الاثنين، 25 أبريل 2011

ملكات العراق بين الأسطورة والتاريخ مقال للاستاذ صلاح سليم علي


ملكات العراق بين الأسطورة والتاريخ



صلاح سليم علي ـ كاتب وأستاذ جامعي سابق ـ كرستنساند


semiramis2005@yahoo.com


يعد علماء التأريخ الاجتماعي والاقتصادي الحضارات القديمة في وادي الرافدين مجتمعات تشكلت فيها اللبنات الأساس للاستغلال الطبقي ولنشوء السلطة الاستبدادية حيث تتمكن طبقة صغيرة من السيطرة على المجتمع بطريق العنف ثم بتشكيل سلطة يتعاون في تثبيتها الكهنة والملوك الذين يحتكرون وسائل الإنتاج ويحققون ثروات طائلة بطريق أعمال السخرة..وفي منظور ماركس إن أول أشكال السلطة قديماً تعد ائتلافات ثيوقراطية ارستقراطية تنصب نفسها ممثلة للآلهة على الأرض، فتفرض على الجماعات في بيئتها وخارج بيئتها الطاعة والسخرة بالقوة والدعاية، وإن سور الصين العظيم وإهرامات مصر وبرج بابل والمدن الآشورية ماكانت ستشاد لولا العنف وأعمال السخرة..مما جعل الدولة هي المالك الوحيد للأرض والمشاريع الكبرى التي تبنى عليها، وأطلق ماركس على هذا النمط من العلاقة بين السلطة والمجتمع بنمط الإنتاج الآسيوي وفي المرحلة الثانية لهذه العلاقة تتباعد المسافة بين الكهنة والملوك ويلجأ الملوك الى تبرير سلطتهم بطرق مختلفة منها زعمهم أنهم تحدروا من الآلهة وأن الحروب التي يشنونها هي كالمعابد التي يشيدونها ليست سوى تنفيذ لأوامر آلهة (نقلها) اليهم الكهنة او كما في حالة نابونيداس طرأت عليهم في أحلام أوحتها اليهم الآلهة..والمهم في رأي هذا النفر من العلماء أن الممتلكات لم تتضمن الأشياء وحدها، بل البشر الذين يقدمون وقوداً للحروب، ووسائلَ للأنتاج، ، وأن النساء يمثلن الحلقة الأضعف في المجتمعات القديمة حتى عندما يكن كاهنات أو اميرات، فهن، والرأي لهؤلاء المنظرين، يملن بسبب افتقارهن الى القوة، الى المكر والخداع مما ولد نمط شهرزاد التي تحافظ على رأسها بتوظيف عقلها على حد تعبيرهم.. وقد ولد هذا التنظير في شأن المرأة الشرقية نظرة تدوينية تبناها المستشرقون لدوافع آيديولوجية معممين مفردة (الحريم) على تأريخ المرأة الشرقية بأسره..وهم في نظرهم هذا إنما يحاكون علماء التأريخ الاجتماعي والاقتصادي في الذهاب بعيداً في تنظيرهم فيما يخص المرأة الشرقية...والحكم الأقرب الى الاعتدال هو أن النساء يشغلن الزاوية الأعتم في تأريخ الشرق ليس لعدم لعبهن لأي دور بل لتغييب ذكر تلك الأدوار من السجل التأريخي بحكم التقاليد ولهيمنة الرجل ملكاً ومشرعاً وقائداً عسكرياً على المجتمع في العالم القديم بأسره وليس في الشرق او الشرق الأدنى فقط ..إلا أن تلك المرحلة من تأريخ الشرق الأدنى صاحبتها عملية التشكل الحضاري وتطور الفنون والآداب والتشريع وبناء النظم الأجتماعية والاقتصادية والعقيدية وما اليها من مفاهيم أساسية عن الدولة وإدارتها واقتصادها فضلا ًعن الحرب والتجارة والري والزراعة والعلاقات بين الدول والأمم..وكانت المرأة تلعب في كل ذلك دوراً متميزاً..


ويواجه المؤرخ والبحاثة في الحياة الاجتماعية لتلك المرحلة من تأريخ الشرق الأدنى وتأريخ المرأة في العراق بوجه خاص صعوبات هائلة تنبثق من ندرة النصوص التي تؤرخ للحياة الإجتماعية مما يستوجب الاعتماد على الشواهد الآركيولوجية ومقارنتها بالنصوص المسمارية والروايات القديمة..ولابد في كل ذلك من اعتماد المؤرخ على مانطلق عليه بالدرس البلاغي (تعويض المحذوف) او الاستنتاج بطريق تأييد افتراض معين بالرجوع الى قرائن نعتمدها من خارج النص..او من مرحلة تأريخية سابقة او حتى لاحقة قد تصل الى مقارنة (لسانية) لمفردة في الأغلب بقريناتها في الوقت الحاضر، كوننا ورثة المنظومة القيمية والذوقية والحضارية لأسلافنا في هذه المنطقة الحبلى بالتأريخ من العالم..وفي كل الأحوال لابد من الرجوع الى الدراسات الحديثة التي تمثل حاصل تحصيل المجهود البحثي النصي والآثاري والمقارن المعاصر لتشكيل تصور مقارب للحياة الاجتماعية للمرأة في العهود القديمة ..ونحن بمحاولتنا المتواضعة تقديم هذه الصورة ننتهج التقليد هنا والابتكار هناك ريثما تجد افكارنا موطء قدم لها بين بصمات كتاب جلهم من الغرب، كلما هزت أصابع العازف الغربي وتراً ينهض روحنا الشرقية متحدية او ناقدة، ويبعث ايقاعاتها ويغازل عوالمها وأسرارها..ونحن مع كل ذلك، ندرك بأننا أشبه بمغامر يحاول زج ناطحة سحاب بعلبة كبريت..مع ذلك فحريى بنا ونحن أبناء نينوى وكالخو، كيش وبابل، أرابخا وأرباأيلو أن نلقي حجراً في ماء راكد.


تميط المدونات الآشورية الصروحية والأرشيفية التي تتناول منجزات الملوك الآشوريين في الألف الأول ق.م. اللثام عن مجتمع يهيمن عليه، في معظم مراحله، الرجال ويديرون الشؤون السياسية والعسكرية والدينية والاقتصادية فيه تاركين الإهتمام بالمنزل والأطفال، والمعابد أحياناً، للنساء اللاتي يشغلن الضمير الغائب في العراق القديم..وبالنتيجة أصبحت المدونات والمسلات والمنحوتات الآشورية، في معظمها، تؤرخ للملوك ومآثرهم العسكرية وتؤكد قوة الأمبراطورية وآيديولوجيتها موحدة بين سلطة الملك وغضب الآلهة وانتصار الآشوريين المحتوم في المعارك..فالدولة الآشورية عسكرية في تكوينها وترتكز على إدامة القوة الضاربة للجيش الآشوري وترسيخ القدرة السوقية (اللوجستية) وتوظيف الحديد في آلآت الهجوم والحصار ودك أسوار المدن المعادية وهدم تحصيناتها. فالحرب هي دين الدولة والقوة العسكرية عمادها..وهذا يفسر جعل آشور بديلا ًلمردوخ رباً للأرباب في الدولة الآشورية، وحتى عشتار نفسها تبناها الآشوريون رمزاً ليس للخصوبة والحب بل للحرب والقتال..فالجيش الآشوري في المصطلح العسكري الحديث جيش نار وحركة..أي جيش هجوم مستمر وليس جيش دفاع وهذا ينعكس بقوة في الفن الآشوري المعبر عن الآيديولوجية القتالية فالجداريات عبارة عن معارك حية والثيران المجنحة تغادر بوابات القصور ليلاً للتحرك على قوائمها الخمسة في المكان أما الإله آشور فيرفرف بعجلته فوق ميادين الوغى حاملا قوسه ونشابه يحمي ظهره نينورتا بحربته الرعدية ثلاثية الرؤوس..فبديهي والحال هذه أن لاتحتل النساء ولأقل المرأة في دولة الحرب هذه سوى هامش ضيق..مع ذلك فإن هذا الهامش لايخلو من أخبار بالطبيعة البطولية للآشوريات وأدوارهن المتميزة في تثبيت أركان الأمبراطورية والمساهمة في الجهد العسكري بطرق متنوعة ..ولاسيما مع إتساع الأمبراطورية الآشورية على عهد سنحايب وابنه وحفيده آسرحدون وآشوربانيبال على التوالي...وهي مرحلة تزايد خلالها تأثير الوجود الآرامي في شؤون الدولة سواءً من خلال التزوج بأميرات آراميات او من خلال توظيف الآراميين في مراكز عديدة في أسفل هرم الإدارة الأمبراطورية ووسطه، او من خلال إتساع الأمبراطورية غرباً وضمها لبابل..مما عزز تدريجياً مكانة مردوخ مجدداً على حساب آشور، وسين على حساب نركال، ونوسكو على حساب نينورتا..وأخيراً سين على حسابهم جميعاً.. وعلى الرغم من عدم معرفتنا بالدلالة الخارجية او النصية الصريحة بطبيعة التنافس على السلطة ضمن الأسر الآشورية المتتابعة منذ أواخرعصر شلمنصر الثالث وحتى عهد أدد نيراري الثالث فسرجون الثاني فابنه سنحاريب الذي اغتيل في طربيشو (شريخان- المصحفة من شريف خان في منطقة الرشيدية في الموصل)، إلاّ أن مشكلة تولية اسرحدون ثم الملكية المزدوجة، نقول على الرغم من اختفاء الأدلة النصية، يمكن الاستدلال بالقرائن على أن تنامي تأثير النساء غير المنظور في شؤون الأمبراطورية، كان واحداً من أعراض المنازعات في البلاط الآشوري وتراجع القوة الضاربة للجيش الآشوري على الرغم من إتساع رقعة الأمبراطورية، من جبال البرز وبحر قزوين شمالاً حتى الخليج العربي جنوبا ومن قبرص غربا حتى السفوح الغربية لزاكروس وبضمنها اجبتانا (همدان)، ولجوء الملوك المتأخرين مجدداً الى الزيجات الدبلوماسية والمعاهدات جنباً الى جنب مع الوسائل العسكرية - كمعاهدة عدم الاعتداء بين اسرحدون وملك عيلام، وتفكير اسرحدون بتزويج إحدى بناته لأحد ملوك كوركوم (مرعش) والمشكلات التي أعقبت تولي آشوربانيبال (668- 627 ق.م.) آخر الملوك الأشوريين الأقوياء الحكم بعيد وفاة أبيه في نينوى كالملكية المزدوجة في بابل ونينوى وتحالف شمش شموكين ملك بابل وشقيق آشوربانيبال مع تومان ملك عيلام وإرسال الأخير رسالة مهينة للملك الآشوري في نينوى تمخضت عن سحق عيلام وتعليق رأس ملكها تومان في عرائش العنب في حدائق تلقوينجق..ويبدو أن التأريخ يعيد نفسه فالمشكلات التي حاقت بالخلافة العباسية سبقتها قرائن مماثلة في أواخر العصر الآشوري الحديث فقد استخدم الملوك الآشوريين المتأخرين جنداً ميديين في بلاطهم تذكرنا باستقدام العباسيين للفرس ومن بعدهم الترك جنداً في دار الخلافة..فضلا ً عن توظيف الآراميين في الإدارة الآشورية ولاسيما في المناطق الشرقية والأناضول..وبينما لعب الآراميون دوراً بناءً، لاسيما النساء الآراميات اللاتي أصبحن ملكات في نينوى والنمرود، كون الآراميون ينتمون لأرومة حضارية وإثنية مماثلة للآشوريين، كان الميديون طابوراً خامسا في البلاط الآشوري..بدليل طبيعة التحالفات التي أدت الى تخريب نينوى وسقوط الأمبراطورية الآشورية..وسنبين لاحقا أن (ادة كوبي) أم نبونيداس ملك بابل كانت قد احتفظت بذاكرة قرن كامل من التحولات ومن رحيل الآلهة وعودتها وتغيرات السلطة تبعاً لذلك..في سياق دعائها الآلهة لمصالحة بابل ونينوى، وإرجاع السلطة لأبناء العراق مجدداً بعد أن انتزعت منهم.


تناولت دراسات عديدة دور المرأة في العراق القديم ، وأكثر هذه الدراسات أهمية أطروحة دكتوراه قدمتها شيري مكريكر في جامعة كاليفورنيا عام 2003 عنوانها (النساء في عالم العصر الآشوري الحديث)، وهي أطروحة تناولت سميراميس ونقية زكوتو فضلاً عن ملكات النمرود من خلال مكتشفات مقبرة القصر الشمالي الغربي في النمرود والمنحوتات الصروحية، واعتمدت منهجاً وصفياً وتركزت مصادرها على أدبيات واسعة حديثة في معظمها ، ثم أطروحة الدكتوراه التي قدمتها سارة شمبرلين ميلفل في جامعة ييل وعنوانها (دور نقية زكوتو في السياسة السرجونية)، ودراستها اللاحقة الرائدة المعنونة (النساء الملكيات في العصر الآشوري الحديث والهوية الذكرية: المكانة بصفتها أداة اجتماعية) نشرت في مجلة الجمعية الشرقية الأميركية، والترجمة الإنكليزية لمسلتي نابونيداس وامه أدة كوبي اللتان عثر عليهما في جامع أولو في حران، التي نشرتها مجلة الدراسات الأناضولية عام 1958 وذلك لتحليل النص من منظور اثني وحضاري للتعرف على دور أم نبونيداس بصفتها إحدى رائدات وحدة العراق وسيادة أبنائه على أرضه قديماً من منظورنا فقط ، ودراسة جورجيو بوتشلاتي المعنونة (القصر الملكي في اوركيش وإبنة نرام- سين) في مجلة الحوليات الآركيولوجية السورية العربية المنشورة عام 2001 وهي دراسة ميدانية تلقي ضوءًا جانبياً على تارآم أكادا ابنة حفيد سرجون الأول..ونعتمد فيها على إشارات في تحليلنا لعناصر فنية نفترض أن الملكة العراقية كانت هي من نقلها الى أوركيش (تل موزان) في شمالي سورية، وأحدثت تغييراً في الطابع الديني والسياسي والفني في العاصمة الحورية.. وهذا ما لم يقله أي من البحاثة سابقاً أضف الى ذلك محاضر المؤتمر المعنون (ضوء جديد على النمرود) الذي عقد في لندن عام 2002 ونشرعام 2008 بشكل كتاب تناولت المقابر الملكية في قصر آشورناصربال الثاني المكتشفة عامي 1989-1990..هذا فضلا ً عن المراجع الألكترونية التي لاتحصى..


وتبقى الصعوبة التي تواجه البحاثة كلهم قائمة هنا أيضاً..وهي نزرة المصادر التي تتناول المرأة في العصور القديمة وشحتها.. وتتمثل مبادرتنا في ربط الشواهد والدلالات النصية والصورية إحداها بالأخرى وتوظيف المعالجات المنطقية الممكنة كالاستقراء والاستدلال والمقارنة وصولاً الى تكوين صورة عن شخصية المرأة في العراق القديم ممثلاً لها بثلاث ملكات وملكة - كاهنة حاولنا جاهدين لملمة آثارهن ومآثرهن مستعينين على وفق الضرورة على النادر والخبيء في بطون الكتب وثنايا المصادر، وهذه الملكات وفقاً لتسلسلهن التأريخي هن تارآم أكادا وشمورامات (سميراميس) ونقية زكوتو وأخيراً أدة كوبي أم ملك بابل وكاهنة حران:


تارآم أكادا:


يقع تأثير تارآم أكادا ابنة نرام سين في سياق امتداد النفوذ الأكدي السياسي والحضاري في حوضي الخابور والفرات والأناضول..إذ نقرأ في أحد نصوص ايبلا الآتي (سرجون الملك ركع في توتول - تل البيعة- للإله داكان الذي وهبه الأراضي العليا ماري ويارموتي وايبلا وحتى غابة السدر وجبل الفضة)، ويقصد سرجون بجبل الفضة طوروس وغابة السدر في سفوح جبل أمانوس وليست نظيرتها في لبنان..وجاء تحرك سرجون الأكدي شمالا ً بحكم الضرورة لأن جنوب العراق يفتقر الى المعادن والأخشاب والخيول والحجارة..مما جعل السيطرة على حوض الخابور والأناضول مطلباً حيوياً ليس للأكديين ومن بعدهم الآشوريين فقط ، بل من قبل المصريين والسومريين أيضاً..غير أن هذه المنطقة تخللتها دويلات مدن عديدة تتأرجح بين القوة والضعف كأيبلا او مدينة الحجارة البيضاء (تل مرديخ) المنافسة لأكد وايمار وماري وأوركيش.. واعتمد الأكديون في توغلهم على الغزو والدبلوماسية .. فعمد نرام سين الى غزو الكنعانيين في أيبلا وحرق مدينتهم ومعابدهم وإنهاء وجودهم في شمالي سورية أما اوركيش الكنعانية (بالقرب من القامشلي) أصلاً فقد تجاوب ملكها مع ملوك أكد وقبل بسيادتهم مفضلاً التعاون معهم على حرب محسومة النتيجة لاسيما لأن اوركيش دويلة مدينة لم يتجاوز نفوذها السياسي مشارفها وأسوارها ولأنها محاطة بدويلات مدن يديرها الأكديون مباشرة كناجار (تل براك) وسخنا (تل ليلان) شوبات انليل عاصمة شمشي أدد الأول لاحقاً، ومدن أخرى ضمن شبكة تجارية واسعة تربط بين مدن القلب الرافدي بابل وكيش ولاكاش وأور ونيبور واكد وشوروباخ (اوروك) بماري وتوتول وأيمار وقطنا ومدن الساحل الفينيقي غرباً والأناضول شمالاً..وبدلاً من تعيين حاكم أكدي على اوركيش، عمد نرام سين الى تزويج إبنته تارآم اكادا للأندان حاكم اوركيش ربما كان الأندان توبكيش (الثاني؟) او تيش آكال..ويبدو من التنقيبات في اوركيش أن ترآم أكادا كان قد صاحبها عدد من الموظفين الأكديين مهمتهم الأشراف على المنتوج الزراعي وتأمين الطريق التجاري بين حران وكاركميش والمدن السورية والأناضولية الأخرى..ويتضح من مقارنة طبعات الأختام الأسطوانية الأكدية مع مثيلاتها في أوركيش وكانيش (كول تبة) تماثل في الطراز الفني وفي المضمون لاسيما في الأختام التي تمثل إله الصواعق تيشوب وهو نسخة من ادد الرافدي ورجال برؤوس ثيران أو ثيران برؤوس رجال ربما كانت الأساس في الترميز للإله آشوربالثور المجنح عند الآشوريين فيما بعد. ويرجح أن تفضيل نرام سين الإبقاء على استقلال اوركيش الصوري كان بسبب علاقات الملوك الحوريين فيها مع القبائل الجبلية في طوروس، وقيام الأخيرة بأعمال التنجيم وشحن الفضة والخيول والقصدير الضروري لعمل البرونز الى بلاد الرافدين..مع ذلك فإن تحولاً واضحاً في الرموز الدينية وفي الفن والإدارة حدث في اوركيش بسبب تأثير ملكتها الأكدية تارآم أكادا..حيث تصور لنا أكثر من ألف طبعة لأكثر من 100 ختم اسطواني منها 150 ختماً يحتوي على كتابات مسمارية متروكة على مداخل الأبواب والمخازن نماذج من الفن الأكدي كمشاهد القتال والأسود والثيران فضلا ً عن النجمة الأكدية الثمانية والخوذة ذات القرنين التي نطالعها في مسلة نرام سين، وفي ختم تارآم اكادا نطالع مشهداً مماثلاً لمشهد كلكامش وهو يقاتل أسداً غير أن ختم تارآم اكادا يمثل رجلاً بجسم ثور يقاتل أسداً من جانب ورجلاً عارياً يقاتل جاموساً من جانب آخر وبين الشكلين كتابات أكدية. ويماثل ختم اروين اتال ختم تارآم اكادا..كما عثرعلى ختم الحاكم الأكدي (ايشاربلي) يمثله جالساً وأمامه مهر يقفز وخلفه حارس يقود امرأة تحمل غزالا ً والى جانبها ثور مناخ (بضم الميم)..كما تم استظهار قسم مخصص للكتبة وعدد من الرُقم المدونة باللغة الأكدية تتناول مواضيع إدارية ونصوص تعليمية ...ويتبين من وجود ختم الملكة على الأبواب والمخازن أنها كانت تحت الإشراف المباشر لترآم أكادا او أنها اضطلعت بإدارة القصر..ويبدو من سيادة التصوير الميثولوجي الرافدي في الأختام أن تارآم أكادا قد غيرت او استقدمت هذا الفن الأكدي أصلاً في ايمار وانها انشأت مدرسة لتعليم الحساب فيها..وفي المصادر ان نرام سين كان يعتمد على بناته في إدارة المدن الرافدية والإشراف على المعبد الرئيسي في المدن المهمة فقد عين ابنته (أينمينانا) كاهنة على أور، و(توتا نبشوم) كاهنة على نيبور و(شومهانيتا-آسي) كاهنة على سيبار (تل ابوحبة شمالي بابل) وهي اكثر مدن الرافدين في الألف الثالث ق.م. أهمية..ولكن تارآم اكادا كانت ملكة لأوركيش يساعدها حاكم أكدي على الرغم من زواجها بأمير(اندان) حوري..كما أظهرت التنقيبات في اوركيش قصراً ملكياً يحاكي طراز عمارته القصور الأكدية في ناجار (تل براك) تحمل قطع اللبن التي شيد منها اسم نرام سين جنوبي أوركيش وأماكن أخرى..ويحفل المعبد الحوري في اوركيش الى جانب تيشوب وكوماربي بآلهة عراقية بابلية وأكدية كعشتار وأيا وشمس ونركال..ويعود تأسيس معبد نركال الى عهد تيش آتال المتزامن مع الملكة الأكدية مما يرجح أن بناء هذا المعبد جاء نزولا ً عند إرادة تارآم أكادا..كما يظهر من قراءة أحد زوايا تأسيس المعبد في قاعدة لتمثال اسد برونزي وضع لحراسة المعبد الصيغة عينها التي يدونها ملوك العراق في أركان وأسس قصورهم ومعابدهم إذ نقرأ على اللوح في قاعدة الأسد: (تيش آتال ملك أوركيش قد بنى معبدا للأله نركال..فليحافظ الإله نوباداك على هذا المعبد. وعسى نوباداك أن يدمر كل من يسعى في تخريبه، وعسى ألا يستجيب ربه لصلواته. وعسى سيدة ناجار، وإله الشمس شيميكا، وإله العواصف يلعن 10.000 لعنة أي شخص يسعى في خرابه)، ويقصد تيش آتال بسيدة ناجار الربة عشتار التي انتشرت عبادتها في الشرق الأدنى قبل انتقال الحوريين من أرض فلسطين (كنعان في أواخر الألف الرابع أو أوائل الألف الثالث) الى شمالي سورية..أما نابادوك، فلعله داكان (دجن) إله الخصب والصواعق الرعدية السامي الذي انتشرت عبادته في مدن الساحل الفينيقية وشمالي سورية لاسيما توتول (تل البيعة) وايبلا (تل مرديخ). وكان الإله دجن يشغل مكانة خاصة لدى سرجون الأول الذي قدم له الأضاحي في طريق حملته عبر الفرات في ترقا (تل العشارة)، سيرقو الآشورية وتوتول.. ويتجلى من قراءة دقيقة لمجمل الدلائل الآركيولوجية والنصية والمقارنة الدايكرونية والجغرافية لأوركيش وعصرها أن تارآم اكادا لعبت دوراً مهماً في عدد من المجالات شملت الفن والأقتصاد والإدارة والمعتقدات..فالرُقم الطينية التعليمية التي عثر عليها في قسم من القصر مخصص للكتبة الهدف منها تعليم الأكدية للطلاب، أما تختيم أبواب المخازن والغرف فيشير الى نشاط إداري واقتصادي ..ويتضح من وجود حاكم آشوري الى جانب الملكة أن مهمة الوجود الأكدي في اوركيش تشمل تنظيم التجارة مع بلاد الرافدين والأناضول كتجارة الخيول والأخشاب والمعادن والعربات وبعض المنتجات الزراعية..ولعل أبرز تأثير لوجود الملكة الأكدية نقل منظومة المعتقدات والفنون التشكيلية رفيعة الطراز الى شمالي سورية هذا فضلا ًعن أن أية مقارنة بين تمثال عشتار الطيني بأسد أوركيش ثم بالأختام الأسطوانية ستوضح بما لاغبار عليه أن تطور الفن في أوركيش يدين لتارآم اكادا الملكة الأكدية في شمالي سورية...


شمورامات (سميراميس):


يتداخل في شخصية سميراميس عدد من الروايات التأريخية والأساطير القديمة التي خلقت كياناً افتراضياً لاعلاقة له بسميراميس التأريخية. وينبثق معظم التصوير الأسطوري للملكة الآشورية من الروايات اليونانية لهيرودوتوس وامانيوس مارسيلينوس وديوديروس سيكيلوس الذين اعتمدوا في رواياتهم على جاستياس الطبيب اليوناني للملك الفارسي احشورش الأول. فسميراميس الأسطورة ولدت من حورية ماء في عسقلان على الساحل السوري وصياد وإن أمها هجرتها وانتحرت غرقاً عند ولادتها..وكبرت هي لتتزوج من قائد لنينوس الذي شيد على وفق المصادر اليونانية نينوى، وإن نينوس أعجب بها وهي تقاتل الى جانب زوجها في بختياريا (شمالي بلاد فارس) وإنه تزوجها بعد انتحار زوجها، وإنها أنجبت له نينياس ثم جرح نينوس في معركة في آسيا، فعمدت سميراميس الى إخفاء موته وواصلت غزوها لآسيا ثم ضمت مصر وآثيوبيا الى مملكتها..فالأسطورة تبدأ برواية أشبه بالف ليلة وليلة، لتنتقل الى رواية تذكرنا بزواج النبي داوود من ابيجال زوجة أحد قادته، ثم برواية أشبه برواية زنوبية ملكة تدمر المماثلة في بعض جوانبها لرواية شجرة الدر. والحقيقة التأريخية وراء النص أن الآشوريين قاموا بغزو بختياريا وتوغلوا في عمق زاكروس، وأنهم ضموا مصر على عهد اسرحدون الى امبراطوريتهم، كما أن سميراميس التاريخية حاربت الى جانب ابنها أدد نيراري الثالث في كموح (سمساط) وليس في بلاد فارس كما في الأسطورة..هذا فضلاً عن كون نينوس شخصية أسطورية لاوجود لها في التأريخ. وكما تعزا صروح قديمة الى الأسكندر المقدوني، يعزو هيرودوتوس الزقاق الصناعي الذي يمر به الفرات على ضفتي بابل اليها، وإن بوابة الجنائن المعلقة في بابل يطلق عليها بوابة سميراميس..ويطلق اسمها على حصن شلمنصر (قلعة الروم) في هالفتي (غربي بيريجيك) في تركيا، وعلى مدينة على بحيرة وإن هي (شميراماكيرد)، وكذلك على قناة حفرها مانوا ملك اورارتو وغيرها..وفي رواية إنها شيدت سور بابل وإنها أول من ابتكر حزام العفة وخصي الشباب واستخدامهم في البلاط والجيش..وحقيقة ذلك أن سميراميس التأريخية عاشت في عصر يستخدم فيه الخصيان في البلاط الآشوري وأن حفيدها تكلاثبليزر الثالث أعظم ملوك آشور اعتمد على الخصيان في إدارة المقاطعات الآشورية في أنحاء الأمبراطورية، وفي المصادر إن الحكيم احيقار والنبي دانيال كانا خصيين أيضاً..وترتبط سميراميس الأسطورية بالأسماك والحمائم، فقد عثر في معبد بمبيجا (ممبج او منبج السورية) الذي بنته ـ على وفق الروايات ـ سميراميس، على تمثال ذهبي يمثلها وعلى جبينها حمامة، أما ربط اسمها بحورية البحر فيأتي من تكريس تمثال لحورية البحر في مدخل معبد نبو في كالخو (النمرود) لأبنها أدد نيراري الثالث ..وتتعدد الروايات حول سميراميس الأسطورية إلا أن مايهمنا هنا هو سميراميس- شمورامات بمعنى (السماء العالية) التأريخية زوجة شمشي أدد الخامس ابن شلمنصر الثالث الذي بدأ حكمه بثورة أخيه ومعه 27 مدينة وبضمنها نينوى..وهي ثورة استمرت 6 سنوات وألحقت أضراراً كبيرة بالأمبراطورية..ولا يؤثر الكثير عن شمشي أدد الخامس سوى حروبه مع البابليين وقد ورد في مسلته المحفوظة في المتحف البريطاني أنه زوج شمورامات..ويبدو أنه تزوجها في أثناء حكم أبيه شلمنصر الثالث وأنها كانت الملكة الفعلية للأمبراطورية بعد وفاة زوجها لثلاث سنوات 811- 808، يساعدها القائد العام (الترتانو) شمشي - أيلو حاكم تل بارسيب والولايات الغربية.. ومرة أخرى نستعين بالقواعد التحويلية التوليدية في مجال التأريخ القديم للتوصل الى تصور واضح وتصوير دقيق قدر الممكن لدور الملكة العراقية المتميزة شمورامات..وهنا لابد من مقارنة ثوابت الدولة الآشورية بالمتغيرات ومن هذه الثوابت عدم ورود اسم ملكة في مسلة آشورية تؤرخ لمعركة وتكريس المسلات الملكية في الأمبراطورية الآشورية للرجال تحديداً دون النساء..وتلكما حقيقتان مشهودتان في تأريخ العراق القديم تعززهما بديهية كون المجتمع العراقي عموما وحتى الوقت الحاضر يميل الى هيمنة الذكر على الأنثى واحتكار الذكر للتأريخ ولتدوين التأريخ على الرغم من وجود إناث ربات بقوة الصاعقة وعنف القدر كعشتار وأنات ونينليل واينانا ونانا وغولا وغيرهن ووجود إناث ملكات موضوع مقالنا هذا.. غير أن هاته الإلهات وفدن من بابل وسومر..وهما حضارتان أكثر ميلاً الى الطبيعة والخصب والأنوثة أزاء الآلهة السامية الأكدية والآشورية المتخصصة بالحرب والعنف والقتال..أي سومر وبابل أزاء نينوى وكالخو..جنوب العراق أزاء شماله و الفن أزاء الحرب..ونعود من استطرادنا الى المتغيرين في حالة شمورامات فالملكة الآشورية يبدو أنها خرقت التقليدين الثابتين إذ نطالع اسمها الى جانب اسم ابنها أدد نيراري الثالث في مسلة عثر عليها في بازارجيك شرقي مرعش التركية..وهي مسلة وضعت أصلاً بأمر من الملكة الآشورية او ابنها أدد نيراري الثالث لتعليم الحدود بين كموح (سمساط) وكوركوم (مرعش). وكانت الملكة قد قادت بصحبة ابنها حملة لنجدة ملك كموح (شوبيلوليوما) حليف الآشوريين ودويلته التابعة للتاج الآشوري من تحالف يقوده (أتار شمخي) ملك ارباد وانضم اليه ملك كوركوم..فانتصر الآشوريون بقيادة الملكة وابنها، ولضمان أمن حليفتهم كموح عمداً الى وضع نصب صخرية لتعليم الحدود (تخومو) بين المملكتين ومن ضمنها المسلة التي ورد فيها: (صخرة حدود ادد نيراري ملك بلاد آشور وشمورامات سيدة القصر امرأة شمشي أدد ملك بلاد آشور وأم ادد نيراري ملك بلاد آشور وزوجة إبن شلمنصر الثالث ملك الجهات الأربع ملك بلاد آشور..عندما طلب شوبيلوليوما ملك الكوموخيين من أدد نيراري وشمورامات سيدة القصر عبور الفرات، خضت معركة طاحنة معهم)..نجد أن المتحدث بصيغة الشخص الأول غير محدد، مع ذلك فمن المؤكد أن سميراميس قد خاضت المعركة الى جانب ابنها ويرجح أنها هي من اقترح تعليم الحدود بين كوركوم وكموح لضمان عدم نشوب قتال بين المملكتين بعد عودتهما الى كالخو ونينوى..ويتمثل المنجز الآخر للملكة شمورامات في كالخو العاصمة العسكرية لملوك آشور فقد عثر على تمثال لنبو، ابن مردوخ وإله الكتبة وحارس الواح القدر، كرسه حاكم كالخو (بعل تراسي ايلوما) لملك بلاد آشور ادد نيراري ولشمورامات سيدة القصر ..ويتكرر التكريس نفسه في تمثال مماثل عثر عليه في آشور (قلعة الشرقاط)..يتضح من ورود اسم الملكة الى جانب اسم ابنها، وتلك ظاهرة فريدة إن لم تكن غريبة في التأريخ الآشوري، أنها لعبت دورا بالغ الأهمية على عهد ابنها ادد نيراري الثالث إذ يعزى بناء معبد نبو 798 ق.م. في كالخو اليها..ولعل الإهتمام بنبو البابلي على عهد أدد نيراري الثالث إذ يظهر بصفته ربا للحكمة والكتابة والفنون، كونه يرمز الى الحياة الثقافية لبابل وريثة سومر ومهاد المعتقدات الدينية على خلاف آشور، وريثة أكد، المولعة بالحرب يعود الى توجيهاتها..ولعل في ختام الكتابة المدونة على تمثال نبو (على كل من يأتي فيما بعد أن يضع ثقته بنبو وأن لايثق بأي إله آخر) مايشير الى تحول ايديولوجي في البلاط الآشوري انعكس على أربعة قرون من الاسترخاء النسبي في الإدارة الآشورية لم يبترها إلا مجيء تكلاثبليزرالثالث الذي أعاد الى الحرب عرباتها وانصالها وأولوياتها. وفي مطلع القرن الماضي عثر على صفين من المسلات بين السور الداخلي والسور الخارجي لمدينة آشور، تمثل المصفوفة الأولى موظفين آشوريين وتمثل المصفوفة الثانية ملوكاً آشوريين وثلاث ملكات إحداها لشمورامات (سميراميس) ويبلغ طول مسلة شمورامات الرخامية ثلاثة امتار بيضية الشكل في اعلاها ومدون عليها في المسمارية النص الآتي: (صرح شمورامات، امرأة قصر شمشي ادد، ملك الكون، ملك بلاد آشور، أم أدد نيراري، زوجة ابن شلمنصر ملك الجهات الأربع)، وعلى الرغم من عدم إلقاء مايكفي من الضوء في هذا النص على حياة سميراميس فإن مجرد وجود مسلتها الى جانب مسلات الملوك يؤكد أنها لعبت دوراً غير عادي في أثناء حياة ابنها ولربما زوجها أيضاً ويبدو أنها أسهمت في تثبيت السلطة الآشورية في سلالتها على الرغم من تنامي الدور السياسي لحاكم الغرب القوي قائد الجيش الآشوري شمشي - أيلو.


نقية - زكوتو:


نقية هو الاسم الآرامي لزكوتو الأسم الآشوري لها و يترجم اسم نقية بمعنى (النقاء)..ونقية اسم عربي أيضاً مايزال يستخدم بالمعنى نفسه صفة ايجابية تطلق على أشياء عديدة ..كما يحمل الاسم الآشوري (زكوتو) المعنى نفسه إذ مايزال موجوداً في التزكية وزكية وزاكي بمعنى طيب وطيبة والزكاة بمعنى صفوة الشيء ..ومهما يكن الاسم، فما يهمنا في موضوعنا منه إنه يؤكد أن نقية امرأة آرامية..تزوجها سنحاريب خلال ولايته للعهد وأنها لعبت دوراً يرقى الى دور سميراميس في توجيه الحوادث في الأمبراطورية الآشورية..وفي شمالي نينوى او بالأحرى في شماليها الغربي حيث معبد نركال والى جانبه قصر ولي العهد في طربيشو (شريخان) وحيث كانت نقية تقيم مع زوجها سنحاريب على عهد أبيه سرجون الثاني، وربما في أثناء ولاية عهد ابنها أسرحدون قبل اغتيال سنحاريب ايضا..لأن الأرجح أن القصر منقطع النظير في الزاوية الجنوبية الغربية لتلقوينجق والمجاور لمجرى دجلة قديماً حيث يمتد الشارع المؤدي لجامعة الموصل بعد جسر السويس حالياً، كانت تقيم فيه ضرتها زوجة سنحاريب الثانية (تاشميتوم شارات) بدليل نص سنحاريب: (ولزوجتي الملكة تاشميتوم شارات، زوجتي الحبيبة التي حبتها الآلهة بهيئة هي الأجمل بين النساء أفردت قصرا بنيته من الحب والبهجة والمسرة، وبإرادة آشور سيد الآلهة والملكة عشتار عسى أن نعيش حياة طويلة في هذا القصر وننعم بالسعادة الكاملة)..غير أن لرياح التأريخ إتجاهات لاترومها إرادات الملوك، فقد عزل سنحاريب ابنه الأكبر (اردا موليسي) من زوجته تاشميتوم شارات عن ولاية العرش، ليعين بدلاً منه ابنه الأصغر من نقية زكوتو اسرحدون، ويرسل الأخير الى المقاطعات الغربية لضمان سلامته. مما تسبب بغضب ولي العهد وثورته على أبيه واغتياله مع أخ (أخو- في الآشورية أيضاً) له من ابيهما سنحاريب في اثناء عبادته في معبد طربيشو..ويبدو أن نقية كانت قد صاحبت ابنها الى المقاطعات الغربية وربما تمكنت من تجنيد المساعدة له من أخواله الآراميين فعاد الى نينوى وتمكن من دحر التمرد وتسلم السلطة على الامبراطورية فهرب أردا موليسي الى اورارتا (أرمينيا) العدو التقليدي للأمبراطورية ألآشورية...وكان تسلم اسرحدون لمقاليد السلطة بداية تحول كبير في إتجاه ما نتعارف على تسميته في العصر الحديث بالدولة البوليسية..فقد دشن حكمه بإعدام المتآمرين وخصومه السياسيين، وأعدم المسؤولين عن الأمن في نينوى وكالخو واستبدلهم بجهاز أمني جديد..فقد بدأ اسرحدون حكمه بالشك وانعدام الثقة تماماً حتى بأفراد أسرته، بما يمكن أن نطلق عليه بهاجس المؤامرة فكان يستخدم العرافين والكهنة بالتنبوء وأخباره مسبقاً بكل من يخفي نوايا لإيذائه او الإطاحة به حتى من بين أعضاء أسرته نفسها..وشجعه في ذلك حالته الصحية المتدهورة فقد أصيب بمرض عجز العرافون والكهنة وطردة الأرواح الشريرة عن علاجه او تشخيصه..وفي كل ذلك لم تكن أمه نقية غائبة ففضلاً عنن دورها في تنصيبه ولياً للعرش بدلا ً من أخيه الأكبر على رأي عالم الآشوريات (سيمو بارابولا)، كانت تتلقى الرسائل من القادة والموظفين ويرجح أنها كانت ترد عليها وتوجه الأوامر للقادة بدلاً من ابنها..كما كانت تدير الممتلكات الخاصة و تخصص الأموال لبناء المعابد والقصور وتشرف عليها، وبديهي أنها ومنذ بداية حكم ابنها كانت تشارك في القرارات العسكرية فهي كما وصفها طارد الأرواح (مردوخ شكين شومي): (إنها بأقتدار آدابا وكلمتها نهائية، فما تباركه مبارك وماتلعنه لعين)..ولعل غزو مصر وضمها الى الامبراطورية، العمل الذي ينسب الى سميراميس، كان قام به اسرحدون بمشورة أمه نقية، ولأسباب نجهلها. كما نجهل سبب حظوتها الكبيرة لدى سنحاريب الذي خصص لها بعيد تسمية اسرحدون ولياً للعرش أرضاً معفوة من الضريبة هي ارض مدينة شبو (ربما شبانيبا- تل بلو الكائنة مقابل بعشيقة) مسمياً إياها في أمر التمليك (أم ولي العهد)، كما كان لها حصة من الإتاوات والذهب والثياب. وقد عثر على ختمين اسطوانيين في نينوى يمثلانها واقفة خلف الملك..كما عثر على منحوتة برونزية تمثلها واقفة وراء ابنها أسرحدون..كما توجد تماثيل لها في أماكن عامة في معبد نبو في كالخو وآخران في آشور وحران..وكان أحد اساليب تأكيد السلطة القيام بمشاريع بناء واسعة وتخليد اسم الملك والآلهة عليها بالكتابات النذورية والتأريخية، وهو امتياز يحتكره الملوك وحدهم، مما يجعل بناء نقية قصرا لأبنها (في أرض خالية من العاصمة السياسية نينوى وراء معبدي سين وشمش) عملا ً غير مسبوق في بلاد آشور بل وعلى غرار آشورناصربال الثاني، قامت بتقديم الأضاحي للآلهة وإقامة المآدب احتفالا بأكماله. ولكنها على الرغم من تكريسها القصر لابنها كانت هي من أقام فيه..


ولعل أهم منجزات نقية يكمن في ما نطلق عليه في الوقت الحاضر (صناعة الملوك) ليس بيولوجياً بل سياسياً : فقد تمكنت، على رأي العديد من البحاثة، من التأثير على سنحاريب بجعله يغير ولاية العرش من ابنه الأكبر الى ابنها اسرحدون، وعملت خلال سنوات حكم ابنها على استتباب الأمن في الأمبراطورية ..والأرجح أن السلام مع بابل وإعادة أعمارها ثم عقد إتفاقية سلم مع عيلام كان بتدبير منها..وربما كان غزو مصر وضمها الى الأمبراطورية هو الآخر بتخطيط منها أيضاً..وهنا نوظف علم الدلالة اللسانية مجدداً فنقية آرامية وقد شهدت العقود الأخيرة من حياة الأمبراطورية الاشورية تداخلاً حضارياً ولسانياً وسياسياً بين الآراميين والآشوريين..وكانت خطوتها المهمة الثانية أنها عملت مجدداً على التدخل في ولاية العهد قبيل وفاة ابنها أسرحدون لتفادي تكرارحدوث العاصفة التي هزت أركان الأمبراطورية وتسببت بمقتل سنحاريب..فوضعت وثيقتها الشهيرة باسمها الآشوري (وثيقة زكوتو) ونصت فيها على اقتسام الحكم بين حفيدها آشوربانيبال وأخيه (شمش- شمو- كين) فخصصت الامبراطورية بعاصمتها نينوى لآشوربانيبال وبابل لأخيه شمش شمو كين. ونلاحظ من نص المعاهدة أن المتعهد بصيانتها ليس الملك بل الملكة الأم (زكوتو لأن أم آشوربانيبال كانت قد ماتت منذ سنوات) وبنودها تنطبق على آشوربانيبال وحده بتسميته ملكاً بينما لاتخاطب شمش شمو كين بالاسم نفسه وتضعه ضمن الأطراف التي فرضت عليها المعاهدة..ويبدو أن المعاهدة صيغت بعيد وصول أنباء وفاة اسرحدون وأنها نفذت في ليلة تتويج آشوربانيبال بعد شهر من وفاة أبيه..ويبدو أن نقية - زكوتو قد لعبت الدور نفسه الذي لعبته سميراميس قبلها..ولابد أن أضيف أيضاً الى ماسبق أن تبدلاً تدريجياً في هرمية الآلهة كان يحدث في القرن الأخير من عمر الأمبراطورية يماثل تغليب آشور على مردوخ على عهد شلمنصر الأول وتكلاثبليزر الأول، وهذه المرة بالتأكيد على سين المقيم في حران ..وهذا ما سنتابعه مع أدة كوبي الأميرة الآشورية وأم نبونيداس.


أدة كوبي:


إن المتابع لحوادث هذه المرحلة من تأريخ العراق وإعادة تمثيلها وتدوينها من خلال النشاط البحثي والتأويلي، سيكتشف محاولات المؤرخين المعاصرين اليهود ولأسباب آيديولوجية التأكيد على دور إسرائيل وملوكها الأفتراضيين في توجيه الحوادث اوعزو الأنجازات في الشرق الأدنى القديم..ومن ذلك توشيج التأريخ الديني والأسطوري بالتاريخ الفعلي الموثق بالشواهد النصية والآركيولوجية، او بطرح تأويلات افتراضية ولسانية في أغلبها بهدف تصوير خارطة العالم القديم على نحو ينسجم مع نظرية القبائل اليهودية في الأناضول وشمالي العراق وسورية على أنهم أسرى هجرهم (بتشديد الجيم) الاشوريون الى تلك المناطق، بهدف التمويه الأثني، او بطريق استخدام عبارات الترجيح فيما يتعلق بالتوسع الآشوري في قلب الأناضول وزاكروس والساحل الفينيقي ووصف التحالفات ونتائج المجابهات العسكرية بين الآشوريين وخصومهم..وقد يلجأ هؤلاء المؤرخون الى مقارنة عمارة معبد كمعبد عين دارة ببناية في القدس تعزى الى انبياء اسرائيل بهدف توصيل نفوذ دولتهم شمالاً او شرقاً او الى افتراض أسماء آرامية بأنها أسماء عبرية كنقية مثلاً ، وهم في كل هذه المحاولات يعملون جاهدين لمد جذورهم في تراب تأريخنا..ومنهم من يعمد الى تمويه التأريخ الحضاري بزجه بالتأريخ السياسي فيضع فواصل بين الأكديين والآشوريين والبابليين والعرب باعتبارهم حضارات مختلفة وليسوا أمماً ودولاً تنتسب لحضارة واحدة، على ذلك نرى أن أدة كوبي تقدم نموذجاً فريداً للوحدة الحضارية في وادي الرافدين..وأدة كوبي أميرة آشورية زوجها امير بابلي مرموق تميز على عهد نبوخذنصر الثاني اسمه نبو بلاستو اقبي ( وربما تلفظ أخبي اوأكبي) كان والده نبوبلات اقبي حاكماً على حران وأمه (شوما دامقا) كاهنة رئيسة في الدولة الآشورية..عاصرت عدداً من الملوك الآشوريين والملوك الكلديين وآخرهم ابنها نبونيداس الذي تزوج ابنة نبوخذنصرالثاني من زوجته الميدية..مما يسر له تسنم العرش البابلي..ولابد لاستبار دور أدة كوبي من تتبع التحول في آيديولوجية الدولة الكلدية ومتابعة هذا التحول خلال العقود الأخيرة من عمر الأمبراطورية الآشورية..وقد تمثل هذا التغيير بالانتقال التدريجي من عبادة مردوخ ومركزية آشور الى عبادات أور وسومر القديمة التي تتمحور على آلهة القمر (سين) ونوسكو وربة الخصب والمرأة والقتال عشتار. وهو تحول صاحبه تدريجيا ً محاولة الكلديين التخلص من النفوذ الميدي، وإحياء التطلعات السيادية للآشوريين كم يتجلى ذلك في نبوخذنصر الثاني ونبونيداس..ويبدو أن النبلاء ورجال الدين الآشوريين والموظفين الآراميين استمروا في مراكزهم لاسيما في الأناضول والغرب على الرغم من المجازر التي أصابت عواصم القلب الآشوري..وفي رأينا أن أنشقاقاً سياسياً صاحب التوجهات الدينية لحكام بابل (الآشوريين) من جهة الأم على الأقل فبينما استمرت عبادة مردوخ، انصرف نبونيداس كلياً لعبادة القمر بل هجر بابل للإقامة في قلب الصحراء العربية..وأصبح الهلال رمز الإله سين والنجمة رمز الربة عشتار من أكثر الرموز الدينية أهمية لنيبونيداس.. ومانزال نشاهد في أعلام المشرق الأسلامي العربي هذين الرمزين القديمين منذ العصورالغابرة..والمهم بعد هذا الاستطراد، الذي لايخلو من صلة بموضوعنا، إن أدة كوبي فسرت سقوط نينوى وبعدها حران والخرائب التي حلت في وادي الرافدين بغضب الإله سين، ومغادرته الأرض الى مكان آخر..وهي بصفتها الكاهنة الرئيسة في حران، عملت على التضرع لسين وتقديم النذور والانقطاع الى العبادة لإرجاع بلاد الرافدين الى سابق عهدها..وكانت الكاهنة قد سجلت الحوادث التي عصفت ببلاد الرافدين منذ عهد آشوربانيبال وحتى وفاتها على عهد ابنها نبونيداس آخر الملوك الكلديين على أربع مسلات كتب أحدها ابنها بعد وفاتها ووضعت كل واحدة في ركن من أركان المعبد الأربعة. وتخبرنا أدة كوبي عن رحيل سين غاضباً بسبب تدمير نينوى فيما يخبرنا ابنها عن عودته مع عودة السومريين والأكديين من خلال أحفادهم الآشوريين من ذوي الشعر الأسود الى السلطة في بابل. وبحس نافذ بالتأريخ تخبرنا أدة كوبي عن أبرز الحوادث التي عاشتها فقد ولدت في السنة العشرين من حكم آشوربانيبال، اي عام 649 ق.م. وتؤكد أنها عاصرت ملوكا آشوريين وبابليين ..وقد وجد البحاثة تطابقاً بين التواريخ التي ذكرتها والحوادث التأريخية الفعلية ..إذ جاء في مسلتها : (وفي السنة السادسة عشرة لحكم نبوبلاصر، ملك بابل، عندما غضب سين سيد الألهة على مدينته ومعبده وغادرهما الى السماء فحل في المدينة الخراب وهلك اهلها)، وكان بنوبلاصر قد حكم بابل بين عامي 625 ق.م. و605 ق.م. وكان سقوط حران وتخريبها عام 609 ق.م. أي في السنة السادسة عشرة لحكمه..وحران هي آخر معاقل الآشوريين التي لجأ اليها آشوراوباليت الثاني بعد سقوط نينوى عام 612 ق.م. وبينما غادر الجميع المدينة بقيت أدة كوبي بالقرب من معبدها المهجور متضرعة الى الإله حتى عثرت على مئزر ارجواني موشى بالذهب منذور له بين الأنقاض فأمسكت بأطرافه، وكأن الإله متجسما فيه يصغي الى تضرعاتها راكعة تضخ الدمع على مالحق بلاد الرافدين من خراب: (أن انت قررت العودة الى مدينتك، فأن الناس من ذوي الشعور السوداء كلهم سيعبدوك) ..وتلكم صفة يستخدمها السومريون في نعت أنفسهم..غير أن أستخدام ادة كوبي لهذه العبارة بعد 1500 سنة من زوال الوجود السياسي للسومريين يعني أنها تتحدث عن أحفادهم من الأكديين والآشوريين، بمعنى عودة السلطة الشرعية الى أهلها ممثلا ًلها بأبنها نبونيداس الذي وحد بلاد مابين النهرين تحت إرادة سياسية واحدة عام 555 ق.م. ..حيث تمضي أدة كوبي في نصها:


(سين سيد الآلهة، نظر بعطف الى تضرعاتي فدعى ابني الوحيد نبونيداس.. فلذة رحمي الى الملوكية على سومر وأكد، وعلى الأراضي كلها من حدود مصر ومن البحر الأعلى الى البحر الأدنى، ووضع ثقته بإدارتها في يديه).. وبهذا يفسر انتصار نبونيداس على إنه انتصار للإله الآشوري سين على الإله البابلي مردوخ، مما اغضب الكهنة في بابل وحفزهم للثورة على نبونيداس ثم للتآمر مع قورش لأسقاط بابل هذه المرة..نستدل من هذه الحوادث بين حران وبابل والصراع بين الكهنة ونيبونيداس بسبب معتقداته الدينية الغريبة الى إن السياسة والدين ماهما سوى وجهين لعملة واحدة..فنبونيداس كان يتصرف على وفق ماتملي عليه رؤياه التي كان يتصورها رسائل من الآلهة ولعله للسبب نفسه غادر بابل الى الصحراء العربية وكأنه ابراهيم (عليهالسلام ) في بحثه عن إله واحد أحد هو غير سين ومردوخ..ولعل من غرائب الصدف أن يكون القمر معبود أدة كوبي ونيبونيداس، كوكبا للشعراء والحالمين ورمزاً للحضارة العربية وللزمن العربي..


وقد ماتت أدة كوبي عن عمر يناهز الـ 104 عام في السنة التاسعة لحكم ابنها..وقد وصف ابنها نبونيداس في مسلته في حران وفاتها في 546 ق.م.: ( حملها قدرها فدفن نبونيداس ابنها ووليد رحمها جثمانها موشاة بثياب ملكية من الكتان الأبيض الطاهر..وزينها بالحلي الرائعة من الذهب المطعم بالحجارة الكريمة..وبالزيوت العطرة كسى جسمها ووضعها في مقرها الأبدي في مكان سري..وذاع نعي أم الملك فقد قدم الناس من بابل وبورسيبا من الأصقاع البعيدة، وقدم الملوك والأمراء والحكام من تخوم مصر ومن البحر الأعلى وحتى البحر الأدنى ينوحون ويبكون الملكة، واستمر العويل والنواح ..سبعة أيام)..


نخلص من ذلك الى إن المرأة الرافدية قد لعبت دوراً في تأريخ العراق القديم.. وأنني في تناولي لثلاث ملكات وكاهنة مجتهداً هنا ومترجماً هناك ومغامراً هنا وهناك، أكون قد أخذت نموذجاً جاد علينا به التأريخ حتى لحظة كتابة هذه السطور..لأن ما تم استظهاره على حد تعبير الدكتور طارق مظلوم والحديث عن تلقوينجق (لايعدو أن يكون سوى وخزات أبرة في عملاق راقد)..مع ذلك فثمة نساء كثيرات عشن في البلاط الآشوري الحديث ولعبن أدواراً تتراوح بتأثيرها وقوتها ومن خلال أزواجهن او آبائهن او أشقائهن الملوك كما لمحت لنا المقبرة الملكية في النمرود..ومن أبرز تلك النساء (موليسوموكانيشات نينوا) زوجة آشورناصربال الثاني و(يابا) زوجة تكلاثبليزر الثالث، و(تاليا) زوجة سرجون الثاني، و(أيشارا حمات) زوجة اسرحدون، و(شادوتو) شقيقته، و(ليبالي شارات) زوجة آشوربانيبال..وغيرهن ممن وهبن العراق ميتات، كنوزا منقطعة النظير تعكس تطور الذائقة الفنية لأسلافنا وقوتهم وثروتهم منذ آلاف السنوات، ووهبنه حيّات، نموذجاً للمرأة العراقية في صورة عشتار وهي تقود عربة تجرها الأسود تنطلق في تحد صارخ للموت أماً وأختاً وابنة وزوجة وروحاً خالقة...






© جميع حقوق النشر محفوظة لدار الكتب والوثائق 2006


رقم الايداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 1014 لسنة 2008




هناك تعليق واحد:

فاروق عمر فوزي وكتابه : تجربتي في الكتابة التاريخية بقلم : الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف

  فاروق عمر فوزي وكتابه : تجربتي في الكتابة التاريخية الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل أجا...