جولة مع جرائد الموصل*
من المطبعة الى المقبرة
بقلم : الاستاذ صالح الياس
بقلم : الاستاذ صالح الياس
3-11-2011
مراسم تشييع الجرائد
الموصلية ، تتكرر عند موزعيها، كلما عاد إليهم ما عـجزوا عن تصريفه ، وهي نسخ بالآلاف،
نهايتها الحتمية التلف أو استخدامها لغير أغراضها، لمسح الزجاج أو بسطها تحت موائد
الطعام مثلا.
الصحف الموصلية تتسابق
على نشر صور المحافظ الذي تصدر الإعلانات من دائرته.
للصحافة الموصلية، ربيع
طويل بدأ مذ ولدت أولى جرائدها في حزيران (يونيو) 1885 باسم "الموصل"،
وكانت تنشر باللغتين العربية والتركية لتكون الثانية عراقيا، بعد
"الزوراء" البغدادية 1869.
يذكر ذلك جمع من
الباحثين والصحفيين، يتقدمهم الراحل أحمد سامي الجلبي، الذي أحصى في مؤلفه
"صفحات مطوية من تاريخ الصحافة الموصلية"، 94 جريدة ومجلة حتى 2003،
بينها أول مجلة عراقية "أكاليل الورود " في 1902، وأول جريدة فكاهية عنوانها
(جكه باز) أي الثرثار، عام 1911.
وبين عامي 2003 و2005،
قمة الفوضى في العراق، شهدت الصحف فورة كمية وصلت ذروتها عندما تجاوزت المئة،
بعضها لأحزاب "فقاعية"، لم يصدر سوى عدد يتيم، قبل تلاشيها مع مصدريها.
هذا الرقم تقلص كثيرا
ليقترب أخيرا من الأربعين، وفقا لأحمد غانم صاحب مكتبة "زهرة نينوى"،
مضيفا بتذمر شديد: "ليس هناك جريدة يومية واحدة، كلها أسبوعية، ومتذبذبة
الصدور، باستثناء واحدة أو اثنتين منتظمتين".
"مبيعات الجرائد المحلية تساوي صفرا بلا مبالغة،
علما أن أرصنها تطبع 1000 نسخة، والسواد الأعظم 500 فقط"، يقول غانم وهو منهك
بترتيب مئات النسخ تسلمها منذ أسبوعين، ولم تتزحزح قط.
الملاحظ أيضا ان سعر
البيع غير مثبت في أغلب الطبعات، وإذا وجد فبأقل فئة نقدية متداولة (250 دينار ما
يعادل 21سنتا)، لأن التوزيع مجاني كما معلوم وموثق ايضا في قوائم الموزعين.
وإذا علمنا أن 90
بالمئة من الصحف، وفق تقديرات متواضعة، تمول نفسها ذاتيا فالسؤال الملح، كيف تغطي
تكاليفها اذن؟
مدير إعلام محافظة
نينوى ، وفر نصف الإجابة عندما ذكر لـ"نقاش" أن 35 جريدة مسجلة لديه، تحصل
على إعلانات رسمية دورية من ديوان المحافظة، فيما يتهيأ لإستقبال ست أخريات.
ويتابع واثق الغضنفري
"لا توجد ضوابط محددة لمنح الإعلانات الرسمية لكننا منصفون في التوزيع بموجب
جدول خاص"، نافيا بشدة وجود فساد يشوب عملية توزيع الإعلانات، ردا على ما
يشاع في الوسط الصحفي.
"ألم يحنْ بعد موعد حصتي؟ أنا بانتظارها
لأطبع". سؤال يتردد بشكل دائم على الغضنفري من قبل الصحفيين المسؤولين عن تلك
الصحف، ويتوقع كثيرون منهم أن تتعطل جميع الجرائد الموصلية عن الصدور حال توقف
الإعلان الرسمي حيث لا تعويل على مصادر تمويل بديلة.
مبيعات جرائد العاصمة:
20 نسخة لـ "الصباح" وخمسة لـ "الزمان" في اليوم الواحد!
الصحف الموصلية كما هو
ملاحظ، تتسابق على نشر صور المحافظ الذي تصدر الإعلانات من دائرته، في حين لا تفعل
الأمر ذاته مع رئيس مجلس المحافظة وأعضائه. رغم أن "الإعلان لا يفرض سياسة
معينة على الناشر تجبره على عدم التعرض بالنقد للحكومة المحلية" بحسب
الغضنفري.
بقية الإجابة لا تخرج
عن اطار انخفاض مصروفات الصحف، فالتصميم والطباعة والنقل والتوزيع مجتمعة لا تتعدى
350 دولار للعدد الواحد، الذي يضم أربعة إعلانات أو أقل بقليل، قيمة الواحد 210
دولار. كذا المنشور، منسوخ من الانترنت باستثناء بعض الأخبار المحلية، إلى جانب ما
يجود به ذوو الأقلام، الكلام مجددا لصاحب "زهرة نينوى".
الاستثناء من ذلك قليل
جدا، لأن جريدة واحدة فقط ، تحاكي المؤسسة، لها مطبعة متواضعة جدا ومقر عتيق وبضعة
موظفين، أما الأخريات فأقرب إلى الجرائد "الافتراضية"، لا وجود لها قبل
طباعتها.
ويزيد الطين بلة حديث
الصحفي نوزت شمدين، عن فساد كبير في أقسام الإعلام الرسمية، حيث تعقد
"مناقصات سرية" مع صحف معينة تربح بموجبها إعلانات بمبالغ كبيرة، مبرئا
فقط ساحة المحافظة.
شمدين ذكر
لـ"نقاش" ان عقبات كثيرة تقف عائقاً أمام تطوير الصحافة في المدينة، فهي
تفتقر إلى صحفيين حقيقيين يزاولون عملهم باحتراف حتى ان جامعة الموصل لا تحوي
قسماً لتدريس الإعلام.
والقلة الموجودون من
الصحفيين – يتابع – متأثرون بالوضع الأمني المتردي وبعضهم مازال يستتر خلف أسماءٍ
مستعارة، كما ان مستقبل المؤسسات الإعلامية غير مضمون وقصير الأمد، معتبرا أن
"الخروج من هذا النفق المظلم يتطلب جذب مستثمرين في الإعلام، أو انتظار النمو
الاستثماري والاقتصادي".
هذه المخاوف تبدو
مشروعة فصحيفة "الموصلية" وهي الوحيدة التي تطبع بالحجم الكبير (أو كما
يطلق عليه أصحاب المطابع "الحجم البَطال")، توقفت عن الصدور مؤخرا وسرح
جميع العاملين فيها فجأة لأسباب مالية، بما يعزز رأي شمدين بأن "العمل الصحفي
في الموصل أصبح مؤقتا".
صدور صحيفة في الموصل
يحتاج فقط الى موافقة شكلية من الحكومة المحلية والقليل من المال وخط انترنت، لكن
حيازة اعتماد نقابة الصحفيين بحسب رئيس فرع النقابة في نينوى، تفرض وجود مقر حقيقي
مؤيد من المجلس البلدي، إلى جانب صدور منتظم. ولما كانت أغلب الجرائد الموصلية غير
مستوفية الشروط، يكشف فوزي القاسم عن مشروع مركزي لسحب اعتماد المؤسسات الإعلامية
الخارجة عن الضوابط أعلاه.
الدكتور إبراهيم العلاف
أستاذ التاريخ المعاصر ومدير مركز الدراسات الإقليمية، عبر لـ"نقاش" عن
إيمانه العميق بأهمية الصحف المحلية ودورها في التعبير عن الواقع سياسيا ، واقتصاديا ، واجتماعيا ، وثقافيا، ورغم أسفه الكبير على توقف بعض الجرائد العريقة لقلة التمويل،
كـ "فتى العراق" ذات الانجازات العظيمة منذ تأسيسها 1930، ومع كل
السلبيات التي يؤشرها في الشكل والمضمون، إلا أنه لا يتفق تماما مع القائلين بأن
الصحافة الموصلية في مرحلة غروب.
واذ يدعو العلاف
الصحفيين إلى عدم اعتبار الصحافة (حرفة) بل (رسالة) أولا، فانه يتطلع لرؤية جرائد
محلية مرموقة تليق بتاريخ المدينة وثقلها الثقافي في البلد، تستقطب النخبة
المحترفة.
مشكلة الصحافة المكتوبة
في الموصل لا تقتصر على الجانب المادي وقلة التمويل فحسب، بل تتعلق أيضا بالثقة
والثقافة.
المجلس أنهى اشتراكه مع
صحف العاصمة الذي قيمته نحو (225 دولار)، "لعدم وجود تخصيص".
مراسل قناة
"الفيحاء" الفضائية سندباد أحمد كان صريحا مع "نقاش" حين قال:
"لا أقرأ الجرائد المحلية، لأنها تنشر موادا ميتة إعلاميا، إذ لا اجد فيها ما
يستحق القراءة، واذا لم تأتِ بجديد فلن ينفق المواطن الـ 250 دينار لشرائها، ولن
يكلف نفسه عناء تصفحها حتى إن وصلته مجانا"، معتقدا ان إصدار الصحف له مقاصد
شخصية ضيقة سياسية أو مادية أو بحثا وراء الشهرة.
ولو تحدثنا بالأرقام
التي كشفها الموزع الرئيس في المدينة لـ"نقاش"، فان صحيفة
"الصباح" الرسمية الصادرة من بغداد، لديها 150 مشتركا فقط، ومقارنة مع
مدينة النجف الصغيرة قياسا بالموصل، فان لديها هناك 3000 مشتركا.
كذا مبيعات جرائد
العاصمة ليست أفضل حظا، فقد اظهر استطلاع اجري لصالح إحدى الصحف البغدادية نتائج
مخيفة: 20 نسخة لـ "الصباح" وخمسة لـ "الزمان" في اليوم الواحد.
المؤشرات الآنفة التي
تدق ناقوس الخطر، لا يراها علي الديوه جي رئيس تحرير صحيفة "عراقيون"،
خارج إطار التدهور الثقافي في الموصل، حيث لا وجود لدار نشر، لذا فان الكتاب
الموصليين يلجأون الى سوريا ولبنان لطابعة ونشر نتاجاتهم الأدبية والفكرية
والعلمية، الشحيحة أصلا.
وأعاب الديوه جي على
مجلس محافظة نينوى أنه لم يرصد اي مبلغ للنهوض بالحركة الثقافية، أسوة بالمجالات
الأخرى التي حصدت مليارات الدنانير.
لكن العيب الأكبر أن
المجلس ذاته أنهى هذا الشهر، اشتراكه مع صحف العاصمة الذي قيمته نحو 270 ألف دينار
شهريا (225 دولار)، "لعدم وجود تخصيص"، بينما يتمسك بوجبات الطعام
والشراب التي تكلف الخزينة العامة 21 مليون دينار (170 ألف دولار) في نفس المدة.
http://www.niqash.org/ar/articles/society/2945*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق