حلمي سالم اخر الثوريين الرومانسيين
القاهرة : عزمي عبد الوهاب
جريدة الخليج 30-7-2012
القاهرة : عزمي عبد الوهاب
جريدة الخليج 30-7-2012
عاش الشاعر الراحل حلمي سالم
حياته باحثاً عن الشعر، في كل المفردات، وكل التجارب، من فيينا إلى أمريكا إلى
باريس، وفي كل رحلة كان يخرج علينا بديوان جديد .عاين تجربة حصار
بيروت في الثمانينيات عن قرب، ليأتي لنا ب “سيرة بيروت”، كان يكتب بغزارة من أجل
أن تقع في شباكه قصيدة فاتنة، وكان هذا كافياً لديه، حتى في أشد لحظات المرض عصياناً
على الترويض .
روض
سالم أزمة المرض الأولى، أو كأنه خاضها متعمدًا، حين سقط على المقهى مصاباً بأزمة
في القلب، ليكتب ديوانه “مدائح جلطة المخ” حين تكالبت عليه كل العلل، وحين خرج من
معركته مع سرطان الرئة منتصراً ليكتب “معجزة التنفس” .
في
المرة الأخيرة التي رأيته فيها، كان ناحلاً على نحو يدعو للحزن، لكنه كان قوياً،
رفض الانصياع لأوامر الأطباء بعدم الخروج من المستشفى، حيث كان يعاني فشلاً
كلوياً، واضطرابات في الكبد، وفي حاجة إلى نقل دم، لكنه وقع على ورقة يقر فيها
بمسؤولياته عما يحدث له، حال خروجه من المستشفى .
كان
حلمي سالم على موعد مع أصدقائه الذين دعاهم للاستماع إلى أحدث قصائده، عن تجربة
الصراع مع الوحش الذي استوطن رئتيه، ونجا منه بأعجوبة، كما قال في ما بعد، في
الندوة التي أقيمت في حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، لم يكن لائقاً بحلمي
سالم أن يخلف موعداً ضربه لأصدقائه، وكأن الشعر هو حبل نجاته، وكأن قصائده
الأخيرة، التي قرأها هي آخر أوراق الصراع مع المرض، كان واثقاً من نجاته، لذا أطلق
على هذه القصائد “معجزة التنفس” .
“محترف
حصارات” لو مرت سنة من غير حصار أرتاب
وأسأل . . هل صرت دجيناً لا يقلق أحداً “محترف حصارات” من أيلول إلى تل
الزعتر والفكهاني في طرابلس ورام الله، جسدي جهز لملاءمة الأقفاص، وروحي تنضح
بتراجيديا الحتف” .
هذا
هو حلمي سالم ابن الحياة، رئيس تحرير مجلة “أدب ونقد” الذي يطلب منك قصيدة وكأنك
ستعطل الصدور، إذ لم تدفع بنصك بين يديه، صاحب تجربة الانضواء تحت لواء حزب سري ،
والعمل السياسي الذي لم يتعارض مع فكرته عن الشعر، كان يعرف متى تتحول القصيدة إلى
شعار، من دون أن تتخلى عن الوظيفة والجماليات .
ولا
تبتعد الشاعرة “ميسون صقر” عن الحقيقة حين تقول: “كان حلمي سالم يحب الشعر في كل
تجاربه الإنسانية، يبحث عن توسيع فكرة الشعر لديه، يبحث عن اكتمال لا يجده، وتجديد
يحاوله، وموسيقا ينشغل بها، وإن كانت كلها تصل إلى علاقات إنسانية خالصة واكتشافات
لحالات عميقة” .
أما
رفيق تجربته وجيله أمجد ريان فيشير إلى أن “سالم كان دائماً رمزاً لجيلنا، لأنه
كان أكثر شعراء السبعينيات موهبة، ولديه طاقة هائلة قادرة على توليد الصور الشعرية
المدهشة أولاً: من حيث حساسيتها الجمالية، الطازجة غير المسبوقة، ثانيا من حيث
قدرتها - مهما تطرفت في جماليتها على التعبير في النهاية عن الموقف الفكري
والأيديولوجي للشاعر، وعن انتمائه الحداثي” .
ويقول
ريان: “كان سالم أكثر شعراء جيلنا التزاماً سياسياً، من حيث إنه الوحيد الذي انضم
كعضو في حزب تقدمي كبير، وكان صاحب فكرة ناصعة يؤمن بها، وقد أهداها إلى جيلنا،
لكي يستنير بها ويمشي على هداها، وهذه الفكرة هي أنه ينبغي أن يكون للشاعر موقف
وأيديولوجي يميزه، لكنه يعبر عن هذا الموقف في الشعر تعبيراً جمالياً بالدرجة
الأولى” .
أما
د . محمد السيد إسماعيل فيشير إلى أنه يمكن القول إن “الصيغة المهيمنة على حلمي
سالم هي صيغة التعدد الذي لا يقوم على مجرد التجاور بين الأشكال الشعرية المختلفة
بل يقوم على التحاور الخلاق الثري، الذي لا يتعامل مع الشكل بوصفه حاملاً للرؤية
بل متماهياً معها، من هنا كانت قناعة سالم بأن التغيير المنشود على المستويات
الاجتماعية والسياسية والفكرية لا يقوم إلا على المغايرة الجمالية، وعليه لا
يستقيم أن يقدم محتوى مغايراً على مستوى الوعي مع إطار جماليات محافظة تقليدية
ثابتة معادية للتجديد والتجريب واجتراح آفاق تشكيلية مختلفة” .
وعلى
نحو آخر يوضح الناقد أسامة عرابي أن سالم “سافر إلى بيروت في مطلع الثمانينيات
لمساندة أشقائنا الفلسطينيين الذين يتعرضون لمخاطر التصفية جراء التسوية السياسية،
وحمل معه سؤال المصير العربي الذي جعل من الواقع وتعقيداته بنية دينامية متعددة
الرقائق والطبقات، ألهم به شعرية تمرد واحتجاج فكتب “سيرة بيروت” و”حمامة على بنت
جبيل” و”صيف لبنان المشتعل”، ثم “تحيات الحجر الكريم” عن الانتفاضة الفلسطينية
التي قامت في وجه التخاذل الرسمي العربي، وانسداد الآفاق” .
يفتتح
حلمي سالم بموته حلقة شعر السبعينيات في مصر، وكأن الموت اختار أكثرهم انغماساً في
الحياة والشعر، حلمي سالم خريج كلية الإعلام والعامل في حقل الصحافة المعارضة، كان
يكتب كأن الحياة أبد، لذا لاحق الثورة المصرية، التي ظل يحلم بها عمراً، بديوانه
“ارفع رأسك عالياً” هو المقاوم الذي شهد حصار بيروت في خنادق المقاتلين، ظل يقاوم
المرض حتى آخر نفس وهو ما تجلى في ديوانه الذي لم ينشر بعد وعنوانه: “معجزة
التنفس” كان يؤمن بأن الكلمة تقاتل مثلها مثل الرصاص، لكنه خاض معركته الأخيرة مع
الموت الذي لم ينتصر عليه .
دفعت
الحياة حلمي سالم في شتى مناحي الأرض، وكتب “الشغاف والمريمات” و”فقه اللذة”
و”سكندريا يكون الألم” و”الواحد الواحدة”
و”حبيبتي مزروعة في دماء الأرض” و”يوجد هنا عميان” و”الغرام المسلح” و”عيد
ميلاد سيدة النبع” وغيرها من الدواوين، إضافة إلى الدراسات النقدية، ومنها “الوتر
والعازفون” و”الحداثة أخت التسامح”، وفي ظل الحصار الذي كان مضروباً على الثقافة
في السبعينيات أصدر هو وزملاؤه مجلة “إضاءة 77” التي تبنت الشعر الطليعي المرفوض
رسمياً، وسعى هو وجيله لانتزاع اعتراف المؤسسة الرسمية، فكانت الخطوة الأولى حين
ابتدع الناقد الراحل عبد القادر القط باباً جديداً في مجلة “إبداع” لنشر القصائد
الجديدة المغايرة للذائقة التقليدية .
عاد
حلمي سالم إلى مسقط رأسه في قرية “الراهب” بمحافظة المنوفية في تابوت، بعد أن ملأ
الحياة حباً وشعراً .
*جريدة الخليج 2-7-2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق