مجاهد الدين قايماز مسؤول نيابة قلعة الموصل
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس –
جامعة الموصل
وانا اتحدث لكم عن جوانب من تاريخ
الموصل وجدت ان من الضروري الوقوف عند واحد ممن حكم الموصل وترك فيها اثارا وبصمات
واضحة قبل مئات السنين انه مجاهد الدين قايماز الذي ارتبط اسمه بتأسيس الجامع
المجاهدي واقصد به جامع الخضر او الجامع الاحمر الذي يقع اليوم عند كورنيش الموصل
مقابل فندق اشور السياحي .
مجاهد الدين قايماز امير الموصل
وحاكم الموصل وصاحب الموصل في القرن الثاني عشر الميلادي (السادس الهجري ) ومجاهد
الدين قايماز حظي بإهتمام المؤرخين القدامى الذين كتبوا عنه وعن سيرته واعماله ومن
حسن الحظ ان احد المؤرخين الاردنيين وهو الدكتور صادق احمد داؤدجودة الف عنه كتابا
كاملا نشرته دار عمار ومؤسسة الرسالة سنة 1985 .
ومما قاله ان الظروف التي واجهت العالم الاسلامي في اواخر القرن الحادي
عشر الميلادي القرن الخامس الهجري اقتضت من مدينة الموصل والتي كانت قاعدة اقليم الجزيرة الفراتية ان
تتصدى للتحديات التي جاءت من الغرب حيث الغزو الصليبي ومن الشرق حيث الغزو المغولي
ويقينا ان ضعف الخلافة العباسية في بغداد هو ما جعل الموصل تتقدم الصفوف وتتحسس
مخاطر قيام الصليبيين بتأسيس كيانات سياسية لهم في الرها وانطاكيا وطرابلس وبيت
المقدس
واستطيع ان اقول وبكل ثقة ان الموصل
هي اول مدينة عربية اسلامية تحسست مخاطر الغزو الصليبي فخليفة بغداد لاحول له
ولاقوة والسلاجقة الذين دخلوا الى المنطقة منذ اواخر القرن الحادي عشر واجهوا
نزاعات بين امراءهم والخلافة الفاطمية في مصلر كانت تعاني من الضعف والتمزق .
من هنا شمر اهالي الموصل عن سواعدهم
واخذوا على عاتقهم مهمة التصدي للخطر ورفعوا شعار الوحدة الاسلامية قولا
وعملا ومن المؤكد ان هذا كان يتفق ومجريات
الامور وتوفر الموارد المادية والبشرية لدى حكام الموصل ومنهم مجاهد الدين قايماز
كان مربيا لاولاود زين الدين احد مماليك قسيم الدولة والد عماد الدين زنكي مؤسس
الدولة الاتابكية في الموصل ومنحه ثقة تامة منذ سنة 559 هجرية (1164 م ) .
تمكن مجاهد الدين من ان يخضع اربيل
والموصل ويقف ضد مظفر كوكوبوري معتمدا على امرين مهمين اولهما ان والد مظفر الدين
كوكوبوري زين الدين على كوجك قبل وفاته
وثانيهما الثقة التي نالها من سكان اربيل والموصل.هذا فضلا عن انه راسل الخليفة
العباسي في بغداد واستحصل منه على التفويض بحكم الموصل واربيل وتوابعهما .
وفيما يتعلق بالموصل نفسها فإن
الظروف فيها بعد هزيمة جيوشها على يد القائد صلاح الدين الايوبي جعلت سيف الدين
غازي الثاني يستدعي نائبه من اربيل لمعرفته ان مجاهد الدين قايماز هو وحده الذي يستطيع السيطرة على الامور في
حزيران سنة 1176 ميلادية لما عرف عنه من الشجاعة والثبات وحسن التدبير .ومن الطريف
ان المؤرخ الموصلي الكبير عز الدين بن الاثير كتب يقول : " ان سيف الدين غازي
رد على مجاهد الدين قايماز ازمة الامور في الحل والعقد والرفع والخفض " .
اصبح مجاهد الدين قايماز يتولى بلغة
ذلك الزمان مسؤولية نيابة قلعة الموصل سنة 1176 وهي وظيفة يتمتع صاحبها بميزات
كبيرة تجعله الرجل الثاني في الدولة لما للقلعة من اهمية عسكرية في ذلك الوقت .
ان اول اجراء اتخذه مجاهد الدين
قايماز هو اجراء الصلح مع القائد صلاح الدين الايوبي سنة 1177 مما جعل القائد صلاح
الدين الايوبي يوجه اله كتاب شكر يقول له فيها ادام الله الامير مجاهد الدين
قايماز على سعيه المشكور .
الاجراء الاخر الذي قام به مجاهد
الدين قايماز مواجهة تمرد والي شهرزور شهاب الدين محمد بن بوزان على سيادة الموصل وبعد
وفاة سيف الدين غازي الثاني كتب القائد صلاح الدين الايوبي الى الخليفة ببغداد
يخبره ان البلاد تحتاج الى من يضبط امورها في مواجهة الصليبيين .
الاجراء الثالث ان مجاهد الدين
قايماز اثبت للقائد صلاح الدين ان جبهة الموصل في مقاومة الصليبيين هي جبهة حاسمة
وان وحدة المسلمين لايمكن ان تقوم بدونها وان الموصل مستعدة للانضمام الى مجهودات
صلاح الدين الايوبي وظل مجاهد الدين
قايماز يؤكد للقائد صلاح الدين ان الموصل لايمكن ان تكون بعيدة عنه وانها تتبعه
طالما هو في المواجهة مع المعتدين والغزاة .
بعد ان اقنع مجاهد الدين
قايماز القائد صلاح الدين الايوبي بأن
الموصل هي تحت لواءه ومشروعه في المقاومة
والتحرير انصرف نحو تعمير الموصل وحل كل المشكلات الداخلية التي كانت تواجهها بحكمة واضحة .
وبعد وفاة القائد صلاح الدين
الايوبي سنة 1193 حاول مجاهد الدين قايماز ان تستعيد الموصل زعامتها وكانت سياسته
في مواجهة الامراء المتنافسين من ال زنكي تقوم على ما اسماه وحدة الكلمة ومع ان نور الدين ارسلان شاه
كان هو حاكم الموصل الاسمي الا ان السلطة الحقيقية ظلت في يد مجاهد الدين قايماز حتى وفاته سنة
1199 م (595 هجرية ) .
استمر مجاهد الدين قايماز يوجه دفة
السياسة في الموصل نائبا لنور الدين ارسلان شاه وكان يتصدى للطامعين في السلطة
وكثيرا ما كان يلجأ الى ما نسميه اليوم بالحل السلمي .
الشيء الذي اريد الوقوف عنده هو ما
حققه مجاهد الدين زنكي للموصل من انجازات فالرجل كان محبا للعمران منفتحا على
الحياة يتمتع بحنكة سياسية وكان يميل الى فعل الخير والرغبة في الاصلاح وفعل الخير
حتى ان المؤرخ الموصلي عز الدين بن الاثير
في الجزء 11 من كتابه الكامل وضمن احداث
سنة 595 هجرية يصفه : " بأنه كان
عاقلا دينا خيرا فاضلا " .اما المؤرخ ابن الساعي فيقول في الجزء التاسع من كتابه ( الجامع المختصر ) ان
مجاهد الدين قايماز كان فقيها كثير الصيام والقيام في الليل يذاكر في الادب والاشعار والفقه "
.وذكر المؤرخ ابن خلكان في كتابه (وفيات الاعيان ) ان مجاهد الدين بن قايماز بنى
عدة ابنية في اربل والموصل وله شيء كثير من وجوه البر ومدحه الشعراء " فهو من
بنى الجامع المجاهدي اي جامع الخضر في الموصل ولاينسى ان المستوفي في كتابه (تاريخ
اربل ) ان يقول ان مجاهد الدين قايماز"
لم يدع بالموصل بيتا فقير الا اغناه بما قدمه له من اموال وعطايا ".
ان كل هذه الاقول تؤكد ان مجاهد
الدين قايماز كان من الشخصيات الفذة لمحبة للخير واقامة العدل وقد قام بعدة اعمال
خلدت ذكره وشجع الحركة العلمية في اربل والموصل ففيما يتعلق بالموصل التي تولى
نيابتها سنة 1175-1176 (571 هجرية ) فإنه اقام مجمعا عمرانيا ضخما فيها يعتبر
مفخرة له وهذا المجمع كان يتألف من جامع كبير هو الجامع المجاهدي وخانقاه كبيرة
وبيمارستانا ومدرسة ورباطا كما فتح مؤسسة لرعاية الايتام وشق الطرق واقام جسر
الموصل على دجلة وهو يقع في نفس مكان الجسر القديم اليوم وهذا ما جلب الراحة للناس
وجعلهم يلهجون بالثناء عليه وعلى اعماله .
ولم ينس مجاهد الدين قايماز ان
ينشيء اسواقا للبيع والشراء فأقام قيصارية في سوق الموصل للتجارة وصفها ابن جبي في
رحلته فقال :" كأنها الخان العظيم تنغلق عليها الابواب الحديد
وتطيف بها دكاكين وبيوت بعضها على بعض قد جلى ذلك كله في اعظم صورة من البناء
المزخرف الذي لا مثيل له .فما ارى في البلاد قيسارية تعدلها " .
وهكذا ذاع
صيته واصبح الشخصية الاولى في الموصل احبه
الناس وشعروا انه قريب منهم وسمع عنه الناس في الجزيرة وقصده الفقهاء والمعوزون
والشعراء ومدحوع طمعا في نيل عطاياه وهباته وكان من ابرز من مدحه الشاعر ابو
الفوارس حيص بيص الذي قال في احدى قصائده
:
اذا بحار
الارض جاشت واجلبت ...غوارب تلقى كل لج بهوجل
مجاهد دين
الله حامي حريمه ... بسيفين من عزم طرير ومنصل
اذا الجحفل
الجرار ذل عن العدى ... رماهم من الرأي الزنيق
كأن الكماة
الدارعين لدى الوغى ...وقايماز يردي اخرا بعد اولِ
كما مدحه
سبط بن التعاويذي وابو المعالي اسعد بن يحيى
السنجاري وابو القاسم جبريل بن منعة بن ملك الابيلي .
اما ابو
المعالي اسعد بن علي الحظيري فقد الف كتابا لمجاهد الدين قايماز بعنوان : (الاعجاز
في حل الاحاجي والالغاز برسم الامير مجاهد الدين قايماز ) .
مجاهد
الدين قايماز نفسه كان يتذوق الشعر والادب والحكايات والتاريخ وكانت له علاقات مع
شعراء عصره وكان ينشد :
اذا ادمت
قوارصكم فؤادي ...صبرت على اذاكم وانطويت ُ
وجئت اليكم
طلق المحيا ... كأني ما سمعت وما رأيتُ
كان مجاهد
الدين على صلة بأمراء وملوك عصره يراسلهم ويراسلونه وقدموا له الهدايا وكان
يبادلهم الهدايا ومما ينبغي ان نذكره انه عهد الى مجد الدين بن الاثير احد رجالات
عصره وشقيق المؤرخ عز الدين بن الاثير بمنصب كاتب الانشاء .
واخيرا
لابد من القول ان مجاهد الدين قايماز اعطى للموصل شخصية حضارية وسمعة طيبة وكان
يقدم العون والدعم لغيره من الامراء في سنجار ونصيبين وحلب واربيل
.
توفي مجاهد
الدين قايماز في ربيع الاول سنة 595 هجرية
الموافق لشهر كانون الثاني سنة 1199 وكانت علاقته باميرها نور الدين ارسلان
شاه جيدة وعلاقة قايماز بالموصل وبال زنكي كانت تعد من صفحات التاريخ الاتابكي
الناصعة رحم الله مجاهد الدين قايماز كان انسانا مخلصا للموصل قدم لها الكثير وما
قدمه لايزال حتى يومنا هذا عالقا في ذاكرة الموصليين التاريخية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق