نذور الموصل
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس –جامعة الموصل
كما سبق ان قلتْ في حلقات سابقة ، فأن الموصل مدينة متدينة محافظة لكن نزعتها تقدمية تحب التطور ، وتحب الجديد وتربط الحاضر بالماضي ويتطلع اهلها بإستمرار نحو المستقبل .
الموصل ايضا من المدن العربية الاسلامية التي ُتجلْ الانبياء ، والاولياء والصالحين وعلى ارضها مساجد وجوامع ومراقد مقدسة كثيرة سبق ان تحدثنا عنها منها جامع النبي يونس وجامع النبي شيت وجامع النبي جرجيس وجامع الخضر عليهم السلام .
والموصل ايضا فيها أديرة وكنائس كثيرة لقديسين معروفين ومنهم مار كوركيس ومار بهنام ومار ميخائيل والشيخ متي والشيخ سعيد .
وفي الموصل معابد لليهود ، ومنها معبد النبي ناحوم في القوش وفيها معابد لليزيدية في بعشيقة وبحزاني وسنجار والشيخان .
كما ان هناك قبورا لاولياء ولمؤرخين منهم الشيخ عيسى دده والشيخ احمد الخرازي والمؤرخ عز الدين بن الاثير الموصلي .
كان اهل الموصل يعرفون أن لكل ولي من الاولياء كرامة ، حتى ان احمد بن الخياط الموصلي المتوفى سنة 1780 له كتاب بعنوان (ترجمة الاولياء في الموصل الحدباء ) حققه ونشره سنة 1966 شيخنا الاستاذ سعيد الديوه جي ؛ فمثلا كانوا يقولون ان الشيخ قضيب البان الموصلي الذي يرجع بنسبه الى الامام الحسن رضي الله عنه يطوي الزمان فيفعل في الوقت اليسير من اعمال البر ما لايقدر على عمله غيره في الشهور الكثيرة وكانت الحروف والكلمات تطوى له . وقيل عن الامام عون الدين ان رجلا كف بصره فذهب لزيارته وتضرع وبكى وتوسل الى الله تعالى به ونام في حضرته الشريفة ، فرأى رجلا كريما مهيبا يقول له : قم فقد شافاك الله تعالى . ويعرف الموصليون ان من يزور جامع النبي يونس عليه السلام يشعر بأن الاحزان قد ذهبت عنه ، وان حاجته قد قضيت سريعا وان الآمه قد زالت . اما بيعة شمعون الصفا وهو آخر الحواريين والتي تقع في محلة المياسة وهي بيعة قديمة تعود الى القرن الخامس الميلادي .. وقد جاء ذكر شمعون في سورة ياسين في القرأن الكريم على انه ثالث الحواريين (فعززنا بثالث ) قال المفسرون ان شمعون واثنين من الحواريين كانوا مع السيد المسيح عليه السلام حين ارسله الله فلما قربا المدينة رأيا حبيب النجار يرعى غنما فسألهما فأخبراه فقال : امعكما آية ؟ فقالا : نشفي المرضى ونبرئ الاكمة والابرص وكان له ولد مريض فمسحه عيسى فبرئ فآمن حبيب وفشا الخبر وأمن خلق كثير .
والشيخ عيسى دده وهو من كبار الاولياء المتقدمين ومكانه في دكة بركة له مشهد قديم يزوره المسلمون ويتبركون بزيارته ويرون بركته وقيل انه ابن الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله عنهما .
وقبر المؤرخ عز الدين بن الاثير في باب سنجار مقابل مدخل ملعب قضيب البان كان الموصليون يعرفونه ب ( قبر البنت) ويتبركون به وقيل لنه سمي بالبنت لانه كان حييا خجولا جميل الشكل يشبه البنات الجميلات . وله مؤلفات ابرزها كتابه الموسوعي : ( الكامل في التاريخ ) كان الموصليون يزورون قبره ويضعون الحناء والاقفال وما شاكل ذلك .
وهكذا هي الموصل بينها وبين الله سبحانه وتعالى رابطة وثيقة . اذا تأخر المطر ، صعد اهل الموصل الى تل التوبة في جامع النبي يونس ليطلبوا الغيث من الله سبحانه وتعالى ، واذا مافاض الخير ، صلوا صلاة الشكر ، واذا ما انتصروا في معركة نسبوا ذلك الى مدينتهم مدينة يونس وشيت والخضر عليهم السلام .وهكذا فعل المسيحيون عند انتهاء حصار نادر شاه سنة 1743 للمدينة عندما قالوا ان مريم العذراء قد حضرت وحمت المدينة .
النذور هي واحدة من اساليب الموصليين ، للحصول على المراد .. على مرادهم .. والنذور ليست مقتصرة على الموصليين اقصد تقديم النذور وانما النذور معروفة قبل الاسلام وبعده وفي القرآن الكريم مايشير الى ذلك . بسم الله الرحمن الرحيم : " اذ قالت امرأة عمران رب اني نذرت لك ما في بطني " سورة ال عمران الاية 35 وفي سورة البقرة الاية 270 " وما انفقتم من نفقة او نذرتم من نذر " وفي سورة الحج الاية 29 " وليوفوا نذرهم " .
واهل الموصل كما ادركتهم انا ، ومجايللي الذين ولدوا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1945 ، كانوا يقدمون النذور الى مراقد الانبياء والاولياء ، والصالحين : النبي يونس والنبي جرجيس والخضر عليهم السلام والى الطاهرة مريم العذراء والى علي الهادي والى الشيخ فتحي والامام عبد الرحمن والى الشيخ محمود وهكذا .
ومن حسن الحظ ان عددا من الباحثين كتبوا عن هذا ومن ابرز من كتب الصديق المرحوم الدكتور عبد الباري عبد الرزاق النجم في مجلة (التراث الشعبي ) سنة 1975 (العددان الثامن والتاسع السنة السادسة ) .
والنذور التي اقصدها هنا في حديثي هذا ، إما ان تكون الصيام لايام محددة ، واما إقامة ( مولدية ) ، او ايقاد الشموع او وضع الاقفال او الحناء على قبر الولي والرجل الصالح او تنظيم حفلة شاي تسمى ب(جاي العباس ) أو نحر الذبائح او توزيع الخبز او توزيع الفلوس على الفقراء او شراء بعض مستلزمات المساجد والجوامع والكنائس ومنها البسط او الاباريق او المكانس .
يقينا ان حالات النذور ، تكون عند المرض وطلب الشفاء ، او وجود غائب ننتظر عودته، او حل خلاف عائلي بين الزوج وزوجته، او طلب الولد او طلب ان يعيش الطفل الصغير المريض او في تحقيق خطبة البنت ...كثيرة هي حالات النذور والله اعلم بقلوب الناس فقد ينذر رجل او تنذر امرأة شيئا تضمره في نفسها ولاتقول لإحد عنه ، وهذه حالات كثيرة عرفناها في الموصل .
من الموروثات الشعبية الموصلية التي لها علاقة بالنذور هي ان الانسان الموصلي عندما يريد ان ينذر ، فان هناك كلمات او صيغ لابد ان يقولها من قبيل انه اذا حضر فلان الغائب منذ فترة سوف اصوم ثلاثة ايام لوجه الله تعالى ..أو أن تنذر المرأة وتقول انه اذا جاءها ولد فسوف تجلب لجامع النبي جرجيس خروفا او اذا نجحت ابنتي في الوزاري فسوف اوزع خبز العباس على الجيران .وخبز العباس معروف في الموصل حيث توضع الحبة السوداء التي تشفي من كل داء في وسطه .
كثيرا ما كنت ارى شباك هذا المرقد في الموصل مثلا ملطخا بالحناء والحناء شجرة يحبها الموصليون عى اساس ان شجرة الحناء احب شجرة الى الله سبحانه وتعالى ، والحناء في هذه الحالة لايقتصر بأن يوضع على الشباك شباك الولي او الرجل الصالح وانما يكون لايادي الاطفال منه نصيب .
والزيارة زيارة المرقد او المسجد واحدة من تقاليد وطقوس النذور فقد ينذر الشخص نذرا بأن يبيت ليلة في دير الشيخ متي او في مرقد الشيخ محمود هناك بالنسبة للمسيحيين وهنا بالنسبة للمسلمين واعرف نساء ورجالا مسيحيات قد نذرن لمرقد اسلامي ان يزودنه بمروحة كهربائية اذا شفي ولدهما من مرضه العضال .
واقف قليلا عن ( جاي العباس) واقول أن من عادات الموصليين اقامة ما يسمى ب (العصرونية ) وهي حفلة تقام الساعة الخامسة مساء وتدعى اليها النسوة ويكون ذلك مرتبطا بنذر جاي العباس حيث توجه الدعوة الى الاقارب والجيران وتوزع على المدعوين (الكليجة والبقصم والجرزات والشاي ) ، وغالبا ما يرافق ذلك شيء من الغناء ويستمر الحفل ساعتين او ثلاثة وعندما تخرج النسوة وينتهي الحفل نسمع عبارة (نضغكم مقبول ان شاء الله ) اي نذركم مقبول .
النذور لها مكان في الامثال الموصلية ، وفي الحكايات الموصلية الشعبية ومن ذلك ان الذي ينذر ولاينفذ نذره يرى احلاما مزعجة في المنام . وفي الامثال (اوفي انذيرج لاينكصف اعميرج ) و(مثل خروف النضغ ) و(قابل كن نضغتو نضغ ) .طبيعي في المثل الاول لابد من تنفيذ النذر والوفاء به وفي المثل الثاني ان خروف النضغ لابد ان يكون جميلا ومتعافيا والمثل الثالث يُضرب في حالة النصح بالتصرف اللائق .
هناك حكايات شعبيه موصلية منها مثلا حكاية (السلطان ) وحكاية ( اسمر بند ) ، تتناول النذور ووجوب تنفيذذها وهناك من شعراء الموصل من ضمن بعضا من قصائده شيئا عن النذور فللشاعر الموصلي الكبير الاستاذ شاذل طاقة رحمه اله وكان قد تولى منصب وزير الخارجية وتوفي سنة 1974 قصيدة بعنوان ( بابل وشموع النذر ) يقول فيها :
والخضر ..يسير على الماء
وشموع النذر تذوب من التعبِ
بقايا من خشبٍ
تطفو ..وبقية اصداء
تتناوح في الايوان
يا للطوفان
والشاعر الموصلي الدكتور حيدر محمود عبد الرزاق قصيدته ( تساؤل ) يشير فيها الى النذور فيقول :
ممن اكون ؟
وحمورابي اهدر النذور
سماؤه من طين
واضع شرائع تعطر الانوف بالافيون
والشاعر عبد الوهاب اسماعيل الشاعر الكبير شاعر الحدباء يقول :
اه ياشجرا في الشطوط
نذرنا خلاخيلك ، الموت يعبر يمتد
ينهض من جرحنا وطن
ومن الطريف ان نرى لوحات موصلية تشكيلية لفنانين تشكيليين موصليين منهم الفنان التشكيلي الاستاذ عبد الغني الجوالي الذي جسد انذر في لوحته ( تقديم النذور لضريح ابي الحسن ) وهي لوحة مستوحاة من تقاليد الموصل المتبعة في تقديم نذر الشموع .
واخيرا فمن المأثور الموصلي ايضا فيما يتعلق بالنذور ان الذي ينذر نذرا ، ولم يسمه فكفارة يمين ، ومن نذ نذرا ولم يطقه فكفارته كفارة يمين .
بقي شيء اريد ان اقوله ، وهو ان هناك عدد من اغاني الموصليين الشعبية تتضمن الاشارة الى النذور . منها مثلا تلك الاغنية التي تدلع الاطفال عندما يكونوا صغارا في المهد منها :
لنضغ نضغ يوم تمشي
لذبح خغوف وكبشي
ياربي لتعابيني
فقيغه وما عندي شي
واختم بأن احكي لكم حكاية طريفة وهي ان إمرأة عجوزا نذرت خروفا للنبي يونس عليه السلام وسألت ابنتها عن مكان النبي يونس فعلمتها لكنه جاءت الى جامع النبي جرجيس عليه السلام وسلمت الخروف النذر الى المرحوم الملا رشيد وعادت الى البيت وقالت لابنتها انني سلمته في الجامع الفلاني فردت البنت قائلة انه ليس جامع النبي يونس بل جامع النبي جرجيس فعادت وقالت للملا رشيد انها توهمت واخطأت فنظر اليها وقال : " خذيه وفي المرة القادمة لاتعملين حزازات بين الانبياء ".
*الصورة لمولدية كسنزالية في اسكي موصل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق