السبت، 12 ديسمبر 2020

العراق في كتاب( سنوات الجامعة العربية ) للدكتور عمرو موسى *

العراق في كتاب( سنوات الجامعة العربية ) للدكتور عمرو موسى ( 1) *


 اعتباراً من اليوم تنشر  جريدة «المدى» ثلاث حلقات من الكتاب الجديد للسيد عمرو موسى، الذي أورده تحت عنوان (سنوات الجامعة العربية) الصادر عن "دار الشروق" بالقاهرة، وحرره ووثّقه الكاتب الصحفي خالد أبو بكر. وتعرض هذه الحلقات المتتابعة جهود موسى والجامعة العربية في القضية العراقية، التي خصص لها فصلان على مساحة63 صفحة، تناول الأول جهوده مع صدام حسين في محاولة إقناعه بعودة مفتشي الأمم المتحدة على أسلحة الدمار الشامل لتجنيب العراق ضربة أميركية كانت وشيكة، فيما خصص الفصل الثاني لأحداث "الغزو الأميركي للعراق، والعملية السياسية في بلاد الرافدين بعد 2003، وهو ما ستنشره "المدى كاملاً" اعتباراً من اليوم.

جاءت ليلة 19/ 20 أذار 2003، حيث تجرعت شخصياً نفس تلك المرارة التي تجرعتها بعد هزيمة سنة 1967، إذ بدأ غزو العراق لكن ماذا عساي أن أفعل أكثر مما فعلت لوقف تلك الحرب الجهنمية التي تُدخل بلداً عربياً رئيسياً إلى المجهول، في ظل تشرذم عربي، يكبح أي قدرة على الفعل؟!

مع بدء العملية العسكرية على العراق أطلق الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش على تلك الحرب شعار "الحرية من أجل العراق". وعلى ذات النهج قدمت الإدارة الأميركية بمختلف عناصرها قبل وأثناء وبعد سقوط النظام العراقي السابق في بغداد في 9 نيسان 2003 مجموعة من التبريرات لإقناع الرأي العام الأميركي والعالمي بشرعية الحرب، من ضمنها نشر الأفكار الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، وأن الهدف من احتلال العراق إنشاء عراق ديمقراطي بديلاً لصدام، وهو مجرد كلام، ينسفه اعتراف مستشارة الأمن القومي للرئيس الأميركي، كونداليزا رايس إذ قالت بالنص في مذكراتها السابق الإشارة إليها: 

"يجدر بى القول إننا لم نذهب إلى العراق لننشر الديمقراطية، ولم يدخل روزفلت الحرب ضد هتلر لتحويل ألمانيا إلى بلد ديمقراطي، مع أن هذا الهدف بات سياسة أميركا منذ إلحاق الهزيمة بالنازيين. لقد ذهبنا للحرب لأننا رأينا فيه تهديداً لأمننا القومى وأمن حلفائنا. أما إذا كنا قد أطحنا بصدام فذلك لأن الولايات المتحدة ملزمة بأن يكون لها رأي فيما قد يحدث بعد ذلك".

التداعيات الخطيرة التي أفرزتها الحرب

بعد الغزو الأميركي للعراق جرى تعيين الجنرال الأميركي "جي غارنر" بمثابة الحاكم العسكري لبلاد الرافدين، تحت مسمى إدارة "مكتب إعادة إعمار العراق" الذي تشكل قبل الغزو بثلاثة أسابيع واتخذ من الكويت مقراً له، بهدف إدارة العراق بعد الحرب. شغل غارنر منصبه اعتبارا من 9 نيسان إلى 12 أيار 2003، وكان مجهوده الرئيسي ينصب على استعادة عمل مرافق الدولة العراقية، التي تعرضت للسلب والنهب منذ دخول الأميركان، وقد فشل غارنر فشلاً ذريعاً. 

بعد غارنر وفي اليوم التالي لعزله، خلفه الدبلوماسي الأميركي، بول بريمر تحت مسمى "الحاكم المدني للعراق" الذي كان فشله أفدح، لجهله المطبق بأوضاع العراق السياسية والعشائرية والأثنية. كان رجلاً جاهلاً، اعتمد على مستشارين من طائفة معينة، وهذه الطائفة رغم أنها طائفة عربية محترمة، لكن كان ينتسب إليها بعض الرافضين للعروبة، ولديهم فهم طائفي ضيق للغاية، ومن هناء جاء قرار بريمر في 23 أيار 2003 - أي بعد تعيينه بأقل من أسبوعين - بحل القوات المسلحة العراقية، وكذلك الأجهزة الأمنية، ما جعل العراق بعد ذلك مفتوحاً على مصراعيه للتدخلات الخارجية، خصوصاً الإيرانية.

الحقيقة أن الغزو الأميركي للعراق أفرز تداعيات خطيرة لا تزال تتفاعل، وخلَّف وضعاً جديداً تطلَّب المتابعة المستمرة لتطوراته ومضاعفاته، وتحركاً متواصلاً من جانب الجامعة العربية في المجالات كافة، للمساعدة على تجاوز الأزمة التي خلفتها من مختلف جوانبها الإنسانية والسياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، والتعجيل باستعادة العراق لسيادته الوطنية والعمل على إنهاء الاحتلال الأجنبي، والأهم هو الحفاظ على الهوية العربية للعراق.

وتكثفت الاتصالات والمشاورات باسم الجامعة العربية على كافة المستويات العربية والإقليمية والدولية من ناحية، وعلى الساحة العراقية من ناحيةٍ أخرى من خلال الاتصالات واللقاءات التي أجريتها – إلى جانب عدد من الاتصالات العربية الثنائية - مع عددٍ من القوى السياسية والشخصيات والمنظمات السياسية والأهلية والمراجع الدينية العراقية للاستماع إلى آرائهم، حيث أعربوا عن تمسكهم بعروبة العراق، أو بانتمائهم للعراق الذي هو جزء من العالم العربي، وأكد الكثيرون في حديثهم على ضرورة قيام الجامعة بدور أساس في العراق إلى جانب الأمم المتحدة. مطالبين بضرورة قيام حكومة عراقية شرعية تُمثل الشعب العراقي بكل فئاته وأطيافه.

وفي هذا الإطار جاءت دعوتي إلى جميع العراقيين وكافة القوى السياسية فى العراق التي طرحتُها أمام الاجتماع الثالث والأربعين لمجلس الاتحاد البرلماني العربي الذي انعقد في بيروت بتاريخ الثالث من حزيران 2003 للتواصل مع الجامعة العربية وبالاجتماع في رحابها.

جاءت تلك الدعوة في وقتٍ بدأت فيه خلافات في الرأي بين القوى السياسية في العراق حول كيفية التحرك نحو تأسيس العراق الجديد، وقد قام الطرح العربي على أساس روح ميثاق الجامعة، وعلى مجموع فكر الأمة، والتي يؤلمها ما حدث في العراق، كما يستند إلى ما جاء في قرار مجلس الأمن رقم 1483 (2003) الذي طالب المنظمات الدولية والإقليمية الإسهام في تنفيذ القرار الذي ينص على ضرورة احترام سيادة العراق وسلامته الإقليمية. والواقع أنني كنت في غاية التحسب للجو السائد في العراق المتوجه إلى إبعاد العراق عن الإطار العربي، وهو ما شكّل أساس تحركاتي كلها وعلى رأسها دعوة العراق لشغل مقعده فى الجامعة العربية.

وفي 13 تموز 2003 تم الإعلان عن تشكيل "مجلس الحكم الانتقالي" في العراق تألَّف من 25 عضواً. وفى هذا الإطار أكد العديد من الدول العربية على أهمية أن يكون "مجلس الحكم الانتقالي" في العراق خطوة نحو استعادة السيادة العراقية وانتهاء الاحتلال، وبداية تحرك نحو تشكيل حكومة عراقية وطنية تُمثل مختلف أطياف المجتمع العراقي وتكون قادرة على تحقيق تطلعات الشعب العراقي، وأنها تُتابع عن كَثَب نشاطات وتطورات عمل المجلس والصلاحيات التي سيتمتع بها.

احتضان الحالة العراقية عربياً

استقبلتُ في 24 آب 2003 بمقر الأمانة العامة وفداً من أعضاء مجلس الحكم الانتقالي العراقي برئاسة الدكتور إبراهيم الجعفري بناء على طلبهم، وشرحوا خلال هذه المقابلة ظروف تشكيل المجلس، وبأنه جاء تجسيداً لرؤية معظم القوى السياسية الفاعلة في العراق، وهو يُقارب الواقع العراقي بشكلٍ كبير، وملأ فراغاً سياسياً كان استمراره يُشكِّل خطراً جسيماً على وحدة العراق واستقراره. وأكدوا حرص المجلس على العمل من أجل استرجاع سيادة العراق وبناء نظامٍ جديد في البلاد تسوده الحرية والديمقراطية ضمن إطار فيدرالي يأخذ في الاعتبار متطلبات المواطنين الأكراد.

عبَّر الوفد عن تمسك المجلس بالثوابت القومية والالتزام بالقضايا العربية وعلى رأسها قضية فلسطين والنزاع العربي الإسرائيلي. وأوضح المجلس بأنه يتمتع بصلاحياتٍ واسعة مثل حق التحفظ على استقبال قوات عسكرية من دول الجوار وقبول قوات من دول أخرى إذا دعت الضرورة لذلك.

كما شرح الوفد خطة عمله التي كانت تهدف أساساً إلى التعجيل بإنهاء الاحتلال، وتُمثل المهام العاجلة للمجلس اختيار وزراء لشغل حقائب وزارية وصياغة دستور جديد للعراق، واختيار الدبلوماسيين العراقيين لشغل المراكز الدبلوماسية في سفارات العراق بالخارج وفى المنظمات الإقليمية والدولية.وأكد أن توفُّر الدعم العربي للمجلس سيقود إلى تثبيت مصداقيته وتوسيع اختصاصاته وتمكينه من تقصير فترة الاحتلال للعراق.

وفى النهاية طلب الوفد من الدول العربية تمكينه من شغل مقعد العراق في الجامعة العربية وإعادة فتح السفارات العراقية في العواصم العربية ومشاركة الدول العربية في مؤتمر الدول المانحة للعراق الذي تقرر عقده في أسبانيا في شهر تشرين الأول 2003 وفي تقديم المساعدات في مجال الخدمات الأساسية، والإقدام على المساهمة في إعادة الإعمار وتنشيط الاستثمار في العراق.

وقد أكدتُ للوفد موقف الجامعة من المجلس باعتباره خطوة تتطلب المزيد من الخطوات نحو تشكيل حكومة وطنية تُمثل مختلف أطياف الشعب العراقي وتكون قادرة بالفعل على تحقيق تطلعاته وفي مقدمتها إنهاء الاحتلال، كان حديثي معهم إيجابيا واستقبالي ودياً ومشجعاً. 

أطلعتُ وزراء الخارجية العرب على محتوى المقابلة في حينه، ودعوتُ إلى بحث الطلب العراقي بشغل مقعد العراق من منطلق الإبقاء على صلة العراق بالعالم العربي وفي مواجهة الحملات التي استهدفت عروبة العراق، وكان موقفي داعياً إلى احتضان العراق الجديد، وتم اتخاذ قرار في هذا الشأن في الدورة العادية لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية في 9 أيلول 2003، وبالتالي قدمت دعوة رسمية إلى رئاسة مجلس الحكم الانتقالي لملء مقعد العراق في الجامعة العربية ومنظماتها منذ هذا التاريخ.

وقد أصبح موضوع تطورات الوضع في العراق بنداً دائماً على جدول أعمال مجلس الجامعة على مستوى القمة وعلى المستوى الوزاري. وشكل موضوع إدارة الأزمة العراقية أولوية خاصة في نشاط الجامعة ومتابعة دقيقة على كافة المستويات والمحافل الإقليمية والدولية. 

وفي هذا الشأن أذكر أن سفراء دول الخليج حضروا جماعة إلا أثنين - لا أذكرهما الآن- لمقابلتى في أوائل آب 2003 وطلبوا دعوة مجلس الحكم الانتقالي لشغل مقعد العراق، وأن يتم ذلك فورياً دون الحاجة لانتظار انعقاد مجلس الوزراء وصدور قراره في هذا الشأن باعتباره أمراً أصبح في حكم المقرر. لم أوافقهم، وقلت إن أبواب الجامعة أصبحت مفتوحة أمام الوفود العراقية، وأن شغل المجلس الانتقالي لمقعد العراق هو أمر أراه ضرورياً حفاظاً على عروبة العراق؛ ولذلك لا خلاف فى هذا الأمر، ولكننى لن أدعوه للمشاركة إلا بعد صدور قرار مجلس الوزراء. هذا موقف سياسي تاريخى يجب أن نحسن إخراجه، وأن تكون عودة العراق منضبطة بروتوكولياً.. دارت مناقشة كان سفير عمان الأكثر حماساً ودفعاً إلى انهاء الموضوع في اليوم ذاته.

إلا أننى أبلغت الحضور بأن قراري ثابت ولن يتغير، ولكننى سوف أخرج الأمر بما يريح الجميع، سوف أدعو المجلس الانتقالي إلى أن يرسل وفده ويجلس في أحد صالونات الجامعة، ثم يدعى فور صدور القرار من المجلس الوزاري في الشهر القادم (أيلول) بدعوة المجلس رسمياً لشغل مقعد العراق، وأنني سوف أضع هذا الموضوع على رأس جدول الأعمال ليشارك فيه العراقيون في نقاش باقي الموضوعات بعد دعوتهم رسمياً واستقبالهم الرسمي لشغل المقعد العراقي في مراسم علنية... وهكذا كان.

في الأول من حزيران 2004 حل مجلس الحكم الانتقالي في العراق نفسه بعد الإعلان رسمياً عن اختيار رئيس الجمهورية ونائبيه وتشكيلة الحكومة العراقية الجديدة التي ستتولى مقاليد السلطة نهاية الشهر ذاته. مسدلاً الستار بذلك على حقبة انتقالية في ظل الاحتلال استمرت 13 شهراً. وعقد مبعوث الأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي للعراق مؤتمراً صحفياً في بغداد أعلن خلاله تعيين غازي عجيل الياور كأول رئيس لعراق ما بعد صدام حسين. 

وجاء تعيين الياور وهو سني من مدينة الموصل بعد أن اعتذر عدنان الباجه جي عن تولي المنصب. رحبت باختيار الياور رئيساً للعراق، ووصفته بأنه رجل ذو تاريخ إيجابي, وقلت إن اختياره يعكس رأي الأغلبية في مجلس الحكم العراقي. كما تم تعيين إبراهيم الجعفري وروش شاويس نائبين للرئيس. وأعلن رئيس الوزراء العراقي إياد علاوي بدوره التشكيلة الوزارية للحكومة العراقية الجديدة.

معركة الهوية العربية في الدستور العراقي

مع كل لحظة كانت تمر بعد الغزو الأميركي للعراق كنت أستشعر أن محاولات اختطاف هذا البلد العربي المهم وتدمير هويته تتحرك بتصميم وتخطيط. كما قدرت أن الخطة تشمل تسجيل ذلك بصيغة دستور جديد يطمس الهوية العربية للعراق، فقبل الانتهاء من مسودة هذا الدستور وعندما اتضح لى أن الصياغة تعتبر أن السكان العرب هم فقط جزء من الأمة العربية، أما باقي العراقيين فلا علاقة لهم بهذه الأمة. وعليه لا يمكن اعتبار العراق دولة عربية، تدخلت بقوة وعلناً واصفاً هذه الصيغة بأنها "وصفة للفوضى"، وأنه بهذا الشكل "دستور معيب".

حدث في صباح 29 آب 2005 أنني كنت أستمع لإذاعة BBC في طريقي من بيتي إلى مقر الأمانة العامة للجامعة العربية. وإذ بتقرير يتناول المساجلات الدائرة بشأن الدستور العراقي. وركز التقرير على مادة مرتبطة بهوية العراق جاء نصها كالتالي: "الشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية"، بحجة أن الشعب الكردي هو جزء من الأمة الكردية المقسمة في الشرق الأوسط، فإذا قلنا إن كل الشعب العراقي هو جزء من الأمة العربية، فنلغي بذلك وجود الشعب الكردي، كما كان يردد الرئيس العراقي جلال طالباني في تلك الأثناء.

على الفور طلبت إذاعة BBC تليفونياً. قلت للمسؤولين فيها: إن لدي تعقيباً على موضوع الدستور العراقي. فأدخلوني على الهواء مباشرة. صرحت بأن موضوع طمس الهوية العربية للعراق مسألة لا يمكن قبولها، وأن الجامعة العربية سوف تظل على اتصالاتها مع المسؤولين العراقيين لتعديل ذلك النص المعيب الذي لا يجعل العراق بكامله دولة عربية وجزء من العالم العربي.

وإلا فإن العرب سيقفون ضد هذا الدستور إذا استمرت هذه الصياغة المنحازة؛ لأنها تمثل استفزازاً خطيراً. وحذرت بأن بقاء مسودة الدستور على الصورة التي تم إقرارها سيدفع الجامعة إلى مناقشة أمر الدستور في قمة طارئة، وسوف أطلب هذا الانعقاد باعتبارى الأمين العام للجامعة.

في ذات اليوم اتصل بي هوشيار زيباري، وزير خارجية العراق وصديقي العزيز. سألني بنبرة هادئة: إيه اللي مزعلك يا سيادة الأمين العام في موضوع الدستور؟

قلت: اسمع يا هوشيار.. النص الخاص بهوية العراق في مشروع الدستور "موش مريحني" لا يمكن أن يمر بهذه الصيغة. أنتم تقولون الشعب العربي فقط في العراق جزء من الأمة العربية. وأنا هنا أسألك: هل أنت مندوب العراق في الجامعة العربية أم مندوب الشعب العربي في العراق وأنت كردي؟ 

قال: مندوب العراق كله.

قلت إذن لابد من تعديل هذه المادة.

قال الرجل وهو ما يزال يحتفظ بهدوئه ورغبته في التوصل لصيغة مرضية للجامعة العربية: طيب شوف يا سيادة الأمين العام الصياغة التي تراها مناسبة ونتناقش فيها مع بقية الأطراف في العراق.

قلت له: سأكتب نصاً وأتصل بك في وقت لاحق من اليوم.

بعد أن أنهيت اتصالي بهوشيار بوقت قصير اتصل بي برهم صالح (الرئيس برهم صالح رئيس الجمهورية العراقية حالياً)، وكان وقتها نائباً لرئيس الوزراء، وهو شخصية رصينة وصديق عزيز، وهو أيضا كردي من حزب جلال طلباني (الاتحاد الوطني الكردستاني)- أما زيباري فمن حزب مسعود برزاني (الحزب الديمقراطي الكردستاني)- قال لي سمعنا أنك غاضب من مشروع الدستور العراقي، ونحن حريصون على إرضائك وإرضاء الجامعة العربية.

قلت: شوف يا برهم.. لا يمكن قبول الصيغة التي تتحدث عن أن الشعب العربي في العراق هو فقط الذي يشكل جزءاً من الأمة العربية. هذا معناه قطع الصلة بين العراق باعتباره دولة عربية مهمة منذ إنشائه وبين عالمه العربي، ومعناه أيضا تقسيم العراق.. ودعني أسألك: أليس هوشيار زيباري هو وزير خارجية العراق ومندوبه في الجامعة العربية؟ بصرف النظر عن هويته الكردية؟ 

قال: لا توجد له صفة أخرى.. هو ممثل الدولة العراقية.

قلت: إذن يجب إعادة النظر فى تلك الصيغة السيئة.

قال برهم: وما هي الصيغة التي تقترحها؟ 

كنت بالفعل قد جهزت صياغة حرصت على أن تضمن بشكل قاطع التأكيد على الهوية العربية للعراق بكامله، وفي نفس الوقت لا تغضب بقية القوميات غير العربية؛ فاقترحت النص التالي: "العراق عضوٌ مؤسسٌ في جامعة الدول العربية وملتزمٌ بميثاقها وتنفيذ قرارتها"، ومن وجهة نظري معنى أن ينص الدستور على أن العراق عضواً مؤسساً في الجامعة العربية وملتزم بميثاقها وقراراتها أنه بلد عربي.

في تمام الرابعة من عصر ذات اليوم تلقيت اتصالاً هاتفياً من زلماي خليل زاد السفير الأميركي في العراق، وهو صديق من أيام عملي مندوباً دائماً لمصر في الأمم المتحدة (1990- 1991)، كان قد تم تعيينه سفيراً للولايات المتحدة في حزيران 2005 وهو مسلم سني من أصل أفغاني. قبل أن يتحدث قلت له: هل أنتم (الأميركان) من يقف وراء محاولة تغيير الهوية العربية للعراق في الدستور؟ 

قال: على الإطلاق.. لسنا طرفاً في هذا الأمر حتى ولو بالإيحاء من أطراف أخرى.

قلت: لقد دار بيني وبين هوشيار زيباري وبرهم صالح حديث طويل في هذا الأمر، واقترحت صيغة أتمسك بها بصفتي أميناً عاماً للجامعة العربية.

قال: أنا على علم بما دار بينكم، والصيغة التي اقترحتها أمامي. كل ما أطلبه منك هو أن تمنحنا فرصة لإنجاز الأمر دون تصعيد إعلامي، والأمور ستمضي إلى ما تريد.

قلت له: ماذا تقصد بالفرصة؟

قال: ساعتين أو ثلاث على الأكثر.

عدت إلى منزلي بعد الظهر، رحت أجوب في حديقة المنزل ذهاباً وإياباً عشرات المرّات في انتظار ما ستؤول إليه نتائج هذا اليوم العصيب الذي تتعرض فيه هوية بلد عربي مؤسس للجامعة العربية للذوبان. أكاد أجن كلما تصورت أن الدستور العراقي يمكن أن يصدر بصيغة تجعله بلداً غير عربي أو ناقص العروبة.

ثم دق التلفون بعد صلاة العصر. كان برهم صالح هو المتصل. قال لي: أولا أهنئك يا سيادة الأمين العام. لقد وافقنا على النص الذي اقترحته، وثانياً أرجو أن تتذكر أن الذي قام بجهد كبير لتمرير هذه الصيغة العربية وأبلغك بقرار تمريرها مسؤول كردي هو أنا.

وصدرت هذه المادة من الدستور العراقي الذي استفتي الشعب عليه بالنص التالي: "العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وهو عضو مؤسس وفعال في جامعة الدول العربية وملتزم بميثاقها وجزء من العالم الإسلامي"،لا مانع لدي من إضافة أن العراق "جزء من العالم الإسلامي" فكل الدولة العربية جزءاً من العالم الإسلامي.

كنت سعيداً بالنتيجة التي توصلت إليها في ذلك اليوم، فقد بقيت صفة العراق كما كان عربياً طبقاً لدستوره. بعد أن انتهى اتصال برهم صالح اتصل بي السفير الأميركي مجدداً، وقال وهو يضحك: مبسوط يا سيدي؟

قلت له: نعم مبسوط، ولكن "اوعوا تبوظوها!".

فضحك بشدة. وقال ما معناه: قُضي الأمر، لا تغيير لهذه الصيغة.

واستفتي على الدستور العراقي بالصيغة التي خضت معركة لتمريرها، ويمكن الرجوع في ذلك إلى برهم وهوشيار وزلماي، فجميعهم على قيد الحياة.

بعدها بدأنا نوثق صلة العراق بالجامعة العربية وبكل العواصم العربية، والحقيقة أن هوشيار زيباري كان من أكفأ الوزراء العرب في مناقشة كل الموضوعات بما فيها القضية الفلسطينية، ولم يعوق أبداً مناقشة، بل كان قوة تهدئة وقوة إيجابية وجعل للعراق مركزاً محترماً في الجامعة العربية. كان ملماً بالصعوبات التي نمر بها، وكان دائم المعاونة ليس فقط في الموضوع العراقي بل فى كل الموضوعات الأخرى.

وأود أن أسجل فى كتابي هذا شكري وتقديري العميقين للرئيس برهم صالح والوزير هوشيار زبيارى وطبعاً للرئيس طالباني (رحمه الله) والرئيس مسعود برزاني الذين لم يكونا بعيدين عن هذه الملحمة الدبلوماسية، وعن تسهيل التفاهم بشأن الصياغة الدستورية المتعلقة بهوية العراق، وكذلك للسفير زلماي خليل زادة لدوره في هذه المسألة.

بالاتفاق مع دار الشروق

*جريدة ( المدى ) البغدادية https://almadapaper.net/view.php?cat=232113

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق