الاثنين، 27 يناير 2014

الناقد الكبير ياسين النصير يكتب عن الروائي الكبير الاستاذ عبد الخالق الركابي في جريدة الصباح :

الناقد الكبير ياسين النصير يكتب عن الروائي الكبير الاستاذ
عبد الخالق الركابي في جريدة الصباح :
********************************************
1
ثلاثون ثانية كانت تفصل ديستويفسكي عن الإعدام، حين قرر بطرس الأكبر العفو عنه كان الزمن طويلا جداً وعندما كان يسير نحو المشنقة، ويداه مقيدتان، كانت فكرة نبي روسيا- كما يسمي نفسه، تطرق كل خطوات رواياته، وها هي الفرصة تصبح سانحة ليكتب عن انهيار ونمو مجتمع روسيا في القرن التاسع عشر، المدينة بطرسبورغ وشارع النيفسكي الذي حمل كل نوى الثورات والحداثة، فكتب عنهما "بيلي" افضل رواياته"بطرسبورغ"، وكتب عنها غوغول "معطفه"، وكتب عنها ماندلشتام قبل أن يموت في معسكر اعتقال مؤقت بالقرب من فلاديفوستوك، العام 1934."قصائده" فشارع النيفسكي مكان عام لكنه كان يقدم وعدا بالحرية، وها هو ديستويفسكي يكتب أربع روايات كبيرة عن النيفسكي وروسيا والحداثة ووحل نهر النيبر، هذه الروايات هي من أعظم ما تركه هذا النبي المجنون بروسيا، مبتدئا برواية قصيرة كانت الأرضية لما سيأتي بعدها هي "بيت الأموات" ثم "الجريمة والعقاب"، و"مذلون مهانون"، و"الاخوة كارمازوف"، وغيرها.
وها نحن في القرن الواحد والعشرين، وديستويفسكي لايزال حيا. ترى هل كان عبد الخالق الركابي على شفا الموت لولا إنقاذ سماوي من محنته التي لا نعرف تفاصيلها كثيرا، فيدخل المستشفى ويبقى فيها أشهرا بين الموت والحياة، ليخرج مشلول الجسد متيقظ الذاكرة والفكر؟، ويكتب هذا السفر من الروايات التي تعد اليوم عين الثقافة الروائية في العراق ومداها النقدي ومادتها الفكرية للدراسات والبحث؟ هذا الكائن الخرافي العجيب ذو الأنف الكبير الذي يوجهه باتجاه الشوارع والكتب والناس ليشم عطر التحولات وخيانات الأصدقاء والسلطات، ويكتب عما هو دفين في أرض بكر لم تكتشف إلا عبر الرواية والشعر، عن أرض عراقية قلما يكون ثمة قلم برشاقة ودقه قلمه، يقف على أحداث التاريخ الشخصي لأبطاله، مستلا لهم من هذا المناخ المعقد والمشتبك والمربك أحداثا واقعية، ليظهرهم أشخاصا يقولون ما نقوله عن الأزمنة العراقية كلها. عبد الخالق الركابي الذي قهر المرض وقهر الصعاب، من حقه أن يقف في طليعة الروائيين العرب، ويقول ما لا يستطيع أحد منهم أن يقوله عن المدينة العراقية وناسها وأفكارها والسفر الطويل الذي تسلكه لبلوغ موضعها، يكتب عن العراق وعن إرثه ومخطوطاته ومزاراته وسرمديته وقضبانه وراووقه، شخصيا كنت أحد المقربين إليه، ولم أجد أشجع منه وهو على فراش المستشفى، حين قال.. سأتجاوز هذه المحنة.
2
أتحدث عن الزمن العراقي الأجوف، هذا الزمن الذي يضيع فيه المبدع، ويهمل ويصبح ثانويا منزويا ككلمة في السطر الأخير من أسطر كتاب السلطة، فالدولة العراقية منذ تأسيسها وإلى اليوم تعاملت باستمرار مع أدبائها، تعاملا مرعبا، بل كانت تمنهج لمثل هذا القمع، إما بالحرب وإما بالإهمال، وها نحن نمضي، والزمن العراقي يمضي، ولم تكن بغداد أواية بقعة منها مدار بحث روائي جاد، بمثل ما كانت عليه في بحث عبد الخالق الركابي عنها.
لم يكن عبد الخالق غير مواطن عادي يقول ما يدور في خلده عن المجتمع، ولأنه لا يملك إلا الرواية صوتا، قال فيها ما قاله روائيون كبار عن مدنهم وحياتهم وشعبهم وافكارهم، فقراءة عبد الخالق الركابي يمكنها أن ترسم لك خارطة طريق روائية عن نماذج عراقية كان عازما على تذكرهم والعناية بهم والدفاع عنهم، فاسمحوا لشخصياته أن تتجول في شارع الرشيد والمتنبي، فمكانها هنا وليس في صفحات الكتب، هنا، حيث يمكن لهذه الشخصيات أن تبتسم بمرارة عن مصائر المثقفين المجهولة. فروايات عبد الخالق ليست همهمة في شوارعنا وذاكرتنا، إنما هي أصوات عالية لا تزال تسمع في ربوع الوطن العربي، أكثر مما تسمع في شوارعنا. لقد كتب عبد الخالق عن إنسان الأعماق العراقية، كما كتب ديستويفسكي عن إنسان الاعماق الروسية.

http://www.alsabaah.iq/ArticleShow.aspx?ID=62970






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صلاة الجمعة في جامع قبع - الزهور -الموصل

                                                                    الشيخ نافع عبد الله أبا معاذ   صلاة الجمعة بسم الله الرحمن الرحيم :...