الأحد، 16 سبتمبر 2012

عبد العزيز نوار .. واللقاء الأخير مقال ا.د.عاصم الدسوقي


عبد العزيز نوار .. واللقاء الأخير
أ.د. عاصم الدسوقي* أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر .. جامعة حلوان
 .. يكتب
في مساء الخميس الحادي عشر من إبريل من هذا العام (2002) تحدثت أمام سمنار التاريخ الحديث للدراسات العليا بكلية الآداب-جامعة عين شمس الذي أسسه أستاذنا الراحل أحمد عزت عبد الكريم عن "الموضوعية في قراءة التاريخ بين الممكن والمستحيل". وكان الدكتور نوار قد طلب مني الحديث حول هذا الموضوع نظرا للضبابية التي تحوطه، والخلط في معاني المصطلحات بين جمهرة الباحثين، وشبهة النقل عن الآخرين دون وعي. وبعد أن انتهيت من حديثي خرجنا لنستكمل الحديث في السيارة، فطلب مني أن أعد برنامجا عن هذا الموضوع ليكون محورا للمناقشة في السمنار طوال الفصل الدراسي الأول من العام الدراسي التالي (2002/2003) على أن يشترك فيه زملاء من تخصصات الاجتماع والقانون والعلوم السياسية والاقتصاد والاقتصاد السياسي، أي الدائرة الواسعة للعلوم الاجتماعية. وبعد أسبوعين من هذا اللقاء وافته المنية، وتلقيت نبأ رحيله، فتذكرت الحكمة القائلة: إن الموت يصطفي الكرام.
ولقد كان نوار إنسانا كريما فعلا، ومتسامحا حقا، ويغفر لمن يسيء إليه وما أكثرهم. وعندما كنت أذكره ببعض مواقف الآخرين منه كما كان يحكيها كان يذكرني بالحديث النبوي الشريف "إن خير الناس أعذرهم للناس".
وقد اتسعت دائرة تسامحه لتشمل من يختلفون معه فكريا وكنت أحد هؤلاء، وكان يقول إنه يختلف معي من الألف إلى الياء في تفسيري للتاريخ لأنني اعتمد الماركسية منهجا، لكنه كان يرى في الوقت نفسه أنني شخص يسهل التعاون معه من أجل الأهداف الكبرى. وفي هذا الخصوص ينبغي أن أذكر أنه كثيرا ما أشركني في مناقشة رسائل تحت إشرافه رغم علمه سلفا بهذا البون الفكري الشاسع، وهدفه كما كان يقول، أن يتعلم الطالب صاحب الرسالة شيئا مما أقوله، وكثيرا ما همس في أذني وأنا أناقش تلميذه قائلا إن الطالب لا يستطيع إدراك ما وراء كلماتي أو فحوى سؤالي. وعندما فكرت وزارة التربية والتعليم في العام 1989/1990 تغيير كتاب التاريخ لطلاب الثانوية العامة -وكان عضوا في اللجنة العليا للمناهج- اقترح أن يركز المقرر الجديد أساسا على جانب التطور الاقتصادي الاجتماعي أكثر من الوقوف عند المعالم السياسية الشهيرة من حيث تولي الحكام وسقوطهم وحروبهم ومعاركهم، وفوجئت بأنه يقترح اسمي لأكون أحد مؤلفي هذا الكتاب وكذا كتاب "تاريخ مصر الاقتصادي في العصر الحديث" للصف الأول الثانوي التجاري. وترك لي مهمة التبويب واقتراح العناصر الأساسية في كل فصولهما وصدر الكتابان وتقرر تدريسهما ابتداء من العام الدراسي1991/1992. وكانت فترة من العمل المشترك اقتربت فيها من طبيعة خلقه وتكوينه. ولم أقصد من هاتين الروايتين وعندي غيرهما كثير سوى أن أبين مدى مساحة التسامح عند الدكتور نوار وعدم خلطه للأوراق بين ما هو عام وما هو خاص.
لقد نشأ الدكتور نوار وتكون في مدرسة للتاريخ كانت وما تزال قائمة، وان انكمشت مساحتها وقل أنصارها، أن دراسة التاريخ عبارة عن إعادة تصوير الواقع كما حدث، وأن البحث في المصادر والمراجع يكون بهدف العثور على أجزاء صورة الموضوع. ومن ثم كان يعجبه قول رانكه المؤرخ الألماني في القرن التاسع عشر الذي كان يشبه التاريخ بصورة لشخص ما (بورتريه) ولكنها تمزقت وتبعثرت أجزاؤها هنا وهناك، والباحث الماهر هو الذي يتمكن من إعادة الصورة إلى طبيعتها الأصلية دون إضافات مع طرح بعض التساؤلات حول بعض الأسباب والنتائج.
ولم يتصل عبد العزيز نوار شأن الغالبية العظمى من قرنائه ومعاصريه بالجامعة بتيار الفكر الماركسي الذي كان قائما خارج أسوار الجامعة وله أنصاره بين طلبة الجامعة وأساتذتها، فنشأ كارها لهذا التيار وساعده تكوينه الديني وطبيعته الاجتماعية المحافظة على أن يكون معاديا له ورافضا بالتبعية تداعيات الماركسية في الفكر والفن والأدب. وعندما اقتحمت الماركسية سور الجامعة منذ مطلع ستينيات القرن العشرين مع قرارات تأميم وسائل الإنتاج الكبرى وإصدار ميثاق العمل الوطني (1962) باعتماد الاشتراكية منهجا وطريقا لصنع المستقبل، كان تكوين عبد العزيز نوار الفكري قد اكتمل إذ كان يعد أطروحته للدكتوراة (حصل عليها في مطلع 1964)، فوجد نفسه والحال كذلك في معسكر المحافظين دون أن يختار وعليه أن يواجه تيارا جديدا بين شباب الجامعيين لم يكن قد اكتمل بعد لكن أنصاره كانوا يحفرون بالظفر والناب الأمتار الأولى منه.

وهكذا عندما كنا نشترك في ندوات ويتصادف أن يتجه أحد المشاركين ناحية تفسير تاريخ مصر اجتماعيا بالبحث عن التكوينات الطبقية ما بين إقطاع ورأسمالية وبورجوازيه وبروليتاريه كان يقول "إن مصر غير قابلة للتصنيف الاجتماعي". وفي هذا يقول " إذا حاولنا تصنيف المجتمع المصري إلى طبقات أو إلى فئات أو طوائف اصطدمنا بمناهج عديدة متخصصة في هذه التصنيفات من زوايا إيديولوجية.. ومن وجهة نظري لا يجدر الأخذ بالمناهج الإيديولوجية في عملية التصنيف هذه نظرا لأنها مناهج إيديولوجية غربية أفرزها الفكر الاجتماعي الأوربي.. وحيث أن المجتمع المصري جزء من المجتمع الشرقي فلا يجدر من وجهة نظري أن نطبق المفاهيم والإيديولوجيات الأجنبية على المجتمع المصري لأن تطبيقها سيؤدي إلى نتائج تبدو من الناحية النظرية سليمة ولكنها لا تعطي نتائج حقيقية تمكن من القيام بعمليات تخطيطية لتنظيم المجتمع واقتصادياته وعلاقاته الاجتماعية (راجع كتابه "دراسة في تاريخ مصر الاجتماعي" 1985، ص ص 369-378 تحت عنوان رؤية في التركيب الاجتماعي).
وعلى هذا فإن التاريخ الاجتماعي عنده ينصرف إلى الجوانب الأخلاقية في المجتمع والاختلاف بين الأجيال في العادات والتقاليد الاجتماعية والقيم والتدين وطقوسه، في الريف والحضر والبادية، وعند الفلاح والعامل والمثقف. ولم يكن هذا التاريخ الاجتماعي عنده مفهوما مركبا يعنى بتأثير الوضع الاقتصادي على الناس في المجتمع وتحولهم إلى طبقات متناقضة المصالح دون اختيار. ومن شدة حيرته في هذه النقطة وطغيان مدرسة التصنيف الاجتماعي اضطر للاعتراف بقابلية مصر للتصنيف الاجتماعي ولكن ليس على أساس الطبقات بالمعنى الراديكالي الماركسي ولكن على أساس الشرائح والمجموعات الاجتماعية بالمعنى الوظيفي الرأسمالي أو على أكثر تقدير بين صفوة حاكمة وعامة محكومة.
ولقد وجد ضالته في التصور الذي انتهى إليه عن تاريخ مصر الاجتماعي، وكان سلاحه الأثير إذا اقتضى الأمر منازلة الآخرين في جبهة الفكر بغية الإقناع أو الاقتناع. ولم تكن هذه المنازلات أمرا هينا خاصة وأن الدفاع عن الفكر يحمل في ثناياه دفاعا عن الذات وعن الوجود، وليس هناك من يضحي بوجوده لصالح الآخرين !!.
والحال كذلك انصرف نوار إلى التاريخ السياسي الذي برع فيه وإلى أبطاله من الزعماء الذين هم اختيار إلهي ينبغي أن يكونوا محل تقدير الباحث والقارىء. وتأكدت نظرته المثالية للأمور يوما بعد يوم، وكان يشجع طلابه على اختيار موضوعات بحوثهم في ذلك المجال ويرتاح لذلك كثيرا، لكنه لم يكن يرفض تسجيل موضوعات التاريخ الاقتصادي-الاجتماعي على أساس أن الاختيار مسئولية الطالب. واهتم كثيرا بجمع الوثائق وخاصة وثائق تاريخ العرب الحديث باعتبارها أساس دراسة التاريخ.
وأشهد أن عبد العزيز نوار كان شريفا حتى في خصومته ولم يكن شريرا أبدا، كما لم يكن ممن يجيدون المناورة لتمرير المصالح في زمن أصبحت فيه المصلحة هي الحياة وليس المبدأ كما قال سبق أن قال بذلك احمد أمين في مقولته "الحياة مبادىء.. ابحث عن مبادئك تجد حياتك". وأحسب أن معظم الناس استبدلت بالمبدأ المصلحة لتصبح المقولة " الحياة مصالح.. ابحث عن مصلحتك تجد حياتك". واعتقد أن طبيعته الريفية كانت وراء هذه الخصال، تلك الطبيعة التي علمت الإنسان أن يخضع لها لا أن يتجاوزها أو أن "يفتري" عليها. ومن هنا كان مسالما تجاه خصومه، ولم يدخل في شجار معهم، تاركا الأمر للزمن الذي يغير الألوان، ويتغابى عما يفعلوه ويتناسى شأن الفلاح المصري عندما يواجه الصعاب.
وأتذكر هنا ما حدث من خصومة بينه وبين زملائه بسبب انفراده بإدارة سمنار الدراسات العليا للتاريخ الحديث بالكلية بعد رحيل مؤسسه احمد عزت عبد الكريم (1980)، وهي خصومة احتدمت في منتصف ثمانينات القرن الماضي إذ أراد منافسوه أن يتحول السمنار إلى مؤسسة لها مجلس إدارة لا يحتكر أحد إدارتها منفردا، فأبدى دهشة من هذا التوجه لأنه كان يعتبر نفسه أحق بخلافة أستاذه في إدارة السمنار، إذ كان أخلص تلاميذه، وأكثرهم ملازمة له وقربا منه، فضلا عن أنه كان عميد الكلية آنذاك. وأذكر أنني شهدت أكثر من جلسة خاصة لتصفية الخلاف واستمعت إلى حجج الطرفين وكان طوال الوقت يتساءل عن دوافع التغيير والاستبدال.. والسمنار هو هو لم يتغير من حيث طبيعة موسمه الثقافي التعليمي. والحق أنني حتى هذه اللحظة لم أدرك ما الذي كان وراء افتعال هذا الموقف للإطاحة بنوار إلا على مستوى المنافسة والمزاحمة والأثرة والأنانية. وكانت النتيجة تشقق مجموعة السمنار وانصراف معظم مؤسسيه الأول عنه وعمل كل منهم على تأسيس حلقة خاصة به.
لقد أعطى عبد العزيز نوار الكثير لدراسة التاريخ ولطلابه بقدر ما سمحت الظروف وكان يحمل في جعبته كثيرا من المشروعات، استطاع أن ينفذ بعضها ولم يتمكن من تنفيذ الباقي شأن الكثير من أساتذة الجامعة حين تشغلهم واجبات الدروس والإشراف والمطالب العامة عن مشروعات استكمال بحوثهم الخاصة في موضوع التاريخ..
*المصدر :شبكة المؤرخين العرب http://historiannetwork.blogspot.com/2012/09/blog-post_2431.html
                                                           

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فاروق عمر فوزي وكتابه : تجربتي في الكتابة التاريخية بقلم : الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف

  فاروق عمر فوزي وكتابه : تجربتي في الكتابة التاريخية الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل أجا...