تاريخ السيدارة الفيصلية في العراق
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموضل
البسة الرأس ، مما كان يهتم به العراقيون خلال عصورهم التاريخية المختلفة وحتى العهد العثماني الذي استغرق اربعة قرون منذ السنوات الاولى من القرن السادس عشر الميلادي حتى السنوات الاولى من القرن العشرين الميلادي .
وكان من العيب على الرجل والمرأة ان يكونا حاسري الرأس فالرجل مثلا كان يلبس العمامة والجراوية واللفة والغترة واليشماغ والعكال والكشيدة ومن ثم الفيس او الطربوش .وهكذا المرأة تلبس العصابة والملفع والبويمة وما شاكل ذلك .
وبعد تشكيل الدولة العراقية الحديثة وتتويج فيصل ملكا على العراق في 23 آب -اغسطس سنة 1921 ، جرت محاولات لتوحيد اعتمار العراقيين للباس رأس يميزهم ، فكان الملك فيصل الاول 1921-1933 يعتمر السيدارة التي سميت بالسيدارة الفيصلية وكان يعتمرها المدنيون والعسكريون .
ويقال ان الملك فيصل الاول زار مصنعا في ايطاليا فأهداه صاحب المعمل سيدارة فقام بوضعها على رأس واعجب بها وبجماليتها وابقاها على رأسه وعندما عاد الى العراق اراد ان تكون لباسا للعراقيين مدنيين وعسكريين يتميزون بلبسها .
وظل الامر اختياريا حتى الثاني من شباط سنة 1936 حين أصدرت وزارة ياسين الهاشمي قرارا قضى بتوحيد إعتمار العاملين في دواوين ودوائر الدولة (السيدارة الفيصلية ) .
كان الملك فيصل قد اقام في العراق دولة حديثة وموحدة وعصرية وكان يطمح ان يجعل من العراقيين شعبا موحدا ، وسعى لادخال مجموعة من القيم والتقاليد والمشتركات بين العراقيين تساعد في عملية بناء الدولة ورفاهية الشعب .
وكانت فترة حكمه فترة بناء المؤسسات التعليمية والادارية والصحية والقضائية والمالية والاقتصادية والعسكرية على أُسس قوية وحديثة وراسخة .
وقد استعان بنخب مثقفة واعية مؤمنة بتغيير المجتمع العراقي وتحديثه واخراجه من البنى التقليدية القديمة ومن الجهل والركود الذي كان عليه وخاصة في عهد العثمانيين وعهد المحتلين الانكليز .
كان الملك فيصل الاول رحمه الله ، يشعر ان توحيد العراقيين يقتضي منه دعوتهم الى توحيد لباسهم قدر الامكان ، وايجاد اسس وقيم جديدة يلتقون حولها . لذلك وجد ان من الضروري توحيد لباس الرأس فأوجد السيدارة والتي ارتداها هو شخصيا مع زيه المدني الغربي المتمثل بالسترة والبنطلون و(اليلك ) مع انه هو نفسه وقبل ان يجيى من الحجاز الى العراق كان يرتدي الزي البدوي المؤلف من العقال الُمقصب والعباءة العربية .
( السيدارة )وقد اصبح العراقيون يلفظونها احيانا (الصدارة ) الفيصلية عبارة عن لباس رأس بشكل نصف مقوس ومدبب تقريبا من الوسط وتكون مطوية الى طيتين نحو الداخل وغالبا ما تكون باللون الاسود لكن ثمة الوان اخرى لها .
وفيما يتعلق بأصل كلمة (سيدارة )ومنشئها فإن هناك آراء منها مثلا رأي الاستاذ عزيز الحجية في كتابه (بغداديات ) الذي يقول ان كلمة سيدارة كلمة جزرية (سامية ) تعني لباس الرأس .
وقد اشار اليها الفيروزابادي في قاموسه ، وقال انها عصبة الرأس ، واشار الاستاذ عبد الجبار محمد الجرجيس في كتابه (اضواء على الالبسة الشعبية الموصلية ) الى ان السيدارة تعني (الوقاية تحت المقنعة والعصابة وهي شبه الخِدر ) وتكتب أحيانا (سدارة ) بلا ياء قبل الدال والسيدارة كما جاء في لسان العرب لابن منظور القلنسوة بلا اصداغ والكلمة مأخوذة من كلمة SUDARUM أي ما يدفع به العرق .
ويقول الاستاذ كوركيس عواد ان اصل الكلمة لاتيني ذو اصل جزري سامي وتعني لباس الرأس .. وقد انتشر لبس السيدارة منذ اواخر القرن التاسع عشر في العراق واول من لبسها الملك فيصل الاول لذلك سميت ( السيدارة الفيصلية ) وقد اصبحت شعارا وطنيا يميز العراقيين عن غيرهم .
في الثاني من شباط -فبراير سنة 1936 اصدرت وزارة ياسين الهاشمي قرارا بتوحيد اعتمار لباس الرأس (السيدارة الفيصلية ) لكافة العاملين في دوائر ودواوين الحكومة .
ومن هنا اقترح بعض الاخوة جعل يوم 2 شباط من كل سنة يوما للسيدارة الفيصلية العراقية يتم الاحتفال به من خلال لبس السيدارة واقامة ندوات ومهرجانات والقاء محاضرات حول تاريخ السيدارة الفيصلية .
قال الشاعر الشعبي الملا عبود الكرخي وهو يحث العراقيين على لبس السيدارة الفيصلية :
حامل على راسي كان طاك إمدار
بطلع بالوزن يمكن ربع قنطار
السيدارة بالطبع أحسن يا أنكار
من لبس العكال الادعم الاغبر
اطلب منكم تلبسوا يا اخوان
شعار الوطن أعنيه السدار الان
والسيدارة العراقية كانت تستورد من ايطاليا ،وكان التجار اليهود في الشورجة ببغداد ، هم من يستوردونها لكن ياسين الهاشمي رئيس الوزراء في الثلاثينات من القرن الماضي انتبه الى ذلك ، فطلب استبدال السيدارة المصنوعة في ايطاليا بالسيدارة العراقية المصنوعة من (الكجا ) اي من الصوف المضغوط وتطوى طية واحدة مستطيلة الشكل عرضها حوالي 5 سم تؤلف القسم الاول ويطوى القسم الاعلى من المنتصف ليستقيم منه شطران مقوسان متساويان لذلك سميت هذه السيدارة (سيدارة الكجا ) واذا كانت مصنوعة في الموصل تسمى (سيدارة الجبن ) وفي بعض الاحيان تصنع من نفس قماش البدلة بأخذ قطعة من القماش من الخياط وتعطى لمن يصنعها ليقوم بعملها وتبطينها من الداخل والوان السيدارة الاسود والبيج والقهوائي والرصاصي .
يعود الملا عبود الكرخي ليتغزل بالسيدارة فيقول :
مع كل هذا ليعلم
مني كل أجنبي ويفهم
بالسدارة الكرخي مغرم
حيث المواطن شعاره
شعار أوطاني وهيه
البسوها الوطنية
عربية عراقية
صايره إبراسي إشارة
ووردت السيدارة في بعض الاغاني الشعبية من قبيل :
عيني يا ابو سيداره وياحلو يابو سيداره
إمتيمك سويله جاره
وايضا ...
لاتنقهر يابو عكال
تالي السيداره كاله
ولهذا البيت قصة وهي ان السيدارة عندما تصبح قديمة يحول قماشها الى صنع حذاء خفيف هو (الكاله ) .
والسيدارة لم تكن مقتصرة في لبسها على المدنيين بل ان العسكرين من ابناء الجيش والشرطة كانوا يرتدون السيدارة العسكرية وهي اقل طولا من السيدارة المدنية وقد لبسها طلبة الكشافة ايضا .
لبس عدد كبير من رموز العراق السيدارة ولهم صور فيها منهم نوري السعيد رئيس وزراء العراق المزمن حيث شكل 14 وزارة في تاريخ العراق الملكي حتى 1958 ، وياسين الهاشمي وعلي جودت الايوبي وجميل المدفعي من رؤساء الوزارات العراقية ايضا ولبسها الوصي على عرش العراق ثم ولي العهد عبد الاله ولبسها الزعيم عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة العراقية 1958-1963 كما لبسها الشاعر معروف الرصافي والشاعر جميل صدقي الزهاوي والشاعر الشعبي الملا عبود الكرخي والفريق الركن بكر صدقي وعالم الاجتماع العراقي الكبير الدكتور علي الوردي والطبيب العسكري والمربي الاستاذ عبد الله مخلص والمؤرخ الموصلي الاستاذ احمد علي الصوفي والباحث التراثي الموصلي الدكتور داؤد الجلبي والطبيب العسكري الدكتور يحيى نزهت والمؤرخ الاستاذ عباس العزاوي والسياسي العراقي الحاج رايح العطية والصحفي الساخر نوري ثابت (صاحب جريدة حبزبوز ) والزعيم (العميد) الركن محسن محمد علي آمر لواء الحرس الملكي . والمربي الاستاذ عبد الرحمن صالح والمؤرخ الاستاذ سعيد الديوه جي والباحث التراثي الاستاذ عادل العرداوي والباحث التراثي الاستاذ نبيل عبد الكريم الحمد الحسيناوي والصحفي الاستاذ سلام الشماع والباحث التراثي الاستاذ معن عبد القادر ال زكريا وكثيرون .
ومن امهر صناع السدارة في بغداد شخص اسمه جاسم محمد وكان محله يقع في سوق السراي عند مدخل خان الصاغة.
وظهرت محاولة لالغاء السيدارة بعد انقلاب الفريق بكر صدقي في 29 تشرين الثاني سنة 1936 بأن اصدر رئيس وزراء الانقلاب حكمت سليمان قانونا بإستبدال السيدارة بالقبعة الاوربية لكن هذه المحاولات فشلت وظل العراقيون حتى يومنا هذا يعتزون بالسيدارة الفيصلية وانا شخصيا لدي واحدة البسها في بعض المناسبات وافتخر بلبسها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق