المحترف في وضع أسس لمدرسة جديدة في الدراسات التاريخية تعدت في مجالاتها علم التاريخ لتشمل العلوم الإنسانية والاجتماعية بما يمكن أن يؤسس لرؤية جديدة في الدراسات الأكاديمية تستحق أن نطلق عليها”مدرسة إيتاكاكي”.
مع ذلك،لم يرق للعديد من المؤرخين الجدد والمتخصصين في الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية ما أسسه إيتاكاكي وجيله. فالجيل الرابع من المستعربين اليابانيين منقسم الى فئتين تؤيد الأولى الأساس الذي وضعه إيتاكاكي وجيله من مدرسة متعاطفة مع القضايا العربية والشرق أوسطية وبفهم ياباني لهذه القضايا المصيرية التي رسختها عقود من العلاقات الأكاديمية الممتدة بين جيل الآباء والأبناء مع العرب والمسلمين،في حين ترى فئة أخرى من المستعربين الشباب أن “مدرسة إيتاكاكي” هي أكثر عاطفية تجاه العرب والإسلام مما يجعلها في دائرة النقد الأكاديمي الصارم.
فهذه العاطفية المفرطة أبعدتها عن وسائل البحث العلمي المتقدمة من بيانات وإحصائيات للوصول إلى نتائج علمية ودراسات نقدية. مع ذلك،فإن أعداد كبيرة من المستعربين الشباب ما زال مؤمنا بالأسس التي وضعها الآباء بعد الحرب العالمية الثانية وينظرون لإيتاكاكي وجيله بكونهم وضعوا أسسا راسخة لمدرسة يابانية جديدة في الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية،وإنهم يواصلون سعيهم لتقديم مزيد من الدراسات الجديدة التي تعزز الفهم الياباني للإسلام والعرب والشرق أوسطيين. ففي نقاشات متعددة مع باحثين وأكاديميين يابانيين من تلاميذ”مدرسة إيتاكاكي” وتلاميذهم من الجيلين الثالث والرابع،يلاحظ أن غالبية الباحثين اليابانيين الشباب مازالوا مؤمنين بالأسس التي وضعها إيتاكاكي وجيله.
 وأخيراً يظل البروفسور إيتاكاكي علامة فارقة في مسيرة الدراسات الإسلامية في اليابان وسيظل العرب يتذكرون فضله وما قدمه من رؤية جديدة لتاريخهم وحضارتهم وثقافتهم. وهو يستحق مزيدا من إلقاء الضوء في العالم العربي والإسلامي.
____________________________________________
*https://www.azzaman.com/?p=195376

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عبد الستار ناصر وطقوس الكتابة

  عبد الستار ناصر وطقوس الكتابة -ابراهيم العلاف ولا اكتمكم سرا ، في أنني احب القاص والروائي العراقي الراحل عبدالستار ناصر 1947-2013 ، واقرأ ...