كلمة التاريخ في الاحتجاجات الشعبية التموزية الاخيرة في العراق
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس -جامعة الموصل
من حقنا ان تكون لدينا كلمة في احتجاجات شعبنا العراقي العظيم الاخيرة في وسط وجنوب العراق ، والتي اندلعت منذ الايام الاولى لشهر تموز لاسباب كثيرة منها ان هذه الاحتجاجات مبررة ، وهي تمثل ردود فعل عنيفة على فشل ما يسمى بالعملية السياسية التي انتجتها ظروف إحتلال القوات الاميركية للعراق وغزوه في 9 نيسان سنة 2003 وما نجم عن ذلك الاحتلال من نظام حكم اعتمد المحاصصة الطائفية والتوافق السياسي اسلوبا في الحكم .
وكثيرا ما قلت واقول ان الطبقة السياسية التي تحكم العراق اليوم ، أصبحت طبقة متسلطة قوية لها مصالحها وامتيازاتها واذرعها العسكرية ، وليس من السهولة ازاحتها عن السلطة لاسيما وانها تحظى بالدعم الايراني والدعم الاميركي على حد سواء .
قالوا ومنذ نيسان 2003 ، ولايزالون يقولون حتى كتابة هذه السطور ان النظام السابق الذي حكم العراق منذ سنة 1968 فشل في جمع العراقيين على كلمة سواء وادخل البلاد في حروب لاطائلة من ورائها وقمع الشعب ولم يستطع ان يبني نظاما ديموقراطيا وجاء من جاء مع الاميركان المحتلين ليبشر بالعدل والمساواة والحرية والاستقلال والنهضة في كل شيء .
وها قد مر عقد ونصف تراجع فيه العراق سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وامنيا وفي السياسة الخارجية لم يعد العراق الى مكانته السابقة التي نريدها له سواء على المستوى العربي او الاقليمي او الدولي .
هذه المشاكل التي يعاني منها العراق ، وهي ( مشاكل بنيوية ) لايمكن ان تحل الا بوجود نظام حكم نزيه يعتمد المبادئ الوطنية التي تجمع العراقيين وتوجههم نحو التقدم من خلال تطوير الصناعة والزراعة واعادة بناء البنية التحتية .
نعم العراق واجه مشاكل أمنية كان من نتيجها فقدان اراضٍ واسعة تمثل ثلث العراق ونحن نعرف ايضا ان جهدا كبيرا بذل من أجل اعادة بناء الجيش على اسس وطنية وان الجيش والقوات الامنية استطاعت تحرير الاراضي المغتصبة ووضع حد للارهاب وتحقق النصر العسكري ، لكن النصر العسكري بحاجة الى نصر سياسي وللاسف لم يترافق النصر السياسي مع النصر العسكري بدليل ما شاب عملية الانتخابات الاخيرة من تزوير معيب أخر تشكيل البرلمان الجديد ، وتأليف الحكومة الجديدة التي يفترض ان تكون وزارة بناء ونهوض .
الاحتجاجات ليست جديدة على العراقيين . ويقينا ان ما يحرك ابناء الوسط والجنوب هو نفسه ما يحرك ابناء الشمال والغرب في العراق ، فخلال ال100 سنة الماضية شهد العراق ، وعبر العديد من الانظمة ، والوزارات الكثير من الاحتجاجات والانتفاضات ، وشهدت مدن وشوارع العراق انتفاضات لابل ثورات وانقلابات .
ويجب ان تدرك الحكومة الحالية ومن يدير الحكم اليوم ، ويصنع القرار العراقي ، سيكلوجية العراقيين المعتادة على الثورة العارمة عندما يصل الالم الى العظم ، فلقد صبر الناس وهم يواجهون الفقر والجهل والمرض كثيرا فظلوا يئنون تحت وطأة البطالة والفساد والعنف عقدا ونصف، ولايمكن لأية حكومة ان تتجاهل كل هذا ، فتقدم على مواجهة المتظاهرين بالقوة وتحول بينهم وبين التعبير عن حقوقهم من خلال منع الانترنت واستخدام السلاح الحي .
وهنا لابد ان نؤكد على أهمية ان تكون الاحتجاجات سلمية ، وان لاتمس مؤسسات الدولة لانها ببساطة هي مؤسسات الشعب ، ولاننكر وجود اناس غير منضبطين او حتى يريدون حرف التظاهرات عن مسيرتها السلمية .
نقطة اخرى اريد ان اقولها ، انه للاسف ، هذه الاحتجاجات ليست لديها قيادة وليست لديها مرجعية فكرية ، وانها لم تصل الى مرحلة التنظيم التي شهدناها في مصر مثلا وكل ما كان يدفعها ولايزال الجانب الخدمي والنقص في الماء والكهرباء والوظائف والاعمال وكذلك الغضب ممن يدير البلاد بعقلية المتسلط الفاسد المرتشي .
الترقيع لايفيد ، والاجراءات المستعجلة لا تفيد اننا بحاجة الى امرين اثنين نختار احدهما : الاول ان يتسلم الجيش السلطة لحين استقرار الاوضاع ووضع الامور في نصابها . واما ان تضع الحكومة هذه او الحكومة المقبلة بعد اعلان نتائج الانتخابات واقرارها ، منهجا واضحا واستراتيجية شاملة للنهوض بالبلاد بكل دقة من خلال الاتيان بمسؤولين ووزراء متخصصين بعيدا عن الاحزاب والمحاصصة وان تقاد البلاد بحزم وتخطيط نحو شاطئ الامان .
انا اقول ، ويقول ما اقوله غيري من باحثين عراقيين منهم الاستاذ الدكتور قاسم حسين صالح واجانب منهم الدكتور جيني هاريسون .. اقول العراق ليس ملكا لزعماء الكتل والاحزاب الحاليين، بل هو ملكا لأهله ... للشعب ومعنى هذا انه يجب ان تدرك هذه الكتل والاحزاب ، أن العراقيين لايمكن ان يسكتوا الى ما لانهاية ؛ فالعراقيون ساخطون ، ناقمون على هذه الاحزاب والكتل التي فشلت فشلا ذريعا في ادارة البلاد وان تخويفهم من كذا وكذا لم يعد يجدي ، وان تركيبة المحتجين شبابية والشباب وهم في هذا العمر وفي هذه المرحلة لاتؤثرفيهم افكار من هو في دست الحكم البالية ، وان القمع ، واستخدام القوة وحرمان الناس من حقوقهم لايؤدي الى نتيجة وقد جرب غيرهم هذا ، وما نجحوا واصابهم الخذلان .
العراق يحتاج الى قيادة وطنية ، حكيمة ، وعادلة ، وحازمة ، ونظيفة ، ونزيهة تكتسب رضى الناس ، وتعمل من اجل تحديث بنية العراق في الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات والثقافة .
وعلى المحتجين ان ينظموا انفسهم ، ويجدوا لهم مرجعية وطنية ، وان يبقوا على التظاهر السلمي ، وان يكونوا مستعدين لطرح مطالبهم بعد برمجتها في اطر محددة ومختصرة وعملية والعراقيون يمتلكون إرثا في هذا المجال وأُذكر ببرنامج ( الجبهة الوطنية ) التي تشكلت سنة 1957 والتي كان لها دورها العظيم في التغيير الثوري والتقدمي الشامل في العراق ...تلك هي كلمتنا : كلمة التاريخ والله من وراء القصد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق