السبت، 24 مارس 2018

الموصل في مذكرات الطبيب استرجيان



                                                              اطفال ارمن لاجئين في الموصل

الموصل في مذكرات الطبيب استرجيان
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس –جامعة الموصل

والدكتور كريكور أبراهام استرجيان، الطبيب الموصلي المعروف, الارمني الذي أحب الموصل وأحبه الموصليون، وهو صاحب القصر المعروف بقصر استرجيان القريب من  جامع النبي يونس عليه السلام في الجانب الايسر من الموصل وقد هدم للأسف قبل سنوات ( 1969 ) مع انه كان يتسم بسمات معمارية رائعة،وكان بالإمكان المحافظة عليه، لو توفر حد أدنى عند المسؤولين، من الحس المعماري التراثي .
صدرت مذكراته باللغة العربية، وطبعت في طرابلس بلبنان (مكتبة السائح 2004) بعنوان: (مذكرات الدكتور استرجيان 1885- 1980) وكانت قد صدرت بالارمنية منذ سنة 1974 وفي المذكرات معلومات رائعة عن الموصل جديرة بالانتباه لما تتضمنـه من حقائق وانطباعات توثق للمدينة ولرجالاتها وللاحداث التي وقعت فيها خلال الـ (80) سنة الماضية.
للدكتور استرجيان مقالات عديدة نشرها في مجلات موصلية وعربية وعالمية. كما أن له كتبا لعل من أبرزها كتابه (تاريخ الأمة الارمنية) المطبوع في مطبعة الاتحاد الجديدة بالموصل سنة 1951 ،وكتاب (الام واحلام) وهي مجموعة قصصية نشرت ببغداد سنة 1957 وكتاب تاريخ الثقافة والادب الارمني الي نشر سنة 1954 .فضلا عن كتب باللغة الارمنية منها كتابـه (تاريخ العرب والأدب العربي) المطبوع ببيروت سنة1961 .
ولد في 17 تشرين الثاني 1885 بمدينة كرمانيك من اعمال كليكيا بتركيا واكمل دراسته الثانوية في اورفة ثم درس الطب في استانبول  وتخرج سنة 1912 وعين طبيبا في الموصل ووصلها مع زميله الدكتور جمال زين العابدين (الكركوكلي) واستقبله الدكتور جلال بك رئيس صحة الموصل استقبالا رائعا واحتفى به وكان الوالي انذاك سليمان نظيف (1912-1915) وقد عمل في صحة الموصل حتى مطلع سنة 1919، إذا قدم استقالته بعد وقوع الموصل تحت الاحتلال البريطاني وأصبح حرا في ممارسة مهنته. يقول انه تصرف في كل حياته كموصلي وكعربي.. ودافع عن عروبة الموصل بوجه المطالب التركية (1924-1926)، وشكره متصرف الموصل السيد عبد العزيز القصاب على موقفه هذا.
بني الدكتور استرجيان قصرا  يسميه الناس في الموصل قصر السرجيان على الطراز الارمني الروماني سنة 1935 على ارض مساحتها 3500 متر مربع، وكان الناس في الموصل يحسبون انه على الطراز الياباني او الصيني ، وقد استغرق بناءه قرابة 10 سنوات، ثم قام الدكتور استرجيان بتأثيث القصر بأثاث فاخر ،وقد بدا القصر للموصليين وغيرهم تحفة معمارية فنية رائعة ،وكما هو معروف فأن الدكتور استرجيان، استضاف في قصره ولسنوات عدة شخصيات بارزة منها شاه إيران رضا بهلوي، والسيد رشيد عالي الكيلاني قائد الحركة التحررية التي قامت بأسمه ضد النفوذ البريطاني في العراق والمعروفة بثورة مايس 1941 .
يقول الدكتور استرجيان في مذكراته انه ، نشر في جريدة فتى العراق، مقالات مترجمة سنة 1946 وانشأ خزانة خاصة به في المكتبة المركزية العامة سنة 1956 وكانت داره منتدى أدبياً .
وقد وجدت مؤلفاته صدى طيبا عند محبي الثقافة الموصليين أمثال كوركيس عواد ومحمود الجومرد .
قال لوزير الداخلية (ناجي السويدي) عندما زار الموصل في آذار 1947 وفي وجود المتصرف (مصطفى اليعقوبي) " نحن الأرمن عندما بدأنا نتكلم باللغة العربية، شعرنا بأننا بشر، لنا كرامتنا وأصبح لنا حق الحياة  "  .
في 26 تشرين الثاني سنة 1959 قصد بيروت وأقام فيها حتى وفاته سنة 1985..الذي يهمنا هنا القول بان الموصليين يتذكرون هذا الطبيب الوفي ، ويتناقلون أخبار زياراته لمرضاهم ويتحسرون على قصره المنيف الذي هدم قبل سنوات قليلة ولانعرف لماذا هدم ؟ ومن كان وراء هدمه؟
الذي يهمني اليوم ان اتحدث عنه هو ما كتبه الدكتور كريكور  استرجيان عن الموصل في مذكراته ومنها مثلا ما حكاه عن الموصل ومما قاله انه عندما دخل الموصل من الجهة الغربية للسور وكان الوقت مع غروب الشمس " اخذت عن المدينة انطباعا خاصا وهو ان المحيط ساكن سكونا تاما خال من الحركة ظلام ودخان اسود يخيم على جو المدينة كأنما فيها حريق كبير " . طبعا كان هذا في سنة 1912 .
وقال ان من اولى واجباته كان ان يمتثل امام مدير الصحة  في الموصل مع الوثائق والمستمسكات الرسمية .المدير كان الدكتور جلال بك التركي ولقلة الاطباء في الولاية استقبلني استقبالا رائعا واحتفى بي اثناء مقابلتي له .
ثم تحدث عن ولاية  الموصل انذاك اي سنة 1912 فقال ان ولاية  الموصل كانت  من حيث المساحة تبلغ ستين الف كيلومترا مربعا وعدد نفوسها مليون ونصف المليون نسمة وكان والي الموصل هو سليمان نظيف وهو من اصل كردي ( تولى ولاية الموصل من 19 تشرين الثاني 1912 الى 10 كانون الثاني 1915 ) .وقال ان ولاية الموصل كانت تضم فضلا عن سنجق الموصل ثلاثة سناجق هي كركوك واربيل والسليمانية .
وقد رافق الدكتور استرجيان في زياررته للوالي سليمان نظيف الدكتور جلال بك وزميله الدكتور جميل زين العابدين وقد رحب بنا الوالي سليمان نظيف وتمنى لنا النجاح قائلا :" اولادي ،فإنظروا انتم ما زلتم شبابا وهذا الوطن المتهدم يحتاج الى قواكم الفتية لبنائه وخدمته فإعملوا لتحسين وازدهار الوطن " . وقد شكروه واعتذروا وغادروا مقره .
كان الدكتور استارجيان طبيبا رسميا في ولاية الموصل وليس طبيبا محليا بمعنى انه كان طبيبا لكل الولاية وكان عليه ان يتجول في جميع مدن الولاية وجميع القرى فيها لفحص الوضع الصحي فيها ورفع التقارير الى رئيس الصحة عن زياراته الميدانية التي كان يقوم بها وتهيئة  احتياجات الولاية من الادوية مع التوصيات الصحية وتفيذها .
يقول الدكتور استرجيان انه بعد استراحة لمدة ثمانية ايام في مركز الولاية والتعرف على ابرز الشخصيات في الموصل كان يجب ان ازور الاقضية وفي كانون الاول سنة 1912 قام بزيارة قرى المسيحيين الكلدان والشبك والاكراد في الاقضية والنواحي وعينت مسؤولا عن تنفيذ توجيهاتي وبدأت زياراته لمراكز الاقضية وقد وجد ان الحالة الصحية في هذه المناطق مؤلمة ويرثى لها وقد رفع تقريرا بذلك الى مدير الصحة ووضح ان قلة الاطباء وعدم وجود موظفيين صحيين مع قلة الادوية هو احد الاسباب المهمة في تدهور الحالة الصحية بها .وكان مدير الصحة نفيه يشكو من هذه الحالة المزرية الا انه كان مكتوف الايدي ولم تلق تقاره الاهتمام تلك التقارير التي يرسلها الى مديرية الصحة العامة .
كانت امراض الملاريا والديزانتري (البلهارزيا ) سارية وتحصد الاف الارواح ولهذا وجب على الانسان ان يحني رأسه لهولاء الضحايا الذين جرفتهم تلك الامراض الوبيلة .
وفي هذه الاثناء زار الموصل حكمت سُرية مفتش وزارة الصحة قادما من العاصمة استانبول فشرح له الدكتور استرجيان احوال المنطقة والامراض المتوطنة فيها كما بين له بالتفصيل الممل كل الامور المتعلقة بالصحة والناس وشكره على جهوده في مواجهة الحالات الخاصة بمرض الملاريا وخاصة في المنطقة الكردية ورافقه في بعض زياراته ورفع تقريرا عن الدكتور استرجيان الى وزارة الصحة وطلب منهم توجيه شكر له تقديرا لخدماته وقد تسلم كتاب الشكر سنة 1915  والغريب انه مزقه ورماه في سلة المهملات غير عابئ بقيمته التاريخية .
قال الدكتور استرجيان ان سليمان نظيف والي الموصل استقدم الى استانبول بعد فشله في اخماد التمرد في بارزان وعين حيدر بك الالباني واليا جديدا  ( تولى الولاية من 16 اذار 1915 والى اواخر سنة 1917 ) ، وقد جلب معه مديرا جديدا للصحة هو فيض الله بك وكان على درجة عالية من الثقافة وقد قرأ التقارير كلها عن الحالة الصحية في الولاية وايقن ان الحالة الصحية في الموصل مؤلمة لابل مأسوية وبعد شهر تسلم الدكتور استرجيان  كتاب شكر ثان على جهوده لكنه وبسبب ما كان يجري للارمن من مذابح مزق الكتاب والقاه في سلة المهملات وجرى ذلك في شباط 1915 .
ترك استارجيان الموصل بعد ان سمع بكارثة مذابح الارمن وتدفق موجات المهاجرين الى ولاية الموصل وكلف مع مدير الصحة بالتوجه الى المناطق التي تقع شمال الموصل حيث بدأت الحرب العظمى وقدر له ان يقود مجموعة من المهاجرين الارمن  من كارين في الاناضول نحو الموصل كانت مؤلفة من 3000 بائس ومعذب منهم من اهالي بلدة كارين خرجوا معه الى الطريق في  الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم 22  تشرين الاول سنة 1915 وقد وصلوا الموصل بسلام وقد حل اللاجئون في خانين على تل نينوى  وقام رئيس البلدية السيد امين افندي المفتي بعقد اجتماع في دار البلدية ودعا فيه الى مساعدة المنكوبين انطلاقا من الشعور الانساني وشكل لجنة للاغاثة والقيام بجمع المعونة والتبرعات من الاهالي .لقد شعر الارمن في الموصل بالراحة لكلوا وشربوا الى حد الشبع كما يقول الدكتور استرجيان واغتسلوا وتنظفوا وبدأ بأعمال مختلفة لضمان معيشتهم اليومية فشرعوا يعملون بالمهن الحرة ولم يقم اي احد بمضايفقتهم او تهجيرهم بل بالعكس احتضنهم اهل الموصل واحبوهم .
لايخفي الدكتور كريكور استرجيان خدماته لاهله الارمن ويتحدث عن ذلك في كتابه وقال انه عندما دخلت القوات البريطانية الموصل قدم استقالته للكولونيل ليجمن وتفرغ لعيادته ولخدمة الارمن من خلال الاهتمام بمدرسة الارمن ونادي الارمن وفي سنة 1931 شكل فرقة مسرحية واخرى موسيقية خاصة بالارمن في الموصل كما الف فريقا رياضيا وبنى الارمن مدرسة خاصة بهم في الموصل كما بنوا كنيسة في سنة 1935 مجاورة لبناية المدرسة بجوار حديقة الشهداء في الموصل .
وكان الدكتور استرجيان وطوال الفترة من 1921 والى 1931 مسؤولا ومشرفا عن دور الايتام من ابناء الموصل الكلدان والسريان والارمن والاثوريين وكان طبيبهم وكان يزورهم بإستمرار ويقدم التقارير من اجل الاهتمام بهم كما كان يتنقل بين محلات الموصل ليعالج المرضى وضمان صحة الاطفال فضلا عن معالجتهم في عيادته الخاصة .
وخلال مشكلة الموصل اثر مطالبة الاتراك بولاية الموصل وقف الدكتور استارجيان مع ان تظل ولاية الموصل ضمن الدولة العراقية الحديثة وقد اكبر متصرف الموصل عبد العزيز القصاب موقفه هذا وقبله من جبينه واستقبله بحرارة بعد ان القى عدة خطابات في بعض الاقضية ومنها زاخو دفاعا عن حقوق العراق في الموصل .
يقول الدكتور استرجيان ان اهل الموصل من العرب احبوا الارمن وخاصة من الاطباء والتجار واصحاب المهن الحرة ووجدوا فيهم الامانة والاخلاص والمقدرة الفنية واعتمدوا عليهم دائما واعطوا لهم الاولوية في كل المجالات .وقد نال الدكتور الاحترام والتقدير والحب ليس من ابناء الموصل بل من البابا ففي اب سنة 1931 سلمه السفير البابوي ( القاصد الرسولي ) انطوان درابيه وسام القديس سلفستر بدرجة فارس من النوع العسكري تقديرا لمواقفه الانسانية وقد اقيم احتفال بهذه المناسبة في دار القصادة الرسولية في الموصل .
وكما هو معروف فإن في الموصل من سنة 1929 الى سنة 1935 كانت في الموصل سفارة باباوية الا ان الحكومة العراقية طلبت من كافة السفارات والقنصليات الانتقال الى بغداد العاصمة وهكذا انتقلت السفارة البابوية الى بغداد اسوة بأخواتها الاخريات .
ثم يتحدث الدكتور استرجيان عن انه في سنة 1935 بنى في الموصل قصره على ارض مساحتها 2500 متر مربع بجوار مدينة نينوى واثثه بأث فاخرة وقد كان القصر كما قلنا انفا مكانا لاستقبال ضيوف العراق ومنهم الشاه رضا باشا بهلوي اوائل سنة 1936 .
من الامور المهمة التي تحدث عنها الدكتور استارجيان انه واثناء اقامته بالموصل كانت لديه عادة اقامة حفلة غداء كبرى مرتين في السنة بإسم احد الشعراء المشهورين في التاريخ منذ ايام هارون الرشيد والذي كان يوما ما مديرا للبريد في الموصل وصاحب ديوان الحماسة ابو تمام الحبيب بن اوس الطائب وغيره من الشعراء وكان يجتمع في قصر استارجيان من 50-60 شخصا من ذوي المقامات الرفيعة والمكانة المرموقة من اطباء وشعراء وكتاب ومحامين ومفكرين وموظفين كبارا .
وفي مايس سنة 1945 وفي اعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية اقام في صره دعوة ابتهاجا بوقف هدر الدماء وكان من ضمن المدعوين سفراء وقناصل من انكلترا وفرنسا وتركيا وايطاليا .وفي هذه الفترة اراد ان يقول للسفير التركي اننا الان نعيش في الموصل افضل بكثير مما كنا في تركيا .
كانت الصحف الموصلية ومنها جريدة (فتى العراق ) وجريدة (صدى الروافد ) تتابع اخبار ونشاطات هذا الرجل الذي احب الموصل واخلص للعراق مع  انه لم ينس لغته وبني وطنه الارمن وعمل  من اجلهم ما استطاع ان يعمل ومن ذلك فضلا عن خدماته الطبية اهتمامه بتاريخهم وادبهم مما وضحناه في بداية المقال .
رحم  الله الدكتور كريكور استرجيان وجزاه خيرا على ماقدم .


هناك تعليق واحد:

  1. روعة ما أجمل هذا النوع من الفن العمارة الراقي .. كنا زمان نفتخر ونتباهى به كان قريب من بيتنا وزعلت كثير عليه من سمعت انو نهدم

    ردحذف

وصباحكم خير

                                                                         ساحة الامويين في دمشق وصباحكم خير وكان العراقيون عندما يصفون الدنيا...