الجمعة، 4 ديسمبر 2020

الدكتور عبد الرحمن بدوي ودوره في نشر الفلسفة الوجودية في الوطن العربي


 

الدكتور عبد الرحمن بدوي ودوره في نشر الفلسفة الوجودية في الوطن العربي  

ا.د. ابراهيم خليل العلاف

استاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل

مع ان الفلسفة الوجودية ظهرت في أوربا  في النصف الاول من القرن التاسع عشر على يدي (سورين كيركغارد ) ، الا انها لم تجد طريقا لها الى الفكر  الفلسفي العربي المعاصر  الا في بعد  انتهاء الحرب العالمية الثانية حينما ادخلها لأول مرة الدكتور عبد الرحمن بدوي عندما ناقش اطروحته للدكتوراه وكانت بعنوان ( الزمان الوجودي ) في جامعة القاهرة سنة 1945 . وقد كتب الاستاذ أمير اسكندر عن ذلك مقالة بعنوان ( عبد الرحمن بدوي والوجودية العربية ) نشرها في مجلة (الهلال ) المصرية السنة (27) العدد(40) اول نيسان – ابريل سنة 1969 وقال ان الدكتور طه حسين كان هو من ناقشه ، واطلق عليه خلال المناقشة لقب ( فيلسوف ) .

وكما هو معروف ؛ فان الفلسفة الوجودية ليست واحدة ؛ فهناك وجودية مؤمنة ، وهناك وجودية ملحدة .. والمؤرخون يرون انها اي الفلسفة الوجودية ليست الا مجموعة من العناصر والمقدمات الفكرية المشتركة بين عدد من الفلاسفة الوجوديين ، وهم يتفقون على هذه المقدمات والعناصر لكنهم يختلفون بعدها ويذهب كل واحد منهم في الطريق الذي يراه .

ويقول الاستاذ أمير اسكندر ان وجودية عبد الرحمن بدوي ليست كوجودية زكريا ابراهيم ، وصورة الفلسفة الوجودية عند الدكتور عبد الرحمن بدوي اوضح مما هي عند الدكتور زكريا ابراهيم ، ولعل مما ينبغي ذكره ان ( سورين كيركغارد)  نفسه كان لا يريد ان يسمى فيلسوفا وكان لا يحب ان توصم الوجودية بكلمة (مذهب) ؛ فهو يقول ان الوجودية ليست الا تمردا على المذهب ، وعلى الروح المذهبية والعقلية التي تمثلت عن اكبر فيلسوف بنى لنفسه مذهبا فكريا وهو (هيغل ) او (هيكل ) الا ان المؤرخين لم يلتفتوا الى ذلك ، وانما راحوا يردون الاصول الاولى للفلسفة الوجودية بمعناها الاصطلاحي في الفكر المعاصر عند هيدجر وياسبرز في المانيا أو عند سارتر وميرلوبونتي ومارسيل في فرنسا  او عند اورتيغا اي جاست  واونامونو في اسبانيا او عند هو كننغ في الولايات المتحدة الاميركية او الى منبعها الاصيل عند الفيلسوف الدانمركي سورين كيركغارد نفسه .

ونظل مع الاستاذ امير اسكندر ، وهو يرد اصول وجودية الدكتور عبد الرحمن بدوي الى روافد عربية تنحدر من اعماق التصوف الاسلامي ؛ فالوجود عند عبد الرحمن بدوي له وجهان اساسيان وهما : وجود الذات ووجود الموضوع ، والوجود الاول حقيقي واصيل ، والوجود الثاني زائف وخارجي ، والدكتور عبد الرحمن بدوي يرفض ان يرد وجود الذات الى وجود الموضوع ويقول ان وجود الذات لا يمكن ان يفهم مستقلا عن عالم الموضوعات ففي ذلك العالم الموضوعي تحقق الذات امكاناتها عن طريق العمل والدكتور عبد الرحمن بدوي يرفض الكوجيتو الديكارتي نسبة الى ديكارت (انا افكر اذا انا موجود) الذي حاول فيه ديكارت ان يثبت وجود الذات عن طريق الفكر لان الفكر لا يمكن ان يؤدي مطلقا الى الوجود وبالتالي انما يتم وفق هذا القول : (انا اريد اذا موجود ).

واذا كانت الارادة تقتضي الحرية ، فالشعور بالذات يقتضي الشعور بالحرية ، ومن ثم فان الذات والارادة والحرية هي معان متشابكة يقتضي بعضها بعضا ، ولكن الحرية تتضمن الاختيار وكل اختيار بين ممكنات فاذا ما اختارت الذات بين الممكنات انتقلت من حالة الحرية الى حالة الضرورة أي تحققها على هيئة وجود في العالم .

ويقول بدوي وهو يناقش اطروحته ان الوجود الحقيقي الاصيل للذات هو وجودها قبل ان تتحقق في الضرورة ؛ لان الصلة فيه تكون بين الذات ونفسها وهذه الذات فردية .وهنا قدم لنا الدكتور عبد الرحمن بدوي مفهوم ( الزمان ) على انه العامل الاصلي في انتقال الوجود الذاتي من حالة الامكان الى حالة الانية اي حالة الزمانية وليس معنى الزمانية هنا هو مجرد الوجود في الزمان الزمانية صفة تطبع الوجود كله وتشيع فيه كروحه الحقيقية وهي العامل الفاعل في تحديد معناه .

ان الدكتور عبد الرحمن بدوي يدرك ما قام به على صعيد الفكر العربي من ثورة فهو يقدم (الوجدان ) اداة جديدة للإدراك ومن خلال الوجدان ندرك الوجود ، والدكتور عبد الرحمن بدوي يستخدم كلمة المعاناة التي تشير الى التجربة الحية المباشرة التي تدل بشكل اساسي على استبطان مباشر من الذات لنفسها .. ويعتقد الدكتور عبد الرحمن بدوي انه بهذا حل المشكلة العسيرة التي يدور على رحاها الصراع الفكري في عالم الفلسفة على مر العصور وهي مشكلة العلاقة بين الذات والموضوع .

وتقدم الدكتور عبد الرحمن بدوي بعد ذلك ، وحدد عددا من المقولات ورأى انه  بواسطتها يدرك الوجدان حقيقة الوجود ويقصد به "ذلك النسيج الحي المتوتر الذي يتصف بشكل اساسي بأنه نسيج من المتقابلات " من الاضداد فكل موجود يتردد بين قطبين متنافرين يضمهما في داخل ذاته وهذا الاستقطاب يسميه الديالكتيك وهو يختلف عن ديالكتيك هيغل لأنه عند هيغل او هيكل منطق عقلي اما عند بدوي فالديالكتيك يحتفظ دائما بطابعه المتوتر اي بوجود  المتقابلين في حالة حركة دائما ولكن دون ان يبلغا مركب الموضوع " . ويرفض الدكتور بدوي المنطق التقليدي الذي يقوم على اسس اتفاق الفكر مع نفسه ، ويريد الاحتفاظ بهذا التوتر قائما والتوتر عنده هو الجمع بين السلب والايجاب واذا كان الايجاب هو (الوجود)  فالسلب معناه الوجودي (العدم ) .

في سنة 1953 نشر مقالا بعنوان (هل يمكن قيام اخلاق وجودية ؟ ) استعرض فيه كل النظريات الاخلاقية عند الفلاسفة الوجوديين ، ووصل الى نتيجة مفادها ان لا أخلاق وجودية ؛ لان الاخلاق تقويم والتقويم قياس الى معيار والمعيار اما موضوعي أو ذاتي وهو يرى ان التقويم الذاتي لامعنى له لأنه تقويم من الذات لنفسها ، ومعنى ذلك ان التقويم الذي يتيح قيام الاخلاق ينبغي ان يكون موضوعيا ، ولما كان الموضوع هو وجود زائف ، وغير حقيقي وغير اصيل لان وجوديته تقوم في اساسها على فكرة الذات المفردة المنعزلة ؛ فالوجودية اذن ينتفي معها التقويم الموضوعي وبالتالي لايمكن القول بالاخلاق ومن ثم رفض الدكتور عبد الرحمن بدوي  فكرة الالتزام لان الالتزام واجب يفرضه الغير على الذات المفردة ، ورفض فكرة الضمير لان الضمير هو الشعور الموضوعي الذي يقتحم حمى الذات ، ورفض فكرة الفضيلة لانها  ايضا تعني خضوع الذات لما يمليه الغير ، ورفض فكرة المسؤولية لانها تعني التخلص من عبء الاختيار لتلقيه على الغير .

في ايلول سنة 1939  والحرب العالمية الثانية قائمة ، دعا المصريين لان يقوموا بثورتهم الفكرية بعد ان قاموا بثورتهم السياسية في الحرب الماضية يقصد الحرب العالمية الاولى ، وقال انه لابد ان يقوموا بالثورة الروحية على ما الفوه من قيم وما اصطلح عليه حتى الان من اوضاع .

لذلك نجد انه ابتدأ مشروعه من خلال اصدار  سلسلة من الكتب  ضمن ما اسماه (خلاصة الفكر الاوربي) وكتب عن نيتشة ، وشوبنهاور ، واشبنغلر .كان الدكتور عبد الرحمن بدوي يتقن العديد من اللغات الاجنبية وقد قال مرة ان اهتمامه بالفلسفة الالمانية يعود لاعتقاده انها هي أُس الفكر الفلسفي الاوربي الحديث . وقد كتب عددا من المؤلفات باللغة الفرنسية بعنوان (دفاع عن القرآن ضد منتقديه ) وكتاب ( دفاع عن النبي محمد ضد المفترين عليه ) وهذان الكتابات وجدا لهما مجالا للانتشار بين المسلمين الناطقين بالفرنسية خصوصا . كما ترجم السيرة النبوية لابن اسحق برواية ابن هشام الى الفرنسية . واهتم الدكتور بدوي بابن مسكويه وحقق كتابه الفلسفي ( الحكمة الخالدة ) .وهو لايعد جون بول سارتر فيلسوفا بل يعده اديبا .قال الدكتور عبد الرحمن بدوي انه تأثر بالشيخ مصطفى بد الرازق وكان يقرأ للدكتور طه حسين وللاستاذ محمد حسين هيكل . ومن كتبه الشهيرة (مذاهب الاسلاميين ) وفيه عكس رؤيته التقدمية للتراث العربي الاسلامي وخاصة في مجال الحكمة والفلسفة .

بقي علي أن اقول ان الدكتور عبد الرحمن بدوي 1917- 2002 كان من ابرز الفلاسفة العرب الذين اهتموا بالوجودية ، وسعوا الى نشرها في مصر والوطن العربي من خلال اصداره اكثر من ( 150) كتابا مؤلفا ، ومترجما ، ومحققا  فضلا عن المقالات والدراسات واصداره مذكراته بجزئين . وكان لفرط تأثره بالفكر الوجودي او لنقل بالتوجه الوجودي يعد مفكرا وجوديا  شأنه شأن الآباء المؤسسين لهذا التوجه من الاوربيين  .

 لكن هذا  كله  يجب ان لايمنعنا من القول ان الإنسان العربي أشاح بوجهه عن وجودية بدوي ، وشخصانية حبشي ، ووضعية زكي نجيب المنطقية لأنه لم يجد فيها ما يساعده على فهم محركات واقعة. بدوي دعا إلى الانعزال والانغلاق عن ألذات ، ووقف ليعلن أن لا انسانية بل مجموعة حيوانات مفترسة لاتأثر ولاتقالد بل انقسام وعزلة، لاتقدم بل دورة مقفلة لاغاية إنسانية بل مصير يتحكم، ذلك هو التاريخ وهذا هو سياق الوجود الحي وتلك هي الدروس... ولم يسمعه احد. أما حبشي والشخصانيين فلم ينجحوا في إنقاذ الشخصية العربية من حالة الاغتراب، بل بالعكس زاد الاغتراب،  ووقع الإنسان في اسر الجسد ولم يتمكن الفكر العربي من الانفتاح على الآخر. وسقطت الوضعية المنطقية في الشكلية الكلاسيكية المدرسية التي اعتمدت المنطق الشكلي ولم تستند إلى المنطق الجدلي واهتمت باللعب بالألفاظ وقادت إلى مغالطات قياسية في القضايا وحجبت الحقيقة عن الإدراك. المهم أنها أدت إلى الوقوع في الميتافيزيقيا والماورائية بدل الوصول إلى فلسفة واقعية ولم تفسر جدلية الصراع الذي تخوضه الأمة العربية إلى جانب إغفال رواد هذه الفلسفة دور الدين في المجتمع العربي.

وهكذا ظل الفكر العربي  حائراً وعاد مرة أخرى يجرب، فكان أن تبنى البعض مناهج حديثة، فازدهرت (الابستيمولوجية) ردحاً من الزمن.. والفكر الابستيمولوجي ( المعرفي) فكر نقدي يقوم على نقد العلم ، ويساعد الباحث على انتهاج الروح النقدية، إذ قيل عنها أنها تيار عقلاني. وذهب الابستيمولوجيون الى نقد التراث ، وتقويمه ، وتحليله، ولكن هذه اللون من الدراسات لم يتفق مع التوجهات الفكرية المعاصرة. وهناك من روج لما سمي بـ (المدرحية) والمدرحية (مادية-روحية) عملية مزاوجة بين النزعة المادية والنزعة الروحية، ولعل ابرز من يمثل هذه التيار (أنطوان سعادة) مفكر لبناني و (شارل مالك) مفكر لبناني هو الآخر. وينهج المدرحيون  نهج (توما الاكويني) في محاولته التوفيق بين (أرسطو) والإنجيل. أما البنيوية فقد حاول لدكتور محمد عابد الجابري (مفكر مغربي الترويج لها من خلال مؤلفاته (بنية العقل العربي/ الخطاب العربي المعاصر/ نحن والتراث/ إشكاليات الفكر العربي المعاصر) وفي كل هذه المؤلفات يشير الجابري إلى المناهج القديمة التي درس بموجبها التراث. والبنيوية بنظري هي منهج أكثر من كونها فلسفة، هذا المنهج يمكنه الكشف بوضوح عن الجوانب الفيزيائية والفيزيولوجية والنفسية والاجتماعية للغة والبنية (مجموعة العناصر- يقوم كل منها بوظيفة خاصة به ويرتبط ببعضه على وفق نظام صارم إذا اختلت البنية.

 لذلك يجتهد أساتذة الفلسفة اليوم في العراق أو مصر أو في أقطار الوطن العربي الأخرى في توضيح حقيقة المشهد الفلسفي العربي المعاصر.. ويصرون على أن الأمة العربية بحاجة إلى  (العقلانية) .   والعقلانية التي يبحث عنها فلاسفة العرب المعاصرون هي موقف يتبنى التحكم بالعقل المؤمن بقيم إنسانية كبرى ، لكل ما ورثناه وما نملكه في الحاضر وما نهدف إليه في المستقبل. كما يقول الدكتور عبدالامير الاعسم  (مفكر عراقي) ويعني هذا نحن بحاجة إلى تنشيط لعقل في مسيرة العلم وتقدم التقنية وصياغة التنمية وفق ما نراه. وقد رسم الدكتور عبد الستار الراوي (مفكر عراقي) خارطة الفكر الفلسفي المعاصر ووقف عند الرؤى العقلانية ووجدها (عقلانية دينية) عند عرفان عبد الحميد و (عقلانية نقدية) عند علي حسين الجابري و (عقلانية تكاملية) عند حسام الدين الالوسي و (عقلانية علمية) عند  عبدالامير الاعسم  وياسين خليل. ويقف (مدني صالح) (مفكر عراقي) الوحيد من بين الفلاسفة العراقيين بل والعرب الذي أنتج فلسفة- كما يشير الدكتور الراوي-  إن مدني صالح سجل عبر كتابه (الوجود) ريادته الفلسفية الأولى في واحد من ارصن وأعمق الإصدارات الفلسفية العربية المعاصرة. وقد حاول مدني أن يكتشف السؤال الكبير لعصره، العقل الذي ينشغل بهموم الإنسان، الباحث عن الحرية والمستقبل.. لعقل الذي يتفوق على (ذاته) من اجل أل (نحن) الوطن- الأمة- الإنسانية. وكذلك الدكتور حسام الدين الالوسي (مفكر عراقي) فأنه يؤكد على مبدأ (العدالة) فمتى ماحققنا العدالة للإنسان يصبح له (موقف) إزاء واقعه، فالألوسي يؤمن بالجدل ويؤكد على العقل، فلا حياة للفكر والثقافة من دون عقل، ولا عقل بدون حرية. الكثير من الفلاسفة العرب يحاول أن يخلق لنفسه منهجاً عقلانياً منذ عصر النهضة العربية إلى حد الآن، والسؤال المثير للجدل دائماً أن الاغتراب لعب دوراً كبيراً في صياغة العقلانية العربية في استعادة المناهج العامة ولخاصة في الفلسفة والعلوم والآداب والثقافة. كما هي في مناحي الحياة الأخرى. إننا بحاجة إلى فيلسوف يأخذ بنظر الاعتبار مشكلات وطنه وأمته، فيلسوف يلتزم العقلانية والعلمية وبالشكل الذي يخدم التكامل الوحدوي للإنسان العربي المعاصر.. العقلانية التي نريد كما يقول (الاعسم) هو إحداث التغيير الايجابي المنشود ليس في الوعي الاجتماعي، وإنما في الواقع العربي، وهذا  لايتم إلا من خلال تبني منظومة فكرية تحلل الواقع العربي ، وتفهمه ، ثم تعيد تركيبه من جديد في ضوء تصورات وطنية،  وقومية ،  وانسانية تسهم في بناء الإنسان  في العراق والوطن العربي ، وتساعد في تحقيق مشروعه النهضوي المستقبلي على أسس ودعائم  علمية منهجية راسخة.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق