الخميس، 19 ديسمبر 2013

سيدة في غير زمانها ومكانها..الشاعرة عاتكة الخزرجي بقلم : سامي مهدي

ذكريات جانبية (2):
*************************************

سيدة في غير زمانها ومكانها..الشاعرة عاتكة الخزرجي
بقلم : سامي مهدي

كان ذلك عام 1957 ، وكانت أمسية شعرية في دار المعلمين العالية ، وكنت وصديقي وزميلي القاص الراحل موفق خضر من حضورها . فقد كنّا على موعد مع بدر شاكر السياب وقصيدته المعروفة ( بور سعيد ) . وقبل أن تبدأ الأمسية بدقائق قليلة دخلت سيدة سافرة ، وجميلة ، وأنيقة ، تفوح أشذاء عطرها عن جانبيها ، وراحت تخترق القاعة بثقة وثبات نحو المقاعد الأمامية . سألت صديقي موفق : من تكون هذه السيدة التي شدّت إليها الأنظار ؟ فرد عليّ مستغرباً : ألا تعرفها ؟ فقلت : لا ! قال : هي الشاعرة عاتكة الخزرجي .
مرت بي يومها مرور طيف هفهاف جميل ، ولم أرها ثانية إلا بعد أكثر من ربع قرن . زارتني في مكتبي في جريدة " الجمهورية " فجأة ، في يوم من أيام عام 1984. لم أعد ذلك المراهق الذي كنته ، ولم تعد هي في عنفوان تلك الشابة البهية ، ولكنها كانت ما تزال تحتفظ بالكثير من بهائها وبكامل أناقتها واعتدادها العظيم بنفسها ، وإن بلغت الستين من عمرها .
استقبلتها كما ينبغي لسيدة مثلها أن تستقبل . قالت إنها تريد نشر ما تكتب ، أو تترجم ، من قصائد في " الجمهورية " فرحبت ، وسلمتني إحدى قصائدها وصورة من صورها الشخصية ، فنشرت القصيدة مع الصورة بعد أيام قليلة من زيارتها . ثم تكررت زياراتها ، وتكرر نشر قصائدها مع الصورة نفسها . وكنا خلال ذلك نتبادل بعض الأحاديث والمجاملات ، وكان الكثير من أحاديثنا ردوداً على اسئلة تتعلق بشخصي وبعملي ، فهي تسأل و أنا أجيب ، دون أن أشعر بأي حرج أو ضيق .
أفضى تكرار الزيارات والمعاملة الحسنة الصبورة التي عاملتها بها إلى نشوء علاقة ودية بيننا هي أقرب إلى الصداقة ، حتى باتت تطمئن إلي ، وبلغ بها الاطمئنان حد أن دعتني بإلحاح إلى زيارتها في بيتها ، وحدي ، وأم نوار معي إن شئت ، وأهدتني كتبها ، وكتبت في الثناء عليّ ثلاث قصائد ، وكانت تبادر إلى تهنئتي في الأعياد والمناسبات ولا تفوّت واحدة منها . غير أنني حرصت ، رغم كل ذلك ، على أن أبقي بيني وبينها مسافة وحدوداً لا أتجاوزها ، فلم ألبِّ دعوتها ، ولم أسألها أي سؤال عن حياتها الخاصة ، واكتفيت بشكرها على حسن ظنها بي وثنائها علي ، فكان أن ظلت تخاطبني بضمير الجمع على الطريقة الفرنسية ( أنتم / vous ) كما كانت تفعل في مخاطبتي منذ زيارتها الأولى ، ثم استمرت تزورني في مكتبي في " الجمهورية " حتى نُقِلتُ منها عام 1990 .
كانت ، رحمها الله ، سيدة أرستقراطية أصيلة في تهذيبها وترفّعها ، وطبقيّة في نظرتها إلى الناس . ولأن هناك من خيبوا ظنها في الحياة ، أو أساءوا إليها ، كانت قليلة الثقة بالآخرين ، وكثيرة الشك في نيّاتهم حيالها . وكثيراً ما سمعتها تتحدث باشمئزاز عن هذا أو ذاك من زملاء لها ومعارف أساءوا إليها أو تجاوزوا حدود اللياقة في تعاملهم معها ، ومن هؤلاء عميد إحدى الكليات الإنسانية . حتى أنا لم تطمئن إلي تمام الاطمئنان إلا بعد أن سألت عني وعن حياتي العائلية أكثر من مصدر وتلقت من المعلومات ما طمأنها . بل أن فضولها دفعها ذات مرة إلى أن تقوم بزيارة مفاجئة إلى بيتي لترى سيدة البيت ، أم نوار ، بعينيها ، كما أظن ، رغم أنها أن تحدثت معها هاتفياً أكثر من مرة ، واكتفت في تلك الزيارة بالنظر إلى أم نوار من داخل السيارة التي أوصلتها ولم تترجّل منها!
كانت الشاعرة الدكتورة عاتكة وهبي الخزرجي من أسرة ميسورة الحال . ذكر أحد الكتاب أن أباها كان متصرف ( محافظ ) الموصل
 بين 14-11-1921 -19-2-1922  .. . ولدت في بغداد عام 1924 ، وتخرجت في دار المعلمين العالية عام 1945 . عينت بعد تخرجها مدرسةً في ثانوية الأعظمية للبنات . وحصلت على بعثة دراسية إلى فرنسا عام 1950 ، فدرست في جامعة السوربون ، وكان المشرف عليها المستشرق المعروف ( ريجي بلاشير ) . وناقشت رسالتها في في حزيران 1956 ( وليس عام 1955 كما جاء في بعض الكتابات ) ونالت شهادة دكتوراه دولة في آداب اللغة العربية من مرتبة الشرف الأولى ، عن بحثها عن الشاعر ( العباس بن الأحنف ) وتحقيق ديوانه . وبعد عودتها من البعثة عينت مدرسة في دار المعلمين العالية ( كلية التربية في ما بعد ) وظلت كذلك حتى توفيت عام 1997 . وصدر لها ثلاثة دواوين شعرية هي : أنفاس السحر ( 1963 ) و لألاء القمر ( 1965 ) و أفواف الزهر ( 1975 ) .
كانت ، يرحمها الله ، واحدة من كوكبة جليلة من الأدباء والشعراء تخرجوا في دار المعلمين العالية بعد الحرب العالمية الثانية ، وكان لها وزنها ومكانتها بينهم . عاصرت حركة الشعر الحر وشعراءها ، غير أنها ظلت متمسكة بقواعد النظم التقليدي ، ولم تتخلَّ عنها طوال حياتها . ومن غريب أقوالها أن ( الحداثة واجبة في كل فن إلا الشعر ! ) . قالت هذا في لقاء صحفي معها نشرته جريدة العراق عام 1992 . وحملت على الشعر الحر وقصيدة النثر ومن يكتبونهما حملة جارحة شعواء في هذا اللقاء .
بدأت رومانسية في شعرها ، شأنها شأن شعراء جيلها ، قبل تحول كثير منهم نحو الواقعية . وظلت رومانسية كما بدأت ، وكان أكثر من يعجبها من الشعراء الرومانسيين ( الفرنسي : لامارتين ) وكانت قصيدته ( البحيرة ) أعلى النماذج الشعرية الرومانسية عندها . كانت الرومانسية أقرب إلى مزاجها وميولها الشخصية ونظرتها إلى الحياة . غير أنها جنحت في ما بعد نحو الصوفية ، وأخذت تنظم شعراً في الحب الإلهي ، وهل الصوفية إلا ضرب من ضروب الرومانسية ؟! ربما كان ذلك من نتائج تأثرها بالعباس بن الأحنف وانكبابها على دراسة شعره وتحقيق ديوانه . إذ كانت ترى أن ابن الأحنف " إمام المتصوفة في الحب " وهي كانت " مفتونة به جدّ الفتون " كما قالت في بحثها عن شعره .
سألتني ذات زيارة من زياراتها : لماذا لا تنظم شعراً على وفق قواعد النظم العربي ( التقليدي ) ؟ فقلت لها : لأنني أعيش في عصر غير العصور القديمة . فسكتت غير راضية ثم لم تتحدث معي في هذا الموضوع مرة اخرى . كانت ترى فيَّ ( شاعراً رمزياً عميقاً ) وترى شعري أقرب إلى شعر ( بودلير ) ، ولست أدري كيف توصلت إلى هذا الرأي ، لأنها لم تعلله ولم أطلب منها تعليله .
أظنها لم تقرأ من شعري سوى ديوان ( الزوال ) . وقد جاءتني ذات يوم بقصاصة عليها قطعة من أربعة أبيات ، مكتوبة ، على عادتها ، بحبر أخضر اللون ، وهذا هو نص ما جاء فيها :
( تحية إلى شاعر " الزوال " الأديب الأريب والشاعر العميق سامي مهدي حفظه الله :
قرأتُ " الزوالَ " أيا شاعري / وتهتُ طويلاً بما بينَ بينْ
وها أنا لمّا أفِقْ بعدُ مِنْ / ذهولي .. فأينَ أنا منك أينْ ؟
قصيدُكَ يُذْكِرُ " بودليرَ " في " الأزاهيرِ " فدَّتْكَ من كلِّ عينْ
فشعرُك لغزٌ وإنك رمزٌ / وسرُّ الجمالِ على اللوحتينْ
المخلصة أبداً : أختكم ( التوقيع ) .. بغداد في 23 / 12 / 1984 ) . انتهى .
توفيت ، رحمها الله ، عام 1997 . كانت سيدة فاضلة ، وشاعرة بحق ، في شعرها وفي سلوكها . ويبدو لي أنها ولدت وعاشت في زمان غير زمانها ومكان غير مكانها ، وكنت أرى فيها دائمأ صورة سيدة أرستقراطية فرنسية من سيدات القرن التاسع عشر .








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صورة فوتوغرافية رائعة للفنان الفوتوغرافي الاخ والصديق الفنان الاستاذ هيثم فتح الله عزيزة 2013

                                         صورة فوتوغرافية رائعة للفنان الفوتوغرافي الاخ والصديق الفنان الاستاذ هيثم فتح الله عزيزة 2013 وتصبح...