الجمعة، 24 يناير 2014

اسرار انضمام العراق الى هيئة الامم المتحدة


 عبد الرزاق الحسني يكشف اسرار انضمام العراق الى هيئة الامم المتحدة..

تأسست عصبة الامم في اليوم الثامن والعشرين من شهر حزيران سنة 1919 ((وهو التاريخ نفسه لمعاهدة فرساي، وفي المحل نفسه الذي اعلن فيهاانتصار المانيا وتأسيس الامبراطورية الالمانية في 10 مايس، وكان اقتراح الرئيس ولسن الخاص بارسال لجنة التحقيق قد صدر في 20 ايار 1919 فانتخب المستر تشارلس كراين والكولونيل هنري كينغ ممثلين في اللجنة المقترح ارسالها الى الشرق الاوسط

 وحذت بريطانيا حدوها فعينت ممثليها، وترنحت فرنسا فأبدت مخاوف كثيرة من القيام بهذا العمل الذي سيكشف دون ريب عن معارضته السوريين لفرض سيطرتهم عليهم، ويؤدي ذلك الى حرمانها من غنيمتها في اتفاقية سايكس ـ بيكو السرية التي عقدت بين فرنسا وبريطانيا وروسيا ـ في 15-17 أيار 1916 وجزأت البلدان العربية الى مناطق نفوذ.
اما ايطاليا فانها لم تكترث للموضوع اصلا لعدم وجود مصالح لها في هذه البلاد. والظاهر ان بريطانيا خشيت ان تلاقي هذه اللجنة في العراق ـ في حال ذهابها اليه ـ ما ستلاقيه في سوريا، فأخذت تتنصل من الاشتراك، باساليبها المعروفة، ولكن الرئيس ولسن اصر على و جوب ارسال اللجنة واقتصرت على العضوين الامريكيين، فجاءت الى حيفا ويافا في 10 حزيران واذاعت هذا البيان:
((ان الشعب الامريكي ليست له مطامع سياسية في اوربا او الشرق الادنى، ويفضل على قدر الامكان تجنب كل علاقة بالمشاكل الاوربية والاسيوية والافريقية، ويرغب باخلاص في ان يسود السلام الدائم، وانه بهذه الروح يدنو من مشاكل الشرق الادنى. لقد عين مجلس الاربعة لجنة دولية لدرس الحالة في المملكة التركية لعلاقتها بالوصايات، فغاية القسم الامريكي الموجود الآن، هي الوقوف جهد المستطاع  على احوال السكان والطبقات وعلاقتهم ليكون الرئيس ولسن والشعب الامريكي على بينة من الحقائق في كل سياسة يدعى الى السير عليها فيما يتعلق بمشاكل الشرق الاوسط سواء كان ذلك في مؤتمر الصلح ام في جمعية الامم)). وشرعت اللجنة تزاول اعمالها في جو تكتنفه دسائس الانكليز والفرنسيين ورغبة العرب في التحرر من الطرفين. وبعد ان زارت 36 مدينة وتسلمت 1836 مضبطة، انهت مهمتها في 21 تموز 1919 وعادت الى باريس لتقدم تقريرها فاذا بخلاصته تقول: مهما كانت الادارة الاجنبية التي يؤتى بها الى سوريا والعراق فانه ينبغي ان لا تأتي ابدا باعتبارها دولة مستعمرة بالمفهوم القديم من كلمة الاستعمار، بل باعتبارها دولة وصية من قبل عصبة الامم، شاعرة شعورا خاصا بأن وديعتها المقدسة تفرض عليها طلب خير الشعبين: السوري والعراقي ورقيهما، فلا تصبح دعاوى الحلفاء قصاصة ورق. واقترحت ان يطبق الانتداب من نوع (أ) على سوريا والعراق على ان يكون لمدة محدودة، وان يعامل العراق كوحدة، وان تحافظ سوريا على وحدتها، اي سوريا ولبنان وفلسطين، فيكون شكل الحكومة في كلا البلدين ملكيا دستوريا، ويكون الامير فيصل بن الملك حسين ملكا على سوريا ويختار العراق مليكه بالاستفتاء، وان يسار بالقطرين سوريا والعراق نحو الاستقلال بالسرعة التي تسمح بها الاحوال، وان يعدل المنهاج الصهيوني المتطرف الموضوع لفلسطين فلا يعني جعل فلسطين دولة يهدية، لان تسعة اعشار سكان فلسطين عرب ويرفضون المنهج الصهيوني رفضا باتا. وذكرت اللجنة في تقريرها ان الرأي العام في سوريا يستنكر كل شكل من اشكال السيادة التي يتظمنها نظام الانتداب، الا انه يود ان تقدم المساعدة  اليه من جانب امريكا وفي حالة رفض امريكا ذلك فتكون من جانب بريطانيا، ولكنه يرفضها من جانب فرنسا باي شكل كان ـ انتهت الخلاصة ـ
لقد بقي تقرير لجنة التحقيق، موضوعة البحث، طي الكتمان مجاراة ومجاملة لفرنسا وبريطانيا ولم تسمح بنشره الا في اوائل عام 1923م، ولم يكن له اي تأثير على القرارات التي اتخذها مؤتمر سان ريمو المنعقد في فرنسا في 24 نيسان من عام 1920 والقاضي بفرض الانتداب البريطاني على فلسطين والعراق، والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، دون التقيد برغبات العراقيين والسوريين، كما تنص الفقرة الرابعة من المادة 22 من عهد عصبة الامم التي اثبتنا نصها من قبل ودون ان تراعي القربى الجغرافية ((والانتداب هو اسوا ما جاءت به سياسة الحرب العظمى، اذ ماهو الا حماية مستترة على حد تعبير الاستاذ ديبوي، العضو في المجمع العلمي في باريس.
تنويع الانتداب
كانت المستعمرات الالمانية في افريقيا، والجزر الالمانية في المحيط الهادئ والممتلكات العثمانية في سوريا والعراق غنائم وافرة، وكانت فكرة توزيع اسلاب الحرب وغنائمها على الدول المنتصرة من اهم القضايا التي عالجها مجلس الحلفاء الاعلى في 24 كانون الثاني من عام 1919م. فقد ((تقدم البريطانيون باقتراح ينص على انه ـ لا يجوز في اية حال من الاحوال ـ ان تعاد الى المانيا اية مستعمرة من مستعمراتها. وكان لهذه الخطوة خطرها الخارق لان المسألة لا تنطوي على مصير جماعات كاملة من الشعوب وحسب، بل يترتب عليها ان تمنح المانيا اولا تمنح صلحا مبنيا على التراضي الصحيح على نحو ما وعد به ولسن.. ولكنه وافق لويد جورج على طلب تجريد المانيا من جميع مستعمراتها.. وبهذا خطأ اول خطوة من الخطوات نحو الفشل))، فقسمت الانتدابات الى ثلاثة انواع (أ) و(ب) و(جـ) فجعلت البلدان المنسلخة من الامبراطورية العثمانية من النوع الاول، والمستعمرات الالمانية في القارة الافريقية من النوع الثاني، والجزر الالمانية في المحيط الهادئ من النوع الثالث وبني هذا التقسيم على درجة رقي الشعب ومركزه الجغرافي واقتصاده.
وفي 20 آثار من عام 1919 ايضا، اجتمع مجلس الحلفاء الاعلى في باريس في الشقة التي يقيم فيها لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا، وقد رأس الاجتماع كلمانصو رئيس وزراء فرنسا، فاشار على وزير خارجيته المسيو بيثون ان يتكلم، فعرض هذا اتفاقية سايكس ـ بيكو السرية، فذعر الرئيس الامريكي ولسن لهذه المفاجأة لانه لم يسمع من قبل بأن ما بين حلفائه مثل هذا الاتفاق، ولهذا رفض المشاركة في مثل هذه المؤامرة، ورأى ان يتنصل من تبعتها، فلما شعر الرئيسان البريطاني والفرنسي بأن الرئيس الامريكي ما يزال على شيمته، وانه سيكون حجر عثرة في اعمالها كافة، اعربا  عن رغبتهما في مسايرته ومعاملته حتى يفوزا باقرار الاتفاقية السرية المذكورة (واذا نادى الريس ولسن بحقوق الامم المتحدة فما ذلك الا لان الشعوب كانت مستعبدة يسوق الاقوياء الضعفاء لخدمة منافعهم، كما يسوق الجزار مواشيه للذبح، وتطارد الجماعات القوية الجماعات الضعيفة، كما تطارد الذئاب النعاج، فتارة باسم الحرية وطورا بسم حقوق الانسان، ومرة باسم الفتح في عهد الغيت فيه الفتوحات، ومرات باسم الحماية والوصاية ولكنها جميعا أساليب ونماذج للاستعباد).
واجتمع مجلس الحلفاء في 7 كانون الاول، ووزع المستعمرات الالمانية فاسندت ادارة جزرها في شمال خط الاستواء لليابان، وجزرها في جنوبه لاستراليا، ووضعت افريقيا الجنوبية الغربية تحت ادارة جنوب افريقيا، والشرقية تحت ادارة بريطانيا و... الخ. اما البلاد العربية التي طبق عليها الانتداب من نوع (أ) فقد شرحنا امرها فيما تقدم، بعد ان ادرك الرئيس ولسن في آخر لحظة  انه في واد، وان حلفاءه في واد آخر. وكان مجلس الاعيان الامريكي قد رفض سياسته، ورفض عهد عصبة الامم الذي تبناه، واخذ يدعو اليه بحرارة.
الانتداب نظام مؤقت
ذكرنا من قبل ان الذين وضعوا نظام الانتداب، قسموه على ثلاثة انواع هي (أ) و (ب) و (ج) وقلنا ان النوع (ب) من هذا النظام شمل المستعمرات الالمانية في القارة الافريقية، وان النوع (ج) شمل جزرها في المحيط الهادئ. وقد نصت الفقرتان الخامسة والسادسة من المادة (22) من عهد عصبة الامم على (ان تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن ادارتها) وان (تحسن ادارتها بقوانين حكومة الانتداب كما لو كانت جزءا لا يتجزأ من اراضيها) اي ان النوعين (ب) و (ج) ابقيا صفة الاستعمار على الجزر الالمانية في القارة الافريقية وفي المحيط الهادي، وان انتزاع هذا الاستعمار من المانيا الى الدول المنتصرة في الحرب.
اما الانتداب من نوع (أ) فقد ضمن للبلدان العربية المنتزعة من الامبراطورية العثمانية (الاعتراف بكيانها كامم مستقلة على ان تستمد الارشاد والمساعدة من دولة اخرى حتى يأتي الزمن الذي تصبح فيه قادرة على الوقوف بمفردها) وبعبارة افصح: ان هذه الاقطار تعد مستقلة على ان تساعدها دولة قوية وثرية حتىتجعلها في وضع يمكنها من ان تحكم نفسها بنفسها. اي ان نظام الانتداب نظام مؤقت من حيث شكله ونصوصه بالقياس الى النوع الاول من انواعه الثلاثة، وهو يقضي بالتطور من حالة الى حالة افضل منها، وهي حال الاستقلال التامن فلا يمكن ان يعد نظاما دائما، ولا ان يتطور مع الزمن الى حالة الاحتلال فالاستعمار، لأن مفهومه قائم على اساس رفع مستوى الشعوب التي تحت هذا النوع من الانتداب. وبعبارة اصح ان نظام الانتداب وضع لتدريب الشعوب تدريبا مؤقتا حتى تستطيع ان تقف بمفردها وتتعامل كدولة ذات سيادة في المجموعة الدولية، وعلى هذا يعد نظام الانتداب نظاما مؤقتا ينتهي ان عاجلا وان آجلا.
على ان من الاهمية بمكان ان نذكر، ان نظام الانتداب شمل المستعمرات التي انتزعت من الدول المغلوبة دون ان يشمل مستعمرات الدول الغالبة، وان ضرورته تقضي بأن تكون الدولة المنتدبة صاحبة الحق وحدها دون الشعوب المنتدب عليها، ودون عصبة الامم التي منحتها هذا الانتداب في الغاء الانتداب (وترجع ضرورة ابتداء الدولة المتندبة الى سببين اوليين:
اولا: ان الابتداء بالعمل من دونها يعد بمثابة خلع لها.
ثانيا: يجب ان لا يغرب عن بالنا ان المسؤولية فيما يختص بمناطق الانتداب تظل ملقاة على عاتق الدولة المنتدبة حتى بعد تقلص سلطتها والغاء انتدابها.
ولعل خير ما يختم به هذا الايضاح، وصف الفيلسوف الامريكي، ارنست هوكنك، وصفه لعصبة الامم وانتدابها وهذا نصه:
(دستور من ورق، وتقريرمن ورق، ولجنة تجتمع مدة تتراوح من اسبوعين الى ثلاثة اسابيع في السنة في جلسات سرية فهي على وجه التحقيق مؤسسة سخيفة رثة متداعية).
وقد تداعت فعلا في عام 1945 (لانها في الاصل لم تكن سوى حل انكليزي ـ فرنسي ـ امريكي، تحتفظ بالروح الاستعمارية القديمة تحت مسميات جديدة منمقة).
الغاء الانتداب
قلنا ان مجلس الحلفاء الاعلى كان قد اجتمع في الرابع والعشرين من شهر نيسان سنة 1920 في سان ريمو بفرنسا، وقرر فرض الانتداب البريطاني على العراق وفلسطين، والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان دون أن يستشير ابناء هذه البلدان العربية في هذا الفرض، كما حتمته الفقرة الرابعة من المادة 22 من عهد عصبة الامم، ودون ان يتقيد بالوعود التي قطعها البريطانيون والفرنسيون لابناء العروبة في مراسلات الحسين ـ مكماهون ـ في بلاغاتهم وتصريحاتهم المتكررة فكان من الطبيعي ان لا توضع الشروط والالتزامات المفضية الى انهاء الانتداب.
كان العراق البلد الوحيد الذي استنكر فرض الانتداب ليه وقاومه بقوة السلاح. ولما استطاعت بريطانيا ان تقمع المقاومة بالقوة المسلحة، بقي العراقيون يحاربون النظام المذكور في صحفهم واحزابهم وفي خطبهم واحتجاجاتهم، ولما لم تجد بريطانيا مجالا للمماطلة والتسويف، اضطرت الى انهاء انتدابها على النحو الذي سنفصله الآتي، اما الانتدابات المفروضة على سوريا ولبنان وفلسطين فقد انهتها الحرب العالمية الثانية بعد ان قاتل الانكليز القوات الفرنسية في هذين البلدين.
وقال السير برسي كوكس، الذي اصبح مندوبا ساميا لبريطانيا على العراق:
لقد بلغ الاستياء الذي كانت تقابل به دائما فكرة الانتداب في العراق حدا فائقا حتى ان لفظتي الانتداب والدولة المنتدبة كانتا تعدان تجديفا في نظرهم، فكان من الطبيعي ان يقترح على حكومته البريطانية افراغ الانتداب في قالب معاهدة ترضي العراقيين من جهة ـ ولو بصورة ظاهرة ـ وتقنع عصبة الامم بأن بريطانيا ما تزال عند تعهداتها الانتدابية من جهة اخرى، والى هذا يشير التقرير البريطاني الخاص عن سير الادارة في العراق خلال عشر سنوات بالنص الآتي:
((وفي الوقت عينه اخذت مقاومة الجمهور العراقي لأي نوع من انواع الرقابة الخارجية تتزايد سريعا حتى اصبحت من اعظم المسائل القومية شأنا حينذاك، واثارت هذه المقاومة هيجانا خطيرا هداما في كثير من انحاء البلاد، فرأت حكومة صاحب الجلالة انه مالم تجد واسطة لمجابهته فلا مفر لها من اطال الاحتلال العسكري اطالة غير محدودة: وبعد التروي الدقيق قر قرارها ان من الافضل تحديد موقفها الحقوقي في العراق ليس في شكل انتدابي مألوف كما كان قد اقترح مبدئيا، بل بشكل معاهدة تعقد بين حكومة صاحب الجلالة والحكومة العراقية على ان ترضي شروطها العصبة، وتقنعها بأن حكومة صاحب الجلالة مازالت في الحقيقة في وضع تستطيع معه القيام بعهودها الانتدابية فلقد كان في نية الحكومة البريطانية ليس احلال معاهدة محل الانتداب، بل بالاحرى تحديد الانتداب وصوغه بشكل معاهدة.
ولعل خير من يوجز هذه الفكرة الاستاذ كوينسي رايت في مقال له نشره في مجلة العلوم السياسية الامريكية الصادرة في تشرين الثاني1926 ص34 وهذا نصه:
لما وجدت بريطانيا ان كلمة الانتداب يكرهها العرب لانها وضعت ايضا على العشائر الهمجية في افريقيا، وعلى الانتداب الفرنسي على سوريا، وبالنسبة للعهود المنقوصة فيما يتعلق بانشاء وحدة عربية ايضا، فقد وجد البريطانيون ان يعترفوا بحكومة فيصل التي بها تنتهي العلاقات الانتدابية.. وبذلك صار لبريطانيا العظمى موقف مهم بحيث كان لها الانتداب على العراق في نظر جمعية الامم، ولا انتداب لها بنظر اهل العراق ـ انتهى ـ
كيفية التحرر من الانتداب؟
ولا بد ان نثبت هنا حقيقة لا مناص من اثباتها، وهي ان استنكار الانتداب البريطاني في العراق لم يقتصر على العراقيين حسب، فقد عارضته بعض الشخصيات البريطانية. عارضته امريكا بعد ان رأت ان الشروط التي وضعها الرئيس ولسن عند اقراره نظرية الرئيس البويري سمطس الخاصة بنظام الانتداب، تختلف اختلافا كبيرا عن النهج الذي اتبعه مجلس الحلفاء الاعلى عند فرضه الانتداب على البلدان التي انسلخت من الامبراطورية العثمانية، فمنحت بريطانيا الشركات الامريكية حصصا في شركة نفط العراق فلم يكن امام حكومتها الا ان تسكت فسكتت. وعارضته بعض الشخصيات البريطانية المرموقة بزعم ان بقاء بريطانيا في العراق يكلف دافع الضريبة البريطاني نفقات لا قبل لها بها فاتهمت الحكومة البريطانية هذه الشخصيات بأن تحت ارض العراق بحيرة هائلة من النفط هي عدة الاسطول البريطاني في البحر، ومعين الشركات البريطانية الذي لا ينفد.
اما بالنسبة الى معارضة العراقيين لنظام الانتداب، وللهيمنة الاجنبية فانها بعد ان اخمدت ثورتهم الجبارة بالنار والحديد، اهتبلت فرصة قضاء الفرنسيين على الدولة الفيصلية التي قامت في الشام، واجلت الملك فيصل عن الاراضي السورية المشمولة بالانتداب الفرنسي، فاستدعت فيصلا الى لندن، وتفاهمت معه على اقامة دولة عربية في العراق تحت رئاسته: وحيث ان العراق وضع تحت انتدابها فهي مستعدة لعقد معاهدة تحل محل الانتداب، وان يسار بحكومته قدما حتى انخراطه في عضوية عصبة الامم فتنتهي علاقاتها الانتدابية في العراق على صورة رسمية ولهذا بحث خاص.ويقول القانوني البارع نيجل داودسن في ص7 من رسالته «العراق او الدولة الجديدة».
((ان الدولة المنتدبة لم تكن تستطيع الوفاء بالالتزامات الانتدابية المترتبة عليها لعصبة الامم، ولا ان تجعل مصالحها المالية في العراق في مأمن مالم يكن في يدها مقدار ما من الهيمنة، وكان السبيل المفضي الى التسوية ان يحول الانتداب الى معاهدة، وهذا ما وقع بالحقيقة فحولت الهيمنة البريطانية المفروضة على دولة العراق، بحكم نصوص الانتداب، الى عدة التزامات بشكل معاهدة قبلها الشريك الاصغر بشكل محالفة.. وبدلا من ان يفرض الفريق القوي قيوده فرضا ويمليها املاء على الفريق الاضعف المتمثل بهيئة حكومة راضخة له، اصبحت القيود التي يقيد بها استقلال العراق التام تشبه على صورة ما قسما من مساومة دائرة بين الدولتين بحيث كان نصيب العراق، والامر من قبيل مبادلة شيء بشيء، ان ينال المساعدة والمعاونة من حليفه الكبير. وفي الوقت نفسه ظل مقدار الهيمنة الذي احتفظت به بريطانيا العظمى تحت شروط المعاهدة كافيا ليمكنها من رعاية المسؤولية الانتدابية المطلوبة لعصبة الامم)).
ـ انتهى ـ كانت الحكومة البريطانية قد افرغت انتدابها على العراق في قالب معاهدة مدتها عشرون سنة فاستثقل العراقيون موادها، كما استكثروا مدتها، فلما جرت انتخابات حزب العمال في عام 1922، حملت الصحافة البريطانية حملات شديدة على فداحة الضرائب على البريطانيين، وطالبت بالانسحاب من العراق، مما حمل بريطانيا على ان توقع في الثلاثين من نيسان 1923 بروتوكولا انقصت مدة المعاهدة المذكورة بموجبه من عشرين حجة الى اربع حجج، فلما اوفدت عصبة الامم لجنة الحدود الى العراق في عام 1925 لدرس النزاع الناشب حول عائدية الموصل، وهل تلحق بالعراق كجزء منه لا يقبل التجزئة، ام تلحق بتركية على اساس ان الانكليز لم يحتلها حربا وانما شغلوها شغلا عسكريا، ارتأت اللجنة ان تبقى الولاية المتنازع عليها للعراق بشرط ان يبقى تحت الانتداب البريطاني لمدة 25 سنة، وهكذا مدد اجل المعاهدة البريطانية المعقودة في عام 1922، والتي كانت مدتها عشرين سنة ثم انزلت هذه المدة الى اربع سنوات، ولكن رغبة العراق في التحرر من هذه المعاهدة بالانخراط في عضوية الامم كانت تشتد بين يوم وآخر مما حمل بريطانيا على الرضوخ لرغبة العراقيين فوضعت معاهدة 30 حزيران 1930 على ان لا توضع موضع التنفيذ الا بعد دخول العراق عصبة الامم  لان دخول العراق عضوا في عصبة الامم يحرره من كل قيد انتدابي بصورة رسمية.
اشعار العصبة
اشعرت الحكومة البريطانية عصبة الامم في عام 1929 بعزمها على ترشيح العراق لعضوية عصبة الامم اذا ما حل عام 1932 قبل ان تتقدم لدرس الاسس التي وضعتها العصبة الاممية لتحرير العراق من نير الانتداب، وتعهدت بتقديم تقرير مفصل عن سير الادارة في العراق بين العامين 1921 و 1932 وقد وضعته فعلا وقدمت نسخة منه الى سكرتارية عصبة الامم في 13 مايس من عام 1931 فكان خير تقرير يوضح اوضاع  العراق الاجتماعية والمالية والعمرانية.. الخ، وما ناله من تقدم وازدهار. ويقول احد اعضاء العصبة بخصوص هذا التقرير انه، محاولة دولة حامية تقيم البرهان على كفاءة قطر قد تعهدته بالتدريب للحصول على حق تبوؤ مركز بين الامم وعلى كل فهو يمثل وجهة النظر البريطانية بحق.
فحص التقرير
تولت لجنة الانتدابات الدائمة في عصبة الامم فحص تقرير الحكومة البريطانية المنتدبة ممثلا لاستجوابه فاضاف هذا المثل معلومات كثيرة على ما جاء في التقرير وكان مما قاله:
يظهر ان الذين سنوا ميثاق العصبة لم يجعلوا العضوية منحصرة في الحكومات الراقية، التي بلغت مستوى خاصا في حياتها السياسية والثقافية، بل جعلوا المقياس على كل حال كون الحكومة  مستقلة تمام الاستقلال، وقادرة على ان تقف وحدها، وان يعتمد عليها في القيام بتعهداتها الدولية. ومما لا ريب فيه ان الادارة في العارق وفي تقدم البلاد وحياتها الثقافية هي امور لا تحتمل النقد، ولكن لا يطلب من العراق ان يضاهي الامم المتقدمة العصرية التي بلغت من التقدم والرقي مستوى عاليا، وربما لا يمكنه ان يفعل ذلك حتى ولو بقي تحت الانتداب سنوات عديدة وهل من العدل في شيء او من الضروري ان نقابل بين العراق وغيره من البلدان الراقية)).
قرار العصبة
استمر النقاش والسؤال والجواب طويلا ثم اتخذ مجلس العصبة هذا القرار:
لما كان المجلس مكلفا بالنظر في القضية الخاصة المتعلقة بالغاء الانتداب المفروض على العراق لذلك قرر المجلس الامور التالية:
1ـ تسجيل الرأي الذي ابدته لجنة الانتداب بطلب من المجلس بناء على اقتراح الحكومة البريطانية.
2ـ اعتماد المعلومات المتيسرة كافة للدلالة على ان العراق بوجه الاجمال قد استوفى الشروجط الحقيقية المذكورة في ذيل القرار الذي اتخذه المجلس في 4 ايلول سنة 1931.
3ـ التصريح باستعداده مبدئيا للحكم بانقضاء عهد الانتداب في العراق، عندما تتعهد هذه الدولة امام المجلس بعهود تنطبق على التوصيات الواردة في تقرير اللجنة الدائمة للانتدابات، مع العلم بان حق التقاضي الى محكمة العدل الدولية الدائمة منحصر في الاعضاء الذين لهم ممثلون في مجلس العصبة.
4ـ لذلك يطلب المجلس الى مقرريه لمسائل الاقليات والقانون الدولي والانتدابات وممثل بريطانيا العظمى في المجلس ان يهيئوا (باستشارة ممثل الحكومة العراقية) وعند الاقتضاء باستشارة ممثلي اللجنة الدائمة للانتدابات، لائحة تصريح تتناول شتى الضمانات الموصى بها في تقرير اللجنة الدائمة للانتدابات، وعرض تلك اللائحة على المجلس في دورته التالية.
5ـ انه اذا حكم المجلس (بعد فحص العهود التي تقطعها الحكومة العراقية) بتقلص ظل الانتداب عن العراق، ينفذ هذا الحكم ابتداء من تاريخ انضمام العراق الى عصبة الامم لا غير.
هيأت اللجنة  المختصة في عصبة الامم مذكرتين مختصرتين بالشروط المطلوبة من العراق ضمانا لانخراطه في عضوية العصبة وقد تضمنت المذكرة الاولى موادا تتعلق بالامور العامة كحماية الحياة العامة، واعتبار الرعايا العثمانيين المقيمين في العراق في السادس من آب 1924 قد اكتسبوا الجنسية العراقية يتمتعون بحقوق متساوية مدنية كانت هذه الحقوق ام سياسية ام دينية، وكانت كل هذه الامور مدرجة في القانون الاساسي العراقي. اما  المذكرة الثانية فهي تقتصر على مصالح الاجانب وبعض الامتيازات الدولية كالسماح للبعثات الدينية، من جميع المذاهب، بحري التبشير والتدريس والتطبيب وغير ذلك، وان يعتبر العراق مقيدا بالمعاهدات والاتفاقات التي كانت دولة الانتداب طرفا فيها، وان التعهدات المالية المكتسبة بين 26 نيسان 1925 وتاريخ دخول العراق عصبة الامم ستكون محترمة، ولاسيما تلك التي تعهدت بها بريطانيا نيابة عن العراق، وان يطبق نظام قضائي موحد على العراقيين والاجانب على حد سواء، وان تمنح ـ على شرط المقابلة بالمثل ـ جميع الدول الداخلة في العصبة معاملة اكثر الامم حظوة لمدة عشر سنوات اعتبارا من تاريخ قبوله عضوا في العصبة، ويحق لكل عضو من اعضاء العصبة ان يستفسر ما يشاء.. الخ.
الدخول في العصبة
لقد قبل العراق بكل ما جاء في المذكرتين اللتين اعدتهما اللجنة المختصة، واستطاعت الحكومة ان تمررها في البرلمان العراقي، فأعلن مجلس العصبة في الثالث من شهر تشرين الاول من عام 1932 قبول العراق عضوا في عصبة الامم، وتبودلت برقيات التهاني بهذا الحدث الكبير بين الملك جورج الخامس ملك بريطانيا، والملك فيصل الاول ملك العراق، وكان العراق اول قطر يتحرر من الانتداب ويدخل عصبة الامم التي فرضت الانتداب.
عن كتاب ذكريات مضت للمؤرخ الراحل عبد الرزاق الحسني
بغداد 1984
* ملحق جريدة المدى http://www.almadasupplements.com/news.php?action=view&id=9441

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صلاة الجمعة في جامع قبع - الزهور -الموصل

                                                                    الشيخ نافع عبد الله أبا معاذ   صلاة الجمعة بسم الله الرحمن الرحيم :...