الخميس، 12 مايو 2011

هل ثمة مدرسة تاريخية عراقية ؟

هل ثمة مدرسة تاريخية عراقية * ؟



أ‌. د.إبراهيم خليل العلاف**


أستاذ التاريخ الحديث –جامعة الموصل






وابتداء أقول نعم .. هناك مدرسة تاريخية عراقية تمثلت بنخبة طيبة من المؤرخين الذين ينتمون إلى أجيال ثلاث .كما أن هذه المدرسة تمتد بجذرها الفكرية إلى العصور الإسلامية الأولى عندما كان العراق موطنا لمدرسة الرأي المعتمدة على العقل .


وللمدرسة التاريخية العراقية خصائص أبرزها الجدية ، وصدق الاستنتاج، ودقة الملاحظة ،وسعة الاطلاع، والصراحة ،وعشق الحرية الفكرية، والإيمان بفكرتي العدالة والتقدم . وليس هذا بغريب عن العراق بلد كلكامش الذي رأى كل شيئ .. البلد الذي امتلك إرثا حضاريا عريقا امتد لآلاف من السنين، وظهر بشكل حضارات متعاقبة متعددة قدمت للبشرية الزراعة، والعجلة والعلوم ومنها الرياضيات والفلك واستمر هذا حتى في العصور اللاحقة لعصر كلكامش فأن العراق كان حلقة اتصال بالثقافات اليونانية والفارسية .


وكان العراق القديم مهتما بالتدوين فعلى أيدي العراقيين ظهرت (العصور التاريخية) تمييزا لها عن عصور ماقبل التاريخ .. حيث اخذ الإنسان في العصور التاريخية يدون ويوثق.. وعن هذا الطريق كان التواصل الحضاري الإنساني .وفي العصور الإسلامية امتلك العراقيون ناصية التاريخ والتدوين التاريخي وعرفوا التفسير الديني ،والتفسير الأخلاقي ، والتفسير الحضاري ،والتفسير الجغرافي، والتفسير المعتمد على نظرية البطل والنخبة .وقد تخصص في كل هذه التفسيرات مؤرخون عراقيون متميزون ليس هنا مجال التفصيل عنهم واعتقد أن أية مراجعة لما كتبه الدوري في كتاب تفسير التاريخ الذي ألفه مع نخبة من المؤرخين تثبت كلامنا هذا .


وفي العصور الحديثة ومنذ أن فرض العثمانيون سيطرتهم على العراق في النصف الأول من القرن السادس عشر نجد أن العراق شهد مئات من المؤرخين الذي كان لهم دورهم الفاعل في تنشيط حركة الدراسات التاريخية، ويمكن الرجوع إلى ماكتبه سليمان فائق من تواريخ للعراق ولبغداد ولحروب العراق شاهد حي على ذلك .


التاريخ موضوع حي لذلك لابد أن تختلف الآراء حول مفهومه، وأسلوب كتابته، وتفسيره وليس من شك في أن التاريخ كأزمنة وكأمكنة متفاعلة مع الإنسان يتصل بشكل أو بآخر بأمرين اثنين أولهما التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية .وثانيهما الاتجاهات الفكرية السائدة .


في التاريخ المعاصر اقصد في الحقبة المعاصرة والممتدة من الحرب العالمية الأولى وثورة 1920 في العراق ، رأينا أن التأريخ في العراق كتب بثلاث مستويات : المستوى الاستعماري، والمستوى الوطني، والمستوى الأكاديمي .كتب ارنولد ولسن "العراق بين ولاءين" وكتب هالدين "عصيان 1920 "وكتبت المس بل "عرض للإدارة المدنية في بلاد مابين النهرين" وكتب هاي وكتب سون وكل كتابات هؤلاء انطلقت من وجهة نظر استمارية متعالية مفادها أن العراقيين غير مؤهلين لتكوين دولتهم وليس ثمة شعب عراقي بل كتل وجماعات متنافرة .


عندئذ تصدى لهم الوطنيون وسرعان ماوجدوا أنفسهم داخل إطار الكتابة للتاريخ وظهر من أسميهم أنا" المؤرخون الهواة " ومنهم السيد عبد الرزاق الحسني والعمري والغلامي والصوفي والبازركان وغيرهم .واستمر هذا حتى بدأ المبعوثون من الشباب العراقيين المتخصصين بالتاريخ يعودون إلى وطنهم وتوزعوا على الكليات والمعاهد العالية ..كانت هناك سنة 1923 دار المعلمين العالية وفيها قسم للعلوم الاجتماعية وتأسست كلية الآداب والعلوم 1949 وظهرت جامعة بغداد وصدر قانونها سنة 1958 وبرز مؤرخون تحملوا عبْ كتابة تاريخهم وفق المنهج التاريخي المتداول وكان من ابرز هؤلاء الدكتور زكي صالح والدكتور عبد العزيز الدوري والدكتور صالح احمد العلي والدكتور جواد علي والدكتور ناجي معروف.


وجاءت ثورة 14 تموز 1958 وتصور الناس أن ما كتبه الحسني يكفي ولم يكن الحسني مثل الرافعي في مصر الذي أنكر على الثوار أن يعيدوا كتابة تاريخ مصر قائلا لهم : "إنني كتبته " ، لكن الحسني قال انه ولج درب التاريخ عندما لم يكن ثمة احد يكتبه وردد المثل الشعبي وسطره في كتابه تاريخ الوزارات العراقية "من قلة الخيل شدوا على الكلاب سروج " ووقف الحسني مشدوها أمام رسالة الماجستير التي أعدها الدكتور مظفر الادهمي سنة 1973 وأرسلت اليه كخبير ،وقال انه لم يكن يعرف أن هناك في بغداد مركز وطني للوثائق وبدأ منذ ذلك الوقت يرتاد المركز ويذهب إلى لندن للعمل في دائرة السجلات العامة public record office


وعندما كنت ادرس في قسم التاريخ بكلية الآداب –جامعة بغداد أوائل السبعينات من القرن الماضي وجدت أساتذة التاريخ مختلفون فهناك من يؤمن بالتفسير الديني (عبد الرحمن الحجي ) وهناك من يؤمن بالتفسير القومي (فاروق عمر فوزي ) وهناك من يؤمن بالتفسير الماركسي (حسين قاسم العزيز ) وهناك من يؤمن بالتفسير الليبرالي (فاضل حسين ) .ورأيت الشيء نفسه عندما عينت مدرسا مساعدا في قسم التاريخ بكلية الآداب –جامعة الموصل منتصف السبعينات من القرن الماضي .


واستطيع أن أقول أنني من الجيل الثاني في المدرسة التاريخية العراقية أنا ومجايليي الذين ولدوا بعد الحرب العالمية الثانية وتخصصوا بالتاريخ وبدأوا يؤتون الثمار في السبعينات .فالجيل الأول جيل زكي صالح وفاضل حسين وصدقي حمدي والعلي والدوري وجواد علي من مواليد مابعد الحرب العالمية الأولى .أما الجيل الثالث فهو جيل تلامذتنا من مواليد الثمانينات أو قل أواخر السبعينات ونحن نأمل في أن يتواصلوا مع المدرسة التاريخية العراقية الحديثة ويسهموا في تطويرها وتأصيلها .


أعود لأقول أن المدرسة التاريخية العراقية لم تقتصر على توثيق البعد السياسي من العملية التاريخية وإنما تعدت ذلك للاهتمام بالجوانب الاقتصادية وظهر لدينا مؤرخون أبدعوا في هذا الميدان ولعل في مقدمتهم الدوري والعلي وعندما سؤل احد النقاد عن ما قدمه العرب في القرن العشرين للبشرية أجاب بلا تردد كتابات الدوري والعلي في الجوانب الاقتصادية والتي أخذت مسارا عالميا إنسانيا .


اهتم ممثلوا المدرسة التاريخية العراقية بالتاريخ الاجتماعي ولدينا أمثلة على ذلك ،ولنذكر الدكتورة مليحة رحمة الله وبدري محمد فهد في دراساته وتوثيقه لدور العامة . ولعل مما يفرح أن التاريخ اقصد ميدان التاريخ في العراق ، اجتذب علماء اجتماع بارزون استفادوا من التاريخ في تفسير شخصية الفرد والمجتمع العراقيين ويقف الدكتور علي الوردي في مقدمة من نقصد . ويجري الاهتمام اليوم بالتاريخ الثقافي واضرب من نفسي مثلا فقد بدأت الاهتمام بالتاريخ الثقافي العراقي المعاصر وأصدرت كتابا في هذا الاتجاه كما سبق لي أن وجهت عددا من طلابي للاهتمام بتاريخ الصحافة العراقية .


واستطيع أن أقول أن الجيل الثاني من المدرسة التاريخية العراقية المعاصرة اهتم بقضايا لم يكن الجيل الأول يهتم بها ومثال ذلك أن جيلنا اهتم بالنفط وبالتعليم وبالبريد وبالصحة وبسكك الحديد وبالأراضي. وقد استغرب الجيل الأول من توجهنا وقال لنا عدد منهم وما علاقة التاريخ بالتعليم ؟ وقد كتبت أنا عن السياسة التعليمية في العراق خلال فترة الاحتلال والانتداب البريطانيين وكتب الدكتور عماد الجواهري عن الاراضي وكتب الدكتور نوري العاني عن النفط .وتمكنا بعد جهد ووقت ومعاناة من إقناعهم بقبول تسجيل رسائلنا .


لقد أسس المؤرخون العراقيون المعاصرون لروحية جديدة في التاريخ ، ولمنهجية تتميز بالجدية والحسم في التعاطي الأكاديمي وقدموا لنمط من الكتابة فيه الكثير من القواعد الأكاديمية المأخوذة من المدرسة الانكليزية وخاصة مدرستي كمبردج واكسفورد وكان لهم إسهامهم الفاعل في تحري الحقيقة ولاشيئ غير الحقيقة . ويقوم هذا الأسلوب المنهجي على الاهتمام بالتنصيص أي البحث عن النصوص وتحليلها ، وتثبيت المصادر الأصيلة وتقييمها وكتابة الحدث كتابة ليست سردية وإنما تحليلية .


وقد سمعت من أستاذي الدكتور زكي صالح عندما درسني في قسم الشرف قبل قرابة نصف قرن أن للتاريخ طبيعة ثلاثية فهو علم وأدب وفلسفة والمؤرخ لايدعي انه فيلسوف وقد رفض توينبي ان يسمى فيلسوفا لكنه أي المؤرخ يستفيد من الفلسفة ليحلل ويفسر ويعلل ويحتاج المؤرخ إلى الأدب لكي يقدم ما يكتبه بليغا واضحا مفهوما للناس والمؤرخ أولا وأخرا لابد أن ينتهج المنهج العلمي أي لابد أن يخطو خطوات البحث التاريخي ويصل إلى الحقيقة ابتداء من التفكير بالموضوع ،وتسجيله ،وجمع المصادر ،وتفكيك النصوص وانتهاء بالتركيب وإعادة تشكيل الحدث كما وقع بالضبط على حد تعبير المؤرخ الألماني رانكة .ولقد سعت المدرسة التاريخية العراقية المعاصرة لان تبحث عن أسس ومفاهيم ومصطلحات تتواءم ليس مع أصول البحث العلمي الغربي والذي له جذوره في قواعد مصطلح الحديث العربية ، وإنما مع أصول التاريخ العربي والإسلامي وحيثياته إلى درجة أن بعضا من رواد هذه المدرسة دعا إلى الالتزام بتحقيب التاريخ العربي والإسلامي كما فعلنا في موسوعة الموصل الحضارية حين قسمنا عصور التاريخ إلى مرحلة ماقبل الإسلام، ومرحلة ظهور الإسلام، ومرحلة الركود والانكسار، وأخيرا مرحلة النهضة الحديثة . ولحسن الحظ فأن من رواد المدرسة التاريخية العراقية واخص بالذكر الدكتور جعفر خصباك والدكتور عبد المنعم رشاد والدكتور محمد صالح القزاز قد اهتم بالفترة المظلمة أو الفترة المظلومة وهي الفترة المحصورة بين سقوط بغداد على يد المغول سنة 1256 ميلادية والسيطرة العثمانية في النصف الاول من القرن السادس عشر .وقد سعوا من اجل تشجيعنا على ولوج هذا اللون من الدراسات التاريخية . كما أن بعض رموز هذه المدرسة رفض منذ أواسط السبعينات الفكرة التي لاتسمح بتناول الحدث إلا بعد مرور 25 -30 سنة على وقوعه وأصبحوا يدرسون التاريخ المعاصر إيمانا منهم بمقولة المؤرخ البريطاني سيلي : "التاريخ سياسة ماضية والسياسة تاريخ حاضر " وكذلك بفكرة المؤرخ ادوار كار التاريخ كله تاريخ معاصر، وان التاريخ ليس إلا حوار متصل بين المؤرخ ووقائعه .


والمدرسة التاريخية العراقية - كما علمنا أساتذتنا من الجيل الأول تنظر إلى الوطن العربي نظرة شمولية أفقية فأهتمامها بالمشرق العربي كأهتمامها بالمغرب العربي وقد اختطت لنفسها خطا جديدا يتمثل في توجيه الدارسين في العراق نحو المغرب العربي والأندلس . ولدينا اليوم كتابات متميزة لمؤرخين عراقيين اهتموا بتاريخ المغرب والأندلس من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية ..لنتذكر عبد الرحمن الحجي وخليل السامرائي وعبد الواحد ذنون وناطق مطلوب ومزاحم علاوي وفي التاريخ الحديث محمد علي داهش وخيرية عبد الصاحب وادي .






ومع أن المدرسة التاريخية العراقية اهتمت بالتاريخ العربي ، وبحركات التحرر، والعالم الثالث، وبالقضية الفلسطينية إلا أنها لم تهمل التاريخ الأوربي الوسيط والحديث والمعاصر فضلا عن التاريخ الأميركي، وتاريخ الهند والصين وأفريقيا وجنوب شرقي آسيا .وللتذكير فقد كان التاريخ الأوربي في زماننا أي عندما كنا نخطو خطواتنا الأولى في التخصص بالتاريخ 0يحتل نسبة كبيرة من المنهج ..تصوروا عندما كنا في الكلية كنا ندرس تاريخ الدولة العثمانية ضمن مادة تسمى الشرق الأدنى الحديث ،وعندما أصبحنا أساتذة صرفنا همنا لدراسة " تاريخ الوطن العربي في العهد العثماني ".


والمدرسة التاريخية العراقية هي من أولى المدارس العربية التاريخية التي اهتمت بالخليج العربي الحديث والمعاصر . ولعل أول من وجه الطلبة لدراسة تاريخ الخليج العربي هو الدكتور زكي صالح عندما دفع الدكتور محمود علي الداؤود والدكتور عبد الأمير محمد أمين لاختيار "الخليج العربي" موضوعا لأطروحاتهم في خارج العراق .
   كما افسح ممثلو المدرسة التاريخية العراقية المعاصرة جانبا من اهتماماتهم للدولتين  المجاورتين للعراق اقليميا واقصد بهما ايران وتركيا ويمكن في هذا الصدد الاشارة الى كتابات الاستاذ الدكتور كمال مظهر احمد عن ايران وتوجيهه لطلبته بوجوب الولوج في هذا الميدان وكتابات الاستاذ الدكتور هاشم صالح التكريتي والاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف والاستاذ الدكتور خليل علي مراد  وقيادتهم من خلالهم مباشرة او من خلال مركز الدراسات التركية (الاقليمية  حاليا ) بجامعة الموصل ، عن تركيا المعاصرة .وقد ظهرت جراء ذلك حركة واسعة للاهتمام بتاريخي ايران وتركيا في العراق وساعدت ظروف الحرب العراقية -الايرانية 1980-1988 على ذلك .


والمؤرخ العراقي المعاصر - مع انه ملتزم بالمنهج التاريخي ومصر على تطبيقه بحذافيره - فأنه وطني، وقومي يحب محلته وبلده وأمته ويحب الإنسانية انه غير شوفيني يؤمن بأن البشر إخوة وان عليه أن يسجل الأحداث من غير أن تكون لديه أفكار مسبقة أو مايسمى prejudgment .وهو في هذا يغوص في الأحداث ليستخرج القاعدة أو النظرية أو الرأي لا أن يضع القاعدة ثم يأتي بالأحداث لدعمها .


اعتقد في ختام هذه الملاحظات أن الضرورة تقتضي ،تقصي منجزات المؤرخين العراقيين المعاصرين والسعي باتجاه التعريف بسيرهم وتوجهاتهم . واسمحوا لي أن أزف إليكم خبر صدور الجزء الأول من موسوعتي التي بدأتها الكترونيا من خلال مجلة "علوم إنسانية "التي تصدر في هولندا ،وانتهيت بها ورقيا واقصد "موسوعة المؤرخين العراقيين المعاصرين" وقد طبعت في دار ابن الاثير للطباعة في الموصل ، وهي متاحة على شبكة المعلومات (الانترنت ) ،وادعوا كل من يريد أن تسجل نشاطاته ضمن هذه الموسوعة في أجزاءها الأخرى أن يستجيب للطلب فيقدم الينا سيرته الذاتية والعلمية ورؤيته للتاريخ وأعماله ليتسنى إعدادها وضمها إلى الأجزاء التالية من الموسوعة .


*نص المحاضرة التي ألقيت في الموسم الثقافي لقسم التاريخ بكلية الآداب –جامعة الموصل يوم 9 مايس –أيار 2011 وعلى قاعة ابن الأثير بحضور نخبة من أساتذة التاريخ وعدد كبير من الطلبة .


**نشرت لأول مرة في موقع ميدل ايست اونلاين 11-5-2011 .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مدينة طرسوس ودورها في التاريخ العربي الإسلامي (172-354 هـ -788-965 م كتاب للدكتورة سناء عبد الله عزيز الطائي

  مدينة طرسوس ودورها في التاريخ العربي الإسلامي (172-354 هـ -788-965 م كتاب للدكتورة سناء عبد الله عزيز الطائي عرض ومراجعة : الدكتور زياد ع...