«الجداول»... من بعد هذه السنين*
بقلم : الاستاذ الدكتور سعيد عدنان
حين صدر (الجداول) في مطالع القرن العشرين أخذ مدى واسعاً، ولقي قبولاً حسناً، وأقبل عليه القرّاء في المدن العربيّة. كان إيليا أبو ماضي قد تقلّبت به الحياة، واختلفت ألوانها عليه؛ من لبنان إلى مصر، ثمّ إلى الولايات المتّحدة؛ يعمل كثيراً، ويقرأ قليلاً، ويتأمّل، في كلّ أحواله، مجرى الحياة، وما يصطرع فيها من خير وشرّ، ويدوّن ما توحي أحداثها إليه من شعر.
لم تكن له رصانة شعراء النهضة كالبارودي، وشوقي، وحافظ، ولم تكن له ديباجتهم؛ لكنّه كان يخوض في ما لم يكونوا يخوضون فيه، كان يقترب بالشعر من قضايا الناس، ولا يقول إلّا ما ينبثق من نفسه، غير محتفل باللغة وأصالة بيانها. كان قد أصدر قبل (الجداول) ديوانين؛ هما: (تذكار الماضي) و(وديوان إيليا أبو ماضي)، وكأنّهما كانا الطريق نحو (الجداول) حيث تكامل إعرابه عن نفسه.
لقي (الجداول) يوم صدر شيئاً كثيراً من الترحيب، ورأى فيه الناس عنوان أدب عربيّ جديد يُكتب في المهجر الأمريكيّ؛ إذ كان جبران خليل جبران يبتكر نثراً عليه ميسمه، وكان ميخائيل نعيمة يدعو إلى مغادرة القديم، والتعلّق بالجديد، وكان أبو ماضي يقول الشعر بما يفارق النمط السائد. لقد شرع أفق رومانسي بالظهور، وطفق يزحزح البناء الكلاسي شيئاً ما، وتطلّع القراء إلى أشياء جديدة في الأدب، وقد وجدوا بعضها في (الجداول). كانت قصيدة (الطين) ممّا سار من قصائد الديوان فحُفظت، وأُنشدت في المجالس، ودخلت إلى المدارس، وصارت على ألسنة الطلبة يستعيدون أبياتاً منها، وربّما وجد الفقير ضرباً من العزاء وهو ينشد:
نسي الطينُ ساعةً أنّه طين ... حقيرٌ فصال تيهاً وعربدْ
وكسا الخزُّ جسمه فتباهى ... وحوى المالَ كيسُه فتمرّدْ
يا أخي لا تمل بوجهك عنّي...ما أنا فحمةٌ ولا أنت فرقدْ
ولم يتساءل أحد، يومئذٍ، عن مبلغها من الشعر؛ فقد أُخذ قارئها بفكرتها، ونزوعها الاجتماعيّ، وبما استدعت من قصائد كانت تقوم على الموعظة، والتذكير بأنّ المال زائل لا ثبات له، وأنّ الإنسان أخو الإنسان.
غير أنّ القصيدة التي ملأت الأفق، وشغلت الناس، ولقيت القبول، والإنكار، واقترنت باسم إيليا أبو ماضي، فما أن يُذكر حتّى تُذكر؛ إنّما هي (الطلاسم) ذات التساؤل، والحيرة، والريب الذي يدهم كلّ شيء. يقول في مطلعها:
جئت، لا أعلم من أين، ولكنّي أتيتُ
ولقد أبصرت قدّامي طريقاً فمشيتُ
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيتُ
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لستُ أدري
وكلّها على هذا النهج الحائر، المتشكك، الذي لا يركن إلى يقين. فما كان لها، وقد مضت بعيداً في زعزعة الثوابت، أن تسلم من النقض؛ فقد ردّ محمّد جواد الجزائري على أبي ماضي تساؤله، وصنع مثله عبد الحميد السماوي؛ لكنّ قصيدتيهما إن اتّسمتا بحسن السبك، وجودة اللفظ فإنّهما تفتقران إلى ما في (الطلاسم) من عنف السؤال وحرارته؛ وفرقٌ بين برد اليقين، وتلهّب الشك.
بيد أنّه لم تمض سنوات حتّى انزلقت القصيدة، وما قيل في نقضها، نحو تاريخ الأدب، وشرعت تفقد حيويتها شيئاً فشيئاً.
وفي الديوان قصائد أخرى؛ كانت لها سيرورة منذ صدوره؛ كمثل (العنقاء)، و(تعالي)، و (المساء)، و(التينة الحمقاء)، و(من أدب الزنوج)؛ لكنّ سيرورتها انقطعت بعد زمن يسير. وكأنّ لكلّ قصيدة عمراً؛ إذا استوفته استقرّت في ركن التاريخ!
وقد تسأل؛ لِمَ يطول عمر قصيدة حتّى تزاحم الأبد، ويقصر عمر أخرى؟
وقد يكون في الإجابة؛ أن ممّا يمدّ بعمر قصيدة ما: أصالة فكرتها، وحيويّة لغتها، وانبثاقها عن تجربة تتّسم بالسعة والعمق، وانسجام الشكل مع المحتوى حتّى لا انفصال بينهما؛ فإذا نقص شيء من ذلك تقلّص عمر القصيدة، وتضاءل مداها. وربّما تنال قصيدة في زمن حظوة، ثمّ يدركها النسيان!
كان (الجداول) ممّا يتمثّل به الجديد في مطالع القرن العشرين حتّى أواخر النصف الأول منه، ثمّ جنح نحو زاوية من التاريخ؛ ولعلّ من سبب ذلك أنّ الشاعر لم يُعنَ بلغته، ولم يصقلها، ولعلّ من سببه أيضاً؛ أن الشكل لم ينسجم مع المحتوى تمام الانسجام، وربّما بدت الأفكار التي بُنيت عليها القصائد مفتقدة الجدّة، والأصالة. لكنّه، مع ذلك كلّه، يبقى من معالم التجديد في مطلع القرن العشرين..!
*http://www.alaalem.com/
بقلم : الاستاذ الدكتور سعيد عدنان
حين صدر (الجداول) في مطالع القرن العشرين أخذ مدى واسعاً، ولقي قبولاً حسناً، وأقبل عليه القرّاء في المدن العربيّة. كان إيليا أبو ماضي قد تقلّبت به الحياة، واختلفت ألوانها عليه؛ من لبنان إلى مصر، ثمّ إلى الولايات المتّحدة؛ يعمل كثيراً، ويقرأ قليلاً، ويتأمّل، في كلّ أحواله، مجرى الحياة، وما يصطرع فيها من خير وشرّ، ويدوّن ما توحي أحداثها إليه من شعر.
لم تكن له رصانة شعراء النهضة كالبارودي، وشوقي، وحافظ، ولم تكن له ديباجتهم؛ لكنّه كان يخوض في ما لم يكونوا يخوضون فيه، كان يقترب بالشعر من قضايا الناس، ولا يقول إلّا ما ينبثق من نفسه، غير محتفل باللغة وأصالة بيانها. كان قد أصدر قبل (الجداول) ديوانين؛ هما: (تذكار الماضي) و(وديوان إيليا أبو ماضي)، وكأنّهما كانا الطريق نحو (الجداول) حيث تكامل إعرابه عن نفسه.
لقي (الجداول) يوم صدر شيئاً كثيراً من الترحيب، ورأى فيه الناس عنوان أدب عربيّ جديد يُكتب في المهجر الأمريكيّ؛ إذ كان جبران خليل جبران يبتكر نثراً عليه ميسمه، وكان ميخائيل نعيمة يدعو إلى مغادرة القديم، والتعلّق بالجديد، وكان أبو ماضي يقول الشعر بما يفارق النمط السائد. لقد شرع أفق رومانسي بالظهور، وطفق يزحزح البناء الكلاسي شيئاً ما، وتطلّع القراء إلى أشياء جديدة في الأدب، وقد وجدوا بعضها في (الجداول). كانت قصيدة (الطين) ممّا سار من قصائد الديوان فحُفظت، وأُنشدت في المجالس، ودخلت إلى المدارس، وصارت على ألسنة الطلبة يستعيدون أبياتاً منها، وربّما وجد الفقير ضرباً من العزاء وهو ينشد:
نسي الطينُ ساعةً أنّه طين ... حقيرٌ فصال تيهاً وعربدْ
وكسا الخزُّ جسمه فتباهى ... وحوى المالَ كيسُه فتمرّدْ
يا أخي لا تمل بوجهك عنّي...ما أنا فحمةٌ ولا أنت فرقدْ
ولم يتساءل أحد، يومئذٍ، عن مبلغها من الشعر؛ فقد أُخذ قارئها بفكرتها، ونزوعها الاجتماعيّ، وبما استدعت من قصائد كانت تقوم على الموعظة، والتذكير بأنّ المال زائل لا ثبات له، وأنّ الإنسان أخو الإنسان.
غير أنّ القصيدة التي ملأت الأفق، وشغلت الناس، ولقيت القبول، والإنكار، واقترنت باسم إيليا أبو ماضي، فما أن يُذكر حتّى تُذكر؛ إنّما هي (الطلاسم) ذات التساؤل، والحيرة، والريب الذي يدهم كلّ شيء. يقول في مطلعها:
جئت، لا أعلم من أين، ولكنّي أتيتُ
ولقد أبصرت قدّامي طريقاً فمشيتُ
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيتُ
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لستُ أدري
وكلّها على هذا النهج الحائر، المتشكك، الذي لا يركن إلى يقين. فما كان لها، وقد مضت بعيداً في زعزعة الثوابت، أن تسلم من النقض؛ فقد ردّ محمّد جواد الجزائري على أبي ماضي تساؤله، وصنع مثله عبد الحميد السماوي؛ لكنّ قصيدتيهما إن اتّسمتا بحسن السبك، وجودة اللفظ فإنّهما تفتقران إلى ما في (الطلاسم) من عنف السؤال وحرارته؛ وفرقٌ بين برد اليقين، وتلهّب الشك.
بيد أنّه لم تمض سنوات حتّى انزلقت القصيدة، وما قيل في نقضها، نحو تاريخ الأدب، وشرعت تفقد حيويتها شيئاً فشيئاً.
وفي الديوان قصائد أخرى؛ كانت لها سيرورة منذ صدوره؛ كمثل (العنقاء)، و(تعالي)، و (المساء)، و(التينة الحمقاء)، و(من أدب الزنوج)؛ لكنّ سيرورتها انقطعت بعد زمن يسير. وكأنّ لكلّ قصيدة عمراً؛ إذا استوفته استقرّت في ركن التاريخ!
وقد تسأل؛ لِمَ يطول عمر قصيدة حتّى تزاحم الأبد، ويقصر عمر أخرى؟
وقد يكون في الإجابة؛ أن ممّا يمدّ بعمر قصيدة ما: أصالة فكرتها، وحيويّة لغتها، وانبثاقها عن تجربة تتّسم بالسعة والعمق، وانسجام الشكل مع المحتوى حتّى لا انفصال بينهما؛ فإذا نقص شيء من ذلك تقلّص عمر القصيدة، وتضاءل مداها. وربّما تنال قصيدة في زمن حظوة، ثمّ يدركها النسيان!
كان (الجداول) ممّا يتمثّل به الجديد في مطالع القرن العشرين حتّى أواخر النصف الأول منه، ثمّ جنح نحو زاوية من التاريخ؛ ولعلّ من سبب ذلك أنّ الشاعر لم يُعنَ بلغته، ولم يصقلها، ولعلّ من سببه أيضاً؛ أن الشكل لم ينسجم مع المحتوى تمام الانسجام، وربّما بدت الأفكار التي بُنيت عليها القصائد مفتقدة الجدّة، والأصالة. لكنّه، مع ذلك كلّه، يبقى من معالم التجديد في مطلع القرن العشرين..!
*http://www.alaalem.com/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق