السبت، 4 يناير 2020

التاريخ بين الادب والعلم والفلسفة * محاضرة : ا.د. ابراهيم خليل العلاف






التاريخ بين الادب والعلم والفلسفة *

ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل

بداية أشكر الاخوات والاخوة في ( الاتحاد العام للادباء والكتاب)  في محافظة نينوى على إتاحتهم لي هذه الفرصة للحديث عن التاريخ بين الادب والعلم والفلسفة ، واهنئهم بالعام الميلادي الجديد وفوزهم بقيادة الاتحاد في الموصل ونينوى واتمنى لهم العز والبهاء والتوفيق والتقدم .
ولاأريد ان اثقل عليكم كثيرا في التفاصيل لكني سأختصر لإوضح واحدا من الاشكاليات التي يواجهها المؤرخ الحصيف وهو يعالج أحداثا ووقائعا تاريخية ليس على صعيد بلده العراق بل على صعيد الامة ، وعلى صعيد العالم كله .

وهذه الاشكالية تكمن في الاجابة على سؤال وهو :  هل أن التاريخ نوع او نمط من انماط الادب ؟ ام ان التاريخ كما يقال علم لااكثر ولااقل أم ان التاريخ فلسفة .. واقول  وبسرعة - وحسب رايي واستنادا الى دراساتي التاريخية التي تعود في بداياتها المنظمة الى سنة 1964 اي الى 56 عاما – إن التاريخ هو أدب وعلم وفلسفة .
وأعود لكي أفصل في الجواب واقول ابتدأء َ ان التاريخ هو الماضي البشري ، والتأريخ بالهمز هو دراسة هذا الماضي البشري .. وثمة فاصل بين  عصري ما قبل التاريخ والتاريخ وهذا الفاصل هو الكتابة والتدوين ، والتاريخ مجرى الحياة وليس ثمة انقطاع بين العصور أو العهود  أو الفترات التاريخية والفواصل مقحمة من قبل المؤرخين لاغراض تسهيل الدراسة لكن العصور مترابطة ومتداخلة ، ولايمكن ان نجد حدودا محكمة بين عصر تاريخي وعصر تاريخي آخر فهناك تداخل بين العصور .
وفيما يتعلق بتحقيب التاريخ ؛ فإن ثمة مدارس مختلفة تعتمد على التواريخ الخاصة فللاوربيين على سبيل المثال تحقيب خاص معروف وهو انهم يتحدثون عن عصور قديمة وعصور وسطى وعصور حديثة . وللعرب ايضا تحقيب خاص وهو انهم يتحدثون عن عصور او عصر جاهلي وعصر اسلامي او عصر ماقبل الاسلام وعصر ما بعد الاسلام وهكذا .
وفيما يتعلق بالمدارس التاريخية أجزم انا ان هناك مدرسة تاريخية عراقية لها اجيالها ولها خصائصها ومميزاتها .
وفيما يتعلق بتفسير التاريخ ، فإن هناك تفسيرات عديدة منها التفسير الديني والتفسير الجغرافي والتفسير الحضاري والتفسير المادي والتفسير الذي يستند الى نظرية البطل فضلا عن تفسيرات ثانوية ومنها على سبيل الدعابة تفسير البرتو مورافيا في كتابه (السأم) أو تفسير فرويد في مجال تأثير الجنس وهكذا .
موضوعنا الذي أريد أن أقف عنده هو هل ان التاريخ ادب أم علم أم فلسفة .
وانا اقول ان للتاريخ طبيعة ثلاثية وهو انه علم وادب وفلسفة واقول اليس هو ابو العلوم . الجميع يحتاج الى معرفة الجذور ، والجميع يحتاج الى معرفة الاصول ، والجميع يحتاج الى معرفة التاريخ .
فيما يتعلق بالادب وقبل ان يتحدث فولتير*  ( 1694-1778 ) عن ما سماه (فلسفة التاريخ  ) يقول المؤرخ الاميركي المعروف ايمري نف  Emery Neff  في كتابه  الموسوم :  (المؤرخون وروح الشعر ) ، والذي اصدرته جامعة كولمبيا الاميركية سنة 1947 انه الف كتابه هذا اقصد (المؤرخون وروح الشعر ) لكي يحقق هدفين اولهما اثبات ان المعرفة لاتتجزأ كما ان الحضارة لاتتجزأ . وثانيهما انه يريد تحطيم الحواجز القائمة بين الادب ، والتاريخ ، والعلم ، والفلسفة وحتى الدراسات الاجتماعية الاخرى .
انا اقول ، اننا اليوم وفي ضوء مرحلتنا الحاضرة ونحن في الايام الاولى من العام الجديد 2020 بحاجة الى ان نحطم الحواجز القائمة بين كل فروع المعرفة ، لاننا بحاجة الى البناء . والبناء كما انه يحتاج الى التخصص في بعض فروع العلم يحتاج الى اناس يحملون رسالة تنويرية  تقدمية شاملة لاترى الشجرة فقط وانما ترى الغابة كلها اي بعبارة موجزة  نحتاج الى ان يكون لكل واحد منا رؤية ، وفلسفة ، وموقف تجاه الكون والحياة والمجتمع ندرس التاريخ ، ونعرف الرياضيات ، ونقيم وزنا للمخترعات والتقنيات  ووسائل الاتصال الاجتماعي الجديدة ، ونتذوق اللوحة ، ونشنف اسماعنا بالموسيقى  والغناء ، ونتذوق اللوحة الجميلة ، ونفهم مضمونها وهذا هو ما اسعى اليه واقول دائما وابدا وانا مثلا اكتب في صفحتي في الفيسبوك وفي الصحف وفي برنامجي (موصليات)  :  أُريد ان اجعل التاريخ علما شعبيا يحبه العامل والفلاح والتاجر والقصاب  والنجا والكاسب والطالب ، وعامل النظافة كما الاستاذ في المدرسة والحرفي والجميع .
الواقع – كما ترون أخواتي اخواني – يُحطم الحواجز بين الشعوب ويفرض عليها ان تتعلم من بعضها ، وتتعلم كيف تعيش ولكن بيننا من يحاول تعطيل ذلك من خلال إقامة الحواجز  ( الدينية والثقافية والاجتماعية ) وضمان جريان انهار العلم والادب والفلسفة والاقتصاد والاجتماع والفن والثقافة .
 اقول ان ابن رشيق في كتابه ( العمدة ) اكد حقيقة اندماج الادب بالتاريخ عندما قال ( وكان الشعر ديوان العرب ، ومستودع حكمتهم ، والضابط لأيامهم ، وقيد كلامهم ، والحاكم لهم والشاهد عليهم ) ...اذن الشعر كان يقوم مقام التاريخ و، الشاعر كان يقوم مقام المؤرخ.  والمؤرخ يقول ارسطو يُثبت ما حدث ، والشاعر يثبت ماكان يمكن أن يحدث ، والمؤرخ يهدف الى التعليم ، والشاعر يرمي الى بعث الحب والسعادة والسرور ، والمؤرخ يتحدث عن عصر والشاعر يتحدث عن وقائع ، وللشاعر طريقته في تحديد البدء والنهاية ، وللمؤرخ طريقته في تحديد البدء والنهاية .
المؤرخ المصري الكبير محمد شفيق غربال وهو يقدم لكتاب ايمري نف (المؤرخون وروح الشعر ) ينقل عن ارسطو قوله ان كتاب هيرودتس في التاريخ هو في جانب من جوانبه شعر ولعلي لا ابالغ اذا قلت ان كثيرا من كتب التاريخ العربي الاسلامي الكلاسيكية ، هي في جانب من جوانبها مكتوبة بلغة الشعر او على الاقل بروحية الشعر وبلاغة اللغة حتى في عناوينها وما فيها من بيان وبديع  .
فولتير وهو من مفكري القرن الثامن  عشر تحدث عن فلسفة التاريخ ، واحدث نقلة كبيرة في معرفتنا لطبيعة التاريخ ، ووسع حدود التاريخ الزمانية والمكانية ، واكد ان التاريخ  ينبغي ان يهتم بالشعوب وبكل الثقافات الانسانية ودفع المؤرخون الى ان لايقتصروا على التأريخ للحكام والملوك والقادة والزعماء ، وانما ينبغي ان يهتموا بالعامة وبالافكار وبالفنون وبالتاريخ الاقتصادي والتاريخ الاجتماعي وابرز شيء قدمه هو انه فصل التاريخ عن الدين ، وميز بين التاريخ الديني والتاريخ العلماني او المدني ان اردنا التخفيف من العبارة وأقرَ حقيقة هي ان التاريخ تحركه عوامل واسباب انسانية وطبيعية وفي هذا ابتعد عن ما كان يقوله المؤرخون المسيحيون ومنهم اوغسطين في كتابه (مدينة الله ) من ان التاريخ تحقيق لمشيئة الرب وهو نفسه ما كان يقوله المؤرخ الاسلامي الطبري في كتابه (الرسل والملوك ) من ان التاريخ تحقيق لمشيئة الله على الارض .
وهكذا بدأنا نقترب من التاريخ العلمي ، وذهاب المؤرخين الى (ان التاريخ علم لااكثر ولااقل ) والعلم كما تعرفون سيداتي سادتي يعتمد المنهج العلمي والمنهج العلمي له خطوات تصل بالباحث الى الحقيقة .
ومن هنا فالتاريخ في طبيعته الثانية علم ، وليوبولد  فون رانكه ( 1795-1886 ) المؤرخ الالماني الكبير هو من اكد حقيقة :  "  إن من مهام المؤرخ إعادة تشكيل  احداث الماضي كما وقعت بالضبط " ،  وهو من  تحدث عن ما نسميه في التاريخ بالفلسفة الوضعية المنطقية .
ومع المؤرخ البريطاني كولنجوود في كتابه (فكرة التاريخ )  وهو بالاصل محاضرات القاها سنة 1936 اقول ان للتاريخ سنن وقوانين واحكام كما ان للطبيعة سنن وقوانين واحكام  لذلك الف كتابان هما (فكرة الطبيعة ) و(فكرة التاريخ ) .
ونأتي لنقول شيئا عن الفلسفة ، فلسفة التاريخ وللاسف  اساتذتنا وطلبتنا اليوم في اقسام التاريخ  لايهتمون كثيرا بفلسفة التاريخ مع ان الاهتمام بفلسفة التاريخ تساعدنا في فهم الاحداث ، واسباب وقوعها ويقينا ان هناك فلاسفة ومفكرون تحدثوا عن ذلك واجابوا عن  كثير من الاسئلة التي تدور حول جدوى دراسة التاريخ ومدى فائدته للانسان والمجتمع واريد ان اذكركم بإبن  خلدون  وهو من مؤرخي القرن الرابع عشر الميلادي ومن خلال مقدمته الشهيرة لكتابه (العبر) فالتاريخ عنده :  "  فن عزيز المذهب ، جم الفوائد . في ظاهره لايزيد على اخبار عن الايام والدول والسوابق في القرون الاول ...وفي باطنه نظر ، وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع واسبابها عميق ؛ فهو لذلك اصيل في الحكمة عريق ، وجدير بأن يُعد في علومها وخليق " .
ومنذ القرن الثامن عشر بدأنا نسمع عن مؤرخين اهتموا بفلسفة التاريخ وظهرت آراء ونظريات اسهم التطور في ميدان العلوم الطبيعية في تقدمها وخاصة ما قدمة فرانسيس بيكون ومنهجه التجريبي في معالجة قضايا العلم في حقوله المختلفة ، وبروز التوجه العقلاني في تفسير الظواهر المختلفة وقد وجد هذا كله صدى في الحقل التاريخي حيث تم الابتعاد عن الخوارق والمعجزات في تفسير الاحداث ، كما انحسر الاتجاه الديني واصبح الانسان مركز الاهتمام في التدوين التاريخي .
واخيرا اريد ان اقول ان المعرفة التاريخية والوعي التاريخي والتفسير التاريخي ارتبطت بدخول مجموعة من المفاهيم والتفسيرات والمناهج والافكار والمذاهب التي تنطوي تحت جناح فلسفة التاريخ .. والتاريخ عندما نقول انه ايضا في طبيعته فلسفة فلإنه يحلل ويفسر ويستخرج القاعدة والنظرية من خلال غوص المؤرخ في الاحداث التي يدرسها  .
وهنا  لابد ان نشير الى مجهودات المؤرخين والفلاسفة  الذين برزوا في هذا الميدان واقصد ميدان التفسير التاريخي ، والاتيان بنظريات تفسر ما وقع أوما يقع من أحداث  وهم كثر،  لكني سأذكر ابرزهم وهم هيكل وشبنغلر  وتوينبي وماركس وكارلايل  وكوردن ايست ؛  فهيكل نظر الى التاريخ نظرة تطورية والروح  المطلق هو من ينفذ حكم التاريخ على الارض وشبنغلر يرى ان الحضارات الانسانية تشبه الانسان في نموها وتطورها وشيخوختها وانهيارها وتوينبي يفسر الحضارات ونشاط الانسان بالتحدي والاستجابة والانسحاب والعودة وبوجود 21 حضارة وماركس يرى ان المادة هي من تحرك الانسان وكارلايل يرى ان البطل هو وراء ما يحدث وكوردن ايست يرى ان الجغرافية توجه التاريخ .
انا شخصيا كواحد من رواد المدرسة التاريخية العراقية المعاصرة ومن جيلها الثاني اؤكد على تعددية الاسباب ؛ فالحياة معقدة لايمكن ان يكون ثمة عامل واحد وراءها وانا آخذ بتعددية الاسباب وأرفض الآحادية ، واؤكد على العودة الى الجذور والاصول ومقارنة المصادر ببعضها وارى ان للتاريخ فوائد كما ان للتاريخ مضار لكن في كل الاحوال التاريخ أداة للبناء وأداة للتفاهم الوطني والدولي الانساني .
شكرا لإصغائكم  والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
________________________
+محاضرة اليتها في مقر الاتحاد العام للادباء والكتاب – فرع نينوى في المجموعة الثقافية – الموصل صباح يوم السبت 4-1-2020
*فولتير كان أديبا وشاعرا وروائيا ومؤرخا كان ناقدا واسلوبه فكه ولاذع هزأ بالكنيسة ومعتقداتها وتهكم على رجال الدين وأعمالهم وهاجم التعصب الدين وهزأ بالنظام الملكي ، ووضع كتابه ( رسائل عن الشعب الانكليزي ) ،  ولكن محكمة باريس العليا ، حكمت بأن يُحرق هذا الكتاب أمام الجمهور لانه هاجم فيه الحكم القائم في فرنسا .. كان فولتير يدافع عن شعور الانسان وكرامته وكان يدعو الى الحكم الاستبدادي المستنير .
** ليوبولد فون رانكه 1795-1886 مؤرخ الماني كبير وضع قواعد الفلسفة الوضعية الحديثة ويعد مؤسس التاريخ الحديث المعتمد على المصادر التاريخية  من قبيل الوثائق الرسمية  والكتب والاوراق الخاصة والمذكرات الشخصية  .وهو من وضع معايير الكثير من الكتابات التاريخية الحديثة من خلال حصر مهمة المؤرخ بإعادة تشكيل الحدث كما وقع .من كتبه المنشورة كتابه الموسوم ( تاريخ الشعوب اللاتينية والتيتونية منذ 1494 حتى سنة 1514 )  كما ان له كتاب عن تاريخ بروسيا وكتاب عن تاريخ العالم لم ينجزه وتوفي  سنة 1886 عن عمر ناهز ال 90 عاما ووصل  تلاميذه في كتابه عن تاريخ العالم  الى سنة 1453 .
.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صلاة الجمعة في جامع قبع - الزهور -الموصل

                                                                    الشيخ نافع عبد الله أبا معاذ   صلاة الجمعة بسم الله الرحمن الرحيم :...