عبد
الحليم اللاوند 1934-2000 الشاعر ..الانسان*
استاذ التاريخ الحديث المتمرس
- جامعة الموصل
رحم الله صديقنا الكبير
الاستاذ عبد الحليم اللاوند ، الشاعر ، والباحث والكاتب ، والانسان .. كنت ازوره
عندما كان مدير للمكتبة العامة في الموصل ، وعندما تقاعد وافتتح له دكانا في سوق
السرجخانة بشارع نينوى حيث
إتجه الى العمل الحر في ظروف قاسية مر بها البلد بعد الحصار الذي فرض على العراق
سنة 1991 واستمر حتى الاحتلال الامريكي وسقوط النظام السابق في 9 نيسان 2003 .
كان
انسانا رائعا ، وهو اول من كتب عن الزجل الموصلي، واهتم بالشاعر الشعبي عبو لمحمد
علي بعد ان استهوته شخصية هذا الشاعر البوهيمي فكتب عنه كتابه الموسوم: (نظرات في
زجل الموصل ودراسة تحليلية لزجل عبو ألمحمد علي) ونشره سنة 1969 ثم أضاف عليه
وأعاد نشره ثانية سنة 1986 بعنوان : ( نظرات في الزجل والأدب الشعبي الموصلي).
ويقول عن الكتاب انه أراد أن يقدمه كأطروحة ماجستير في جامعة القاهرة، لكن بعض
الظروف حالت دون ذلك فضرب عن الدراسة صفحاً.
الاستاذ
عبد الحليم اللاوند شاعر عراقي رائد كان له دوره الفاعل منذ اواسط الخمسينات من
القرن الماضي في تقديم تجارب شعرية جديدة وواعدة .وكما هو معروف ؛ فأن مدينة
الموصل شهدت سنة 1956 بروز نخبة من الشعراء منهم شاذل طاقة ، ومحمود المحروق ، وهاشم
الطعان ، قاموا بكتابة قصائد شعرية من تلك
التي سميت فيما بعد ب (الشعر الحر) ، ولعل
من ابرز ما قدموا مجموعة شعرية بعنوان : (قصائد غير صالحة للنشر ) صدرت سنة 1956 ُعدت
من قبل النقاد ومنهم الاستاذة الدكتورة بشرى البستاني محاولة جديدة لتقديم ملامح نص شعري جديد بعيدا عن السياقات التقليدية القديمة والمتوارثة
.
جمع اللاوند شعر عبو ألمحمد
علي من بعض حفظته أمثال المرحومين محمد حنتوش، وعزيز مال الله، ورأى في هذا الشاعر
(توجها يختلف كل الاختلاف عمن عاصره أو سبقوه سواء من حيث نظرته إلى الحياة أو من
حيث ممارسته اياها). (كان لسانه إبرا حادة تنغرز في قلب كل من تصدى له.. غرق في
حمأة التشرد.. جسور في قول الحق وان بلغ هذا حد الجرح، فلم يكن يرجو من حياته علوا
ولا مجدا ولا يريد بها فخراً ولا مباهاة بجاه ... لم يأبه لما يقال فيه...
في شعره مسحة حزن ؛ ففي أحدى قصائده يردد:
جني مصايب شديداً بالزمان إعظام
والهم لا زكك بجبدي والضمير إعظام
وحينما يحس بوطاة الفقر وثقل
الحياة يصرخ قائلاً:
حَشَيت كلبي من الحسرات مليته
واجتاب سعدي طلع منحوس مليته
السعد بيا يظن عادات مليته
ولهل السبايب نفر واجفل وعني
يمل
وضحيت ميئوس من عيش التهاني
يمل
ابن الثمانين كالوا من حياتا
يمل
وآني حياتي من العشرين مليته
ولد
عبد الحليم عبد المجيد اللاوند في يوم 29من آب سنة 1934 بالموصل . وكان توجهه الاول
دينيا ، حيث تلقى علومه
الدينية ، فتعلم قراءة القرآن الكريم بقراءة حفص على الشيخ صالح أفندي الجوادي. وقد
شغف بالقراءة ..دخل كلية الشريعة ببغداد وتخرج فيها سنة 1957 لكن لم يحب التدريس ،
فضرب عنه صفحا ، وعمل موظفا في الادارة
المحلية ومديرا لمصلحة نقل الركاب في
الموصل ، ثم مسؤولا عن مكتبات محافظة نينوى قبل احالته على التقاعد لاسباب مرضية
سنة 1979 وبعد تقاعده اتجه الى العمل الحر فإفتتح دكانا في سوق السرجخانة يبيع
مستلزمات الخياطة واستمر كذلك حتى وفاته سنة 2000 .
من قصائده التي نشرها موقع (معجم البابطين لشعراء
العربية في القرنين 19 و20 ) قصيدته (الكنز المخبوء ) يقول فيها :
الــكـــــنـز المـخـبـــوء
|
|
تَنْصُلُ الحُمرةُ والكِحلُ يسيلْ
|
|
من ُيعيد الكحلَ والحمرة للخد الأسيل ؟
|
|
من يداري بمساحيق الزمن؟
|
|
ما رماه البحر في الشاطئ من محض العفن
|
|
كيف تنمو زهرة القدَّاح في البرديِّ أو كيف تميل ؟
|
|
للصبا الليِّن أعجاز النخيل
|
|
صرخت أماه فستاني يطيرْ
|
|
ويداها التزمت أذياله لكنه ظل
|
|
بأيديها يطير
|
|
أهي من طينة هذي الأم
? لا
|
|
أهي من تمرة هذا النخل
? لا
|
|
ربما كانت فسيلاً مفرداً بين النخيل
|
|
واجتنت من جنتيْ عدنٍ شذى
|
|
أطيابِها
|
|
وازدهت بالوارف الملتفِّ من أعنابها
|
|
ثم ظل الكنز مخبوءًا ليسبينا بمرآه الجميل
|
|
كيف جازت طرق الأرض وأعماق الزمن
|
|
وأتتنا ؟
|
|
وهْي إذ مرت بنا أبقت لنا طيبَ الشجن
|
|
فلماذا عبرت منه إلينا ؟
|
|
ولمن ؟
|
|
بعد أن ينشرها الفجر ويطوينا
|
|
لمن ؟
|
|
سوف تمضي, وهي في أحداقنا
|
|
فإذا غارت فمن ؟
|
|
يتغنَّى بعدنا
|
|
بمِلاح الغيد بالكحل وبالحمرة والظل
|
|
ومن فيها يجن؟
|
وفي قصيدته (الغروب ) يقول :
الــــغـــــــــــــروب
|
||
تغرُب الشمس تأمّلْ أي لحن حين تغربْ ؟
|
||
أي ضوء من دم يقطر منها, ثم يشحب ؟
|
||
وجهها النازف من كد النهار
|
||
وهي تخفيه بأفياء الأفق
|
||
وتخلِّي بقعا سودا على طول الظلال
|
||
وهي تمتد فتنسد الطرق
|
||
العصافير وراء العتْمة التفَّت على أغصانها
|
||
واستثارت زقزقات الخوف تعليها على أحزانها
|
||
وهْي في الظل وتهفو
|
||
ويواريها الشفق
|
||
ثم تضطر إلى اليأس وتغفو
|
||
تحت إطباق القلق
|
||
من يراها ? يرقد
الليل على أجفانها
|
||
ويدور القمر المزرقّ في أحضانها
|
||
وهي في تعتيمة الصمت كمسود الورق.
|
||
__________________ .
من كتبه فضلا عن (قصائد ليست صالحة للنشر) والذي اصدره مع الشاعرين شاذل طاقة وهاشم الطعان سنة 1956 ، كتابه الذي اشرت اليه قبل قليل وهو ( نظرات في زجل الموصل ) 1969 وكتابه (نظرات في الزجل والأدب الشعبي الموصلي مع دراسة تحليلية لشعر عبو لمحمد علي 1986. وله ايضا كتاب بعنوان : (ظاهرات اجتماعية في الغناء والتصوف) .وقد كتب مقدمة جميلة لكتاب (مطبوعات الموصل ) الذي اصدره الاستاذ عصام محمد محمود .
, وثمة اعمال مخطوطة له لم تنشر –للاسف الشديد – منها ديوانه
(مساقط الظل) وكتابه عن (اليزيدية) وكتابه (قواعد في لهجة الموصل) ودراسته عن
الشاعر الموصلي السري الرفاء واخرى عن الشاعر ابي تمام والاخرى عن المتنبي وله
كتابات كثيرة منشورة في الصحف والمجلات تحتاج الى من يجمعها ويدرسها واغلبها
يدور حول الشعر والنقد والامثال والشعر الشعبي.
وقد علمت ُ بأن لديه (مذكرات شخصية ) تنتظر الطبع .
|
_________________________
|
|
يقول
الاستاذ الدكتور عمر الطالب ان اللاوند شاعر رومانسي مبدع عكست قصائده انفعالات نفسه وخوالجها ؛ فهو يتحدث في قصيدته (الحزن )
عما يختلج في نفسه من حزن حقيقي فيقول :
تدورُ
ومرةً اخرى
عقارب
ساعتي التعبى وأنتظر
ووجهك
دائما قربي
أتابعه
يتابعني ويتبعني وأنتظر
ثياب
الحزن أعرفها وتعرفني وتغريني
فلولا
الحزن لم يشرق لنا قمر
ولا
بانت له صور
ففي
الضدين تكمن روعة الطين ..ومن حزني
تدور
ومرة اخرى ،
عقارب
ساعتي التعبى ..وانتظر (1962 )
ظل اللاوند
الشاعر الهادئ الصامت ، عميق النظرة يتأمل
الحياة ، ويسبر غور الاشياء ، ويبحث عن سر الكون ، وعن المعنى الابهى للوجود ...ظل
اللاوند يبحث عن الجمال في أسمى معانيه شعرا ونثرا وبحثا في التراث ، وفي الموروث
الشعبي حتى داهمه الموت في عنفوان عطائه .
كتب
عنه صديقه ومجايله الشاعر شاذل طاقة ، والذي
اصبح فيما بعد وزيرا لخارجية العراق وهو يٌقدم قصائده في المجموعة آنفة الذكر :
"ها
انا ذا أخرج من بستان عبد الحليم اللاوند ومعي
بقايا من شذا وهنات من ضياء ، وما زلت احلم بالربيع .. ربيع يصوره الشاعر فيرينا
الحياة في أعمق اسرارها وأبهى جمالها واني لمنتظر ذلك " .
في
مجموعته الشعرية الضخمة (مساقط الشعر ) تقول الدكتورة بشرى البستاني :" نتلمس
الثراء الابداعي ، والمواقف الوطنية والقومية الاصيلة ، والانتماء الصادق الى
قضايا الجماهير والامة والتعبير المفعم بالاخلاص عن قضية الانسان ، واشكاليات
الوجود ومعضلات الموت والحياة " .
حقق
بعض الاعمال منها على سبيل المثال : (رسالة في التجويد ) للشيخ عبد الله بن احمد
بن محمد اللاوند .وفي أُخريات أيامه اهتم بالمدائح والتنزيلات الموصلية ، فوضع دراسة مهمة عنها قدمها الى (هيئة تحرير
موسوعة الموصل الحضارية ) .. ومن حسن الحظ انه كتب مذكراته لكنها لاتزال مخطوطة
عند أهله وله كذلك دراسات منها دراسة في شعر ابي تمام ، ودراسة في شعر الي فراس
الحمداني ودراسة في شعر السري الرفاء ودراسة عن (المرأة في شعرنا المعاصر ) ودراسة
عن (الحركات الفكرية في الاسلام : اليزيدية ) ودراسة ( حول الفاظ أهل الموصل ) .
كما
ان له مسرحية شعرية بعنوان : (الارض ) .. وقد
نشر دراسة مهمة عن ( الموسيقى والغناء عند العرب ) متسلسلة في جريدة (الحدباء )
الموصلية .
وللاوند
دراسة مهمة عن (الشعر الشعبي في الموصل ) منشورة في الجزء الخامس من (موسوعة
الموصل الحضارية )والتي صدرت عن جامعة الموصل سنة 1992 .
اهتم
اللاوند بالادب ، ومارس الشعر ، وشغف بالموسيقى وكان يجلس في ( مقهى البلدية ) في
الموصل و(ومقهى البلدية ) كانت بمثابة
منتدى ضمت الى جانبه في الخمسينات طليعة من مثقفي الموصل امثال شاذل طاقة ، ويوسف
الصائغ ، وهاشم الطعان وغانم الدباغ واحمد محمد المختار ومحمود المحروق وسامي طه
الحافظ .
في
الرابع من تشرين الاول –اكتوبر سنة 1957 اطلق الاتحاد السوفيتي السابق اول سياتل الى الفضاء الخارجي والى القمر وهو القمر
الاصطناعي (سبوتنك-1 ) .ومن الطريف ان شاعرنا اللاوند أرخ ذلك في قصيدة
سنة 1957 بعنوان : (همس القمر ) قال فيها :
لم
نصدق يوم أن دار القمر
واستدارت
أعين الكون اليه
لم
نصدق يومها أنا بشر
ترقص
النعمى على راح يديه
وتولانا
حنين وذهول لحظناه
ولمسنا
ضوءه عبر الليالي وسناه
ضحكة
الاشراق تندى شفتيه
وهو
يطوي الأرض بلمح البصرْ
دافئا
كالطيب مجلو الصور ْ
وفي
قصيدته (ثكلى ) اراد الشاعر بعد كل التقدم الذي حصل في العالم ان يرثي أماني وأمال الانسان في حياته :
أجل
يا صغيري
وشيعت
فيك الاماني العذاب
وضمدت
جرحي بصمت مرير
وعدتُ
وصوتُ الحياة الغرير
تلاحق
موجاته مسمعي
وانتَ
صغيري بقيت هناك
على
الرابية
لتسمع
أغنية الساقية
وخشخشة
الزهر اليابس
وتحركه
نسمة ساهية
ولكن
طيفك عند المساء
تراعشَ
في أدمعي الجاريات
وعاد
الى جوه العابق
لقد
ظل اللاوند طيلة حياته يحس بالوحشة ، والقلق على مصير الانسان ومستقبله ، ومصير
البشرية بعد ما رأى من غدر العدوانيين على بلده ، لكنه في كل ذلك لم يفقد الامل في القدرة على
تجاوز المحن والنكبات .
ترنو
العيونُ بعيدا حيثُ تدركها ***** ُشمُ الجبال فترسو في أعاليها
وهمة
الشاعر عبد الحليم اللاوند وامثاله لاتكون الا في أعالي القمم .
كتب
عنه الشاعر الاستاذ أمجد محمد سعيدة قصيدة
بعنوان : (فاكهة العُزلة ) قال فيها :
لماذا نسيناه
في موته ؟!
وكنا نسيناه
في صمته
وكنا نراه
على شُرفتين
القصيدة
والمكتبة
وكنا نحاوره
رغم بعد المسافات
فاحتدمَ الوهج
في دمنا
واحترمنا
إنعطاف رؤاه
الى عزلة متعبة ..
* منشورة في
(مجلة الموصل التراثية ) السنة الاولى ، العدد الثالث ، تشرين الثاني 2004
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق