ذكريات (42)
بقلم :الاستاذ سامي مهدي
سفرة ملبدة بالمفارقات والصدمات
حطت بي الطائرة في جاكارتا بعد ثلاث ليال قضيتها في طهران ، ووجدت في المطار دون عناء من يستقبلون المدعوين إلى دورة ( الجانيفو ) الرياضية ، فنقلوني في سيارة خاصة إلى فندق في قلب المدينة خصص لإقامة الصحفيين .
كان الرئيس أحمد سوكارنو الذي قاد إندونيسيا نحو الإستقلال والتحرر من ربقة الإستعمار الهولندي ما يزال رئيساً للبلاد ، وكنا في أول المساء ، وما إن أودعتحقيبتي في غرفتي في الفندق حتى دعيت لحضور حفل افتتاح الدورة .
جرى الإفتتاح في مسرح كبير يعج بالمدعوين . كان أدلاء الحفل طلبة جامعيين من الجنسين ، وكان الحفل صاخباً ، لا يعرف أوله من آخره ، ولكنه بهيج رغم صخبه ، إلاّ أنني لم أستمتع فيه كما ينبغي لأنني كنت متعباً من السفر الطويل ما بين طهران وجاكرتا . وحين انتهى الحفل آويت إلى غرفتي ونمت حتى الصباح الباكر .
وما أن أطللت في ذلك الصباح على الطريق من نافذة الغرفة حتى رأيت حشداً كبيراً من البشر ، يمتد على مدى النظر ، ينامون على الأرصفة صفوفاً ، بعضهم جنب بعض ، فكان منظراً غريباً لم أشهد مثيلاً له في أي مكان زرته من العالم . ولما سألت عنهم في ما بعد قيل لي : إنهم فلاحون فقراء قصدوا المدينة من القرى المجاورة لبيع منتجاتهم المتواضعة .
نزلت من غرفتي وذهبت إلى المطعم فوجدت مائدة كبيرة تتصدره وقد جلس حولها عدد من الصحفيين دلّ لغطهم وصخبهم على أنهم عرب ، فلما رآني بعضهم أقلّب نظري في الأرجاء عرفوا أنني من بني قومهم فدعوني إلى مائدتهم وأفسحوا لي مكاناً بينهم فحييتهم وعرّفتهم بنفسي وجلست ، وصرت أجلس معهم في أغلب الوجبات .
لم يكن ثمة قائمة بما يقدم المطعم من وجبات ، بل طعام نمطي رديء ، وندل يسألك في كل وجبة السؤال نفسه وبلغة شديدة التقشف :Eurpien or Chinese ؟ فيضعك فوراً بين خيارين لا ثالث لهما : إما وجبة أوربية أو وجبة صينية . وقد كنا نطلب وجبة أوربية في كل مرة ، لأننا لا علم لنا بالطعام الصيني . غير أن صحفياً سورياً قال ذات مرة : دعونا نجرب الطعام الصيني يا جماعة ، فوافقه أغلبنا . ولما جيء بالطعام الصيني ، وكان مرقاً أصفر بلون الكركم ، سأل أحدهم الندل : ما هذا ؟ فأجاب بلغته المتقشفة وبابتسامة عريضة Snakes فكف الجميع عن الأكل ، ولم يكن أي منا مستعداً لتذوق مرق الأفاعي وازدرادها ، ثم طلبنا تغيير الوجبة ، ولكنها لم تغير إلا بشق الأنفس .
تقع جاكارتا في جزيرة جاوة ، وكانت يوم زرتها أشبه ببلدة ريفية كبيرة ، لولا بعض المباني الحديثة التي أنشيء أغلبها في العهد الإستعماري . أما اليوم فهي مدينة كبيرة مزدهرة يقرب عدد سكانها من عشرة ملايين نسمة .
تابعت فريقنا في الألعاب التي شارك فيها ، وكانت نتائجه جيدة نسبياً ، ولكنني لم أستطع إيصال ما كتبته عنه لانعدام وسائل الإتصال المناسبة ، بما في ذلك الهاتف .
كان يمثل العراق في جاكارتا يومئذ قائم بالأعمال ، فدعاني بعد أربعة أيام من وصولي إلى غداء وحدي مع بعض موظفيه . ولم أفطن إلى سبب هذه الدعوة ( الفردية ) إلا في ما بعد . كان يلف ويدور في الحديث ويسألني بعض الأسئلة عن الأوضاع في العراق وأنا أجيبه عنها بكل براءة . إلى أن سألني سؤالاً مباشراً : ماذا يجري الآن في بغداد ؟! فقلت له : لا أدري ، هل بلغك أنت شيء لا أعرفه ؟! فقال هناك أخبار تتحدث عن محاولة انقلابية فاشلة ، ولم يزد . فقلت له لا أدري لأنني لم أستمع إلى الإذاعات أو أقرأ الصحف منذ غادرت بغداد . فسكت الرجل وسكتّ ، ولكن ما قاله أقلقني كثيراً .
حين عدت إلى الفندق صادفت الصحفي السوري فسألني السؤال نفسه وأكد ما قاله القائم بالأعمال فازداد قلقي ، واحتجبت في غرفتي أبحث في راديو موجود فيها عن نشرة إخبارية تشفي غليلي دون جدوى . وأخيراً ، وعند الفجر ، عثرت على موجز إخباري باللغة الإنكليزية لم ألتقط منه سوى عبارة تقول : A curfew in Baghdad منع تجول في بغداد . وبذلك تضاعف قلقي ولم أنم ما تبقى من الليل .
وبعد الفطور مباشرة أبلغت زميلي السوري بأنني سأعود إلى بغداد في أول طائرة أحظى بها ، فنصحني بالتريث ريثما تنجلي الأمور ، ولكنني لم أقتنع بنصيحته ، وخرجت من الفندق قاصداً مكتب شركة ( بان أمريكان ) القريب منه وحجزت مقعداً لي في طائرة تغادر جاكرتا في منتصف ليل ذلك اليوم . ثم أبلغت رئيس وفدنا الرياضي والقائم بالأعمال في السفارة بنيتي . وحين اقترب موعد المغادرة جاءني موظف من السفارة ( إسمه إسماعيل ) ونقلني إلى المطار ، وكلفني بإيصال صندوق كارتوني مغلق وكبير نسبياً إلى أهله في بغداد ، بعد أن كتب عنوانهم ورقم هاتفهم على الصندوق نفسه ، وقال لي إن في الصندوق بعض الألبسة .
حطت بي الطائرة في مدينة بانكوك ضحى اليوم التالي ونقلت إلى فندق حللت فيه على نفقة شركة الطيران . وما أن دخلت غرفتي في هذا الفندق حتى نمت بملابسي ، ولم أصح إلا قبل الثالثة بعد الظهر بقليل . كنت أحس بالجوع فنزلت إلى مطعم الفندق ، فوجدته موشكاً على الإغلاق . رجوت الندل أن يأتيني بوجبة طعام لأنني لا أعرف المدينة ومطاعمها ، فاستجاب وقدم لي قائمة طعام لم أفهم منها شيئاً ، ولكن نظري وقع على وجبة فيها رز فطلبتها ، وإذا بها صحن رز وصحن مرق أحمر ، ولأنني مررت بتجربة صحن الأفاعي في جاكارتا خطر لي أن أسأله عن ماهية اللحم الذي وجدته في صحن المرق فقال بابتهاج : إنه لحم ثعلب فتركت الطعام قبل أن أتذوقه وخرجت من المطعم دون أن أكترث لاستغرابه وانزعاجه .
بحثت عن مطعم في الشوارع القريبة فلم أجد سوى دكان واسع تفوح منه روائح الأطعمة ، وضعت في مدخله لافتة صغيرة كتب عليها باللغة الإنكليزية : للمسلمين فقط . وما إن هممت بالدخول حتى استقبلتني وجوه غاضبة وعيون تقدح شرراً ، كانت وجوهاً هندية أو باكستانية ، فتراجعت متهيّباً وعدلت عن الدخول وعدت إلى التجوال في المدينة ، وبقيت جائعاً حتى ركبت عند منتصف الليل طائرة أخرى حطت بي في مطار بومباي للتزود بالوقود ، وبعدها أقلتني إلى مطار طهران ، ومن هناك ركبت طائرة أخرى حملتني إلى بغداد .
وصلت بغداد عند الغروب ، كان كل شيء يبدو معتاداً في المطار ، ولكنني لم أعثر على الصندوق الذي أرسله معي صاحبي ( إسماعيل ) إلى أهله بين حقائب ركاب الطائرة ، فبقيت حائراً لا أعرف ماذا أفعل حتى نصحني مسافر آخر بإخبار سلطات المطار ، ففعلت ، فزودني أحد الموظفين باستمارة وطلب مني إملاءها ومراجعة مكتب ( بان أميركان ) بشأن التعويض عن قيمة محتويات الصندوق إذا ما ثبت فقدانه .
كان ذلك مساء يوم 15 تشرين الثاني 1963 ، وحين وصلت البيت فهمت أن محاولة إنقلابية فاشلة وقعت قبل يومين ، وفي يوم 18 تشرين الثاني ، أي بعد ثلاثة أيام من عودتي ، حدث انقلاب عسكري آخر ، وفصلني الإنقلابيون من عملي بعد أيام !
راجعت مكتب ( بان أميركان ) بعد يومين من وصولي بغداد وشرحت للموظف المختص فيه التفاصيل المتعلقة بالصندوق المفقود ، فأخبرني بأنه فقد حتماً في محطة من محطات هذه السفرة الطويلة ، ورجّح فقدانه في مطار بانكوك ، ثم طلب مني مراجعته بعد أسبوعين ريثما تجرى الإتصالات . وراجعته بعد أسبوعين فأخبرني بأن الشركة لم تجد أثراً للصندوق في المطارات ، وطلب مني معلومات عن محتوياته وقيمتها لكي أعوّض . ولما أخبرته بأنني لا أعرف المحتويات ولا قيمتها ، رد علي بلهجة حاسمة مترفعة : إذن يستحيل التعويض !
وهكذا ضاع الصندوق ، وفات التعويض ، وتعذر علي الإتصال بأهل إسماعيل لجهلي بعنوانهم ، ولم أرَ إسماعيل نفسه بعد ذلك أبداً ، وذهبت سدى محاولات الإتصال به عن طريق وزارة الخارجية ، وبقي الصندوق وما فيه عالقاً بذمتي ، وبقيت أشعر بالحرج والخجل ، حتى اليوم !
كانت سفرة ملبّدة بالمفارقات والصدمات ، ولكنها حافلة بالدروس .
سفرة ملبدة بالمفارقات والصدمات
حطت بي الطائرة في جاكارتا بعد ثلاث ليال قضيتها في طهران ، ووجدت في المطار دون عناء من يستقبلون المدعوين إلى دورة ( الجانيفو ) الرياضية ، فنقلوني في سيارة خاصة إلى فندق في قلب المدينة خصص لإقامة الصحفيين .
كان الرئيس أحمد سوكارنو الذي قاد إندونيسيا نحو الإستقلال والتحرر من ربقة الإستعمار الهولندي ما يزال رئيساً للبلاد ، وكنا في أول المساء ، وما إن أودعتحقيبتي في غرفتي في الفندق حتى دعيت لحضور حفل افتتاح الدورة .
جرى الإفتتاح في مسرح كبير يعج بالمدعوين . كان أدلاء الحفل طلبة جامعيين من الجنسين ، وكان الحفل صاخباً ، لا يعرف أوله من آخره ، ولكنه بهيج رغم صخبه ، إلاّ أنني لم أستمتع فيه كما ينبغي لأنني كنت متعباً من السفر الطويل ما بين طهران وجاكرتا . وحين انتهى الحفل آويت إلى غرفتي ونمت حتى الصباح الباكر .
وما أن أطللت في ذلك الصباح على الطريق من نافذة الغرفة حتى رأيت حشداً كبيراً من البشر ، يمتد على مدى النظر ، ينامون على الأرصفة صفوفاً ، بعضهم جنب بعض ، فكان منظراً غريباً لم أشهد مثيلاً له في أي مكان زرته من العالم . ولما سألت عنهم في ما بعد قيل لي : إنهم فلاحون فقراء قصدوا المدينة من القرى المجاورة لبيع منتجاتهم المتواضعة .
نزلت من غرفتي وذهبت إلى المطعم فوجدت مائدة كبيرة تتصدره وقد جلس حولها عدد من الصحفيين دلّ لغطهم وصخبهم على أنهم عرب ، فلما رآني بعضهم أقلّب نظري في الأرجاء عرفوا أنني من بني قومهم فدعوني إلى مائدتهم وأفسحوا لي مكاناً بينهم فحييتهم وعرّفتهم بنفسي وجلست ، وصرت أجلس معهم في أغلب الوجبات .
لم يكن ثمة قائمة بما يقدم المطعم من وجبات ، بل طعام نمطي رديء ، وندل يسألك في كل وجبة السؤال نفسه وبلغة شديدة التقشف :Eurpien or Chinese ؟ فيضعك فوراً بين خيارين لا ثالث لهما : إما وجبة أوربية أو وجبة صينية . وقد كنا نطلب وجبة أوربية في كل مرة ، لأننا لا علم لنا بالطعام الصيني . غير أن صحفياً سورياً قال ذات مرة : دعونا نجرب الطعام الصيني يا جماعة ، فوافقه أغلبنا . ولما جيء بالطعام الصيني ، وكان مرقاً أصفر بلون الكركم ، سأل أحدهم الندل : ما هذا ؟ فأجاب بلغته المتقشفة وبابتسامة عريضة Snakes فكف الجميع عن الأكل ، ولم يكن أي منا مستعداً لتذوق مرق الأفاعي وازدرادها ، ثم طلبنا تغيير الوجبة ، ولكنها لم تغير إلا بشق الأنفس .
تقع جاكارتا في جزيرة جاوة ، وكانت يوم زرتها أشبه ببلدة ريفية كبيرة ، لولا بعض المباني الحديثة التي أنشيء أغلبها في العهد الإستعماري . أما اليوم فهي مدينة كبيرة مزدهرة يقرب عدد سكانها من عشرة ملايين نسمة .
تابعت فريقنا في الألعاب التي شارك فيها ، وكانت نتائجه جيدة نسبياً ، ولكنني لم أستطع إيصال ما كتبته عنه لانعدام وسائل الإتصال المناسبة ، بما في ذلك الهاتف .
كان يمثل العراق في جاكارتا يومئذ قائم بالأعمال ، فدعاني بعد أربعة أيام من وصولي إلى غداء وحدي مع بعض موظفيه . ولم أفطن إلى سبب هذه الدعوة ( الفردية ) إلا في ما بعد . كان يلف ويدور في الحديث ويسألني بعض الأسئلة عن الأوضاع في العراق وأنا أجيبه عنها بكل براءة . إلى أن سألني سؤالاً مباشراً : ماذا يجري الآن في بغداد ؟! فقلت له : لا أدري ، هل بلغك أنت شيء لا أعرفه ؟! فقال هناك أخبار تتحدث عن محاولة انقلابية فاشلة ، ولم يزد . فقلت له لا أدري لأنني لم أستمع إلى الإذاعات أو أقرأ الصحف منذ غادرت بغداد . فسكت الرجل وسكتّ ، ولكن ما قاله أقلقني كثيراً .
حين عدت إلى الفندق صادفت الصحفي السوري فسألني السؤال نفسه وأكد ما قاله القائم بالأعمال فازداد قلقي ، واحتجبت في غرفتي أبحث في راديو موجود فيها عن نشرة إخبارية تشفي غليلي دون جدوى . وأخيراً ، وعند الفجر ، عثرت على موجز إخباري باللغة الإنكليزية لم ألتقط منه سوى عبارة تقول : A curfew in Baghdad منع تجول في بغداد . وبذلك تضاعف قلقي ولم أنم ما تبقى من الليل .
وبعد الفطور مباشرة أبلغت زميلي السوري بأنني سأعود إلى بغداد في أول طائرة أحظى بها ، فنصحني بالتريث ريثما تنجلي الأمور ، ولكنني لم أقتنع بنصيحته ، وخرجت من الفندق قاصداً مكتب شركة ( بان أمريكان ) القريب منه وحجزت مقعداً لي في طائرة تغادر جاكرتا في منتصف ليل ذلك اليوم . ثم أبلغت رئيس وفدنا الرياضي والقائم بالأعمال في السفارة بنيتي . وحين اقترب موعد المغادرة جاءني موظف من السفارة ( إسمه إسماعيل ) ونقلني إلى المطار ، وكلفني بإيصال صندوق كارتوني مغلق وكبير نسبياً إلى أهله في بغداد ، بعد أن كتب عنوانهم ورقم هاتفهم على الصندوق نفسه ، وقال لي إن في الصندوق بعض الألبسة .
حطت بي الطائرة في مدينة بانكوك ضحى اليوم التالي ونقلت إلى فندق حللت فيه على نفقة شركة الطيران . وما أن دخلت غرفتي في هذا الفندق حتى نمت بملابسي ، ولم أصح إلا قبل الثالثة بعد الظهر بقليل . كنت أحس بالجوع فنزلت إلى مطعم الفندق ، فوجدته موشكاً على الإغلاق . رجوت الندل أن يأتيني بوجبة طعام لأنني لا أعرف المدينة ومطاعمها ، فاستجاب وقدم لي قائمة طعام لم أفهم منها شيئاً ، ولكن نظري وقع على وجبة فيها رز فطلبتها ، وإذا بها صحن رز وصحن مرق أحمر ، ولأنني مررت بتجربة صحن الأفاعي في جاكارتا خطر لي أن أسأله عن ماهية اللحم الذي وجدته في صحن المرق فقال بابتهاج : إنه لحم ثعلب فتركت الطعام قبل أن أتذوقه وخرجت من المطعم دون أن أكترث لاستغرابه وانزعاجه .
بحثت عن مطعم في الشوارع القريبة فلم أجد سوى دكان واسع تفوح منه روائح الأطعمة ، وضعت في مدخله لافتة صغيرة كتب عليها باللغة الإنكليزية : للمسلمين فقط . وما إن هممت بالدخول حتى استقبلتني وجوه غاضبة وعيون تقدح شرراً ، كانت وجوهاً هندية أو باكستانية ، فتراجعت متهيّباً وعدلت عن الدخول وعدت إلى التجوال في المدينة ، وبقيت جائعاً حتى ركبت عند منتصف الليل طائرة أخرى حطت بي في مطار بومباي للتزود بالوقود ، وبعدها أقلتني إلى مطار طهران ، ومن هناك ركبت طائرة أخرى حملتني إلى بغداد .
وصلت بغداد عند الغروب ، كان كل شيء يبدو معتاداً في المطار ، ولكنني لم أعثر على الصندوق الذي أرسله معي صاحبي ( إسماعيل ) إلى أهله بين حقائب ركاب الطائرة ، فبقيت حائراً لا أعرف ماذا أفعل حتى نصحني مسافر آخر بإخبار سلطات المطار ، ففعلت ، فزودني أحد الموظفين باستمارة وطلب مني إملاءها ومراجعة مكتب ( بان أميركان ) بشأن التعويض عن قيمة محتويات الصندوق إذا ما ثبت فقدانه .
كان ذلك مساء يوم 15 تشرين الثاني 1963 ، وحين وصلت البيت فهمت أن محاولة إنقلابية فاشلة وقعت قبل يومين ، وفي يوم 18 تشرين الثاني ، أي بعد ثلاثة أيام من عودتي ، حدث انقلاب عسكري آخر ، وفصلني الإنقلابيون من عملي بعد أيام !
راجعت مكتب ( بان أميركان ) بعد يومين من وصولي بغداد وشرحت للموظف المختص فيه التفاصيل المتعلقة بالصندوق المفقود ، فأخبرني بأنه فقد حتماً في محطة من محطات هذه السفرة الطويلة ، ورجّح فقدانه في مطار بانكوك ، ثم طلب مني مراجعته بعد أسبوعين ريثما تجرى الإتصالات . وراجعته بعد أسبوعين فأخبرني بأن الشركة لم تجد أثراً للصندوق في المطارات ، وطلب مني معلومات عن محتوياته وقيمتها لكي أعوّض . ولما أخبرته بأنني لا أعرف المحتويات ولا قيمتها ، رد علي بلهجة حاسمة مترفعة : إذن يستحيل التعويض !
وهكذا ضاع الصندوق ، وفات التعويض ، وتعذر علي الإتصال بأهل إسماعيل لجهلي بعنوانهم ، ولم أرَ إسماعيل نفسه بعد ذلك أبداً ، وذهبت سدى محاولات الإتصال به عن طريق وزارة الخارجية ، وبقي الصندوق وما فيه عالقاً بذمتي ، وبقيت أشعر بالحرج والخجل ، حتى اليوم !
كانت سفرة ملبّدة بالمفارقات والصدمات ، ولكنها حافلة بالدروس .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق