يوم كانت برلين برلينين .........ذكريات (45)
بقلم :الاستاذ سامي مهدي
عام 1976 قام وفد ثقافي عراقي بزيارة جمهورية ألمانيا الديمقراطية بناء على بند من بنود اتفاقية التعاون الثقافي المعقودة بين البلدين . وكان الوفد يتألف من كل من : الشاعر محمد جميل شلش مدير الثقافة العام في الوزارة ، والروائي عبدالله نيازي ، والناقد عبد الجبار داود البصري ، وكاتب هذه السطور ، وكنت يومئذ رئيس تحرير مجلة الأقلام .
حطت بنا الطائرة في برلين الشرقية ، فقد كانت ألمانيا ما تزال مقسمة إلى قسمين متناحرين : شرقي وغربي ، وكذلك مدينة برلين ، وكانت الحرب الباردة بين المعسكر الإشتراكي والمعسكر الرأسمالي في أوجها يومئذ .
استُضِفنا في فندق فخم يقع في أهم شوارع المدينة وأحدثها في العمران ، هو شارع أخينا طيب الذكر : كارل ماركس . وكان دليلنا ومرافقنا في هذه الرحلة ، وفي كل خطوة ، كهل عراقي - نجفي مقيم هناك ، إسمه مرتضى حسين ، راسل بعض المجلات العراقية الأدبية عدة سنوات ، وكان هذا الرجل غاية في اللطف والصبر والنبل والدماثة .
بعد وصولنا برلين بيومين زارني في الفندق صديقي المخرج المسرحي الراحل عوني كرومي ، فهو لم يكن يعرف أعضاء الوفد الآخرين معرفة مباشرة . قضينا معاً أكثر من ساعة نتجاذب أطراف الحديث ، سألني خلالها عن أصدقائه الفنانين ، وسألته عن أحواله . كانت على وجهه مسحة حزن ، وكان يشرد من حين إلى آخر ، ويتحفظ في أجوبته .
قضينا في برلين عدة أيام . كنا في النهار نتجول فيها ونتفقد معالمها ، وفي الليل نذهب إلى مسرح أو حانة أو مرقص ، ومعنا دليلنا حيثما نذهب ، لا يتركنا حتى يعود بنا إلى الفندق . زرنا برج المدينة الحديث ، وجدارها الشهير ، جدار برلين . وفي إحدى الليالي ذهبنا إلى مسرح شاهدنا فيه إحدى مسرحيات بريخت ( الأم الشجاعة ) وفي ليلة أخرى ذهبنا إلى مسرح آخر وشاهدنا باليه ( بحيرة البجع ) التي كنت قد شاهدتها في إحدى سفراتي إلى الإتحاد السوفيتي .
وقد كان برنامجنا يتضمن زيارة إلى مدينة ( فايمر ) وهي مدينة قديمة صغيرة في مساحتها ، وسكانها قليلون كان عددهم يوم زرناها خمسين ألف نسمة وربما أكثر من ذلك بقليل ، ولكنها مدينة عريقة ، فهي مدينة الشاعرين " غوتة " و " شيلر " . وقد زرنا فيها منزليهما المتقاربين ، وهما منزلان قدبمان متواضعان ، ولكن كلاً منهما متحف صغير ، وشاهدنا في إحدى ساحاتها تمثالاً يجمع الإثنين . وزرنا كذلك مكتبة الدوقة " آنا أماليا " وهي من أشهر المكتبات الكلاسيكية في أوربا . وأكلنا في أحد مطاعمها " لحم الغزال " وكانت هذه أول مرة أذوقه فيها وآخر مرة . ومعروف عن فايمر وتاريخها الحديث جمهوريتها " جمهورية فايمر " التي أعلنت بعد الحرب العالمية الأولى عام 1919 واستمرت حتى وصول هتلر وحزبه النازي إلى السلطة عام 1933 .
وكان من برنامجنا أيضاً زيارة مدينة دريسدن . وتقع هذه المدينة على ضفة نهر " الألبه " وهي أجمل من فايمر بكثير . ولا تذكر دريسدن إلا ويذكر معها القصف الجوي الأمريكي – البريطاني الذي تعرضت له في أواخر الحرب العالمية الثانية ، ودمر عشرة كليمترات مربعة من مساحتها وقتل 25 بالمائة من سكانها في أقل التقديرات وأكثرها تحفظاً . وأذكر أن هذه المدينة واجهت نكبة أخرى عام 1999 إذ أغرق فيضان عارم الكثير من معالمها التاريخية .
وفي أول ليلة قضيناها في دريسدن سهرنا في مطعم يقدم لزبائنه دجاجاً مشوياً مع المشروبات ، قال دليلنا ومرافقنا إنه يدعى " كوخ الحرامية " . وقد انطلقنا هناك في تلك الليلة ، فسكرنا وابتهجنا وغنينا شيئاً من أغانينا العراقية بصوت عال ، فاجتمع حولنا جمع من الألمان شاركنا انطلاقنا وبهجتنا ، وحاول أن يردد معنا لوازم بعض الأغاني .
ولست أذكر أفي دريسدن أم فايمر أخذنا مضيفونا إلى موقع خارج المدينة أشيه بسجن قديم ، وربما كان سجناً في حقيقة الأمر ، ليرونا أفران الغاز التي كانت تحرق فيها جثث المغدورين اليهود وغيرهم فيها . ولكن ما رأيناه داخل هذا السجن كان غرفة محدودة المساحة ، فيها ما يشبه أفران الحمامات في البيوت العراقية القديمة ، وللأفران فتحات يبدو عليها أنها أضيق من أن تتسع لجثة إنسان ، وهذا ما جعل زميلنا البصري ينكر أن تكون أفراناً مخصصة لهذا الغرض .
وقد أحسسنا خلال هذه الزيارة أن النظام الحاكم يعاني من ظروف عصيبة ، وأنه آيل إلى زوال . فقد كان كثيرون ممن بادرونا بالحديث ، ولا سيما الشباب ، يعبرون عن سخطهم عليه علناً ، دون أن نسألهم رأيهم فيه . أما السياح البولونيون فكانوا أكثر قسوة في حديثهم عنه ، كانوا يشتمون ويلعنون دونما خوف أو حذر .
فاتني أن أذكر أننا لم نستقبل خلال هذه الزيارة من قبل أي مسؤول ألماني . فلا نحن طلبنا ولا هم طلبوا أو اقترحوا ، ولعلهم اكتفوا باختيارهم دليلنا ، وبذلك كنا أكثر حرية وانطلاقاً .
بقلم :الاستاذ سامي مهدي
عام 1976 قام وفد ثقافي عراقي بزيارة جمهورية ألمانيا الديمقراطية بناء على بند من بنود اتفاقية التعاون الثقافي المعقودة بين البلدين . وكان الوفد يتألف من كل من : الشاعر محمد جميل شلش مدير الثقافة العام في الوزارة ، والروائي عبدالله نيازي ، والناقد عبد الجبار داود البصري ، وكاتب هذه السطور ، وكنت يومئذ رئيس تحرير مجلة الأقلام .
حطت بنا الطائرة في برلين الشرقية ، فقد كانت ألمانيا ما تزال مقسمة إلى قسمين متناحرين : شرقي وغربي ، وكذلك مدينة برلين ، وكانت الحرب الباردة بين المعسكر الإشتراكي والمعسكر الرأسمالي في أوجها يومئذ .
استُضِفنا في فندق فخم يقع في أهم شوارع المدينة وأحدثها في العمران ، هو شارع أخينا طيب الذكر : كارل ماركس . وكان دليلنا ومرافقنا في هذه الرحلة ، وفي كل خطوة ، كهل عراقي - نجفي مقيم هناك ، إسمه مرتضى حسين ، راسل بعض المجلات العراقية الأدبية عدة سنوات ، وكان هذا الرجل غاية في اللطف والصبر والنبل والدماثة .
بعد وصولنا برلين بيومين زارني في الفندق صديقي المخرج المسرحي الراحل عوني كرومي ، فهو لم يكن يعرف أعضاء الوفد الآخرين معرفة مباشرة . قضينا معاً أكثر من ساعة نتجاذب أطراف الحديث ، سألني خلالها عن أصدقائه الفنانين ، وسألته عن أحواله . كانت على وجهه مسحة حزن ، وكان يشرد من حين إلى آخر ، ويتحفظ في أجوبته .
قضينا في برلين عدة أيام . كنا في النهار نتجول فيها ونتفقد معالمها ، وفي الليل نذهب إلى مسرح أو حانة أو مرقص ، ومعنا دليلنا حيثما نذهب ، لا يتركنا حتى يعود بنا إلى الفندق . زرنا برج المدينة الحديث ، وجدارها الشهير ، جدار برلين . وفي إحدى الليالي ذهبنا إلى مسرح شاهدنا فيه إحدى مسرحيات بريخت ( الأم الشجاعة ) وفي ليلة أخرى ذهبنا إلى مسرح آخر وشاهدنا باليه ( بحيرة البجع ) التي كنت قد شاهدتها في إحدى سفراتي إلى الإتحاد السوفيتي .
وقد كان برنامجنا يتضمن زيارة إلى مدينة ( فايمر ) وهي مدينة قديمة صغيرة في مساحتها ، وسكانها قليلون كان عددهم يوم زرناها خمسين ألف نسمة وربما أكثر من ذلك بقليل ، ولكنها مدينة عريقة ، فهي مدينة الشاعرين " غوتة " و " شيلر " . وقد زرنا فيها منزليهما المتقاربين ، وهما منزلان قدبمان متواضعان ، ولكن كلاً منهما متحف صغير ، وشاهدنا في إحدى ساحاتها تمثالاً يجمع الإثنين . وزرنا كذلك مكتبة الدوقة " آنا أماليا " وهي من أشهر المكتبات الكلاسيكية في أوربا . وأكلنا في أحد مطاعمها " لحم الغزال " وكانت هذه أول مرة أذوقه فيها وآخر مرة . ومعروف عن فايمر وتاريخها الحديث جمهوريتها " جمهورية فايمر " التي أعلنت بعد الحرب العالمية الأولى عام 1919 واستمرت حتى وصول هتلر وحزبه النازي إلى السلطة عام 1933 .
وكان من برنامجنا أيضاً زيارة مدينة دريسدن . وتقع هذه المدينة على ضفة نهر " الألبه " وهي أجمل من فايمر بكثير . ولا تذكر دريسدن إلا ويذكر معها القصف الجوي الأمريكي – البريطاني الذي تعرضت له في أواخر الحرب العالمية الثانية ، ودمر عشرة كليمترات مربعة من مساحتها وقتل 25 بالمائة من سكانها في أقل التقديرات وأكثرها تحفظاً . وأذكر أن هذه المدينة واجهت نكبة أخرى عام 1999 إذ أغرق فيضان عارم الكثير من معالمها التاريخية .
وفي أول ليلة قضيناها في دريسدن سهرنا في مطعم يقدم لزبائنه دجاجاً مشوياً مع المشروبات ، قال دليلنا ومرافقنا إنه يدعى " كوخ الحرامية " . وقد انطلقنا هناك في تلك الليلة ، فسكرنا وابتهجنا وغنينا شيئاً من أغانينا العراقية بصوت عال ، فاجتمع حولنا جمع من الألمان شاركنا انطلاقنا وبهجتنا ، وحاول أن يردد معنا لوازم بعض الأغاني .
ولست أذكر أفي دريسدن أم فايمر أخذنا مضيفونا إلى موقع خارج المدينة أشيه بسجن قديم ، وربما كان سجناً في حقيقة الأمر ، ليرونا أفران الغاز التي كانت تحرق فيها جثث المغدورين اليهود وغيرهم فيها . ولكن ما رأيناه داخل هذا السجن كان غرفة محدودة المساحة ، فيها ما يشبه أفران الحمامات في البيوت العراقية القديمة ، وللأفران فتحات يبدو عليها أنها أضيق من أن تتسع لجثة إنسان ، وهذا ما جعل زميلنا البصري ينكر أن تكون أفراناً مخصصة لهذا الغرض .
وقد أحسسنا خلال هذه الزيارة أن النظام الحاكم يعاني من ظروف عصيبة ، وأنه آيل إلى زوال . فقد كان كثيرون ممن بادرونا بالحديث ، ولا سيما الشباب ، يعبرون عن سخطهم عليه علناً ، دون أن نسألهم رأيهم فيه . أما السياح البولونيون فكانوا أكثر قسوة في حديثهم عنه ، كانوا يشتمون ويلعنون دونما خوف أو حذر .
فاتني أن أذكر أننا لم نستقبل خلال هذه الزيارة من قبل أي مسؤول ألماني . فلا نحن طلبنا ولا هم طلبوا أو اقترحوا ، ولعلهم اكتفوا باختيارهم دليلنا ، وبذلك كنا أكثر حرية وانطلاقاً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق