الثلاثاء، 14 أغسطس 2018

حلقة الاباء الدومنيكان في الموصل من برنامج (موصليات )


الاباء الدومنيكان في الموصل*
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ  التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل

   ان من اهم محطات تاريخ الموصل في العصور الحديثة انها كمدينة وكمنطقة جغرافية واسعة شهدت منذ السنوات الاولى من القرن السابع وعندما كانت ولاية تابعة للدولة العثمانية مجيء مبشرين اجانب وفدوا اليها من اجل القيام بمهمات تبشيرية بين المسيحيين اللارذودكس في الموصل والسعي بإتجاه تحويلهم نحو الكاثوليكية فضلا عن القيام بنشاطات تعليمية وطبية كان لها الاثر الكبير في تنمية الوعي الثقافي وايقاظ الذهن وتوسيع قاعدة المثقفين من خلال فتح المدارس  وتأسيس المطابع واصدار المجلات .     
ويعتبر الآباء الكبوشيون([i]) والدومنيكان من أقدم الإرساليات التبشيرية التي قدمت الموصل ، حيث تأسست فيها رسالـة كبوشيةسنة 1632 . وكان الغرض من تأسيسها محاولة جذب النسـاطرة ( الآثورييـن ) إلى حضيرة الكنيسة الكاثوليكيـة ([ii]) . ولم تلقَ الرسالـة الكبوشية نجاحـاً في أعمالها التبشيرية ([iii]) ، على الرغم من ترحيب الحكام الجليليين بها ترحيباً واسعاً ، فاضطرت في سنة 1724 إلى مغادرة الموصل ([iv]) .

    أسس الآباء الدومنيكان رسالتهم في الموصل سنة 1750 ، وكان يتقدمهم الأبـوان الإيطاليان فرنسيـس تورياني وعبد الأحد كوديلنشيني . استقبلهم الجليليون بحرارة وأفسحوا لهم مجالاً للعمل ودافعوا عنهم.وأشتهر الدومنيكان بصناعة الطب التي مارسوها لخير الأهالي من أي مذهب كانوا . وقد فتحوا مدارسهم للطلاب من كل ملة ونحلة ([v]) .

     ظلّ نشاط المرسلين الإيطاليين محدوداً . أما أسباب ذلك فتعزى إلى عدة أمور منها : أنهم واجهوا متاعب مالية ([vi]) . إضافةً إلى عدم تمتعهم بالحماية من قبل أحد السفراء الأوربيين في الأستانة ، ولكي تحصل هذه الرسالة على الحماية الضرورية ولخوف البابويـة من توافد المبشـرين البروتستانت إلى العراق منذ أواخر العشرينات كمن القرن التاسع عشر فقد سارع البابا بيوس التاسع سنة 1856 فأصدر قراراً بنقل قيـادة البعثة التبشيرية الدومنيكية في الموصل إلى دومنيكـان فرنسيين ([vii]) . وتعيين أمانتـون الفرنسي ( قاصداً رسولياً ) إلى بلاد ما بين النهرين وأورمية وفـارس . وفي 9 تموز سنة 1858 وصل أمانتون الموصل كما سبق أن قدّمنا .

     مارس الآبـاء الدومنيكان نشـاطهم في الموصل ، فأسسوا مطبعتهم لمّا رأوا ما يعانيه المعلمون والطلاب من المشـقات لنقص الكتب اللازمة على أصول حديثة لتسليم الناشئة في اللغات الثلاث العربية والكلدانية والفرنسية على أصول حديثة ونشـروها في الموصل وقراهـا ([viii]). وغدا نشاطهم في الميادين الطبيـة والتعليمية أكثر اتسـاعاً من ذي قبل . ومن المدارس التي فتحوها ، مدرسة الراهبات المعروفة بـ ( أخوات المحبة ) سنة 1873 ، وقامت هذه المدرسة بنصيب وافر في تعليم البنات الموصليات من المسلمات والمسيحيات وتدريبهن على الأشغال البيتية كالخياطة والتطريز ([ix]) .

     بذل المبشرون الفرنسيون جهدهم لنشر اللغة الفرنسية . ففي الوقت الذي كانت المصالح الأقتصادية الفرنسـية في الموصل ضئيلة أصبح لفرنسا نفوذ ثقافي بارز . إذ توزعت الجهود الفرنسية بين ميدانين أحدهما ميدان التنقيب عن الآثار ، حيث كان لعلمـاء الآثار الفرنسيين أمثال فكتور بلاس وفرسنال واوبر دور بارز في العمل ضمن المحيط الموصلي ([x]) . أما الميدان الثاني فتمثل في ( المجال الكثلكي ) حيث اعتبـر الفرنسيون أنفسهم حماة للكاثوليك في كل أرجاء الدولة العثمانية ([xi]) .

     لقد كان من نتائج ذلك النشاط الذي مارسـه الفرنسيون أن أصبح الدور الثقافي في الموصل متسماً بطابع فرنسي ، فانتشـرت اللغة الفرنسية إلى حد بعيـد ، وازداد ميل النـاس إلى دراسـتها وذلك بتأثيـر المدارس والكتب والمطبوعـات الفرنسية والاطـلاع على التاريخ الفرنـسي الثوري بما فيه حقوق الإنسان وحق تقرير المصير والحكم الدستوري ومكافحة الطغاة ([xii].

     أسهم نشاط الارساليات التبشيرية في قيام حركة فكريـة ، ويمكن تقدير أهمية وجود هذه الارساليات إذا علمنا بأنها عملت على إدخال اللغة العربية والعلوم الحديثة ضمن مناهجها الدراسية المقررة. لهذا ازداد الإقبال على هذه المدارس ، لا سيّما من قبل العوائ التبشيرية في الموصل فكان من تلاميذها داؤد الجلبي ، صديق الدملوجي ، أمجد العمري ، فاروق الدملوجي ، رؤوف العطار، داؤد سليم ([xiii]) . وكان من أسباب هذا الإقبال أيضاً السياسة التعليمية التي تبناها الأتحاديون ومطاردتهم للغـة العربية بحيث لم تجد لها ملجأ غير المدارس التبشيرية . أما الأكثرية من عامة النـاس فقد لجـأت إلى إرسال ابنائها إلى المـدارس الدينية التقليديـة التي حفظ فيها القرآن الكريم للعرب لغتهم في العصور الحالكة .

     حقّاً أنّ إقبال المسيحيين العرب على المدارس التبشيرية أكثر من إقبال أخوانهم العرب المسلمين . وقد أدّت هذه الظاهرة إلى انتشار الوعي القومي بين شباب الفئة الأولى بصورة أشمل وأكثر عمقاً . كما أن تحمسهم للحريات التي أطلقها الدستور العثماني سنة 1908 أشد من نظرائهم المسلمين وذاك لمعاناتهم التاريخية من عدم المساواة العثمانية . ولعـل في زيارة البطريرك الكلداني مار يوسف عمّا نوئيل الثاني للأستانة أثر خلع عبد الحميد الثاني ما يفسر ذلك ، إذ قصد هذا العاصمة العثمانية في 10 تموز 1909 يرافقه وفد كبيـر يتألف من : حنا زبوني ، والقس يوسف غنيمة ، والقس داؤد رمو ، وعبد الكريم باشا ، والقس توما . وانضم إلى الوفـد داؤد يوسـفاني مبعوث الموصل ، وقد التقى الوفد بالسلطان محمد رشاد وألقى البطريرك كلمة طلب فيها وجـوب " تعميم الأمـن والعدالة وانبعاث أشـعة الحرية مـن شمس المشروطية إلى جميع الأصقاع سيّما البعيدة ومنها الموصل " . وقـد أجابه السلطان " بأن جميع التبعة العثمانية هم في مركز واحد ... بغض النظر عن المذهب والديـن ... وأنّ جميعهم يستفيدون من المشـروطية " وطلب تبليغ سلامه إلى جميع الكلدان في الموصل ([xiv]) .

     طلب البطريرك الكلـداني من الحكومة العثمانية جعل مدرسة شمعون الصفا للبنين في الموصل مدرسة أعدادية وبقية المدجارس الكائفية مكاتب رشدية فوافقت الحكومة على ذلك ، كما عمل توسيع شبكة التسليم في قرى الموصل التي تحوي أكمثرية كلدانية . فقد فتح العديد من المدارس الطائفية للبنين والبنات . ومن الطـريف أن يحصل البطريرك مار يوسف عمانوئيل على ثلاثة أوسمة تقديراً لمساعيه في نشر المعارف بين الكلدان ، اثنان منهما من الحكومة الفرنسية : وسام جوقة الشرف من ( رتبة اوفيسيه ) في 12 شباط 190 ، ووسـام جوقة الشرف من ( رتبة كوماندور ) فـي 28 شباط 191ذ2 ، والثالث من الحكومة العثمانية في 25 كانون الثاني 1913([xv]) .

    هذا وبالرغـم من بعض الجوانب السـلبية لإرساليات التبشير من حيث الارتباطـات الأوربية السياسية ، إلاّ أنها كانـت أداة مهمة من حيث خدمة التراث العربي وخاصةً اللغـوي منه والذي هو الواسطة الأساس في التعبير الفكري القومي .
_____________________________________________
*من رسالة الدكتور ابراهيم خليل العلاف للماجستير بعنوان:" ولاية الموصل :دراسة في تطوراتها السياسية 1908-1922 " قدمت الى كلية الاداب-جامعة بغداد 1975 وهي غير منشورة .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

العلامة محمد بهجت الاثري ( 1904-1996) في المؤتمر الثقافي العربي الاول 1947 ا.د.ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل قبل أيام نشرت مقالة عن أول مؤتمر ثقافي عربي عقد سنة 1947 ، وعن حضور العلامة المؤرخ العراقي الكبير الاستاذ الدكتور جواد علي وهو من اساتذتي درسني في الصف الاول في كلية التربية -جامعة بغداد سنة 1964 مادة (تاريخ العرب قبل الاسلام) ، وقد علق الاخ الاستاذ شهاب سالار الاثري على ما كتبته ، وقال ان العلامة الاستاذ محمد بهجت الاثري اللغوي والمؤرخ والمحقق العراقي الكبير كان من اوائل الحاضرين في هذا المؤتمر وكان يمثل العراق وقد القى كلمة مهمة . يقول الاستاذ شهاب سالار الاثري بعد ان نقل تحيات الاستاذ يسار محمد بهجت الاثري :" الاخ الاستاذ الدكتور ابراهيم العلاف ، بعد ابداء مايليق بالجناب من اعطر التحيات واجملها فأني ارجو ان تكونوا بخير وصحة وعافية . قرأت مقالكم الفخيم حول المؤرخ الدكتور المرحوم جواد علي (رحمه الله). (ومشاركته في المؤتمر الثقافي العربي الأول) الذي انعقد سنة 1947 ويبدو لي ان الاستاذ حسام الساموك قد التبس عليه التاريخ وكتب سنة 1945 بدلاً من سنة 1947 ونشرها في مجلة افاق عربية ولربما أن الخطأ وقع من المطبعة . وتم انتخاب الأستاذ الأثري في هذا المؤتمر رئيساً للجنة اللغة والقواعد. وشارك المرحوم الاستاذ الدكتور جواد علي في القاء محاضرة عنوانها (الثقافة العربية ومقامها من الثقافات العالمية) .. . العراق شارك في اعمال هذا المؤتمر العتيد ..المؤتمر العربي الأول المقام على ارض لبنان برعاية رئيس جمهورية لبنان الشيخ بشاره الخوري في بيت مري للفترة من ٣ إلى ١١ أيلول - سبتمبر سنة ١٩٤٧م ، وعن اوليات عقد المؤتمر قال ان اللجنة الثقافية للجامعة العربية فكّرت بعقد أول مؤتمر عربيّ، وكانت أهم المواضيع المطروحة للبحث في: آداب اللغة العربيّة، والجغرافية والتاريخ، والتربية الوطنيّة. وما أن أُعلن عن المؤتمر حتى تقدّمت إليه الطلبات الكثيرة من شتّى الأقطار العربيّة من رجال ونساء وبلغ عدد المؤتمرين (300) ثلاث مئة شخصٍ. حضرت وفود من الدول العربية التالية : ١- مصر. ٢- لبنان. ٣- سوريا. ٤- العراق. ٥- فلسطين. ٦- المغرب. وضم الوفد العراقي وكان برئاسة العلامة الاستاذ محمد بهجت الاثري عضو المجمع العلمي العربيّ بدمشق وعضو لجنة التأليف والترجمة (كانت نواة للمجمع العلمي العراقي فيما بعد) . كلا من : الدكتور جواد علي سكرتير لجنة التأليف والترجمة. الأستاذ إبراهيم شوكت (الدكتور ابراهيم شوكت استاذ الجغرافية في كلية الاداب جامعة بغداد فيما بعد) الأستاذ المساعد بدار المعلمين العالية. الأستاذ محمد ناصر (الدكتور محمد ناصر التربوي الكبير ووزير التربية السابق ) الملحق الثقافيّ بالمفوضيّة العراقية بالقاهرة. كان من المقرر مشاركة الأستاذ منير القاضي عميد كلية الحقوق وحرمه للمؤتمر، لكنّه تخلّف عن الحضور. وهذه اسماء من شارك من العراقيين : ١- السيدة صبيحة المقدادي شوكت ثانوية الأعظمية للبنات. ٢- السيد عبد الرحمن البزاز (الاستاذ عبد الرحمن البزاز رئيس وزراء العراق فيما بعد) حاكم محكمة بداءة بغداد. ٣- الآنسة بهيجة محمد رؤوف القطان مدرسة متوسطة البتاوين - بغداد ٤- الآنسة جولي متري حاج وزارة المعارف العراقية. ٥- الآنسة مهيبه برباري وزارة المعارف العراقية. ٦- لندا عازر كرم وزارة المعارف العراقية. ٧- السيد خلدون الحصريّ (الدكتور خلدون ساطع الحصري المؤرخ العراقي) ٨- السيدة حرم الأستاذ سعيد فهيم بك ٩- الآنسة فيكتورين ميخائيل خمو طالبة بمعهد الملكة عالية - بغداد. وألقى العلامة الاستاذ محمد بهجة الأثـــريّ كلمة العراق في الحفل الافتتاحي للمؤتمر وأيضاً في ختامه. وقد تم اختيار العلّامة محمد بهجة الاثريّ رئيساً للجنة اللغة والقواعد. من الجميل ان وقائع المؤتمر الثقافي الاول الذي انعقد في بيت مري بلبنان من 2 الى 12 ايلول - سبتمبر سنة 1947 ، صدرت عن جامعة الدول العربية في كتاب حمل عنوان ( المؤتمر الثقافي العربي الاول المنعقد تحت رعاية فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية في بيت مري - لبنان 1947 من 2 الى 12 ايلول - سبتمبر 1947 -القاهرة ) وقد طبع الكتاب سنة 1948 في (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ) . مندوب جريدة (الزمان ) البغدادية وكما هو منشور في العدد الصادر يوم 24 ايلول - سبتمبر 1947 ، التقى العلامة الاستاذ محمد بهجت الاثري وسأله عن اهمية المؤتمر فقال الاستاذ الاثري :" أرى ان هذا المؤتمر ،كان الحجر الاساسي الاول لاقامة صرح جديد للثقافة العربية على امتن الاسس واقواها ،والاتجاه بها الى القومية الصحيحة الرصينة وتكوين الفكر العربي المستقل بوعيه والمتميز بخصائصه ..." . كان الاستاذ محمد بهجت الاثري قد القى كلمة ضافية في المؤتمر قال فيها :" تحية العراق الى الوطن العربي الاكبر من البصرة وتخوم طوروس الى ضفاف الاتلنتيك ،والعراق كان ومابرح ولن يبرح الى مايشاء من تلك المراكز العربية الاصيلة الملامح والسمات التي بحمل ابناؤها في الحواضر والقرى والارباض والارياف انبل العواطف واسمى المشاعر لكل قطر عربي حيث كان ولكل ماهو عربي وفي كل زمان ومكان ..." . كان في المؤتمر ، ثمة لجان منها لجنة الادب ، ولجنة اللغة والقواعد وترأس لجنة اللغة والقواعد الاستاذ محمد بهجت الاثري في حين تولى الاستاذ اسحاق موسى الحسيني ومن اعضاء اللجنة الاستاذ خليل السكاكيني والاستاذ عبد الله المشنوق . وفي حفل الافتتاح توالت كلمات الافتتاح وكان العلامة الاستاذ محمد بهجت الاثري من بين الذين القوا كلمات الى جانب رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري والاستاذ حميد فرنجية والاستاذ احمد امين والدكتور قسطنطين والاستاذ اسماعيل القباني . كان مؤتمرا تاريخيا مهما .رحم الله من غادرنا وحفظ الباقين.

العلامة محمد بهجت الاثري ( 1904-1996) في المؤتمر الثقافي العربي الاول 1947 ا.د.ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...