السبت، 11 فبراير 2017

سياسة تركيا الكمالية تجاه ولاية الموصل 1918- 1922 * ا.د.ابراهيم خليل العلاف

سياسة تركيا الكمالية  تجاه ولاية الموصل 1918- 1922 *
ا.د.ابراهيم خليل العلاف 
استاذ التاريخ الحديث المتمرس -جامعة الموصل 
شـهدت ولاية الموصل خلال الفتـرة بين 1918 أ 1922 العديد من الاجراءات السـياسية والعسكرية  التركيـة الكمالية ، وتنحصر  سـياسة تركيا الكمالية تجـاه الموصل في  مجالين الأول سياسي ، والآخر عسكري .كما  اشتملت   على جوانب سياسية - دينية   . أما بالنسبة للجانب الأول فقد أصـدر الأتراك الميثاق الوطني الـذي وافق عليه مجلس النواب العثماني الجديد في 28 كانون الثاني سنة 1920 . وقد تولى المجلـس الوطني الكبيـر في أنقـرا مهمة تنفيذ هـذا الميثاق الذي اعتبره الوطنيون الأتراك أقصى ما تستطيع تركيا تحمله لتحقيق سلام عادل ودائم . وفي هذا الميثاق اعتبر الأتـراك ولاية الموصـل من الأجواء التي تسكنها أكثرية عثمانية مسلمة وأنها جزء لا يتجزأ من الدولة التركية الحديثة ([i]) . وبعد التوقيع على معاهدة سيفر في10 آب 1920 لم يكن غريباً أن يضاعف الكماليون جهودهم ليطبعوا في أذهان جميع سكان الموصل بأن هذه المعاهدة ـ على حد تعبير أحد الباحثين ـ لا تساوي الورق الذي كُتبت عليه ([ii]) .

      لقد تمثلت سياسـة الأتراك الكماليين تجـاه الموصل من خلال نشاط الجمعيات السرية التركية هناك وكذلك بفعاليات السيد أحمد السنوسي وردود فعلها .

    أ ـ  الجمعيات السرية :

           وجد في ولاية الموصل ، بعد الاحتلال البريطاني ، من يدعو إلى الأتراك ويبشر بقرب عودتهم . وكان يطلق على هؤلاء كلمة " كلرورلر " التركية أي عائدون ([iii]) . وقد تمكنوا من تنظيم أنفسهم في جمعيات سرية . وقد نشرت جريدة محمد رؤوف الغلامي صدى الأحرار الموصلية  ([iv]) رسالة من جمعية العهد في الموصل إلى المركز العام للجمعية في 24 آيار 1919 جاء فيها أنه قد تشكلت جمعية في بغداد تعمل لحساب الأتراك ، وقد أرسلت نوري أفندي ([v]) إلى الموصل وبالشر ببث الفكرة التركية فتبعه قسم من الضباط الأكراد والأتـراك المركوكيين وبعض العـرب من المتقاعدين والمفصولين وغيرهم،وهم مجدون في تأسيس جمعية تركية في الموصل([vi]). وقد تألفت هـذه الجمعية برئاسـة البكباشي ( المقدم ) عبد الجبار وهو من أهالي كركوك وكان يسـكن الموصل وعضوية داود أفندي بن أحمد ياور وداود جلبي الحاج سليم وأخوه سـعيد جلبي ورؤوف افندي بن محمد أفندي الكركوكي وغيرهم .ومن منتسبيها كل من آكاه أفندي بن حسن أفندي وشقيقه شاكر أفندي وعبد الله أفندي جنه باز وعزت أفندي الركوكي وسـعيد أفندي خلوصي وكثيرون غيرهم . ومن مؤيديها في الموصل مصطفى الصابونجي وعمر أغا كشمولة وحسن أغا كشمولة وبعض أغـوات باب البيض ، ومن مؤيدي الجمعية  في تلعفر سيد عبد الله بن سيد وهب وعبد الرحمن أفندي بن عثمان أفندي ([vii]) .

     أما في السـليمانية فقد وجد من يعمل في هذا الاتجاه . ويقول فؤاد مستي ([viii]) أن ( مؤيـدي الأتراك اسـتطاعوا أن يعملوا بنشاط للجمعية إلى إعادة كردستان العراق إلى تركيا . وكان طاهر أمين أفندي والسـيد عبد الله الحاج سـيد حسن وغالب أغا وعدد من الضباط القدماء من أشد المتحمسين لهذا الاتجاه ) ، وكان في أربيل جمعية سـرية موالية للأتـراك ذات فروع كثيرة ونشيطة في بث الدعاية المعادية للانكليز ، وقد كتب الحاكـم السياسي في أربيل 1918ـ 1920 الكابتن ( هي ) يقول: أنّ من أنصار هذه الجمعية عدداً من كبار وجوه أربيل أمثال الحاج رشيد أغا وابنه عطا الله وعلي باشا، وهو عضو سابق في جمعية الأتحاد والترقي والحاج سويد أغا وغيرهم ([ix]).

  كما حظيت الجمعية بدعم عدد من الموظفين الأتراك الذين فقدوا وظائفهم ، وفي كركوك تعاظمت الدعوة إلى إعادة ولاية الموصل للأتراك إذ ألّف بعض الأشخاص ومن بينهم عدد من الضباط الأتراك جمعية سرية من أهدافها القيام بالثورة ضد الانكليز إذا ما أجتازت القوات التركية حدود العراق من الجهة الشمالية ([x]) . وكان لعائلة نفطﭽـي وبعض العناصـر التركمانية الأخرى دور كبيـر في إنشاء هذه الجمعيـة ([xi]) . وكان ناظم نفطﭽـي وسيد أحمد خانقاه من أشد مؤيدي الأتراك ([xii]) . وقد انتخب الشيح قادر السيله منصور الطالباني معتمداً لرؤساء القبائل الذين انتموا لهذه الجمعية ([xiii]) .

      نشطت المنظمات التركية السـرية قي التبشير بعودة الأتراك . ويمكن تقدير هـذا النشاط من ردود فعـل جمعية العهد العراقي فرع الموصل . فقد كتب معتمد الجمعية رسالة إلى المركز العام في الشام في 24 آيار 1919 يخبره فيها عن تأسيس جمعيـة تركية في الموصل وأنّ أنصار هذه الجمعية أخذوا يلفقون الأخبار الكاذبة ويذيعونها بين الناس " . وأضاف يقول أنّ جمعية العهد اضطرت إزاء ذلك أن تقوم بتوزيع نشرات ضد الجمعية التركية بيّنت فيها أنّ هدف هؤلاء هـو عرقلة مسـاعي العرب وإعاقة حركتهم الاستقلالية ([xiv]) . وقامت جمعية العهد بالموصل بتوزيع نشرة في 25 آيار 1919 في الموصل نوّهـت فيها إلى نشـاط الجمعية التركيـة وبثها أخبار الانتصارات الكماليـة وتلفيقها الأخبار ضـد الحكومة الفيصلية في دمشق . ومما جاء في النشرة أنّ الجمعية التركية تهدف من وراء ذلك " بلبلة الأفكار وعرقلة المساعي العربية الوطنية " وقد حذّرت الجمعيـة أبناء الموصل من هذه الاشاعات بقولها: " فاحذروا هذه الفئة وقاوموا أفكارها واحبطوا مساعيها وبيّنوا أن خطرها عظيم على البلاد " ([xv]) .

     إزاء النشاط الواسع للجمعية التركية لم يكن أمـام العهد إلاّ الاعتراف بنفوذ أنصار الأتراك وذلك لأنّ الناس ـ كما ورد في رسالة معتمد الجمعية إلى المركز العام في 30 تشـرين الثاني 1919 ـ سـئموا من الدعوة إلى الاستقلال بأسـم الجنسية والوطن . ودعا معتمـد الجمعية إلى " أن نترك أمثال هذه الأمور وأن نكون عمليين بانتهـاز الفرص والتكتل بأسم الجامعة الاسلامية " . وأضاف يقول :

   (( ... ولا يسعنا أن نكتم عنكم أنّ اليأس والسآمة قد عملا في أكثر الناس ولا سبيل إلى جلب ثقتهم إلاّ بحركة عظيمة من طرفكم تجلب أنظارهم من جديد وتفتح فيهم روح الأمل ونقول لكم بصراحة أنه إن كان قي الموصل نوع من الأمل في الخلاص من الانكليز عند الكثير من الناس فإنما يتوقعونه من مصطفى كمـال ، حيث أنّ لهـذا القائد اسماً كبيراً في هذا البلد )) ([xvi]) .


     وقد اضطرت جمعية العهد في الموصل إلى التعاون مع الجمعية التركية وذلك لأسباب دينية من جهـة ولطبيعة المرحلة من جهة أخرى خاصةً بعد فشلت حركة تلعفر سنة 1920.وقد توحدت في هذه الفترة مساعي الجمعيتين التركية والعهد في الموصـل رغم اختلاف أهدافهمـا ، إذ أنّ عدوهما كان واحداً ، وقد ذكر معتمد جمعية العهد محمد رؤوف الغلامي أنّ اجتماعاً عقد بينه وبين رئيس الجمعية التركية البكباشي عبد الجبار اتفقـا على ضرورة العمل المشترك ضد الاحتلال البريطاني ([xvii]) . كما جرى شيء من التنسيق والتعـاون مع السلطات الكمالية للقيام بإزعاج قوات الاحتلال في الموصل . وقد استمر هذا التعاون حتى قدوم فيصل إلى العراق ([xviii]) .

     ب ـ  السيد السنوسي :

                   ارتبطت الدعاية التركية كذلك بأسم السيد أحمد الشريف السنوسي الخطابي الادريسي الحسيني الذي وصل ديار بكر في كانون الثاني 1919 . وكان يطلق على نفسه لقب " نائب الخليفة الأعظم ووزيره " ([xix]) . وقد ذهب في نيسـان إلى ماردين وبـدأ دعوته في آيار 1921 . وكان ترشيح فيصل لعرش العراق عامـلاً كبيراً في مضاعفة السـنوسي نشاطه ودعوته إما إلى تنصيب مرشح تركي أو نائب لبرهان الدين بن السلطان عبد الحميد الثاني . وقد قام السنوسي بتوزيع كميـات كبيرة من المنشورات وجدت طريقها إلى مختلف أنحـاء ولاية الموصل وأجزاء أخـرى من العراق . وقـد وصف المندوب السامي هذه المنشورات بأنّ طابعها العام كان يدور حول الدعوة إلى الجامعة الاسلامية ، وكانت ذات لهجة عنيفة ضد " الأجانب "  ([xx]) . وكانت نشرات السنوسي بشكل رسائل معنونة إلى رؤساء العشائر وهي ذات صيغة واحدة والاختلاف الوحيد بين رسـالة وأخرى كـان في عنوان الرسالة التي يكتب بخط اليد، بينما الباقي منها بالآلة الكاتبة ([xxi]). ومن هذه الرسائل رسالة من السـنوسي إلى السيد عبد الله أغا السـيد وهب ([xxii]) من رؤساء تلعفر مؤرخـة في 15 رمضان 139 المصادف أواخر آيـار 1921 . وقد أشار السنوسي فيها إلى ما وصلت إليه " حالة المسلمين وتسلط الأعداء عليهم ... فغصبوا بلادهم وأكلـوا أموالهم وسـعوا لتشتيت الجامعة الاسـلامية ومحو الشريعة المحمدية " . وأضاف يقول :

    (( فهالني ذلك وأدهشني وعزمت متوكلاً على الله ... على السعي للتأليف بين المسلمين عموماً ، وقد سعى الرئيس الكبير مصطفى كمال باشا لجمع كلمة أمته حتى قاموا قومة رجل واحد ..,. بوجه العدو اللدود فتوفقوا ولله الحمد لتطهير البلاد وطردوا الأعداء خائبين خاسرين ...  )) .


      وذكر السنوسي أنه بينما كان يتحين الفرص لفتح باب المراسلات مع الأمراء والرؤساء المسلمين سـمع أنّ أهل العراق قد أتحدوا ونبذوا الشقاق وتعاهدوا على الاتفاق وأنهم قاموا بمقاومة الأعداء وذلك بفضل رجال الدين والوطنيين . وقـال أنّ ذلك شـجّعه على القدوم إلى ديـار بكر لجمع كلمة المسلمين في العـراق والمساهمة معهم في الجهـاد . وتعمد السنوسي إثارة مخاطبه عندما قال :

   (( إنكم لا تقبلون أن أرجع لطرابلس ميئوساً بعدما اقتحمت مشاق الأسفار ومخاطرات الكفار ، فلا سمح الله ماذا أقول عنكم لأخوانكم المجاهدين الطرابلسيين الذين منذ عشر سنين يحاربون دولة الطليان ... حتى جعلوها تطلب منهم الصلح والأمان ، وأنكم لستم دون ذلك الشجعان )) .


   وختم رسالته بالدعوة إلى محاربة الانكليز وقال : " إني سـاعٍ بكل جهدي لمساعدتكم ... بما أتمكن عليه " ([xxiii]) .

   كتب الملك فيصل مذكرة طويلة حول نشاط السنوسي إلى المندوب السامي في 15 تموز 1921 أشار فيها إلى وصول السـنوسي الى ماردين وإرساله قوة مؤلفة من ( آلاي خيالة ) إلى نصيبين ومساعيه في بث الفكـرة التركية بواسطة النشرات والدعاة ولفت نظر المندوب السامي إلى ما ينجـم عن ذلك من القلق والاضطراب نظراً لحداثة الحكومة العراقية وخاصةً " وجود الأيدي الخفية التي لا تزال نعمل على تأييد النفوذ التركي وإرجاعه إلى هذه البلاد ". وأشار إلى أنّ مركز الحركات المعادية للعراق والتي يقوم بها السنوسي ومن معه هي في الأراضي التي هي الآن تحت النفوذ الفرنسي ، وتقـدم باقتراح إلى المندوب السـامي ينص على أن تبلغ الحكومة البريطانية الحكومة الفرنسية لتقوم بواجباتها فتتخذ التدابير الكافية لقمع أمثال هـذه الحركات في المنطقة الممتدة من ضفاف نهر الخابور فشرقاً والتي تهدد السلم والراحة في القطر العراقي . وفي حالة عدم قيام الحكومة الفرنسية بذلك فإنّ عليها أن تتخلى عن هذه المنطقة وتصرح بعدم مسؤوليتها وعندئذٍ يترتب على الحكومة العراقية ـ حسب اعتقـاد الملك ـ أن تتخذ التدابيـر التي ترى فيها الحفاظ على مصالحهـا وتأمين سـلامتها . وأكد فيصل في ختـام مذكرته ضرورة الاهتمام بهذا الأمر والإجابة عنه بسرعة كي تباشر الحكومة العراقية اتخاذ التدابير المقتضية حفظاً لسلامة وأمن البلاد ([xxiv]) .

ردود الفعل المحلية لتحركات السنوسي :

       أما ردود الفعل المحلية لتحركات السنوسي فكانت بصورة عامة إيجابية قبيل مجيء فيصل للعراق وسـلبية أثر مجيئه وتتويجه . ويمكن تمييز ردود الفعل الإيجابية بأمور عديدة أهمها اجتماع ديار بكر وتشكيل فـرع لجمعية العهد في ماردين .

     عقد اجتماع في ديار بكر بين عدد من الضباط والمدنيين العراقيين الذين اضطروا إلى اللجـوء إلى الأراضي التركية بعد سـقوط حكومة فيصل في دمشق وفشل الحركات العسكرية ضد الانكليز في سامراء وتكريت والموصل وبين الشريف السنوسي ونهاد رشاد والي ديار بكر وذلك على أمل الحصول على المال والسلاح من الأتراك للاستمرار على مقاومة المحتلين. ومن أبرز الذين حضروا الاجتماع سعيد ثابت والشيخ عجيل اليـاور والضابط تحسين علي . وقد حظي المجتمعون بتأييد ودعم أولاد العاصي وهم رؤساء شمر ، ومسلط باشا رئيس الجبـور والحميدي من رؤساء شـمر أيضاً وغيرهم من رؤساء العشائر . وتقرر في هذا الاجتماع تأليف قوة كبيرة يكون مركزها في الحضر ، وهي على مسافة (30) كيلوا متراً غربي الشرقاط لتهاجم الانكليز ما بين الموصل وسـامراء   ([xxv]) . ويذكر تحسين العسكري شيئاً عن نتائج هذا الاجتماع بقولـه : أنّ مصطفى كمال أبرق إلى المجتمعين بأنّ الأتراك لا طمع لهم في البلاد العربية لذا فإنّ جميع المسـاعدات التي يقدمها الترك سـتكون فوائدها للعرب خاصة . فعليه يجـب أن يذهبوا إلى بلادهم لجلبب الأموال والأتراك من جانبهم يساعدونهم بالذخائر والرجال. وقال العسكري : إنّ برقية مصطفى كمال جاءت ردّاً على طلب المجتمعين سرية خيالة تركية ترافقهم وتوحي للعشائر أن الترك يساندون هذه الحركة وبذلك يزداد نشاطهم المادي والمعنوي . ولكن سرعان ما خامر نفوس الترك حينئذٍ ريبـة فعدلوا عن فكرتهم السابقة وقرروا تشتيت المجتمعين ([xxvi]) .

     أمّا رد الفعل الإيجابي الثاني فتمثل بقيام سعيد ثابـت ([xxvii]) بتشكيل فرع لجمعية العهد في ماردين ضم العراقيين فيها . وقد بدأت الرسائل تترى بين الموصل ومارديـن وهي تحث على الثـورة والاستعداد لهـا من قبل أهالي الموصل وأطرافها ([xxviii]) . وقد نشرت جريدة العراق في عددها الصـادر في 10 آب 1921خبر لمراسلها في الموصل بعنوان " ممثل جديد عند الأتراك " قال فيه : إنّ سعيد ثابت فـرّ إلى ماردين فديار بكر وهو الآن متعمم بعمامة بيضاء مرتد جبة واسعة الأكمام وعلى صدره وسام منقوش عليه " مرخص العراق " . وأضاف المراسـل يقول أنّ الكماليين هناك يدعـون سعيد ثابت للحضـور في النوادي السياسـية " وهو يبـدي لهـم أراءه ويخطـب فيهم فيصفقون ([xxix]) . وكان الكولونيل نولدر الحاكم السياسي للموصل قـد أصدر بياناً ذكر فيه أنّ " سعيد الحاج ثابت من أهالـي الموصل مجرم بمادة إثارة الفتن وقد فرّ من وجه الحكومة ... فكل من يؤويه أو يساعد على إخفائه أو يسهل له سبيل الفرار أو يعلم مكانـه ولا يخبر عنه تجـري بحقه العقوبات القانونية ([xxx]) . وقد عاد سعيد ثابت إلى الموصل في 13 أيلول 1921 وهو متقلد السيف الذي أهداه الشريف السنوسي عندما اجتمع به في ديار بكر([xxxi]).

    أما ردود الفعل لتحركات السنوسي أثر مجيء فيصل للعراق وتتويجه فقد تميزت بالسـلبية . ويتضح ذلك من الرسائل التي استلمها فيصل من جهات متعددة تندد بالسنوسي ونشاطه . ومن أبرز هذه الرسائل اثنتين ، أولهما من ابراهيم عطـار باشي عضو الهيئـة الادارية لجمعية العهـد العراقي فرع الموصل ، وثانيهما من بعض رؤساء العشـائر الكردية القاطنة على الحدود الشـمالية . وقد جاء في الرسـالة الأولى المؤرخة في 19 تموز 1921 أن نشرة السيد السنوسي ظلّت بعد مجيء فيصل دون توزيع وعمد إلى إحراقها. وقد قدّم منها حوالي (1000) نسخة إلى سائر الأنحاء وأنّ الذي جلبها هو رئيس عشيرة شمر طوكه وأنّ السيد السنوسي " سيجاوب ... عن نشرته بما يقطع رجاء القوم ويقفل أمثال هذه الأبواب إن شاء الله " ([xxxii]) .

     أما الرسالة الثانية فقد أرسلها مصطفى باشا زاده رئيس عشيرة ميران ، وقطابيل أغا زاده رئيس عشيرة الكويان، وبهرام محمد أغا زاده عبد الرحمن رئيس عشيرة بهتان إلى فيصل في 25 تموز 1922 . ومما جاء في الرسالة قولهم أنّ السنوسـي بعث لهم رسـالة وكان جوابهم أنهم يرفضون أن يكون مصطفى كمال رئيسـاً لهم لأنهم لا يعرفون ـ على حـد قولهم ـ " أصله ونسبه " كما لم يكن من سلاطين الدولة العثمانية " حتى(نصبح) مطيعين له ". وقد أعلنوا عن رفضهم لأن يكونوا تابعين لأي حكم بريطاني ولكنهم أعربوا عن رغبتهم في أن يدخلوا في حماية فيصل.وأبلغوا فيصلاً أنهم وعبد الرزاق أفندي السـعردي وعثمان أفندي الجـزراوي وصلاح الدين بن سـيد علي الهيـزالي ونايف بك بن مصطو باشا ميـران وغيرهم يقدمون لـه الطاعة وطلبوا أن يكون أحد أبناء " الصـابونجي " في الموصل واسطة للاتصال بينهم وبينه .

     أجاب فيصـل على تلك الرسـالة بقوله أنه لا يريـد أن يضيف بحق السنوسي " كلمـة واحدة على ما جاء بحقه في كتابكم ، هداه الله إلى ما فيه نفع المسلمين " . ودعاهـم إلى العمل على " سـد الأبواب في وجه العوامل المؤدية لبذر الشقاق والخلاف وإهـراق الدماء البريئة بينهم من غير سبب . وأعن عن استعداده لمقابلتهم فقي الموصل في حالة زيارته إليها ([xxxiii]) .
مواقف فيصل من السياسة التركية 1921 ـ 1922 :

     دخل الملك فيصل بعد تتويجه في 23 آب 1921 في مخابرات طويلة مع السر برسي كوكـس المندوب السامي البريطاني بصدد النشـاط الكمالي وقضية الحدود العراقية مع تركيا وأثـر ذلك على مستقبل ولاية الموصل . ففي 10 تشرين الثاني 1921 أرسل مذكرة إلى المنـدوب السامي معقباً فيها على مذكرة له في هذا الشأن قبيل تتويجه والمؤرخة في 15 تموز 1921 . وقد أشار إلى أنه نبّه الحكومة البريطانية إبان وجوده في لندن إلى الأخطار التي تنجم عن الاتفاق الذي أشيع يومئذٍ انه سـيعقد بين الكماليين والفرنسيين وذكرها بأن هـذا الاتفاق إذا تمّ فسـيكون ضربة قاضية ليس على مستقبل العراق وحسب ، بل وعلى مصالح بريطانيا في الشرق أيضاً . وأضاف إلى ذلـك قائلاً : وها قد وافتنـا برقيات رويتر بعقد الاتفـاق المذكور وباهتمام الحكومة البريطانية بمعارضته ([xxxiv]) . وقد أوضح فيصل في مذكرته أنّ بقاء الأتراك في المنطقة الممتدة مزن ضفاف نهر الخابور فشرقاً سيجعل العراق عرضة للخطر في كل حين ، وأنّ ذلك سيجعل حكومته مضطرة إلى إعداد قـوة كبيرة ضاربة للمحافظة على كيان المملكة . وقال أنّ مما يزيد الموقف حراجة هـو أنّ بعض حـدود العراق المهمة لم تخطط بعـد بصورة توقف المطامع التركية عند حدودهـا . وسوف لا يصعب على الأتـراك بعد هذا الاتفاق أن يؤيدوا نفوذهم فعليـاً في أنحاء الجزيرة حتى ديـر الزور وعانه والرمادي وضفاف الفرات شمالاً وجنوباً وينشروه في جميع أنحاء العراق . وذكّر المندوب السامي بالعهـود والاتفاقات المعقـودة بين بريطانيا وفرنسا والتي تنص على عدم جواز التنازل عن أي جانب من مناطق النفوذ إلى أية دولة غير عربية . وطلـب من الحكومة البريطانية أن ترسم خطة واضحة تسير عليها وإلاّ تعرضت مملكته الجديدة إلى الموت قبل أن تعيش ([xxxv]) .

     كما عقّب الملك كتابه هذا بكتاب آخر إلى المندوب السامي أشار فيه إلى ما توقعـه من الاتفاق الذي تمَّ بين الكمالييـن وفرنسا وما ينجم عن ذلك من ازدياد النفوذ التركي في العراق ، وقال الملك في رسالته أنه علم من مصدر موثوق أنّ ثمة شروطاً سرية تقضي بأن تقوم فرنسا بالتوسط لـدى الحكومة البريطانية لأجل إعـادة البلاد الآهلة بأكثرية كردية أو تركية الواقعة الآن ضمن حدود العـراق إلى تركيا وذلك لقاء بعض منافع قد منحتها تركيا إلى فرنسا ومنافع أخرى يراد منحها إلى بريطانيا مع بعض التسهيلات في أزمير وغيرها ، وبعبـارة أخرى أنّ فرنسا تؤيد إعادة ولاية الموصل إلى تركيا . وختم الملك كتابـه بقوله : أنه يعتقد بأن الحكومة البريطانية تتـرك العراق عرضةً للمطامع ولكن واجبه يقضي بأن يخبر الحكومة البريطانية أنه يرى السياسة البريطانية إزاء كردستان تزداد غموضاً ([xxxvi]) .

   وضع المقر العام للجيش العراقي تقريراً حول الاتفاق الفرنسي ـ الكمالي المشار إليه ومدى تأثيره عسـكرياً على أوضاع المنطقة الشمالية وذلك في 28 كانون الأول 1921 إلى وزير الدفاع جعفر العسكري . وقد قدمت نسخة من هذا التقرير إلى فيصل ثم إلى المندوب السامي مع الإشارة إلى أنّ فيصل متفق مع وزارة الدفاع على أهمية ملاحظاتها . ويؤمل بأن لا تتخذ الحكومة البريطانية خطة معينة بخصوص حدود العراق الشمالية ما لم تُعطَ الحكومة العراقية فرصة لإبداء رأيها في هذه المسألة الحيوية . ومما جاء في المذكرة أنّ الاتفاق الفرنسـي ـ الكمالي أحـدث حالة خاصـة على الحدود الشمالية والشمالية الغربية من العراق . بينما نرى أن هـذه الحالة ، بموجب بعض التقارير،ترمي إلى استتباب الأمن على الحدود الغربية نجدها من جهة أخرى تغل يد الحكومة العراقية عسكرياً وسياسياً من حيث اتخاذ ما تراه ضرورياً لتوطيد الأمـن في القسم الشمالي من البـلاد . وأشار التقريـر إلى أنّ الحد الحالي الذي يفصل بين العراق والمنطقة الفرنسية يمتد تقريباً من فيشخابور على دجلة فوق ( طاغ كارا شوك ) وجبل سنجار إلى القائـم عند الفرات . وأوضح التقرير بأنّ اسفيناً من البلاد الواقعة تحت النفـوذ الفرنسي يقع بين الحد الشمالي لهذه البلاد من نهر دجلة غرلاباً والحد التركي . وأنّ وجود هذا الاسـفين من الأرض وإن كان لا يعطي ضمانة تامـة ضد اعتداء الكماليين عليه واجتيـازه يكون على الأقـل ضماناً في مثـل هذا الحال بأن الحكومة الفرنسية تضغط على حكومة أنقرا في سبيل مسـاعدة هذه البلاد . وأضاف التقرير إلى قوله أنه يوجـد صورة أخرى للمسألة لا نراها مناسبة كثيراً أو مشجعة لأنّ وجود هـذا الاسفين الذي أشرنا إليه ، بينمـا أنه يمنع قوات الكماليين من الاعتـداء على هذه الجهات فإنه في الوقت ذاته يكون بمثابة سد منيع في سبيل ما تقدر هذه البلاد أن تقوم به من تهديد الخطوط الرئيسة لمواصلات الأتراك مع جزيرة ابن عمر ([xxxvii]) .

     استنتج المقر العام من تقريره المشـار إليه أعلاه أنّ الأتراك إذا حاولوا القيام بأعمـال حربية من جزيرة ابن عمر ضـد زاخو والموصل أمكنهم أن يحشدوا قواتهم ويحافظوا على خطوط مواصلاتهم بدون خوف.وأشار التقرير إلى خطورة الموقف خاصةً وإنّ في جبال كردستان لا يمكن اتخاذ خطة غير خطة الدفاع ، فإذا فشل الكماليون في هجومهم أو إذا هاجمهم العراقيون وكان الفوز لهم ينهزم الكماليون ويعودون إلى خطوط مواصلاتهم في بلاد يجدون فيها مواقع عديـدة تمكنهم من تأخير تقـدم العراقيين . أما في حالـة نجاح العراقيين في التقـدم نجاحاً تاماً فذلـك لا يمكنهم من الحصـول على نتائج عسكرية حاسمة . وفضلاً عن هذا فإنّ النصر على هذا الخط ليس له هدف سياسي جيّد يسـاعد على تحريـك الروح الوطنيـة في الصدور والتي هي الضمان الوحيد لسـلامة البلاد ، وجاء في التقريـر أنّ رئاسة أركان حرب العراق ترى أنّ الكرة الصحيحة على تقدم الكماليين إذا كان من شرق دجلة أو غربه تقـوم بتهديد مواصلاتهم على طول الخـط من رأس العيـن إلى الجزيرة . ويمكن غزو هذه الخطوط أو المدن المهمة في هذه الناحية بقوات غير نظاميـة من العشائر العربية التي تقطن على ضفـة دجلة الغربية يشد أزرها قسم من الخيالة النظامية. ولا شكّ في أنّ وجود مثل هذا التهديد يزعج الأتراك ويضطرهم إلى نقل خطوط مواصلاتهم إلى الشـمال أو سحب جزء من جيشهم لحماية جناحه المهدد ولكن وجـود مثل ذلك الاسفين يصونه من الوقوع في مثل هذا المأزق .

    لقد اختتم المقر العام تقريره بعض المقترحات ، وهي أنه يجب الاحتفاظ بحق القـوات العسكرية في مثل هذه البـلاد باجتياز هذا الاسفين إذا حاول الأتراك الاعتداء على حـدود العراق . كما اقترحت تغييـر أو تعديل الخط الفاصل بين العـراق والمنطقة الفرنسية بحيث يدخل جبـل سنجار بأجمعه ضمن حدود العراق ووضع نقطة عسكرية في جبل سـنجار لمراقبة ما يبثه الكماليون من الدسائس والفتن . وورد في المقترحات أيضاً أنه إذا بقي الحال على ما هو عليه أي بدون معرفة الحـدود بدقة فإنّ نقطة كهـذه إذا وضعت تجد نفسـها في موقف حـرج ، فضلاً عن كون وضعهـا قد يثيـر الظنون والشبهات في نفوس الفرنسيين في سـوريا ، وأنه من الأفضـل وضع جبل سنجار جميعه تحت إدارة واحدة ([xxxviii]) .

    أجاب سكرتير المندوب السامي على كتاب رسـتم حيدر سكرتير الملك فيصل المؤرخ في29 كانون الأول1921 المرفق بنسخة التقرير السابق الذي رفعه المقر العام بعد حوالي ثلاثـة أشهر من استلامه التقريـر . وقد أشار كتاب سكرتير المنـدوب السامي إلى أنّ التقرير قد نـوّه خاصة بأنّ البقعة السورية المعترضة بين حدود العراق على دجلة وحدود تركيـا على محاذاة سكة حديد بغـداد كما هو مبين في اتفاق أنقـرا تحمي خطوط المواصلات التركية من المهاجمـة إذا أراد الأتراك اقتحـام حدود العراق وأنّـه يجب الاحتفاظ بحق سـوق الجنود العراقيين وسط هذه البقعة إذا دعت الحاجة إلى ذلك . وقد أحال المندوب السامي المسألة على حكومته فأجابت أنه بموجب نصوص ميثاق عصبة الأمم ينبغي للواحد من أعضاء العصبة أن يسمح للآخرين بالمرور في أرضه بغية الدفاع عن مبادئ العصبة . هذا إذا كانت العصبة قد سئلت قبلً أن تسوي الخصام ورفض الخصم الذي هو غير عضو فيها أن يقبل ، أليفاً للعضوية مؤقتاً ، بقصد تسـوية النزاع وأقام حرباً على العضو . وفضلاً عن ذلك فإنّ الحكومة البريطانية واثقة بأن حكومة فرنسا لا يمكنها رفض السماح لقوات العراق البرية والجوية بالمرور وسط هذه البقعة السورية المعترضة لأجل مهاجمة الأتراك ، وبالأخـص لمهاجمة أية قوات تركية ستجعل هذه البقعة مسـلكاً لها . وتنطلق بريطانيـا في ذلك من مواد المعاهدة التي لا تزال نافذة المفعول بينها وبين فرنسـا ما دامت الدولتان في حالة حرب مع تركيا ([xxxix]) .

     أرسل سكرتير الملك فيصل مذكرة مؤرخة في 29 كانون الأول 1921 إلى سـكرتير المندوب السـامي أخبره فيها أنّ الملك فيصل سـمع بتأسيس جمعية تركية سرية في كركوك بقصـد إعلان الثورة عند تجـاوز الأتراك حدود العـراق الشمالية وأنّ بعض الضبـاط الأتراك يقومون سـرّاً بعملية استطلاع في نواحي أربيل وذلك بمساعدة عـدد من رؤساء العشائر الكردية في راوندوز حتى وصل بعضهم إلى الجبل المطل على مدينة اربيل نفسها . وأضاف سـكرتير الملك يقول أنّ الملك يعتقـد بوجود تشكيلات قويـة لبث الدعوة التركية تحت ستار الاسلام . وطلب من دائرة المندوب السامي أن توافيه بما لديها من الأخبار المتعلقة بهذا الصدد وأفادته عمّا إذا كان قد أتخذ من التدابير ما يوقف هذه ( المفاسد ) التي ربما يتأتى عن إهمالها نتائج غير محمودة ([xl]) .
     أجاب سكرتير المنـدوب السامي على كتاب سكرتير الملك الخاص في 29 كانون الأول 1921 بكتاب مؤرخ في 11 كانون الثاني 1922 أكّد فيه اهتمام المندوب السامي بموضوع الجمعية التركية في كركوك وهو يواصل المشورة مع وزارة الداخلية بهذا الشأن ([xli]) .

     عقّب سـكرتير المندوب السـامي على كتابـه أعلاه بكتاب آخـر في 28 كانون الثاني 1922 أشار فيه إلى مذكرة فيصل في 29 كانون الأول 1921حول التحركات الكمالية في نواحي أربيل قال فيه: أنّ المندوب السامي يرى أنّ أفضل طريق لوقف التسلسل التركي إلى جهات اربيـل وتفادي قيام أكثرية هناك موالية للكماليين هـو إصدار تشريع سكني في تلك الجهات من شأنه أن يحدّ التسلسل التركي . ولمّا كانت الظروف تتطلب اجراءاً عاجلاً فقد فضّل إصدار بـلاغ في هذا الخصوص . وقـد نصّت مسودة البلاغ المُنوى نشره بتوقيع السر ايلمر هولدن القائد العام للقوات البريطانية في العراق على جملة أمور أهمها :

(( 1 ـ  يسمى هذا البلاغ : بلاغ تقنين السكنى في أربيل
          لسنة 1921 .
   2 ـ  لا يدخل شخص ما إلى أربيل ولا يقيم فيها دون
          إجازة من مشاور اللواء إلاّ للذين لهم عقار
          والقاطنين فيها دائماً .
   3 ـ  مخالفة هذا البلاغ جريمة تنص عليها الفقرة (3)
          من المادة (1) من بلاغي المؤرخ في 30 آب
          1919 عن واجبات سكان أربيل المدنيين ...
          ويستوجب العقوبة بمقتضى حكم المحاكم ذوات
          الجدارة بالسجن أو بعقوبة أخف كما هو منصوص
          هناك .
    4 ـ  لا يسري هذا البلاغ على الأشخاص الداخلين أربيل
          من أفراد القوات البريطانية في العراق أو على
          موظفي الحكومة .
    5 ـ  يعمل بهذا البلاغ من تاريخ نشره )) ([xlii]) .

أجاب سـكرتير الملـك على كتاب سـكرتير المندوب السـامي وذلـك في 20 كانون الثاني 1922بأنّ الملك فيصل يرى أنّ البلاغ المشار إليه لا يؤدي إلى الفائدة المطلوبة ما لم يؤيد بجيـش بريطاني محض يحتل تلك الجبهات احتلالاً فعلياً ، وكل عمل من هـذا القبيل غير مدعم للقوة يبعث على الظن بقرب وقوع الخطر في الجهات الشمالية ويزيد ( المفسدين ) نشاطاُ ولا ينتج سوى اضطراب الرأي العام في اربيل وسائر العراق . هذا زيادةً على ما في البلاغ من مظاهر التشريع التي لم تخف     عليكم ما قد يكـون من ورائها من سـوء التأويل والتأثير . ومما جـاء في الكتاب أنّ الملك فيصـل يعتقد بأنّ السلطة المخولة لموظفي الحكومة ومشاور اللواء في أربيل كافية في الوقت الحاضر لاتخاذ التدابير اللازمة لإيقاف وإبعاد كل من يرون وجوده في البلاد مضراً بدون إحداث ما يدعو إلى تشويش الرأي العام . وختم سكرتير الملك كتابـه قائلاً : أنّ الملك فيصل يذكـر المندوب السـامي بأنه يتعـذر حسم ( المفاسد ) التركية داخل البـلاد يمثل هـذه الإجراءات المؤقتـة إذا لم تتم المعاهدة ويتضح للشعب مصيره ([xliii]) .

     لم تكن السلطات البريطانية في العراق ، على ما يبدو ، جادة في بداية الأمر في مقاومة النشـاط الكمالي ، ويتضح ذلك من مذكرة المندوب السامي إلى فيصل في 13 كانون الثاني 1922 والتي أشار فيها إلى التقارير الواردة من سوريا ومصر والمتضمنة بعض الإشارات إلى أنّ فيصل يشجع بصورة مباشرة أو غير مباشرة الحركات التي تقوم بها العشـائر القاطنة في الحدود العراقية أو بالقرب من تلك الحدود ضد مصالح الفرنسيين والكماليين وطلب من فيصل ضرورة تعزيز رده لصحة هذه الإشاعات أو عدمها بالتعبير عنه كتابـةً حتى يتسـنى للمندوب السـامي نقل بعض النصوص إلى من يعنيهم الأمر ([xliv]) .

     ردّ الملك فيصل على مذكرة السر برسي كوكـس في 17 كانون الثاني 1912 مركّزاً إجابته على نقطتين تتعلق الأولى بالكماليين والثانية بالفرنسيين والذي يهمنا من تلك المذكرة نقطتها الأولى . إذ أشار الملك أنه لا ينكر أبداً اجتهاده المستمر منذ سنة1915ضد الأتراك وأنه لا يزال يرغب قي مواصلة السعي وراء ذلك حتى يعقد الصلح مع تركيا ويقتنع بأنهم تخلوا عن مطامعهم ودس دسائسهم في العراق . وذكر المندوب السامي بتجاوزات الكماليين داخل حدود العراق وضرب لذلك مثلاً هجمتهم الأخيرة على أربيل ومقتل ضابطين بريطانيين وعدد من العرب أثناء تصديهم لتلك الهجمة وتسـاءل فيصل في ختام هذه النقطة قائلاً : وهل الأم بعد هذا على السعي ضـد الكماليين وصد اعتداءاتهم المتكررة ؟ ([xlv]) .











التحركات العسكرية التركية :

      البوادر الأولى وردود الفعل إزاءها :

           حاولت السلطات التركية إبعاد قوات الاحتلال الانكليزية عن الموصل عن طريق القوة بصورة مباشرة وأخرى غير مباشـرة منذ أوائل 1922 ، فقد بعث متصرف لواء الموصل في 30 كانون الثاني 1922 برقية سرية
( بالشفرة ) إلى وزارة الداخلية ذكر فيها أن قائممقـام زاخو اتصل وأخبره أنّ الأتراك أرسلو البكباشي نوري أفندي وبعض الضباط في قضاء الجزيرة إلى كند حديد على حدود زاخو وأنهم في سبيل إرسال مدفع واحد ورشاشتين للموقع المذكور ، وقد اعتبروا أقسام شرقي دجلة مع الجزيرة منطقة حرب . كما أشـارت البرقية إلى انتشار إشاعات متعـددة في هذا الخصوص وأنّ القائممقام لا يزال يترقب الأحداث يوماً فيوماً ([xlvi])
.

    عقّب متصرف الموصل بعد يوم واحد ببرقية أخرى إلى وزارة الداخلية مؤرخة في 11 شباط 1922 جاء فيها أن برقية وصلته من زاخو تشير إلى مجيء قـوة من الأتراك إلى " كنـد حديد " مؤلفـة من (100) مسلحاً بقيادة الرئيس محمد علي أفندي البغدادي ([xlvii]) .

    سارع الملك فيصل إلى إرسال مذكرة مفصلة حول التحركات العسكرية الكمالية إلى المندوب السامي بتاريخ 1 شباط 1922 مرفقة بنسخة من برقية متصرف الموصل المذكورة آنفاً لكي يطلع المندوب السامي . وقال الملك في مذكرته :
(( لقد توقعت حدوث هـذا منذ زمن طويـل وطالما لفت نظر فخامتكم إليه حتى أنه عند وصولي إلى العراق سألتكم الإسراع في تعيين موقف البلاد خشية من أن يأتي وقت نجد فيه أنفسنا أمام أمر واقع ونحن على غير استعداد . أما الآن وقد وصلنا إلى ما نرى من استعداد العدو ومن ظواهر ما يكنه من مقاصد الانقضاض علينا على غفلة منّا بينما نحن مستكينون تتجاذبنا أهواء السياسة العمومية، فلا أجد مندوحة من أنّ ألح على فخامكتم ونحن تجاه هذا الموقف الدقيق بوجوب إتمام المعاهدة في أسرع ما يمكن من الزمن وإلاّ فيخشى إذا تأخرنا من مفاجأة العدو وبذلك يصبح كل ما نعمله من الوجهتين السياسية والعسكرية غير مجدِ نفعاً ))  .

  وأردف الملك يقول : أنه يعتقد بـأنّ كل محاولـة للاتفاق مع الأتراك عن طريق المؤتمرات لا تؤمن الفائدة المطلوبة ما لم تعـرف تركيا بأن العراق ضدها . وأضاف الملك إلى ذلك قوله : إنّي مع الأتراك واحتمال طمع إحدى دول الحلفاء ([xlviii]) في ولاية الموصل لا يتعدى كون الباعث الحقيقي عليه هو كسر نفوذ بريطانيا في الشرق وأنهم سيتبعون هـذه السياسة حتى ينالوا تلك الغاية عقد الصلح أم لم يعقـد . هذا بالإضافة إلى اليد التي تعمل لهذه الغاية بكل شـّدة في فارس والتي يخشى من توسـعها في القريب العاجل . فإذا لم نحاربهم معاً بالسلاح الذي يحاربوننا فيه فستكون النتيجة وبالاً . وعبّر الملك عن اعتقاده بأنّ " زوال نفوذ بريطانيا من هذه البلاد هو زوالي وزوال أمتي " وختم مذكرته بالقول أنه لا يخاف التصدي من أي عدو كان ومن أي جهة كانت " . وأعلن عن استعداده للتعهـد أمام بريطانيا للقيام بما يكفي لصد كل هجـوم أو تجاوز على العراق بشـرط " أن تطلق لنا الحرية الكافية في أعمالنا وأن يعلم الشعب بأنه هو المسؤول رأساً عن خبر البلاد وأنّ الضحايا التي يقدم عليها إنما هي في سبيل حفظ كيانه وتعزيز وطنه " ([xlix]) .

    عرض السـر برسي كوكـس مسودة خريطة للحدود الشمالية والشمالية الغربية للعراق على الملك فيصل . وقد أعيدت الخريطة بعد أن أبدى الملك عليها ملحوظاته التي أوردها سـكرتيره الخاص رسـتم حيدر في كتابه إلى السر برسي كوكس في 10 شباط 1922 ، وكانت الملاحظات كما يلي :

أولاً :  الحدود الغربية التي يراها الملك فيصل ضرورية بعد استشارة وزير الدفاع هي أن تمتد من جزيرة ابن عمر إلى نصيبين ، ومن نصيبين جنوباً إلى الخابور ، تتبع مجرة الخابور إلى مصبه في الفرات على أن تبقى جزيرة ابن عمر ونصيبين داخل حدود العراق .

ثانياً :  يقتـرح الملك فيصل أنّه إذا كان هنـاك صعوبة في قبـول الحدود المذكورة في المادة  (1) أن تعطى العشـائر القاطنة في تلك الأنحاء باختيار الانضمام إلى أية دولة شاءت. ويرى الملك فيصل أنّ مجرى الخابور الأصلي هـو ـ بحكم الطبيعة ـ الحـد الفاصل بين العراق وسوريا والحاجز الذي بواسطته يمكن تحديد مناطق العشائر .

ثالثا :  إذا رفضت فرنسـا انضمام منطقـة P . C . B . A ([l]) المبينة في الخريطة إلى العراق مع علمها بأنها عربية ولا غنى عنها للدفاع عن العراق الشمالي، فالملك فيصل يؤثر تركها للأتراك، لأنّ بذلك يتمكن العراق من مراقبة الأتراك مباشرةً ومنعهم من حشود الجنود على الحدود الشمالية وراء ستنار هذه المنطقة .
خارطة العراق من حدوده الشمالية ( P . C . B . A )






















رابعاً :  كيف كان مصير منطقة P . C . B . A فلابـد للعراق من حدود تمتد من نصيبين وتمضي مع نهر الخابور جنوباً حتى مصبه في العراق . وبصدد هذا قال سكرتير الملك بأنه أمر أن يذكر المندوب السامي بأنّ اتفاقية سايكس ، بيكو اشترطت أنه لا يجـوز التخلي عن قطعة من العراق أو سوريا إلاّ للعـرب ، فإذا أصرّت فرنسا على النخلي عن منطقة P . C . B . A إلى الأتراك دون العرب ، فيصعب عندئذٍ تفسير ذلك بما ينطبق على حسن القصد من قبلها نحو العراق ([li]) .

ج
     أثارت أنباء التحركات العسكرية التركيبة وزارة الدفاع العراقية، إذ سارع جعفر العسكري وزير الدفاع إلى تقديم تقرير سري إلى الملك فيصل بتاريخ 6 شباط 1922 . ومما جـاء في التقرير أنّ الأخبار الـواردة من الموصل تشير إلى أنّ الحركة التركيـة آخذة بالتوسع وأنّ الأتـراك جلبوا إلى جوار كردسـتان العراق بفرقة تركيـة وأنّ القـوات التركية تتحشـد في المواقع العسكرية في جـوار جزيرة ابن عمر وراونـدوز. وأشار إلى أنّ الأهالي أصيبوا " بعدم المبالاة " وذلك بسب التباس الموقف السياسي خاصةً فيما له علاقة بمصير الموصل . وقال أنّ التقارير الواردة من دوائر التجنيد أشارت إلى أنّ هناك تحريضاً من قبل بعض الأشخاص الذين يطلقون الإشاعات بأنّ الهـدف من زيادة الجيـش هو ضرب المسلمين بالمسلمين وذلك مما يجعل التجنيد متعسراً جداً على هذه الوزارة ضمن هـذه الظروف . وأضاف إلى ذلك يقول : ويخشى إذا استمرت هـذه الحالة ولم تردع الدعاوى التركية أن تفكك عرى الجيش على الرغم مما يبذل الآن من الهمة والعناية في سبيله . وجاء في التقرير أنّ وزارة الدفاع ترى أنه يجب لدفع المخاطر عن البلاد أن يطمئن الأهالي بتعيين مركز البلاد السـياسي بأسرع ما يمكن إذ بذلك تقمع الدعاية التركية ويرتـدع المشاغبون عن الفساد على أن تعطي هذه الوزارة الحرية الكافيـة والمعدات اللازمـة لتتمكن بها من تقويـة الجيش إلى الحد اللازم، وأن تتخذ الوسائل الناجحة لحل المسألة الكردية على طريقة ملائمة إذ بحلها يزول كثير من الصـعاب الملقاة على عاتق الجيش بحراسة الحدود وإقامة المعسكرات المقتضاة لذلك . وأضاف وزير الدفـاع يقول : إن تقسيم المسؤولية في مناطق البلاد بين القوات البريطانية والليفي والجيـش العراقي يمنع تأليف وحدة دفاعية وطنية ويحول دون إقنـاع الأهالي بوجوب الإقبال على الجندية بفكرة وطنية الدفـاع عن الوطن وما لم تنشـأ الفكرة الوطنية المحضة في الجيش لتكون كما ينبغي هي الأساس لأعماله، فلا يؤمل الانتفاع بـه ، خاصة وإنّ قوات الليفـي المقيمة في كردسـتان غير حائزة على ثقة المواطنين الأكراد الذين لا يعتبرونها قوة وطنية مدفوعة بالحماسـة الوطنية إلى الدفاع عن البلاد عند وقوع الخطر ([lii]) .

تحركات اوزدمير ومصيرها :

       قررت السلطات الكمالية مضاعفة تحركاتها العسكرية لاسـتعادة ولاية الموصل ، وذلك بعدما نجحت في تصفية مشاكلها مع اليونان ([liii]) . وقد وقع اختيارها في بادئ الأمر على ضابطين كرديين من الفرقة الثانية بجزيرة ابن عمر هما : علي كمال ، وصالح زكي بك ، لقيادة عملية التدخـل العسكري الفعلي . ويروي علي كمال في مذكراته ظروف هذا الاختيار بقولـه أنّ قائد الفرقة الثانية أمير اللواء عاكف بك الألباني اجتمع به قائلاً لهما :

(( لقد اخرتكما لتمزجا العقل والحكمة بالشحاعة وتذهبا إلى راوندوز فهناك ثورة في عربستان وكردستان . وفي راوندوز بالذات شخص يدعى نوري باويل([liv]) قائم بالثورة ضد الانكليز لطردهـم من المدينة وسيساعدكما هناك الضابطان ماجد
وعبد القادر عيشه لا للّذين يشتغلان في جهات كردستان وأريد منكما السفر إلى راوندوز لتحريك العشائر وإشغال جناح الجيش البريطاني أثناء تقدمنا نحو الموصل ... 
)) ([lv]) .


وطلب منهما إعداد قائمة بالوحدات والعتاد والأرزاق وهدايا لرؤساء العشائر الكردية ، كما حذرهما من إعطاء وعد لسكان المنطقة بالاسـتقلال أو الحكم الذاتي أو ما يجري مجراهما من الوعود السياسية . ويذكر علي كمال في مذكراته أنّ القائد التركي تخلى بعهد ذلك عن تكليفهما بهذه المهمة واختار ضباطاً أتراكاً بدلاً منهما ([lvi]) .

     أرسلت السلطات التركية فقي 17 آذار 1922 أحد وكلائها رمزي بك ومنحته لقب " قائممقام راوندوز " وعند وصوله في نهاية آيار بدأ في الحال حملة واسعة بين العشـائر مؤكداًَ لهم قرب وصول قـوات عسكرية تركية لانتزاع السـليمانية وكركوك وأربيـل من أيدي الانكليز ([lvii]) ، وذكر ادمونـدز ([lviii]) أنه قد تم ضبط عدد من الرسائل ، أثر وصول رمزي بك ، صادرة من القائد التركي لجبهة الجزيرة ([lix]) إلى وجهاء المنطقة ورؤساء العشائر يوضح فيها أنّ ولاية الموصل جزء من تركيا ولن تكون للعراق بأي حال من الأحوال ويدعوهم فيها إلى الجهاد . وقد ورد في الفقرة الأخيرة من إحدى الرسائل قوله :
(( يجب أن يعمل أخواننا في الدين على تحقيق الاتحاد الذي تنشده الحكومة العثمانية. فليتنفس المسلمون الصادقون هواء الحرية ثانيةً.أن نقص العتاد عندكم وغير ذلك من الضروريات الأخرى يلقى منّا الاهتمام وسنسد حاجاتكم من كل شيء عمّا قريب . إلا فلينصر الله أولئك الذين يجاهدون في سبيل الدين ويبذلون دماءهم رخيصة ولعنة الله على المشركين أولئك الذين باعوا دينهم للانكليز وعلى فيصل وأعوانه )) ([lx]) .

      وذكر ادموندز أنه علم من استخباراته في راوندوز بقدوم مجموعة من الضبـاط الأتراك مع مدافع جبلية وكمية كبيـرة من الذخيرة لتوزيعها على العشائر الكردية . وأضاف أنّ تحريضات التـرك للقيام بأعمال الفوضى قد أعطت ثمراتها قبل نهاية شهر آيار من تلك السنة ([lxi]) فكانت حركة الجباري والهماوند في نواحي جمجمال ([lxii]) .

   وصلت راوندوز في 23 حزيران 1922 قوة عسكرية تركية بقيادة ضابط برتبة عقيد يدعى علي شفيق باشا المعروف بـ " اوزدمير أي المنكب الحديد Iron Shouder " واوزدمير هـذا جركسي من مصر تعاون مع الكماليين منذ 1919 واشتهر بكونه مغامراً عسكرياً من الدرجة الأولى . وقد أعلـن بعد وصوله أنّ مهمته هي استعادة ولاية الموصل ([lxiii]). وكان ازدمير يحمل لقب
" رئيس التشكيلات والحركات الوطنية والملية العمومية "
([lxiv]) ، وكان وصول اوزدمير إلى راوند نذيراً بزيادة نشاط الأتراك زيادة كبيرة لا تقتصر على رانيه وحدها ، بل تتعداتها إلى كويسنجق والخوشناو في أربيل على حد تعبير أحـد المطلعين ل اودميرالحركات الوطنية والملية العمومية "صل19 واشتهر بكونه مغامرلااً عسكريتاً من الدرجة الأولى .لذخيرة لتوزيعها على ا([lxv]) . وقد تمكن اوزدميـر من استمالة قـوة كردية لا يستهان بها من أتبـاع نوري باويل الراونـدوزي وهو من أفراد عشيرة السورجي المستوطنة ([lxvi]) . وأخذ اوزدمير ينظم حملة عسكرية عشائرية وصلت بعض طلائعها بلـدة رانيه ([lxvii]) . وقد لخّص ادمونـدز ردود الفعل الأولى لتحركات اوزدميـر في برقيته المؤرخة في 2 تموز 1922 إلى كلٌ من الميجر كولد سمث الحاكم العسكري في السليمانية ([lxviii]).والمندوب السامي البريطاني بقوله : " قبل حوالي أسبوعين أرسل أغوات بشدر وفداً مؤلفاً من (4) أشخاص إلى راونـدوز للالحاح على الترك لمسـاعدتهم في حركاتهم المعادية " . وأضاف أنه في حدود 28 حزيران عاد ثلاثة من أعضاء الوفد وقد حمل كلاً منهم بندقية و (500) إطلاقة كهدية ومعهم رسالة مكتوبة على ورقة حكومية مصدرة بعنوان " قائد الشعب الاسلامي في فلسطين وسوريا " وموقعة بتوقيغ يحمل عنوان " قائد الشعب الاسلامي في العراق وكردستان " أبرز ما فيها :

(( إنّ مصطفى كمال وجودت ([lxix]) يعرفان جيداً خدمات أغوات بشدر . وقد انشغلا لحد الآن عن مساعدتهم بالحرب في الشرق والغرب . والآن وبعد أن أصبحت أيديهما حرّة فسيرسلان أحمد تقي مبعوث كردستان إلى وزنة ( في فارس قرب عمود الحدود المرقم 116 ) برفقة 50 جندياً لتقديم المساعدة الفعّالةت بشدر .لشعب الاسلامي في العراق وكردستان " أبرز ما فيها :
 إطلاقة كهدية ومنعهم رسالةوتهم المعاديبة " . )) ([lxx]) .

      ويعلق أدموندز على ذلك بقوله أنّ الأتراك اسـتطاعوا بدعايتهم تلك من تقوية صلتهم بالفريق المعادي من بشـدر وهو لا يحتـاج إلى تشجيع كبير ليخرجوا بالثـورة إلى حيز التنفيـذ وهذا ما يعطي إشـارة انطلاق لعناصر أخرى ما زالـت إلى الآن هادئة فتنظم إليها . وختم تقريره بأنّ قضاء رانيه سيبقى غير مستقر ما دام سيظل البشدريون هؤلاء بمنجى من العقاب ([lxxi]) .

   عقب ادموندز على ذلك ببرقية أخرى في 17 تموز 1922 قال فيها أنّ من الخطأ اعتبار الاضطرابات الحالية في رانيه حركة جانبية خاصة ، وأنّ مهمة اوزدمير هي تنظيم " انتفاضة وطنية " ذات طابع عشـائري . ويتوقف مدى نجاحه على الحزم الذي ستؤخذ به انتفاضته ، وتساءل قائلاً :

(( ... يسرني أن أعرف هل تنوي السلطات العليا اتخاذ كل الخطوات الضرورية لإحباط مهمة اوزدمير " ؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فإنّ غير طريقة تستخدم هي إضعاف روح العشائرية المعنوية باستعراض قوى كافية موقوت قبل أن ينتهي ترددها ... وتنظم إلى الترك ت بشدر .لشعب الاسلامي في العراق وكردستان " أبرز ما فيها :
 إطلاقة كهدية ومنعهم رسالةوتهم المعاديبة " . )) ([lxxii]) .

    أثارت التحركات العسكرية قلق الملك فيصل فأوعز إلى سكرتيره رستم حيدر بإرسال مذكرة إلى سكرتير المندوب السامي بتاريخ 11 تموز 1922 جاء فيها أن الأتراك وزّعوا منشورات على العشائر يدعونهم إلى الثورة ضد الحكومة العراقية وأنّ لهم في وان وسعرد وراوندوز قوات عسكرية متحفزة للاعتداء على العراق . وطلب موافاته عمّا يتوفر لدى دائرة المندوب السامي عن صحة الاشـاعات التي تتردد بتجمع قـوة تركية كبيـرة وراء المنطقة الفرنسية لمهاجمة العراق من الشمال ، وعن مقدارها ([lxxiii]) .

    أجاب سكرتير المندوب السامي في 17 تموز 1922 قائلاً أنّ المعلومات المتعلقة بالإشاعات عن التحركات العسكرية التركية في شـمال العراق هي من اختصاص وزارة الدفاع ، ومع هذا فلا يـرى بدّاً من أن يعرض الحالة الراهنة بما يلي : " نقل مصدر موثوق أنّ اوزدمير باشا بقوة تركية صغيرة من الضباط وصلت راوندوز في 22 حزيران 1922 . وقبل ذلك بستة أيام وصلت راونـدوز كمية كبيـرة من البنادق والمدافع والذخيرة ... وأنّ هذه الامـدادات كانت بمثابة إشـارة لبعث ( الدعايـة ) التركية بيـن العشائر
الكردية "
([lxxiv]) . وذكر سكرتير المندوب السامي أنّ الأتراك كتبوا رسائل تهديد إلى قادر بك خوشـناو وإلى ملا أفندي في أربيـل وأشخاص آخرين حذرتهم فيها بأن الامـدادات ستصل راونـدوز تباعاً وأن هدف الأتراك هو استعادة ولاية الموصل ، وأنّ ذلك سيتم في هذا الصيف أي صيف 1922 . وقال أنّ هذه الدعاية سببت خوفاً شديداً بين العشلائر . وأعاد إلى الأذهان ما كان الأتراك يروجونه طوال سنة 1921 ، وأضاف سكرتير المندوب السامي أنّ المعلومات الأولية تشير إلى وجود تحشدات تركية في( وان ) وأنّ الأعداد التقريبية لهـذه التحشدات تشير إلى وجـود ( 1000 ـ 2000 ) جندي . وأشارت الأنباء إلى أنّ هذه القوة قد تستخدم لاستعادة ولاية الموصل . ومهما يكن من أمر فإنّ وجود هذه القوات يشمل قوة دافعة للدعاية التركية في رانيه وأربيل . لذلك فقد كانت راوندوز عرضةً لقصف جوي كثيف من قبل (20) طائرة في 10 تموز و  (10) طائرات في 21 منه وأنّ نتائج هذه العمليات لم تصل لحد الآن . ونفى المندوب السامي ، عن طريق سكرتيره ، أن تكون هناك تحشدات تركية وراء المنطقة الفرنسية ([lxxv]) .

      حاول اوزدمير في أواسط آب 1922 إثارة العشائر الكردية في منطقة رانيه وتحريضهـم على الثورة ، فمنـذ 16 آب وزّعت رسـائل عديدة من اوزدمير على معظم رؤساء منطقة فلودشت يدعوهـم فيها إلى الانضمام إلى حركته التحررية  ([lxxvi]) . وفي أعقاب ذلك دخل اوزدمير مع قـوة عسكرية تركية الجهة الشمالية من قضاء رانيه وبـدأ دعوة العصيان بين العشائر في هذه المنطقة فصادف نجاحاً كبيراً . وقد عرض سكرتير المندوب السامي في كتابه السري إلى رئيس الوزراء العراقي في 6 تشرين الأول 1922 وصفاً مسهباً لهذه الأحداث بقوله :

(( ... انتشرت القلاقل بين العشائر وامتدت إلى عشيرة بشدر الذين أصبحوا يهددون رانيه بحركاتهم المقلقة . وبناءً على ذلك فقد أرسلت إلى دربند ورانيه مفرزة صغيرة تضم نفراً من ( الدرك ) الأكراد والآثوريين وعدد من الجنود بقصد إصلاح الحالة . ومع هذا كله فقد ازداد تجمع العشائر المعادية بسرعة عظيمة وأصبحت الحالة حرجة لدرجة أخطر مما كان ينتظر ت بشدر .لشعب الاسلامي في العراق وكردستان " أبرز ما فيها :
 إطلاقة كهدية ومنعهم رسالةوتهم المعاديبة " . )) ([lxxvii]) .

وقد ألحقت القوات التركية بمساعدة عشائر بشدر ورانيه بقيادة عباس محمود أغا البشدري وغفور ناودشت وكريم بك فتاح بـك الهماوندي خسائر فادحة بالقوات التي أرسلتها السلطات البريطانيـة في 23 آب 1922 وذلك بالقرب من دربند بشدر ([lxxviii]) . وذكر سكرتير المندوب السامي في تقريره المشار إليه أنّ المندوب السـامي اضطر إلى الموافقـة على سحب القوة المذكورة وذلك لسببين :
أولاً : أنه تلقـى أوامراً شـديدة من وزير المستعمرات لتجنـب القيام بأية اشتباكات خطيرة في كردستان .

ثانياً : أنه كان يشعر بأنّ القوة التي أرسلت إلى رانيه ودربند بشدر لم تكن كافية لتكافح المقاومة لها .

    وعليه انسحبت القوة إلى كويسنجق ومن هناك إلى كركوك واربيل ([lxxix]) . وقام اوزدمير ، بعد احتلال رانيه ، بإرسال قـوة صغيرة لاحتلال كويسنجق وأرسل قوة أخرى بقيادة عباس محمود أغا البشدري لتهديد السليمانية مما اضطر الانكليز إلى الانسحاب منها في 5 أيلول كما سنرى .

    استهدفت السلطات الكمالية من زيادة نشاطاتها العسكرية والدعائية آنذاك تحقيق بعض الانتصـارات قبل الشـروع بالمفاوضات حول مستقبل ولاية الموصل في مؤتمر لوزان الأول المقرر عقده في 20 تشرين الأول 1922 . كما أرادت السلطات البريطانية مثل هـذا تماماً . فقد أسـرعت بريطانيا في نشر المعاهـدة العراقية ـ البريطانية في 12 تشـرين الأول 1922 والتي عقدت في العاشر من ذلك الشـهر . ونشر معها بيـان لوزير المستعمرات المستر ونستن تشرشل أكّد فيه أنّ الحكومـة البريطانية سـتبذل كل طاقتها لتخطيط حدود العراق ([lxxx]) . وفي 20 تشرين الأول عرض رئيس الوزراء العراقي السـيد عبد الرحمن النقيـب تقريراً تمّت مناقشته في جلسة مجلس الوزراء المنعقدة في 2 تشرين الثاني 1922 ذكر فيـه أنّ المملكة العراقية خرجت بالتوقيع على المعاهـدة  من طور الاحتـلال إلى طور التحالف مع بريطانيا وبذلك أصبحت بريطانيا أكبر الأعوان لحليفتها المملكة العراقية على الدفاع عن حقوقها . وقال أنّ للعراق حدوداً معروفة منذ القديم وتعتبر الجهة الشمالية أي منتهى حـدود ولاية الموصل سـابقاً من أهم جهـات العراق . وأعلن أنّ الشـعب العراقي وحكومته متمسكان أشـد التمسك بحدود العراق الأصلية. وطلب من الوزراء دراسة الوسائل التي تفهم العالم الغربي وخاصةً دول الحلفـاء وعصبة الأمـم بأنّ العراق مملكـة عربية مستقلة مؤلفة من الولايات الثلاث : الموصل وبغـداد والبصرة بحدودها الأصلية قبل الحرب العالمية الأولى ([lxxxi]) .

     أرسل الملك فيصل في 30 تشرين الأول 1922 رسـالة إلى المندوب السامي أشار فيها إلى الأطماع التركية وأعـرب عن مخاوفه بشأن مستقبل الموصل وقال : إنّ منطقة الموصل عربية خالصة والأراضي التي تجاورها من الشمال والشرق كردية لا تركية ، وإذا كانت بعض العناصر القاطنة في لواء كركوك تركية فإنّ البـلاد الواقعة غربي الموصل فشـمالاً إلى ماردين وعلى طول الخط الحديدي إلى حلب ( كل هـذه البلاد تابعة للنفوذ التركي ) تقطنها عناصر عربية . وأعرب عن عـدم اعتقاده في أن تفسح دول الحلفاء للكماليين المجال في تحقيق مطامعهم باسـتنادهم إلى الشعور القومي وتحرم العرب منه في حين أنّ استيلاءهم على الموصل والجهات الشمالية من العراق إلى جبال حمـرين ـ كما يدعون ـ مسألة حيـاة أو موت لسلامة العراق وحفظ كيانه السـياسي ، وأضاف أنّ التنـازل عن الموصل مخالف لجميع العهود الدولية التي أبرمت حتى الآن ، ومنها وعود بريطانيـا لوالده التي تنـص على أن تكون الموصل ضمن حـدود المملكة العربية ، واتفاق سايكس ـ بيكو الذي يتضمن عدم التنـازل عن أرض ما في العراق أو في سوريا إلاّ إلى دولة عربية . وختم الملك رسالته بالقول أنّ أطماع الكماليين إذا تحققت فإنّ العراق سيكون تحت رحمتهم اقتصادياً وعسكرياً ، وهو على ثقة بأنّ الحكومة البريطانية لاتدّخر وسـعاً في الدفاع عن مصالح بلاده التي أصبحت مصالحها ([lxxxii]) .

     افتتح مؤتمر لوزان الأول بصورة رسمية في 20 تشرين الثاني 1922 ولم تدع الحكومة العراقية لحضـوره ، على الرغم من هذا فقد أرسلت إلى لوزان جعفراً العسكري وزير الدفاع وتوفيقاً السويدي أحد موظفي وزارة العدل لموافاتهما بأخبار مشكلة الموصل ([lxxxiii]) . وقد كتب جعفر العسكري من لوزان تقريـراً إلى الملك فيصل في 19 كانـون الأول 1922 ذكر فيه أنه اجتمع باللورد كرزن وزير الخارجية البريطانية ورئيس الوفد البريطاني إلى مؤتمر لوزان في 25 تشرين الثاني. وقد سأله كرزن عن التفاصيل المقتضية لحدود العراق والعناصر المختلفة القاطنة في ولايـة الموصل وآراء الأكراد في لواء السليمانية . وقال العسكري : أنه شـرح لكرزن كل ذلك بالتفصيل كما هو في المذكرة التي أعطاها كرزن لرئيـس الوفد التركي عصمت باشا في 14 كانون الأول والتي عرض فيها أسباب وجوب احتفاظ العراق بولاية الموصل . وقال العسكري : أنه أخبر كرزن أنّ ترك بعض الأقسام في شمال العراق قد يؤدي إلى تدخـل الأتراك في أمور العـراق وتماديهم في أعمال دسائس مما يفسح المجال للفوضى في البلاد، ويجعل موقف الحكومة العراقية حرج للغاية فترك الموصل يسـتلزم ترك بغداد وترك بغـداد يستلزم ترك البصرة وإذا وصلت الحالـة لهذه الدرجة فعلى بريطانيـا أن ترصد سلامة الخليج . وقال أنّ كرزن أجابه على ذلك بأنّ الاحتفاظ بحدود العراق الطبيعية والقومية هو غاية ما تتمسك به بريطانيا . غير أنّ الأتراك يدعون بأن القسم الشمالي من ولاية الموصل مأهول بالأكراد والأتراك وهم يطلبون الاستفتاء في تلك الأنحـاء . فالأولى ـ كما قال كرزن ـ أن نتسـاهل معهم بالأقسام المأهولة بأكثرية كردية وأن نسعى إلى الاحتفاظ بالأراضي المأهولة بالأغلبية العربية . وأضاف كرزن أنّ إصرار الترك على إرجاع ولاية الموصل مبنيٌّ على عدة أسباب تاريخية واقتصادية وستراتيجية ، إضافةً إلى الميثاق الوطني التركي . وردّ جعفر العسكري على ذلك بقوله : " إذا تركنا المنطقة الكردية يصعب علينا إدارة المناطق الشمالية من العراق لأسباب عسكرية واقتصادية، وأما ترك ولاية الموصل فيؤدي إلى خراب الحكومة العراقية من أساسها " . وذكر العسكري في تقريـره أنه اجتمع صدفةً مع بعض ممثلي الوفد التركي وأفهمهم أنّ العراقيين لا يتخلون عن ولايـة الموصل ولا يمنعهم أن يوافقوا على أي اقتراح يمس سيادتهم الوطنية . وأضـاف أنّ الذي علمه منهم أنهم يريدون إرجاع الموصل ليحصلوا على نفطها وخيراتها ([lxxxiv]) . وقد روى توفيق السويدي أنّ جعفراً العسكري طلب مقابلة عصمت باشا بصفته رئيس الوفد التركي ووزيراً للخارجية التركية وقابله وبقى معه مدة ساعة بذل فيها معه ما يقنعه بأنّ تشـدد تركيا مع الأنكليز حول مسـألة الموصل والحدود ستحمل العراق على بقائه في أحضان الانكليز وتحت رحمتهم ([lxxxv]) .

      حقّاً كانت بريطانيا مصممة على إبقـاء ولاية الموصل داخـل العراق بالطرق العسكرية والدبلوماسية منذ عقدها المعاهدة مع العراق في10 تشرين الأول 1922. وهذا ما يلحظ من قيامها بعمليات عسكرية في جهات الموصل لطرد الجيوب الكمالية قبل وأثنـاء انعقاد مؤتمر لـوزان ، إذ بدأت حملاتها التطهيرية هناك منذ أوائل تشرين الأول 1922 واستمرت أثناء مؤتمر لوزان الأول 20 تشـرين الثاني 1922 ـ 4 شـباط 1923 ، وكذلك خلال انعقد مؤتمر لوزان الثاني في 23 نيسـان 1923 ـ 24 تموز 1923 ، فقد قامت القوات البريطانية في 14 تشرين الأول 1923 باحتلال كويسنجق وبعد ستة أشهر احتلت راوندوز في 22 نيسان 1923 .





·         الفصل السادس من رسالتي للماجستير غير المنشورة والموسومة :" ولاية الموصل :دراسة في تطوراتها السياسية 1908-1922 " والتي قدمت الى كلية الاداب –جامعة الموصل 1975 ابراهيم خليل العلاف 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 ...............أ.د إبراهيم خليل العلاف

                                                            الاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 أ....