الملك فيصل الاول 1921-1933 ودوره في تأسيس الدولة العراقية الحديثة
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس –جامعة الموصل
رحم الله المؤرخ ، وشاعر ثورة 1920 الاستاذ الدكتور محمد مهدي البصير حين قال سنة 1934 :" إن الجيل الحاضر ، قد لايدرك كل الادراك ، قيمة الاعمال الخطيرة التي قام بها البطل الراحل فيصل الاول ، ولكن الاجيال القادمة ستفهم كل الفهم ،وتقدر كل التقدير، إخلاص فيصل ، وجهاده وتضحيته " .
ومن هما أود القول –وبكل ثقة – أنني أحب فيصل الاول ملك العراق 1921-1933 ، مع أنني جمهوري النزعة .. وسبب حبي للملك فيصل الاول (رحمه الله ) هو أنني أعده مؤسسا للدولة العراقية الحديثة . فضلا عن انه أحد أبرز الرجالات الذين قامت على أكتافهم النهضة العربية المعاصرة .والملك فيصل الاول ، رجل نال الكثير من الاحترام والتقدير ، وقد وضعه المؤرخون العرب والاجانب في مكانه الذي يستحقه لما كان يتميز به من حكمة ، ودراية ، وغيرة ، وهمة لبناء الدولة العربية ، والسعي لان يكون لها مكانا لائقا تحت الشمس في ظروف صعبة، وملابسات شديدة التعقيد ، وتآمر على وحدة الامة واستقلالها .
كُتب الكثير عن الملك فيصل ، ولايزال في ذاكرتي كتاب للصديق المرحوم الاستاذ الدكتور محمود زايد المؤرخ الفلسطيني الكبير الموسوم :" في مفهوم الزعامة العربية :من فيصل الاول الى جمال عبد الناصر " . وكلا الرجلين أحبهما وأعلق صورتهما في صدر مكتبتي الشخصية ، وأراهما يختصران التاريخ العربي المعاصر بكل معالمه ، وملامحه ، ويجسدانه في سلسلة من الانجازات السياسية ، والفكرية ، والاقتصادية ، والاجتماعية التي ليس من السهولة تجاهلها ، أو غض الطرف عنها لما تركته من آثار بارزة ، وبصمة واضحة في البنيان العربي العام .
وممن لازلت أذكره على صعيد الكتابة عن الملك فيصل الاول ما كتبه صديقي المؤرخ الشهيد الاستاذ الدكتور جاسم محمد الحربي عن "الملك فيصل :حياته ودوره السياسي في الثورة العربية وسورية والعراق 1883-1933 " والمطبوع ببغداد سنة 1990 .فالكتاب جامع شامل ، لم يترك المؤلف لاصغيرة ولاكبيرة في حياة وفكر وجهاد الملك فيصل إلا وتناولها بالبحث والتدقيق ووقف عندها بالمعلومة والوثيقة .ويقينا ان هذا الكاتب ، يعد أول دراسة أكاديمية شاملة عن الملك فيصل الاول .وقد إنطلق الكتاب من عدة حقائق منها ان الملك فيصل الاول يُعد واحدا من أبرز الشخصيات السياسية التي ظهرت على مسرح التاريخ العربي خلال النصف الاول من القرن العشرين ، لما قام به من دور متميز في أحداث سياسية وعسكرية مهمة في تاريخنا المعاصر ، فقد كان له الفضل الكبير في الاعداد والتخطيط للثورة العربية الكبرى التي فجرها الشريف حسين شريف مكة المكرمة ضد السيطرة العثمانية سنة 1916 . كما أنه قاد " الجيش العربي الشمالي " للثورة التي استهدفت تحرير الشام والعراق والحجاز وقد تمكن من دخول دمشق وتأسيس الحكومة العربية فيها سنة 1918 وشهد بكفاءته ، وحسن قيادته العديد من القادة العسكريين الغربيين .
وفي المؤتمر السوري العام في السادس من آذار سنة 1920 ، بويع فيصل ملكا على سوريا ، وتأسست المملكة السورية المتحدة . وعندما وقعت سوريا تحت الانتداب الفرنسي بموجب قرارات عصبة الامم في نيسان 1920 وحدوث الاصطدام بين القوات العربية والقوات الفرنسية في معركة ميسلون في تموز 1920 ، وسقوط المملكة السورية المتحدة ، واضطرار الملك فيصل الى ترك دمشق إتجه الى اوربا للدفاع عن "القضية العربية " وخاصة أمام مؤتمر الصلح في باريس سنة 1919 . وقد بذل الملك فيصل جهودا مشرفة من اجل تذكير الحلفاء بتعهداتهم للعرب قبل الحرب بأن يساعدوهم في إقامة الدولة العربية المتحدة .
لقد توصل الحلفاء الذين خاضوا الحرب العالمية الاولى ضد الدولة العثمانية وحلفائها الالمان الى سلسلة من التسويات والمساومات كان من نتيجتها ان العراقيين ، إختاروا فيصلا لآن يكون ملكا على العراق ، لذلك بويع في 23 آب 1921 . ويقينا ان قرار العراقيين هذا والمتمثل بنخبة طيبة من الرجالات الوطنيين حظي بدعم بريطانيا الدولة المنتدبة على العراق بموجب قرارات " مؤتمر الحلفاء العام " في سان ريمو 1920 وقد جاء ذلك محاولة منها لامتصاص نقمة العراقيين بعد ثورتهم الكبرى سنة 1920 ولتحسين صورتها أمام الرأي العام العربي .ويبدو ان بريطانيا حسبت بأن الملك فيصل الذي أخرجه الفرنسيون من سوريا سيكون طوع بنانها ، ويسير وفق سياساتهم الاستعمارية في العراق ، لكن سرعان ما نشأ صراع خفي بينهم وبين الملك فيصل الاول الذي انتهج سياسة "خذ وطالب " والتي قال عنها المربي والمفكر الكبير الاستاذ ساطع الحصري انها : " لو لم تكن تحمل نفس فيصل الكبيرة كان يمكن ان تصبح سياسة مضرة .إن " سياسة خذ وطالب " التي وضعها الملك فيصل لنفسه ولدولته والتي أوصلت العراق الى أوج رفعته أججت في اعماق صدره سعيرا من الوطنية الخالصة وكانت –بحق –طاقة لاتنضب من روح النشاط والمثابرة " .
كان الملك فيصل الاول على صلة بالمعارضين العراقيين .. يستمع اليهم ، ويحاورهم ، ويحاول ان يشعر المنتدبين الانكليز أنه واقع بين المطرقة والسندان .. وكانت قولته الشهيرة للمعارضة العراقية :"لاتجعلوا فيصلا معلقا بين السماء والارض " .وقد أدركت سلطات الانتداب البريطانية حجم المسؤولية الملقاة على الملك فيصل ، وخاصة في مجال تنفيذ برنامجه العام في وضع الركائز الاساسية للدولة العراقية الحديثة .
لقد كان الملك فيصل يحرض العناصر المعارضة للجهر بصوتها ، والمطالبة بالاستقلال التام وبناء الدولة على أسس وطنية . وقد ظهر ذلك واضحا عند إبرام المعاهدات بين العراق وبريطانيا في سنة 1922 و1927 و1930 . وفي الانتخابات البرلمانية ، وتشكيل المجلس التأسيسي ، وفي توجيه التربية والتعليم على أسس وطنية ، وقومية ، وفي العلاقات السياسية مع دول الجوار ، وفي حل المشكلات العالقة معها وخاصة في العلاقة مع تركيا التي طالبت بولاية الموصل ، ورفضت ان تكون ولاية الموصل ضمن الدولة العراقية الجديدة لكن الشعب العراقي ، وأهالي الموصل ، ومساعدة بريطانيا كانت الى جانب إنهاء المشكلة بصدور قرار عصبة الامم ، وعقد مؤتمر لوزان ، وصيرورة الموصل جزءا من الدولة العراقية ، وعقد اتفاقية 1926 مع الجمهورية التركية والاعتراف بخط بروكسل الفاصل بين العراق وتركيا .
لقد واجه الملك فيصل الاول في أول أيام حكمه في العراق الكثير من المشاكل . ففضلا عن موقف تركيا ، وموقف ايران التي رفضت الاعتراف بالدولة العراقية ، وتأخر اعترافها حتى سنة 1929 لوجود مشاكل عالقة؛ فأن الملك فيصل واجه معارضة بعض المراجع الدينية العراقية في الوسط والجنوب ضد الانتخابات وتشكيل المجلس التأسيسي وكانت السلطات المنتدبة البريطانية في بغداد تضغط على الملك فيصل وتريده ان يوافق على سياساتها تجاه سير الامور في العراق ، وخاصة في مواجهة الانتفاضات الشعبية في الشمال والوسط والجنوب . لكن الملك فيصل استطاع بحكمته ودرايته ان يدير عجلة الحكم - بكل دقة ونجاح - وقد أجمع المراقبون والكتاب والمؤرخون على انه أي الملك فيصل استطاع ان يؤسس الدولة العراقية الحديثة ، ومن هنا فهو بحق يعد "باني مجد العراق ومؤسس دولته الحديثة " .وقد اتضح جهد الملك فيصل وفضله في هذا المجال بعد غيابه بوفاته سنة 1933 ومجيئ ولده الملك غازي 1933-1939 والذي شهدت البلاد في عهده الكثير من المشاكل الداخلية والخارجية . فضلا عن ظهور قوى سياسية مختلفة ومتباينة الاتجاهات .
ولد الملك فيصل الاول في مدينة مكة المكرمة في العشرين من أيار سنة 1883 وهو الابن الثالث للشريف حسين بعد علي وعبد الله ، وكعادة الناس في تلك الايام ، فقد ارسل الى البادية ليتعلم الفروسية وركوب الخيل والابل وقد تعلم الكثير من بقاءه في البادية . وقد عاد الى مكة بعد بلوغه السابعة من عمره ، وبدأ يتلقى دروسا في قواعد اللغة العربية ، ومبادئ اللغة العربية على أيدي معلمين متخصصين ، كما حفظ القران الكريم ، وقد سافر فيصل مع والده الى استانبول ، وفيها أقام في قصر خاص يطل على البوسفور . وقد بدأ الدراسة الرسمية ، وأخذ يتلقى دروسا في اللغات التركية ، والفرنسية ، والانكليزية ، والتاريخ ، والجغرافية ، والحساب .كما تلقى على يد الاستاذ في المدرسة الحربية صفوت العوا دروسا في الفنون العسكرية . وكل هذا اتاح لفيصل التعرف على أنماط الثقافة الغربية ودون ان يترك الاصول ، والتقاليد والاحكام العربية والاسلامية .
وفي استنبول تزوج من ابنة عمه ( الاميرة حزيمة ) . وحين وقع الانقلاب الدستوري العثماني في 23 تموز 1908 عاد الى مكة بعد أن امضى في استنبول 15 سنة وكان قد بلغ عند عودته ال25 سنة من عمره .
بعد عودته الى الحجاز كلفه والده الشريف حسين بقيادة قوة قامت بأخضاع إحدى القبائل الثائرة على الدولة . ويقينا انه ما كان كلفه بهذه المهمة لولا إدراكه بأن فيصل يتمتع بكفاءة عسكرية قيادية .
في سنة 1909 انتخب فيصل مبعوثا (نائبا ) عن جدة في مجلس المبعوثان أي النواب العثماني .كما انتخب شقيقه عبد الله نائبا عن مكة وقد حضر الاثنان احتفالية افتتاح مجلس المبعوثان العثماني وأسهما في مناقشاته ، وخاصة فيما يتعلق بالاوضاع في الحجاز .وعندما وقعت ثورة في عسير سنة 1911 ، قاد فيصل - وبطلب من الدولة العثمانية - حملة عسكرية لاخضاع محمد بن علي الادريسي وقد فشل فيصل في المهمة والتقى احد الاسرى من امارة عسير والذي خاطبه بالقول ان العثمانيين خدعوا العرب ، وانهم لم يقدموا لهم شيئا ولابد من الثورة عليهم . وثمة من يقول ان هذه الحادثة دفعت فيصل لان يتخذ قرارا مع نفسه في ان ينتصر للعرب في مواجهة الدولة العثمانية . وعندما سافر الى دمشق لحماية " المحمل الشامي " المتوجه الى الحجاز أواخر سنة 1911 ، تيسرت له الفرصة للالتقاء برجالات الحركة العربية القومية من اعضاء الجمعيات السياسية السرية المناهضة للسيطرة العثمانية . وعندما نشبت الحرب العالمية الاولى ، عاد فيصل الى الحجاز ، وفي طريق عودته مر بمصر ، وهناك التقى مع ( رونالد ستورس ) السكرتير الشرقي للمعتمد البريطاني في القاهرة وجرى في اللقاء مناقشة القضية العربية واستقلال العرب وقد سمع من ستورس ان بريطانيا تدعم الاستقلال العربي .
يعرف الجميع ان الاتحاديين أي جماعة ( حزب الاتحاد والترقي ) قد نهجوا بعد انقلابهم في سنة 1908 ، وخلعهم للسلطان عبد الحميد الثاني 1876 -1909 في سنة 1909 قد سلكوا سلوكا عنصريا متطرفا ؛ فإنتهجوا سياسة التتريك ، والعنصرية الطورانية ، والمركزية الشديدة .وقد ساءت العلاقة بين الشريف حسين شريف مكة مع الاتحاديين الذين عملوا على الحد من نفوذه الديني والسياسي في الحجاز ، وعينوا ( وهيب بك ) واليا على الحجاز والذي أخذ على عاتقه الحد من نفوذ الشريف حسين وقد قرر الشريف حسين ارسال ولده فيصل الى استانبول لعرض الموضوع على الباب العالي هناك كما طلب منه استمزاج رأي رجالات الحركة العربية القومية سرا ، وخاصة من الضباط العرب ومعرفة موقفهم من الاتحاديين وسياستهم المتطرفة ضد العرب والعناصر غير التركية .
وفي اذار سنة 1915 سافر فيصل الى دمشق والتقى بأعضاء من جمعيتي (العهد ) و( العربية الفتاة ) السريتين العاملتين ضد السيطرة العثمانية . وقد حدث الاصطدام مع السلطات العثمانية بعد إقدام والي سورية ( جمال باشا ) على القاء القبض على عدد من رجالات الحركة القومية العربية بتهمة العمل ضد الدولة العثمانية واعدمهم في ايار سنة 1916 بعد ان وعد فيصل ان لايعدمهم ، وقيل ان فيصل عندما سمع الخبر وكان في مزرعة ال البكري بدمشق يتناول الفطور، انتفض ، ونزع كوفيته من فوق رأسه ورماها على الارض ، وسحقها بقدمه وصرخ بصوت جهوري :" طاب الموت ياعرب " .وعاد الى الحجاز وبدأ الاعداد للثورة ضد العثمانيين بعد ان وقع مع قادة الحركة العربية القومية سرا بروتوكول أو ميثاق دمشق كما تم التنسيق مع ضابط المخابرات البريطاني لورنس في تشرين الاول 1916 وتحدث لورنس في كتابه :"أعمدة الحكمة السبعة " عن لقاءه بفيصل في وادي الصفراء القريب من دمشق وقال :" وما كاد نظري يقع عليه أي على فيصل حتى ايقنت بأنه الشخص الذي جئت لابحث عنه في بلاد العرب ،وإنه القائد الذي سيسير بالثورة العربية الى مجدها " .
ابتدأت العمليات العسكرية في الحجاز في الخامس من حزيران سنة 1916 ، واعلن الثوار الاستقلال عن الدولة العثمانية ومن بعد ذلك دخل فيصل دمشق في الثالث من تشرين الاول 1918 وقد استقبل الشعب في سوريا فيصل استقبالا يليق به حتى ان السياسي السوري يوسف الحكيم في ذكرياته عن سوريا والعهد الفيصلي يقول ان الامير فيصل حل من القلوب في الصميم . وبعد صوله بيومين ، نشر بيانا أعلن فيه تأسيس حكومة عربية بأسم والده الشريف حسين . وقد كتبت الدكتورة خيرية قاسمية عن هذه الحكومة اطروحتها ونشرت في كتاب .وفي البيان اوضح فيصل سياسته العامة وناشد السكان المحافظة على الهدوء واطاعة الاوامر وتعهد بأن يكون بمثابة الاب الشفوق على الجميع ، وهدد من يخرق القوانين بالعقاب وقال ان الحكومة تنظر الى كل المواطنين نظرة واحدة وهي لاتفرق بين المسلم والمسيحي والموسوي .
بويع فيصل ملكا على سورية ، وابتدأت مرحلة جديدة في حياته انتهت بمعركة ميسلون مع القوات الفرنسية في تموز 1920 ومغادرة فيصل واستشهاد وزير الدفاع يوسف العظمة في القتال مع الفرنسيين الطامعين في سوريا وقد جاء ذلك كله حصيلة للمساومات بين الانكليز الذين ارادوا الموصل الغنية بالنفط والواقعة ضمن اتفاقية سايكس –بيكو في منطقة النفوذ الفرنسي . ولذلك قصة وهي ان لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني ساوم كليمنصو رئيس الوزراء الفرنسي الذي سأل لويد جورج بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى وانتصار الحلفاء انتم ماذا تريدون ؟ فقال له لويد جورج نريد الموصل ، فرد عليه كليمنصو خذوها ، ولكن اتركوا لنا سوريا فوافق لويد جورج ورفع الانكليز يدهم عن سوريا ، حتى ان أحد المؤرخين قال : " ان بريطانيا باعت عرش فيصل في سوريا بنفط الموصل " .
فيما يتعلق بدور الملك فيصل الاول في العراق فكما سبق ان أشرنا في بداية الموضوع ان العراقيين اختاروه ملكا عليهم وقد بويع ونصب ملكا في 21 اب سنة 1921 ملكا . وكانت بريطانيا قد اقترحت ذلك بعد أن أخرجه الفرنسيون من دمشق مباشرة . وكما هو معروف فإن بريطانيا ارادت بتلك الخطوة تحقيق بضغة اهداف منها : السعي بإتجاه تحسين صورتها التي ساءت بسبب نقضها للوعود التي اعطتها للشريف حسين قبل اعلانه الثورة على العثمانيين من انها ستساعده في اقامة الدولة العربية الموحدة والمستقلة .كما ان بريطانيا حسبت ان فيصل –بما يمتلك من شخصية متزنة وحكيمة –قادر على إدارة العراق ، وجمع العراقيين خاصة وانه كان يحتفظ بعلاقات مع عدد من المسؤولين البريطانيين وهم الذين كانوا يقبضون على السلطة في العراق بموجب قرار عصبة الامم بالانتداب البريطاني على العراق في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الاولى وإحتلال البريطانيين للولايات العراقية الثلاث البصرة 1914 وبغداد 1917 والموصل 1918 .وثمن من يضيف سببا اخر لاختيار فيصل وهو ان العراقيين ارادوا ان يكون أحد انجال الشريف حسين ملكا عليهم ، وان بإمكان فيصل الذي يحمل افكارا ليبرالية ودينية الوقوف ضد الافكار البلشفية الاشتراكية التي وجدت لها طريقا الى العراق قبل الحرب العالمية الاولى .كما ان بقية الذين رشحوا للمنصب في العراق ومنهم عبد الرحمن النقيب والشيخ خزعل امير المحمرة والامير برهان الدين والسيد طالب النقيب لم يكونوا بمستوى شخصية فيصل والكاريزما التي يتمتع بها .
في الحادي عشر من تموز 1921 ، قرر مجلس الوزراء العراقي برئاسة السيد عبد الرحمن النقيب المناداة بفيصل ملكا على العراق على ان تكون حكومته حكومة دستورية، نيابية ، ديموقراطية مقيدة بالقانون .وقد أخذ متصرفو الالوية آراء الناس التي دونونها في " مضابط خاصة" ، ووقعوا عليها . وقد تسلم سلطاته الدستورية في 21 اب 1921 .
بعد ان اصبح فيصل ملكا على العراق قام بزيارة المراقد المقدسة في الكاظمية ، ومرقد الامام ابي حنيفة في الاعظمية ، ومرقد الشخ عبد القادر الكيلاني وذلك للتعبير عن سياسته في جمع العراقيين ، وتوحيدهم .كما التقى ممثلين عن الطوائف غير الاسلامية كالمسيحيين واليهود لطمأنتهم على انهم والمسلمين في خندق واحد وبودقة وطنية عراقية واحدة وبهذا النفس التسامحي المعتمد على المحبة وعدم التهميش والاقصاء ، ابتدأ الملك فيصل عهده فأحبه العراقيون جميعا وأحترموه وتفاعلوا معه تفاعلا ايجابيا .
ومما يذكر في هذا الصدد ان الملك فيصل في كل زياراته تلك ، كان يؤكد بأن حكومته مدنية ديموقراطية وان شعاره :" الدين لله والوطن للجميع " .وقد بادله العراقيون الشعور ذاته حتى ان الشيخ محمد مهدي الخالصي قال له عند زيارته للكاظمية :" اننا نبايعك ملكا على العراق ،على ان تسيروا بالحكم سيرة عادلة ، وعلى ان يكون الحكم دستوريا نيابيا ، وان لايتقيد العراق على عهدكم بأية قيود اجنبية " ..وقد وعده الملك فيصل خيرا وأكد انه جاء لخدمة البلاد .
وفي الكلمة التي القاها في المدرسة الجعفرية ، وعد بإنتاج سياسة التسامح والمحبة وقال انه :" لم يأت العراق للبحث عن عرش أو فخر أو مجد وإنما غايته خدمة العراق ".وقال :"لم أقم أنا ولم يقم والدي ولا أحد من افراد اسرتي بعمل من اعمال النهضة ولهم مطمع في شيئ بل انما قمنا بأعمالنا ابتغاء لوجه الله ...اقسم بشرفي وبتربة اجدادي ، لولا الحاح من أكثر اصدقائي ومجموع الامة العراقية –الشعب العراقي – لما خطر في بالي أن آتي الى العراق " .
وأمام وفد الموصل قال الملك فيصل ان ماحدث له في سورية جعله يتعلم كيف يتصرف في العراق ، وكيف يخدمه الخدمة الواجبة .. ومع انه اكد بأن بريطانيا عازمة على مساعدته ، لكنه طالب العراقيين بالاعتماد على انفسهم وبالوحدة فيما بينهم لان "الانقسام يؤدي الى ضياع الاستقلال " .
يقينا ان الملك فيصل كان يدرك ان بريطانيا لاتفكر الا بمصالحها ، وأنها أبعد ماتكون عن الوفاء بوعودها ، وان تخليها عنه اثناء اشتداد الازمة مع الفرنسيين في سوريا اكبر دليل على ذلك . ومع هذا حرص الملك فيصل على توضيخ الخطوط العريضة لسياسته مع بريطانيا ، وابرزها التأكيد على مبدأ التعاون مع بريطانيا ، والحصول على الاستقلال تدريجيا وبالطرق الدبلوماسية .
في حفل تتويجه يوم 23 اب سنة 1921 شكر الملك فيصل الشعب العراقي ووعد بالمباشرة بإجراء انتخابات المجلس التأسيسي،لوضع دستور للبلاد وعلى قواعد الحكومات السياسية الديموقراطية وعلى ان يصادق المجلس التأسيسي على المعاهدة مع الدولة المنتدبة بريطانيا التي ستحدد العلاقة بين البلدين .
وبعد انتهاء حفل التتويج ، انصرف الملك فيصل للعمل ، وابتدأ بالاتصال برجال البلد وقادتهم .كما قام بجولات طويلة في مختلف الوية العراق ومن الالوية التي زارها لواء الموصل ولواء الحلة ولواءالمنتفك ، وقد زادته هذه الجولات قناعة ان العراقيين عازمون على الالتفاف حوله ، والعمل معه .لذلك وضع برنامجه الواسع في انهاء مشاكل العراق السياسية ، والشروع بتحديث العراق ، وبناء مؤسساته السياسية والادارية والعسكرية والقضائية ، والامنية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية فحسم مشكلة المعاهدة مع بريطانيا سنة 1922 وعالج مشاكل الحدود مع السعودية ومع تركيا وحسمت مشكلة الموصل حيث طالبت بها تركيا بصيرورتها جزءا من الدولة العراقية بعد تدخل بريطانيا وعصبة الامم وعقدت اتفاقية بين العراق وتركيا سنة 1926 التي انهت المشكلة وسادت العلاقات العراقية مع دول الجوار حالة من الاستقرار بفضل سياسة الملك فيصل ورجحان عقله ، وسيادة روح الحكمة والسلام لديه .
كما استطاع الملك فيصل إنهاء مشكلة مقاطعة مناطق الوسط والجنوب لانتخابات المجلس التأسيسي والذي افتتح رسميا يوم 27 آذار سنة 1924 وأقر القانون الاساسي (الدستور ) في 20 تموز 1924 ، وذلك من خلال خلق التوازن بين مطالب المعارضين واطماع الانكليز وتشددهم . وكان الملك فيصل قادرا على ان يلبي رغبات الشعب ، والاخذ برأيه في مواد المعاهدة من جهة . وان يضع بريطانيا أمام حقيقة وجوب تعديل مواد المعاهدة لاحقا بالشكل الذي يرضي الشعب من جهة اخرى .
لقد خاطب الملك فيصل أعضاء أول برلمان عراقي ، وهو المجلس التأسيسي العراقي موجها أنظار النواب ليس إلى كيان العراق السياسي ومشاكله الداخلية والخارجية وإنما إلى إنهاء الاحتلال وكانت الوسيلة انذاك التصديق على المعاهدة العراقية - البريطانية قائلا لهم :" أنا لا أقول إقبلوا المعاهدة أو أرفضوها إنما أقول لكم إعملوا ما ترونه ألانفع لمصلحة البلاد ؛ فإذا أردتم رفضها فلا تتركوا فيصلا معلقا بين السماء والارض بل أوجدوا لنا طريقا غير المعاهدة ، فلا تضعوا ما في يدكم من وسيلة للمحافظة على كيانكم..." .
وهنا لابد من التأكيد بأن العراقيين استطاعوا أن يدركوا أهمية التنظيم فأنشأوا احزابا وطنية منها " الحزب الوطني " و" حزب النهضة " ، وانطلقوا يفرضون شروطهم على سلطات الانتداب البريطاني ، وتأكيد قدراتهم في أن يحكموا انفسهم بأنفسهم والتعامل مع البريطانيين بالند .وقد عبر الملك فيصل عن هذه الحقائق في زيارته للموصل في آيار سنة 1923 بقوله :" وإنني معتقد بأن أبناء شعبي المخلص يشتركون معي في لزوم القيام بهذا الواجب –إجراء الانتخابات – لانهم سوف ينبذون كل من يريد ان يعرقل مساعينا ويقف عثرة في سبيل استقلالنا وسير حياتنا القومية .. وإني سوف أكون بعون الله رقيبا على تحقيق هذه ألمهمة ".وفي كلمته أمام وفد من وجهاء البصرة وأعيانها أكد الملك فيصل ان جمع المجلس التأسيسي وتصديق المعاهدة مع بريطانيا مسألة مهمة ، وضرورية لنيل الاستقلال .
كان الى جانب الملك نخبة طيبة من الرجال ، وقسم منهم كان يعمل معه في سوريا ، والقسم الاخر من زملائه أيام الدراسة في استانبول ، والقسم الاخر ممن قاتل معه أيام الثورة العربية الكبرى ، وقسم منهم من تعرف عليه في العراق . ولعل من أبزر الذين شكلوا طاقم العمل مع الملك فيصل ، جعفر العسكري ، وياسين الهاشمي ، ونوري السعيد ، وساطع الحصري ، وناجي شوكت ، ورستم حيدر ، وعبد المحسن السعدون ، وتوفيق السويدي، وعلي جودت الايوبي ، وجميل المدفعي ، وحنا خياط ، وساسون حسقيل ، ومحمود صبحي الدفتري، وأرشد العمري ، ورشيد عالي الكيلاني وعبد الله الدملوجي .وقد تسنم عدد من هؤلاء رئاسة الوزراء في عهده ، أو أصبحوا وزراء ، أو عملوا في مفاصل مهمة في الدولة من قبيل المؤسسة التعليمية ، والمؤسسة الامنية ، والمؤسسة القضائية ، والمؤسسة المالية ، والمؤسسة الاقتصادية والمؤسسة الادارية والمؤسسة المالية . ولم يكن العمل بين الملك فيصل ورجاله قائما على الانسجام التام ؛ فكثير ما كانت الخلافات تحتدم بين الطرفين لأمور تتعلق بالبلد ، وبوجهات النظر المختلفة حول حل مشاكله . وقد كتب المؤرخ العراقي المستشار خيري محمد أمين العمري عن ذلك في كتابه الشهير :" الخلاف بين البلاط الملكي ونوري السعيد " .
واجه الملك فيصل الاول مشاكل داخلية تمثل بعضها بتدهور الاوضاع في الموصل بعد ان قام الاثوريين بحركات مسلحة تطلبت تدخل الجيش الفتي .كما واجه انتفاضات الاكراد في الشمال بقيادة الشيخ محمود الحفيد البرزنجي .هذا فضلا عن وقوع احداث عنف في الكثير من المدن العراقية وخاصة في البصرة والديوانية وسوق الشيخ والموصل والسماوة وعفك في مايس 1931 بسبب اجراءات وزارة نوري السعيد في اقرار " قانون رسوم البلديات " . وقد عمت البلاد إضرابات عامة وأغلقت المحلات التجارية .كان الملك فيصل يواجه تلك المشاكل بحكمة ؛ فعلى سبيل المثال أصدر البلاط الملكي بيانا في أواخر ايلول وأوائل تشرين الاول سنة 1931 جاء فيه : ان الملك يدرك خطورة المأزق الاقتصادي الكبير الذي تواجهه البلاد ، وان لابد من تكاتف الشعب ، وان لابد من ان تأخذ الصحافة دورها في التوعية من أجل إعادة الامور الى نصابها الصحيح ، والآهم من ذلك كله ان الملك فيصل أمر بالغاء قانون رسوم البلديات ، وتم ذلك في العاشر من تشرين الاول سنة 1931 .
إن من الامور التي ينبغي أن نقف عندها أن الملك فيصل لم يكن سياسيا مغامرا ، وانما كان "رجل دولة " وعندما تسلم مسؤولياته في العراق سنة 1921 كانت المدن والقصبات العراقية متخلفة من جميع الجوانب الاقتصادية ، والادارية ، والاجتماعية ، والثقافية خاصة وانها كانت قد خرجت من أتون الحرب العالمية الاولى ، وأحداث الاحتلال البريطاني للعراق خلال تلك الحرب وما أعقب ذلك من إنتفاضات هنا وهناك والتي تطورت الى ثورة وطنية شاملة هي " ثورة 1920 الكبرى " .كانت المدن العراقية خاوية على عروشها .. ولم يكن ثمة شوارع ، ومتنزهات ، ومؤسسات صناعية ، وزراعية ، والتعليم كان محدودا .. والامية منتشرة ، لكن الملك فيصل استطاع ان يعمق الوعي الوطني لدى الناس، ويخلق لديهم الهمة والرغبة في إعادة بناء وطنهم ، والمشاركة في حل مشاكله الداخلية والخارجية ، وابتدأ الملك بالجيش ووضع أسسه الوطنية وتحسين وضعه القتالي وتحديد عقيدته القتالية وتزويده بالاسلحة وجعله قادرا على الحفاظ على وحدة البلاد وضمان امنه الوطني والقومي .ويقينا انه واجه من اجل ذلك صعوبة كبيرة لكنه تجاوز تلك الصعوبات بمساعدة عدد من بناة الجيش وفي مقدمتهم الضباط الذين كانوا يخدمون في الجيش العثماني، وفي الجيش العربي الهاشمي وفي مقدمتهم الفريق الركن جعفر العسكري وزير الدفاع .
وفي المجال الاقتصادي عمل الملك فيصل على وضع الاسس الصحيحة لبناء اقتصاد وطني يساعد في تقدم العراق .وهنا لابد من الاشارة الى سياسة الملك فيصل النفطية ، وتساهله مع بريطانيا بشأن تعزيز دور شركة النفط التركية ، ومنح الامتيازات، ومد انابيب النفط الى سواحل البحر المتوسط عبر سوريا .كما اهتم بالزراعة ، وشجع على انشاء الجمعيات الفلاحية والشركات الزراعية الاهلية . وكان الملك فيصل يعد نفسه (السركال الاكبر ) . كما شجع الملك على انشاء مصرف زراعي والاخذ بأيدي الفلاحين للاهتمام بزراعة الفواكه والقطن والتبغ ، وجلب المكائن لحلج القطن والعناية بالبذور ، واقترح معالجة مشاكل الاراضي من خلال اقتراح قانون لتثبيت ملكية الاراضي ، وتأسيس محاكم لفض نزاعات الملكية الزراعية .. وقد ظهر اهتمام الملك فيصل الاول بالزراعة من خلال اهتمامه الشخصي بمشروع ري الغراف .
واهتم الملك فيصل بالصناعة ، وحرص على انشاء صناعة وطنية ، وأوعز بإرسال بعثات الى الخارج للدراسة ،وإعداد كادر صناعي .. كما وافق على وضع اسس واضحة لحماية الصناعات الوطنية ، وكان في كل زياراته يحرص على زيارة المصانع في الدول الاجنبية ويناقش مع المسؤولين فيها إمكانية مساعدة العراق في خلق نهضة صناعية . وقد كتب الملك تقارير اقتصادية وضح فيها رؤيته لما يجب ان تكون عليه الصناعة الوطنية في العراقية . ومما كان يؤكد عليه اهمية مواجهة غزو البضائع الاجنبية وضرورة حماية الصناعات الوطنية والاكتفاء الذاتي ووقف استيراد المنتوجات والمحاصيل الزراعية وتشجيع الفلاحين العراقيين على أخذ دورهم في اقامة زراعة وطنية .
اهتم الملك فيصل الاول بالتعليم كثيرا ، وعده حجر الزاوية في نهوض العراق ، وإعتبر المعلم ركيزة اساسية في ذلك واطلق على نفسه المعلم الاول وقال لو لم اكن ملكا لكنت معلما واهتم بفتح المدارس والمعاهد العالية والكليات ،وشجع على افتتاح دار المعلمين العالية 1923 وجامعة ال البيت 1922 ووضع حجر الاساس لابنيتها في الاعظمية ودعم امينها العام الاستاذ فهمي المدرس والكلية الطبية الملكية العراقية 1927 وكان من عادته اذا زار لواءا من الالوية ان يبتدئ زيارته بالمدارس . وفي المؤتمر التربوي الاول الذي انعقد ببغداد سنة 1932 ، خاطب اعضاء المؤتمر بقوله :"تأكدوا ان العمل الذي تقومون به هو اعظم من عمل الملك واعظم من عمل الوزير " .وقال في احدى المناسبات ان اي عمل تقومون به لايرتقي الى عمل المعلم ، وأن على المعلمين ان يعتبروني والدهم واقسم قائلا انه لو لم تكن عليه مسؤوليات في الدولة لما تردد ان يكون معلما في اقصى قرية عراقية .
وكان للملك فيصل موقف واضح من المرأة العراقية ؛ فقد دعا الى تحريرها وتعليمها وتثقيفها . وقال ان المرأة كلما إزدادت علما وثقافة ازدادت مقدرة على اسعاد الرجل والاسهام في بناء الوطن . لذلك اهتم بفتح المدارس والمعاهد امام المرأة وبتعليم الفتيات وافساح المجال لهن لاكمال دراستهن في خارج البلاد ضمن برامج البعثات العلمية لوزارة المعارف . وقد كتب الرحالة العربي امين الريحاني في كتابه :"ملوك العرب " ان الملك فيصل الاول من اكثر ملوك العرب اهتماما بالتعليم ، وبالمرأة وبالادب وبالثقافة وبالمشاريع التهذيبية وببث روح العلم والمعرفة .
كانت السياسة الخارجية للملك فيصل تقوم على أسس متينة ؛ منها سعيه لترسيخ استقلال العراق . وقد نجح - قبيل وفاته - في ادخال العراق عصبة الامم كدولة مستقلة وكان العراق أول دولة عربية تدخل عصبة الامم في 3 تشرين الاول 1932 . وألقى الملك فيصل الأول في بهو أمانة العاصمة خطابا في 6 تشرين الأول –أكتوبر 1932 أي بعد ثلاثة أيام من دخول العراق عصبة الأمم قال فيه : " اشكر الله واهنيئ نفسي وشعبي على هذا اليوم الذي نفضنا فيه غبار الذل ،وفزنا بعد جدال سياسي دام ما ينوف عن 11 عاما بالأماني الكبرى التي كنا نصبو إليها وهي إلغاء الانتداب واعتراف الأمم بنا وبأننا امة حرة ذات سيادة تامة ... " كما أكد الملك بأن الاستقلال كان نتيجة لجهود مشتركة اعتمدت الصبر والحكمة ...وعلينا أن نثبت أنفسنا بأننا عند حسن ظن الأمم التي دخلنا في مصافها " وأشار إلى ضرورة أعمار العراق وتحديثه وتقدمه دون تردد ووجل " .
كما حرص الملك على عدم السماح لاية دولة بالتدخل في شؤون العراق ، وأكد على حسن الجوار واقامة علاقات وثيقة مع تركيا وسوريا وايران والمملكة العربية السعودية والاردن ولم يكتفِ بالكلام بل دعم ذلك كله بسلسلة من الاتفاقيات والمعاهدات الاخوية .
كما كان للملك فيصل الاول موقف واضح من القضية الفلسطينية ورفضه لاقامة وطن قومي لليهود في فلسطين طبقا لوعد بلفور. وقد دعا الملك فيصل الفلسطينيين الى اقامة حكومة وطنية لهم ترتبط بمعاهدة مع بريطانيا تنهي الانتداب عليهم ووفق شروط ابرزها تحديد هجرة اليهود ، ومنع بيع الاراضي لهم ، وتخفيض العجز الاقتصادي ولم يتردد في تقديم الدعم المالي للفلسطينيين .وقد ظلت فكرة الوحدة العربية تراود الملك فيصل الاول وكان يعتقد ان العرب بحاجة الى دولة كونفدرالية وقد تطورت بعض افكار الملك فيصل في هذا الاتجاه عندما دعا الى اقامة حلف دفاعي عربي .
ويبدو ان القدر لم يمهل فيصل كثيرا اذ بدأ يعاني من تصلب الشرايين وسافر للعلاج في برن بسويسرا في ايلول 1933 وكانت آخر عبارة قالها فبل وفاته إثر نوبة قلبية عند منتصف ليلة ليلة 7-8 من ايلول سنة 1933 :" انا مرتاح ..قمت بواجبي ..خدمت الامة بكل قواي ..ليسر الشعب بعدي بقوة وإتحاد " .
كان الملك فيصل يجهد نفسه بالعمل من الساعة السادسة صباحا حتى منتصف الليل ..كان يعد نفسه موظفا دائما وملكا في آن واحد على حد تعبير رفيق حياته جعفر العسكري وزير الدفاع .وقد تركتْ وفاة الملك فيصل آثارا بعيدة على الساحتين العراقية والعربية ، اذ وقع الخبر على الناس كوقع الصاعقة . وكانت جنازته في بغداد كبيرة ومهيبة . والى شيئ من هذا القبيل أشار ألاب انستاس الكرملي رجل الدين المسيحي واللغوي والمفكر العراقي في كلمة ألقاها في حفل تأبين الملك فيصل حين قال :" ماذا كان العراق قبل ان يتولى فيصل شؤونه ؟ الم يكن كالمواتْ ليس فيه نفعً للمجتمع ولاللحضارة ...أما اليوم فقد سار العراق في اثنتي عشر سنة سيرا لم تضارعه فيه اعظم دولة على البسيطة ...وما ذاك إلا ثمرة مساعي ذلك القائد البطل " .
أما الدكتور محمد مهدي البصير الكاتب والمؤرخ والاكاديمي وشاعر ثورة 1920 ، فكتب عند وفاة الملك فيصل الاول ..:" مات ممثل القضية العربية الفذ ،مات قائد العرب الاكبر .. أكُتب على العراق ألا يقطع المرحلة الاولى من جهاده حتى يُنكب بمؤسس كيانه وباني صرح مجده ومكون استقلاله ؟ " إن فيصل كان أقوى شخصية لعبت الادوار الخطيرة في ميادين الحرب والسياسة بكل من الحجاز والشام والعراق ..." .
أما المؤرخ العراقي الكبير السيد عبد الرزاق الحسني فقال في كتابه :"تاريخ الوزارات العراقية " :" فلو أراد المؤرخ المنصف ، أن يبحث عن ملك عربي إهتزت لموته أمة بأسرها ،عن ملك جمع بين التاج والزعامة ،عن ملك كرس حياته ،ونفوذه ،وعبقريته ،في سبيل خدمة أمته وإعلاء شأنها ،لما وجد غير فيصل بن الحسين جديرا بهذا التعظيم " .
لم تكن ردود الفعل على وفاة الملك فيصل في الوطن العربي والعالم تقل عن ما كانت في العراق حتى ان عميد الادب الدكتور طه حسين كتب يقول :" سعيد حقا من ظفر بمثل ما ظفر به فيصل من حب الشعوب " .وعلى المستوى العالمي حظي الملك فيصل بالتقدير والاكبار وظلت الصحف الكبرى في العالم تتحدث عن مآثره وانجازاته . وقد أبنه عدد من الذين عملوا معه ومنهم الجنرال اللنبي الذي قال :" انه بوفاة الملك فيصل تطوى شخصية من أقوى الشخصيات التي كان لها شأن في الحرب العامة والتي لعبت فيها دورا مهما " .وقالت احدى الصحف الفرنسية ان الملك فيصل قضى حياته وهو يبث الفكرة الوطنية ، وينميها بعناية وإهتمام .
لقد أجمع الكل أن وفاته تركت فراغا سياسيا كبيرا كان له أثره في اختلال التوازن بين السياسيين العراقيين ، الامر الذي فتح باب الصراع على مصراعيه بين الكتل والشخصيات السياسية ، فلقد كان للملك فيصل قابلية كبيرة في التوفيق بين الاراء المختلفة ، وكسب الاخرين الى جانبه . وكان الملك فيصل رجلا حكيما عاقلا متسامحا شجاعا محبا للاخرين ذكيا مثابرا في العمل عاملا من اجل مصلحة العراق ورفاهية شعبه ، وكان ديموقراطيا يستمع الى الاخرين بكل ود ، مبتسما دوما ، مستعدا للتضحية بكل ما هو عزيز من أجل الوطن والامة وهكذا تمكن من ان يبني الدولة العراقية وكل ما كان يطمح اليه ان يرى الشعب العراقي موحدا وظل هذا الامل يراوده حتى انه قبل وفاته كتب في آذار سنة 1933 مذكرة مطولة خطيرة تتضمن آراءه وأفكاره عن أحوال العراق ومستقبله وزعها على عدد من السياسيين وأراد أن يبدوا رأيهم فيها بصراحة تامة بمناسبة عقد المعاهدة العراقية –البريطانية لسنة 1930 ، وقرب انتهاء الانتداب وانضمام العراق الى عصبة الامم سنة 1932 ، ولاهمية ما ورد في هذه المذكرة سوف نقف عند ابرز مضامينها .
قال الملك فيصل في مذكرته :" كنتُ منذ زمن طويل ، أحسُ بوجود افكار وآراء حول كيفية إدارة شؤون الدولة عند بعض وزرائي ، ورجال ثقتي غير افكاري وآرائي . وكثيرا ما فكرتٌ في الاسباب الباعثة لذلك ، وفي الاخير ظهر لي بأن ذلك كان ولم يزل ناشئا من عدم وقوفهم تماما على افكاري ، وتصوراتي ، ونظري في شؤون البلاد ، وفي كيفية تشكيلها وتكوينها والسير بها ،نظرا الى ما أراه من العوامل والمؤثرات المحيطة بها ،والمواد الانشائية المتيسرة ، وعوامل التخريب والهدم التي فيها ،كالجهل وإختلاف العناصر والاديان والمذاهب والميول والبئات .لذلك رأيت ُمن الضروري أن أفضي بأفكاري، وأشرح خطتي في مكافحة تلك الامراض وتكوين المملكة على اساس ثابت ، وأُطلع عليها أخصائي ممن إشتركوا وأياي في العمل .وإني ألخص خطتي مٌختصرا بجملته تحت هذا وبعد ذلك اتقدم الى تفصيل نظرياتي ومشاهداتي " .
حدد الملك فيصل في مذكرته ما كانت تعانيه البلاد من نواقص ، وفي مقدمتها قوله :" إن البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية ، ذلك هو الوحدة الفكرية والملية (الوطنية ) والدينية .فهي والحالة هذه مبعثرة القوى ،مُنقسمة على بعضها ، يحتاج ساستها الى ان يكونوا حُكماء مدبرين .وفي عين الوقت أقوياء مادة ومعنى غير مجلوبين لحسابات أو اغراض شخصية أو طائفية متطرفة ،يداومون على سياسة العدل والموازنة والقوة معا ،وعلى جانب كبير من الاحترام لتقاليد الاهالي ،لاينقادون الى تأثيرات رجعية أو الى أفكار متطرفة تستوجب رد الفعل " .ومعنى هذا ان الملك فيصل كان يشعر بأن العراق يفتقر الى ما يوحده بسبب الانقسامات العرقية والدينية والمذهبية لذلك فأن على من يحكمه ان يتسلح بالحكمة والحزم والعدل واحترام التقاليد والعادات المتأصلة وعدم الاستهانة بها او تجاهلها .
يعود الملك فيصل الاول في مذكرته ليشرح فكرته ، فيقول ان في العراق افكارا ومنازع متباينة . ففضلا عن السنة والشيعة والاكراد والاقليات غير المسلمة هناك الشباب والعشائر والشيوخ .أما السواد الاعظم من المجتمع العراقي فهم الذين يخيم عليهم الجهل والاستعداد لقبول كل فكرة صالحة او سيئة بدون مناقشة .
وفيما يتعلق بالشباب ومنهم موظفو الحكومة وعلى رأسهم المسؤولين يقولون بوجوب إهمال اراء وافكار المتعصبين والرجعيين والسير بالبلاد قدما الى الامام والوصول بها الى ما تستحقه من مكانة ودون الوقوف عند القيل والقال طالما القانون والنظام والقوة بيد الحكومة التي ترغم الجميع على اتباع ماتمليه عليهم .ويرفض الملك فيصل هذا الرأي ويقول إن عدم المبالاة بالرأي العام بتاتا - مهما كان حقيرا - خطيئة لاتغتفر .ولو أن بيد الحكومة القوة الظاهرة التي تمكنها من تسيير الشعب رغم إرادته لكانت وإياهم .وعليه فإننا الى حين ما نحصل على هذه القوة أن نسير بطريقة تجعل الامة مرتاحة نوعا ما من خلال عدم مخالفة تقاليدهم كي يكونوا مع حكومتهم في النوائب .
ويضرب الملك فيصل الاول على ذلك مثلا ماحدث في العراق ابان ماسمي ب"الاضراب العام " سنة 1930 ويقول ان ماحدث ينبغي ان يجعلنا نغير حساباتنا ونضع بالاعتبار كيفية اخماد مثل هذا الاضراب وكذلك لابد من أخذ العبرة من احداث "ثورة الشيخ محمود البرزنجي " ومعرفة قدراتنا في مواجهتها وما عانته الدولة وكل ذلك –يقول الملك فيصل –يجعلنا نعتقد ان الحكومة أضعف من الشعب بكثير ولو كانت البلاد خالية من السلاح لكان الامر هينا ولكن يوجد في البلاد سلاح كثير فلدى الشعب 100 الف بندقية بينما لاتملك الحكومة سوى 15 الف بندقية ولايوجد في بلد من بلاد الله حالة حكومة وشعب كهذه .
يقول الملك فيصل الاول ان ذلك كله :" يجعلني أتبصر، وأدقق ، وأدعو انظار رجال الدولة ومدبري دفة البلاد للتعقل وعدم المغامرة .
عرض الملك فيصل آرائه وافكاره ووقف عند حالة الشعب ووضع الحكومة وإنطلق بعد هذا التشخيص للامراض التي يعاني منها العراق الى وضع الحلول وما يراه ضروريا لمعالجة تلك الحالة فيقول في مذكرته : " ان العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني .وهذه الحكومة تحكم قسما كرديا أكثريته جاهلة، بينه اشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتخلص منها بدعوى انها ليست من عنصرهم ، وهناك أكثرية شيعية جاهلة منتسبة عنصريا الى نفس الحكومة ،أي عربية إلا أن الاضطهادات التي كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم وعدم التمرن عليه ، والذي فتح خندقا عميقا بين الشعب العربي المنقسم الى هذين المذهبين ..كل ذلك جعل –مع الاسف – هذه الاكثرية أو الاشخاص الذين لهم مطامع ، الدينيون منهم وطلاب الوظائف بدون استحقاق ، والذين لم يستفيدوا ماديا من الحكم الجديد ، يظهرون بأنهم لم يزالوا مضطهدين لكونهم شيعة ،ويشوقون (أي يشجعون ) هذه الاكثرية للتخلص من الحكم الذي يقولون بأنه سيئ جدا .. ولاننكر ما لهؤلاء الدساسين من التأثير على الرأي البسيط الجاهل " .
ومما يجدر ذكره ، أن الملك فيصل في مذكرته ، أشر حقيقة مهمة من الحقائق التي لايزال العراق يعانيها ، بالرغم من مرور كل هذه المدة الطويلة ، وهي ان الغرب والسياسة الدولية لم تزل تشجع المسيحيين للمطالبة بحقوق غير هذه وتلك من التي يطالب بها مثلا الشيعة .كما ان هناك كتلا من العشائر كردية او عربية سنية كانت ام شيعية تريد ان تتخلص من كل شكل حكومي بالنظر لمنافعهم ، ومطامع شيوخهم التي تتدافع بوجود الحكومة تجاه هذه الكتل البشرية المختلفة المطامع والمشارب والمملوء بالدسائس ،حكومة مشكلة من شبان مندفعين اكثرعم متهمون بأنهم سنيون او غير متدينين (علمانيين ) أو أنهم عرب فهم مع ذلك يرغبون في التقدم ولايريدون أن يعترفوا بما يتهمون به ولا بوجود نلك الفوارق ، وتلك المطامع بين الكتل التي يقودونها ..يقودونها، يقودونها بأنهم أقوى من هذا المجموع والدسائس التي تحرك المجموع ، غير مبالين ايضا بنظرات السخرية التي يلقيها عليهم جيرانهم الذين على علم بمبلغ قواهم " .
من الحقائق التي وقف عندها الملك فيصل الاول طبيعة الاقاويل التي كانت تتردد وهي ان المناصب للسنة ، والضرائب على الشيعة .كما ان هناك دائما من يُعًظم هذه الامور الى درجة اثارة الحساسيات بين اطراف الطوائف الاسلامية .وثمة دسائس آثورية ، وكلدانية ويزيدية . زد على ذلك الدعايات الشخصية والحزبية والاجنبية التي توقد نار الحقد والتعصب للتفرقة واضعاف قوى الحكومة .كما ان العقول البدوية والنفوذ العشائري الذي للشيوخ وخوفهم من زواله ، بالنسبة لتوسيع نفوذ الحكومة ،كل هذه اختلافات ومثل هذه المطامع والاختراصات تشتبك في هذا الصعيد وتصطدم ،وتعكر صفو البلاد وسكونها ، فإذا لم تعالج هذه العوامل بأجمعها وذلك بقوة مادية وحكيمة معا ردحا من الزمن حتى تستقر البلاد ، وتزول الفوارق ، وتتكون الوحدة الوطنية الصادقة ، وتحل محل التعصب المذهبي والديني هذه الوطنية التي سوف لاتكون الا بجهود متميزة .
أشر الملك فيصل نقطة خطيرة في المجتمع العراقي عرفها وخبرها من خلال عمله في العراق الذي زادت مدته على السنوات العشر وهي أن الموقف في العراق خطير وقال بالنص :" وفي هذا الصدد وبإلاختصار أقول ،وقلبي ملآن أسى ،أنه في إعتقادي ، لايوجد في العراق شعب عراقي بعد ، بل توجد كتلات بشرية خالية من أي فكرة وطنية مشبعة بتقاليد وأباطيل دينية لاتجمع بينهم جامعة ، سماعون للسوء ،ميالون للفوضى ، مستعدون دائما للانقضاض على أي حكومة كانت " . لكنه استدرك قائلا :" فنحن نريد والحالة هذه ، أن نُشكل من هذه الكتل شعبا نُهذبه ونُدربه ، ونُعلمه ، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف يجب أن يعلم ايضا عظم الجهود التي يجب صرفها لاتمام هذا التكوين وهذا التشكيل " .
يدافع الملك فيصل عن جهده ، منذ ان تولى عرش العراق ، قائلا : بأنه بذل جهودا حثيثة من اجل تشكيل وتكوين الشعب ، وان مهمته كانت شاقة ومتعبة ولم ييأس ولم يشعر بالاحباط والخوف ، بل ثابر بأخلاص وسداد رأي وحكمة وبخطط علمية دقيقة ومنهج متكامل لزيادة قوة الجيش عددا وعدة والدرجة التي أهلته لان يكون قادرا على إخماد أي قيام مسلح ينشب في آن واحد على الاقل في منطقتين مختلفتين .وعقب إتمام تشكيل الجيش على هذه الصورة تقرر إعلان قانون الخدمة الوطنية .كا تم وضع التقاليد والشعائر الدينية بين طوائف المسلمين بميزان واحد - مهما أمكن - واحترام الطوائف الاخرى .وقد تحققت بعض الاجراءات منها الاسراع في تسوية مشكلة الاراضي ، وتوسيع الماذونية (الصلاحيات ) لمجالس الالوية والبلديات بقدر الامكان على نموذج القانون العثماني ، والاسراع في تشكيل مدرسة الموظفين والاعمال النافعة وحماية المنتوجات ، والمعارف، وتفريق السلطة التشريعية والسلطة الاجرائية (التنفيذية ) وتثبيت ملاك الدولة ووضع حد للانتقادات غير المعقولة ضد إجراءات الحكومة في الصف والاحزاب والعدل والنظام والاطاعة في الموظفين والعدل عند قيامهم بوظائفهم .
وقال الملك فيصل انه بدأ بالجيش لانه العمود الفقري لتكوين الامة ، ولانه يراه أضعف بكثير بالنسبة لعدده وعدته من ان يقوم بالمهمة الملقاة على عاتقه ، وهي حفظ الامن والاطمئنان الى إمكانية كفاءته نظرا الى ما تتطلبه المملكة ونظرا الى العوامل المختلفة الموجودة والتي يجب ان تجعلنا دائما متيقظين بوقوع حوادث وعصيان مسلح في كل وقت .
لقد بذل الملك فيصل - كما جاء في مذكرته - جهودا مضنية من أجل طمأنة الشيعة عبر سلسلة من الاجراءات ، منها السعي لتوحيد ايام الصيام والافطار ، وتعمير العتبات المقدسة ، واحترام الشعائر الدينية ، والاسراع بحل مشاكل التنازع على الاراضي ، ووضع قوانين عادلة للضرائب ، والاهتمام بالتعليم ، واعطاء صلاحيات للالوية ، وتشجيع الناس على الاشتراك في الحكم ، وإعطاء الصحف مجالا للنقد النزيه المعقول وضمن الادب ، ومنع الموظفين من ممارسة العمل السياسي وإشعارهم ان الموظف خادم لاي حكومة . والاهم من ذلك كله الشروع بالبناء ، والتعمير، والتنمية . وقد استخدم الملك فيصل في مذكرته مصطلح "النافعة " وقال انه (أشمل ) للاعمال المختلفة في مرافق الدولة ومؤسساتها .
وأكد الملك فيصل بأن من أول الاعمال التي ينبغي الاهتمام بها هي الزراعة " فالزراعة في بلادنا أفلست " .وقال :" لقد وضعنا الملايين لانشاءات الري ، ولكن ماذا نريد ان نعمل بالمحاصيل ؟ ..إننا في الوقت الحاضر عاجزين عن تصريف ما بأيدينا من منتوجات اراضينا ..." .
وختم مذكرته بالقول :" اعتقد انه من الضروري إعادة النظر من جديد في موقفنا الاقتصادي " واستشهد بما أنجزه الاتراك والايرانيين في مجال الاقتصاد وكيف انهم لايبالون بصرف الاموال الطائلة لانشاء المعامل لسد حاجاتهم ، وقال لابد من تشجيع القطاع الخاص لاستثمار امواله في الزراعة والصناعة ، وخلق روح التشبث الشخصي ، واذا لم يتقدم أحد من المستثمرين لانشاء مشروع صناعي ، فعلى الحكومة ان تقوم بالعمل بنفسها أو أن تقوم بمشاركة القطاع الخاص او الاستعانة برؤوس الاموال الاجنبية وعلى الحكومة ان تقيم دائرة لدراسة المشاريع الصناعية ، ووضع الخطط اللازمة لذلك، وان تشجع المواطنين على القيام بالمشاريع الصناعية الصغيرة ، وان تنصرف الدولة للقيام بالمشاريع الكبرى . وهنا لابد من معالجة مشاكل الفساد وما اسماه الملك فيصل الاول ب" الاختلاسات " و"صرف أموال هذه الامة المسكينة التي لم تشاهد معملا يصنع لها شيئا من حاجاتها " ومما كان يقوله الملك فيصل : " إني احب ان أرى معملا لنسيج القطن بدلا من دار حكومة ، وأريد ان ارى معملا للزجاج بدلا من قصر ملكي " .
قام الملك فيصل الاول بتوزيع مذكرته على عدد من السياسيين وطلب رأيهم تحريريا ، ومن هولاء جعفر العسكري وياسين الهاشمي ونوري السعيد وناجي شوكت وجعفر ابو التمن وناجي السويدي وعلي جودت الايوبي وأعطى نسخة منها الى أخيه الملك علي .وقد كتب بعضهم –ومنهم جعفر العسكري وناجي شوكت وناجي السويدي – آراءهم بخصوص هذه المذكرة مما لايتسع المجال هنا لذكر تفاصيلها ويمكن العودة اليها في المصادر المتداولة .
ومهما يكن من أمر فأن المرض لم يمهل الملك فيصل طويلا بحيث لم يبق ليرى ما آل اليه الوضع في العراق.. لكن من المؤكد انه لو بقي لمارأى في العراق من بعده شيئا يسره للاسف الشديد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق