الأحد، 22 مايو 2011

ضياع في مندلي للدكتور كامل خورشيد

ضياع في مندلي
بقلم : الدكتور كامل خورشيد

استعرت عنوان هذا المقال " ضياع في مندلي " من رواية أدبية رائعة كتبها استاذي في اللغة العربية، السيد علي مهدي المندلاوي، أيام دراستي في متوسطة مندلي للبنين، ونشرها بكتاب مطبوع عام 1969، وربما استوحى المؤلف العنوان من رواية عالمية عنوانها " ضياع في سوهو " للروائي المعروف كولن ولسون !!







تتحدث رواية " ضياع في مندلي " عن تجربة معلم بغدادي، صدر أمر تعيينه معلما في مدارس " مندلي " في ستينيات القرن الماضي، في تلك القصبة النائية في اقصى الشرق العراقي المحاذية لأيران، فكان أن " وقع " هذا المعلم " الوافد أو " المغترب " كما كان أهل مندلي يسمون الغرباء " في " حب " إحدى الفتيات من البلدة المحافظة جدا، والتي يندر أن تسمع فيها قصص حب منشورة أو معلنة او تتداولها الألسن !!






و " مندلي " ، التي شهدت قصة " الضياع " تلك، مدينة عراقية تحاذي الحدود الايرانية من جهة شرق محافظة ديالى، تتوسط خط الحدود، مع ايران، البالغ أكثر من الف كيلومتر، وفيها تآخت القوميات والأعراق العربية والكردية والتركمانية والفارسية، وسكانها نصفهم شيعة والآخر سنة يعيشون منذ مئات السنين في وئام وسلام ومحبة دون أية حساسيات أو مشاكل اصطنعها الأعداء لاحقا، وكان فيها يهود ونصارى وملل ونحل كثيرة على صغر مساحتها وانزوائها في اقصى الشرق العراقي، وكانت تمثل بحق إنموذجا للمجتمع العراقي المتعدد الأعراق والطوائف !






ومندلي، المسماة بكتب التاريخ " بندنيجين " ، هي من أقدم مدن العراق تاريخيا، وتحت تربها مازالت أطلال وآثار تنتظر من ينقب عنها، فهذه المدينة العريقة كانت ذات يوم حاضرة من حواضر الدنيا، ويتداول سكانها قصصا وحكايات كثيرة عن أهميتها ودورها الحضاري سابقا !






و " مندلي " هي مسقط رأسي، فيها ولدت، وفيها تعلمت ودرست، ومنذ أن هاجرت منها، عام 1974 ، فإنها بقيت في مقلتي تناغم دموعي، وتسكن أضلاعي، تزاحم قلبي، ورغم بعد المسافات، وطول مدة الفراق، إلا أنني ما برحت أفكر فيها، أحلم كل ليلة بطرقاتها البسيطة، وأزقتها الضيقة، ومقاهيها العبقة، وبساتينها الوارفة، ورمانها الشهير، ونخيلها الباسق، وأجوائها المعتدلة صيفا وشتاءا، وناسها البسطاء الطيبين، وأغلبهم كانوا فلاحين واجراء وكسبة وفقراء ، وأسواقها العامرة بما لذ وطاب، وكيف انسى كباب الحاج عبد علي في أقصى السوق الشعبي، الذي كنا نستمتع به فطورا صباحيا مع الشاي المهيل الذي لن يتكرر !!






وفي رواية " ضياع في مندلي " سرد عاطفي جميل لقصة الحب تلك، رواها المؤلف بتلقائية وبساطة محببة للنفس، وكأنه كان يتحدث بأسم كل عاشق ولهان، و لايشك القارىء أبدا في كون الرواية هي جانب من حياة المؤلف نفسه، كما كنت، وما زلت، أظن، وإن بعض الظن إثم، وظني من البعض الآخر كما أرجو !!






لقد تداول سكان المدينة تلك الرواية العاطفية بشئ من الإهتمام، ربما تكريما لابن مدينتهم وهو يضع إسم المدينة عنوانا لرواية ستوزع في كل مكان، حتى أن الآفا من النسخ قد نفذت من المكتبة الوحيدة التي كانت تبيع الكتب والجرائد والمطبوعات، وهي مكتبة سامي.






وكان " سامي " يوزع الصحف عصر كل يوم في مندلي، يطوف شوارعها مستخدما دراجته الهوائية يوزع المطبوعات على المشتركين معه من معلمين وموظفين وطلبة وتجار ومواطنين، فقد كان " سامي " لوحده يؤدي دور مؤسسة مختصة بالنشر والتوزيع والإعلان، وهو معروف لدى شركات توزيع الصحف والمطبوعات في مركز محافظة ديالى، بعقوبة، حيث كانوا يرسلون اليه الصحف بالسيارات كل يوم، ويعتمد توقيت وصولها على حركة الباصات الخشبية التي كانت تنقل المسافرين بين مندلي والمحافظة .






والعجيب في أمر " سامي "، أنه كان كفيفا ، فاقد البصر بشكل كلي تقريبا ، و لكنه كان مثل طائر يختال فرحا وبهجة وهو يطير بدراجته الهوائية مسرعا بالطرقات غير المعبدة، والأزقة الضيقة، والكل مندهش من هذا الكائن الخرافي الذي حباه الله بصيرة الفؤاد وقوة الحواس الاخرى، فقد كان يميز الطريق، والألوان، والأصوات، يسلم على هذا، ويحيي ذاك، ولا تفارقه الإبتسامة المعهودة وكأنه يملك الدنيا وما فيها ، ويتخطى الطرقات بتلك الدراجة السوداء وكأنه بسباق حميم !!






وعندما سألته يوما إن كان يدرك ما يوزع من مطبوعات أو يعرف محتواها، أجاب ضاحكا بأنه يعد نفسه القارىء الأول في المدينة، والحقيقة أنه كان يستعين بأقاربه في القراءة، وكان معجبا برواية " ضياع في مندلي " وقال انه لو تسنى له كتابة سيرة حياته فسيختار عنوان " لا ضياع في مندلي " ليس ردا على الرواية بل مناظرة لها !!






ولا أدري هل حقق " سامي " تلك الأمنية أم لا، ولكن كل الذي أدريه إنه لم يسجل بحياته، وهو الكفيف الذي يقود الدراجة السوداء، حادثا واحدا - على الأقل - من تلك الحوادث التي يرتكبها المبصرون .. ويا مكثرهم !!










Baghdad_zaman@hotmail.com


















Dr.Kamel Khurshid,


Associate Professor ,


Faculty of Media ,


Middle East University ,Amman ,


E-Mail : baghdad_zaman@hotmail.com












ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مدينة طرسوس ودورها في التاريخ العربي الإسلامي (172-354 هـ -788-965 م كتاب للدكتورة سناء عبد الله عزيز الطائي

  مدينة طرسوس ودورها في التاريخ العربي الإسلامي (172-354 هـ -788-965 م كتاب للدكتورة سناء عبد الله عزيز الطائي عرض ومراجعة : الدكتور زياد ع...